الإسلام… وتناقض المفاهيم
ينتشر الإرهاب في العالم بأنحائه، وتتوجه الاتهامات للمسلمين من كل حدب وصوب، حتى لو كانوا من بين الضحايا، ليجدوا أنفسهم يدفعون ثمن إجرام لا علاقة لهم به، سوى انتمائهم لدين الفاعل، وكأن الإسلام بشموليته يختزل بصورة مجرم مختل أو غير مختل، يقتل الأبرياء بلا مبرر، فيحاكم المسلمون وكأنهم مسؤولون جميعاً عما ارتكب تحت راية دينهم، سواء كان دافع الفعل هو انتقام لتهميش أم جهاد أم مؤامرة أم غيرها.
وما كان ملفتاً للانتباه في الأيام الماضية هو ردود أفعال المسلمين على جريمة نيس، وهي الردود ذاتها عند كل جريمة مماثلة، ما بين مستهجن مستنكر يتعاطف مع الضحايا بإنسانية بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم، وآخر لا يجد موضعاً لتعاطف، بحجة أن تلك البلاد تستحق أن تتذوق بعضاً مما تعانيه بلادنا، ضارباً بعرض الحائط بأن هؤلاء الضحايا لا ذنب لهم وبأن {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة 32)، وثالث متعاطف حذر يخشى أن تنال رحمة يطلبها من الله نفوس كفار لا يستحقونها، وكأنه بذلك سينال عقاباً من الله تعالى لأنه ترحم عليهم، وإن كنت هنا لست بصدد البحث عمن وراء الجريمة والدوافع لها، فلا يسع المراقب إلا أن يلاحظ التناقض الحاصل في الآراء، وقد تبدو جميعها طبيعية لولا أن بعض من أصحابها يأخذ مكان الله تعالى في محاسبة الناس وتوزيعهم على الجنة والنار، فيصنف هذا مع الشهداء وذاك مع الكافرين، فتتحول المواقف بناءً على جنسيات الضحايا، وترى صاحب هذا الرأي هو نفسه من ينفي نفياً قاطعاً أن يكون للفكر الإسلامي أية علاقة بالقاتل، وإنما هي مؤامرات تريد تشويه الإسلام لا أكثر، في تناقض واضح بين الإسلام الذي يحمله في فكره، والإسلام الذي يدعيه، علماً أن بذور الإثنين واحدة، فمن يجد بالفرنسي أو المسيحي كافر لا يستحق الرحمة يستطيع أن يبرر قتله، ولولا الأولى لما حصلت الثانية، ومجرد فكرة تنصيب نفسك لتوزيع شهادات إيمان على الناس هو تطاول على الله تعالى، يخرجك أصلاً من الإسلام، أضف إلى ذلك تلك العنصرية التي تحملها نتيجة تميزك بأنك مسلم، ولدت لأبوين مسلمين، فيما ولد غيرك دون هذه الميزة، وكأن الله سيقيم الجنة ليدخلها عشر خلقه بأفضل الأحوال، وهذا ما قال عنه {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة 111- 113).
ولا يقتصر التناقض على مواقف الأفراد، إنما الدول “الإسلامية” أيضاً، إذ تسارع هذه الدول عند كل حادثة للتنديد بالإرهاب وتدعو لمكافحته بشتى الطرق والوسائل، متغافلة عما يسود في مجتمعاتها، وعن مناهجها المدرسية التي تدعو لكراهية الآخر، وعن قوانين الأحوال الشخصية لديها، فما تربى الأبناء عليه صعب أن ينتزع من عقولهم بمجرد قرار، وفي مثال واضح جداً عن تكفير الآخرين وفق القوانين أيدت محكمة نابلس في فلسطين قراراً في حزيران الماضي لحكم بالردة على مواطنة بسبب انتمائها لإحدى الجماعات الدينية (الأحمدية) وطردها زوجها وطلقت منه دون الحصول على أدنى حقوقها بسبب ذلك القرار، رغم أن هذه السيدة تقر بإيمانها بالله ورسوله، وهي تشعر بالخوف إذ يمكن لهكذا تهمة أن تودي بحياتها، كما أودت بحياة المفكر الراحل فرج فودة في مصر، وكما سببت بتفريق المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد عن زوجته أيضاً، وهذا المثال يمكن أن يطبق في معظم الدول العربية إن لم يكن كلها، لا في داعش فقط، حيث حكم المرتد هو القتل بعد الاستتابة بناءً على حديث: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، رواه البخاري ومسلم وغيرهما”، و “قال صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه، رواه البخاري وغيره”، وهذا الحكم يتجاوز ما جاء في التنزيل الحكيم ويصرف النظر عنه، حيث قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة 54) و{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} (النساء 137) فالله غني عن العالمين وهو القائل سبحانه {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29) و{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17) ولم يقل “من يرتد منكم عن دينه فاقتلوه” بل قال لرسوله {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، واستناداً لآراء “شيخ الإسلام” ابن تيمية فإنه لا تعارض بين {لا إكراه في الدين} وحكم الردة، حيث يدخل قتل المرتد برأيه ضمن النهي عن المنكر، أي أنه يمكنك أن تقتل إنساناً كي لا يؤذي نفسه ويذهب إلى جهنم، كذلك يجري الاستناد على حروب الردة التي خاضها أبو بكر، علماً أن أسبابها سياسية بحتة لا دينية.
