محمد شحرور في ميزان العلم والدين – محمد خليفة

محمد شحرور في ميزان العلم والدين – محمد خليفة

شغل المفكر الراحل د. محمد شحرور الناس قبل وبعد وفاته خلال ربع القرن الأخير، على كل المستويات، واحتل حضوره منابر الرأي جدالا وسجالا، لاجتهاداته وأفكاره، ومنهجه في التعامل مع النص القرآني اللغوي البياني. ومن الملاحظ أنه منذ أن برز في اختصاصه تميز كمجتهد جريء لا في اكتناه النص القرآني وحسب، بل تعداه لاستنباط أحكام فقهية جديدة، مخالفة وصادمة لما هو سائد ومستقر بين الفقهاء الأصوليين، والعلماء المتخصصين في علوم الفقه والقران والعقيدة. وظهر له بفضل وسائل الإعلام والعولمة معجبون وأنصار، كما ظهر له خصوم ومعارضون سلفيون أشداء، ذهب بعضهم لمخالفته منهجيا واتهامه بقلة العلم، ولكن بعضهم وصلوا الى درجة التشكيك في صحة إسلامه وإيمانه، وفتشوا في صدره بحثا عن حقيقة نواياه ليسندوا أحكامهم عليه، وبعض هؤلاء علماء بارزون بمستوى المحدث ناصر الدين الألباني.

بيد أن ما تعرض له المفكر الراحل لا يعدو من منظور التاريخ الاسلامي أن يكون فصلا جديدا، وعابرا، من فصول الصراع بين مدرستين تاريخيتين، مدرسة الإصلاح الديني والتجديد الفكري، ومدرسة التقليد الفقهي التي يقودها بـ (رجال الدين).

 والواقع أن المدرستين قديمتان، ولكل منهما أنصار وخصوم، تعكسان حالة الصراع والتدافع المتواصل بين تيار الإصلاح الحضاري والاجتماعي والفكري العام الذي تفرضه مستجدات الحياة وتطورات العلم والعقل من ناحية، وتيار التقليد السلفي المحافظ من ناحية مقابلة. وهذا الصراع القديم ظاهرة نمطية ومفهومة رافقت كل الأديان والمذاهب، وظهرت في كل بلدان العالم من دون استثناء. ومن يتابع حركة التطور سيجد دائما أن تيار الاصلاح والتجديد غالبا ما يتغلب على التقليدي والرجعي تحت ضغط التطور الازلي الذي يشكل قانونا طبيعيا أو سنة الهية، وما تستوجبه حاجات الناس العملية في حياتهم اليومية، وسبل التكيف مع التغيرات العصرية، وهذه العناصر تمثل مجتمعة أهم ديناميات ومحركات ما يسمى عادة ( الاجتهاد الواقعي ) التي تحرك الاجتهاد والتجديد عدة قرون، وبلغت أوجها في القرون الوسيطة، على امتداد العالم الاسلامي من بغداد وأصفهان وبخارى وسمرقند وفارس الى القاهرة والزيتونة ومراكش وحتى الأندلس، بل وامتدت أشعة الحضارة في محيط العالم الإسلامي في إفريقيا والهند، حيث برز فقهاء مجددون وعلماء بارزون في كل المجالات، إلا أن هذا الازدهار مال نحو الانكماش تدريجيا، فحل الجمود محل الابداع ودخل العالم الاسلامي بعامة عصرا من “الانحطاط ” والظلام والتخلف السحيق الذي استمر قرونا.

” رجال الدين ” طبقة اجتماعية من عصر الانحطاط:

خلال هذه الحقبة الطويلة، شهد الفقه الإسلامي – كما بقية العلوم – جمودا وانزوى في زوايا الطرق الصوفية الموغلة بالسلبية والعزلة، وانحسرت الرعاية للعلم والاجتهاد، وتكرم العلماء وتقوي عوامل النهضة. بل أصبح الاجتهاد محرما أو محظورا ومعاقبا عليه، وعلى المجتهدين المجددين. واحتد الصراع بين مذاهب المدرستين، بسبب التخلف العام الذي اصاب الأمة بعد سقوط بغداد نتيجة الغزو المغولي ثم التركي، ثم سقوط قرطبة وطليطلة، إذ غاب تدريجيا الإبداع، واضمحل الازدهار المادي والفقهي والعلمي، ودخل المسلمون عصر الهيمنة العثمانية التركية المديد أيضا، وظهرت دول المماليك والطوائف الرجعية، حيث تحول الفقه الى اجترار أحكام وفتاوى بالية لا تجيب على أسئلة تلك العصور.

 وعندما بدأت أشعة النهضة بالشروق مرة أخرى في القرن التاسع عشر كانت أشياء كثيرة قد تغيرت سلبا، في مقدمتها انفكاك العلوم الإسلامية عن بقية العلوم، إذ انفصل الفقه عن بقية محركات وديناميات التطور، ممثلة بعلوم الطب والرياضيات والاجتماع والموسيقى والفلسفة والفلك فضلا عن علوم اللغة. علينا تذكر أن العلوم الدينية لم تكن منفصلة عن العلوم المدنية والتطبيقية، وكان كبار الفقهاء علماء كبارا في الطب والفلسفة والفلك واللغة والفن والشعر.