ولك أن تسأل أي إمام مسجد قريب من منزلك عن حكم تارك الصلاة أو شارب الخمر، أو تبحث في الانترنت عبر أي موقع إسلامي، لتجد العجب العجاب من فتاوى ابن عيثمين وابن باز والأزهر والمراجع الشيعية وغيرهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا نستنكر اليوم على شاب لا نعلم ما هي ظروفه قتله لأبرياء، سواء كانوا بنظره من غير ملة أو مرتدين أو أتباع دولة مارقة، وقوانيننا وكتبنا ومواقعنا وصفحاتنا مليئة بما يبرر هذا القتل وتحمل المسؤولية بشكل أو بآخر؟ وهذه الكتب ذاتها تروج لـ “قدّر الله وما شاء فعل”، فترى أحد السادة الفقهاء في قناة فضائية يسفه حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة وهو يقول “بما أن الله ضمن بأن أعمار الناس ثابتة وأن أرزاقهم مكتوبة سلفاً فإن بند حق الحياة مضمون من قبل الله ولا علاقة للناس ولا للأمم المتحدة به”، وكأن السادة المستمعين الذين صفقوا له يحملون الله تعالى مسؤولية موت مئات الآلاف في سورية وتشرد ضعفهم، وكذلك موت الأطفال من الجوع فيما يعاني البعض في أنحاء العالم من التخمة.
قد يقول قائل أن هذه الكتب والمعتقدات موجودة منذ 1400 عام، ولم نكن نسمع عن ارتكاب هكذا جرائم، فلماذا نلقي عليها اللوم؟ أقول أنها تشكل أرضية خصبة لمن يريد أن يؤهل مجرمين بشعارات طنانة كالجهاد و”الشهيد” وغيرها مما يمكن أن يستقطب الشباب اليائس المضطهد أو المغامر أو الطامح إلى الجنة، والمؤامرات موجودة دائماً ومستمرة لكن الجانب الذي نتكلم عنه هو ما يعنينا منها، فالله تعالى سيحاسبنا على ما يرتكب باسمه، وإذا كانت الحروب تشن ويقتل فيها الآلاف لمحاربة الإرهاب فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة إن لم نجفف منابعه، على الأقل فيما يخصنا، لا سيما وأن الإسلام الذي نزل على محمد (ص) هو دين الإنسانية، وهو اتجاه عالمي، وليس اتجاه حزبي ضيق، ولا سني ولا شيعي، بل هو حقيقة إنسانية قبل أي شيء آخر، قوامها الأخلاق، والأخلاق لا يمكنها أن تنفصل لعربية وأجنبية، أو شرقية وغربية، وإنما هي واحدة لدى كل أهل الأرض، على أساسها سنلقى جزاءنا، وتزكية النفوس تبنى على العمل الصالح {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس 7 – 10).
وللخروج من هذا النفق المظلم الذي نحن فيه علينا إعادة النظر بما يسمى “الحديث النبوي”، ففيه تم اغتيال العقل، ومن خلاله دخلت الأكاذيب والأوهام على ديننا، وقضي على الاحترام الإلهي للإرادة الإنسانية ولحرية الإنسان في اختيار عقائده ومعتقداته، وبدلاً من دين رحمة عالمي {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) يراعي مشاعر الناس {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل 125) تمسكنا بدين يناقض تماماً قوله تعالى {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران 159)، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى إعادة تأصيل الأصول نفسها، وإعادة صياغة لمفاهيمنا كلها، فالقاعدة وداعش ومثيلاتها أفكار، والفكرة لا يقضى عليها إلا إذا قدمنا ما يدحضها من أساسها.