 على سبيل المثال كان ابن رشد فقيها بارزا في عصره، وكان طبيبا وفيلسوفا وقاضيا وفيزيائيا، وسمي لذلك المعلم الثاني، أي بعد أرسطو المعلم الأول، وكان الكندي فيلسوف العرب الأول بارعا في علم الكلام والمنطق والفلسفة اليونانية والرياضيات والطب والموسيقى، وكان الشيخ الرئيس ابن سينا طبيبا وفيلسوفا وعالما (ترك 240 كتابا) ويلقب أمير الأطباء. والخوارزمي الذي يعد في هذا العصر الأب الأول للمعلوماتية والحاسوب. وجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء الأول.

كان الفقه عند هؤلاء العباقرة عقلانيا وعلميا، وهذا ما أسس حضارة العرب، وهو يشير الى أن العقل المسلم كان علميا ومنهج التفكير علميا، وكانت النظرة لكل الأمور بالضرورة نظرة علمية، لا متخلفة وغيبية. وعندما تخلفت العلوم عند العرب كان من الطبيعي أن يتخلف عقولهم الفقهية والدينية، ومعها علوم الشريعة.

تحرير الاجتهاد من سلطة رجال الدين:

في العصور التالية وحتى اليوم ظلت العلوم الدينية حبيسة مدارس وجامعات دينية منعزلة عن الحداثة والعصر وتيارات الفكر العالمي (الأزهر والجامعات السعودية واليمنية والمغربية.. إلخ) وكان الخريجون لا يتقنون سوى حفظ القرآن ومدارس المذاهب الأربعة، والسنة النبوية والحديث الشريف، وفتاوى الفقهاء في العصور الاولى التي تحولت تراثا فقهيا ضخما يناسبها، ولا يناسب ظروف الحياة المعاصرة، ومتطلبات النهضة والتقدم. وتبعا لذلك ظهرت طبقة (رجال الدين) التي تحتكر المدارس والجامعات والمساجد والمؤسسات في الدول الحديثة، بما فيها مؤسسات الأوقاف التي تدر الأموال الوفيرة، وتلعب دورا اجتماعيا خطيرا في مؤسسات القضاء والأحوال الشخصية، والأوساط الاقتصادية والتجارية والمالية، مما أعطى طبقة (رجال الدين) (سلطة شرعية) قوية ذات حصانة تقليدية، تجعلهم ينافحون عنها ضد أي محاولة تهدد مكانتهم الاجتماعية ومصالحهم المادية، ووحدتهم روح الجماعة بينهم، مؤسسة مركز قوة تنافس سلطة الدولة ومراكز السلطة الاجتماعية المنافسة.

ومع تنامي التطور الحداثي في مجتمعاتنا العربية وارتفاع مستوى التعليم والعلوم، وتكون مجموعات ضغط ومراكز سلطة جديدة تضم علماء ومفكرين أكاديميين وحقوقيين وأدباء وفنانين ساهموا في دفع ديناميات التطور، وآليات التغير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. بحيث لم يعد ممكنا تجاهل حضورهم وقوتهم وتأثيرهم. وهنا تنبغي الاشارة للثورة الأزهرية التي أحدثتها ثورة يوليو في مصر، بإدخال العلوم الحديثة الى الأزهر. وهي ثورة أنهت القطيعة بين علوم الدين وعلوم العصر، فترتب على ذلك ظهور علماء في الفيزياء والطب والهندسة واللغة والبيولوجيا، يتجاوزون تخصصاتهم الضيقة، ويطبقون حصائل علومهم ومناهجهم الأكاديمية الحديثة في العلوم الدينية، وخاصة تأويل وتفسير القرآن الكريم. وظهر تدريجيا الاتجاه العقلاني والعلموي (علم العلوم) في حقول الأبحاث والدراسات الدينية المعاصرة. وبعد فترة وسيطة في القرن العشرين احتكرت طبقة الشيوخ ورجال الدين فيها سلطة الفقه والفتوى والحكم وسلطة التحريم والتحليل والتعليم وفق قواعد تعليمية ومدارس دينية رجعية تكرست في القرنين السابقين، وكرست تراثا دينيا وفقهيا، ونظما شرعية، اتسع نطاق ظاهرة المفكرين والعلماء المحدثين المجددين الذين يثورون على هذا الواقع الموروث، ويتمردون على سلطة رجال الدين، مستندين الى مذاهب ومناهج العلوم العصرية واكتشافاتها الكبيرة، وظهر من يقول إن وجود (طبقة رجال الدين) يخالف روح الديانة الإسلامية كالدكتور محمد النويهي، وقال إن مجرد تميز رجل الدين بلباس خاص شيء ينكره الإسلام الأصيل الذي جعل الدين مجالا مفتوحا لكل الناس بدون طبقة كهنوتية وسيطة بين المسلم والله. وبدأ علماء معاصرون يكسرون الخطوط الحمر لرجال الدين. ويخوضون في أمور الشرع وأحكام الفقهاء بمنطق علمي وعقلي لا بمنطق ديني (كهنوتي)، مثل الدكتور أحمد زكي المتخصص بالفيزياء الذي شكك في منتصف الستينيات بصحة كل ما ورد في صحيح البخاري، وأنكر (حديث الذباب) واشعل بذلك مواجهة عنيفة مبكرة بين أنصار المدرسة الدينية السلفية التقليدية الرجعية، وأنصار المدرسة العقلانية العلمية الحديثة. ثم اتسعت المواجهة مع ظهور محمد اركون ونصر حامد أبو زيد الذي تناول القرآن كنص لغوي خاضع للتطور العلمي، ثم ظهرت مدرسة (الاعجاز العلمي في القرآن) كمحاولة توفيقية بين العلم والقرآن، وتعرض مفكرون وأدباء وكتاب عديدون للقتل والنفي والسجن نتيجة تعديهم على ما يراه شيوخ الدين والشريعة بحسب الاتجاه السلفي.

وبين نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين تعززت قوة الاتجاه العلمي – الديني في الفكر العربي، واتسع حضوره وتمدده الى مجالات علمية إضافية، وتراجعت بالمقابل قوة الاتجاه المحافظ، وتقلص تأثيره في الحياة الفكرية والاجتماعية ، وتكاثر علماء التخصصات البيولوجية والهندسية والفلسفية والفيزيائية الذين ينتقلون لتطبيق علومهم على الدين بعامة والقرآن بخاصة.

شحرور أسس مدرسة ومنهجا:

الدكتور المهندس محمد شحرور واحد من هؤلاء العلماء المعاصرين الذين تحررت عقولهم من أغلال الفكر الغيبي السلفي، وبدأ مراجعته للموروث الفقهي بمنهجية وسطية، فلم يتناوله تناول المعادي والملحد والمستشرق، وإنما تناوله من داخله كمؤمن متسلح بعلوم الرياضيات والهندسة والمنطق المجرد. خصومه السلفيون الذين شككوا بأهليته لدراسة النص القرآني رأوا في نتاجه العلمي هرطقة وزندقة، لأنه لم يدرس العلوم الشرعية، ولم ينل الإجازة من شيوخ الأزهر، وشيوخ مكة، والقرويين، والزيتونة والشام، وهذه أقوى عصا يقمع بها التقليديون خصومهم. ولكن الشحرور لم يتراجع وواصل أبحاثه واجتهاداته متفرغا لمشروع قراءة النص القرآني قراءة معاصرة، كما قال. وركز رحمه الله على المنهج اللغوي العلمي تحديدا، ولا شك أنه توصل الى استنتاجات مهمة لم يسبقه لها أحد، رغم وفرة الفقهاء السابقين في تاريخنا وشراسة الحملات عليه وجد استقبالا إيجابيا واسعا من المتلقين، عبر الندوات والمحاضرات التلفزيونية والمباشرة، فأضحى ظاهرة جذابة في ساحة الفكر والعلم والدين، اكتسبت شرعيتها من تأييد كبار المثقفين والمتعلمين العصريين الذين تخرجوا من أرقى الجامعات العلمية الذين يتجاوز عددهم عشرات الملايين في العالم العربي، وعاشوا نوعا من الازدواجية القاسية بين الدين والعلم، بين الغيب والواقع، بين السلفية والتقدمية، بين القديم والجديد. كما عاشوا حالة شك وتناقض ما بين إيمانهم وسلوكهم، ولم يعد رجال الدين السابقين قادرين على حل هذه التناقضات المستعصية. وأصبح شحرور وأمثاله ضرورة واقعية، ومدرسة أصولية تتسلح بالعقل والعلم والمنطق، وترفض الغيبيات والخرافات والأساطير التي تسللت الى متون التراث الديني عبر الف سنة.

صحيح أن ما قدمه شحرور ليس صحيحا دائما ومنزها، وهو لا يخلو من أخطاء وقصور أحيانا، ولكن المنهج الذي أسسه ورسخه صحيح بالتأكيد، ومغامرته الإبداعية مشروعة وإيجابية. فعباس محمود العقاد منذ خمسة وسبعين عاما توصل الى أن التفكير والاجتهاد في الإسلام فريضة وليست جريمة، والرسول يقول إن من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد. وشحرور اجتهد فأصاب أحيانا وأخطأ أحيانا، ودشن جسرا علميا عصريا عقلانيا بين القديم والجديد، وبين العلم والعقل وبين الماضي والراهن، سيعبر عليه كثير من الأكاديميين والمثقفين الجدد مستقبلا، وسيعملون على معالجة التناقضات التي يعيشها المسلمون المعاصرون بين دينهم الذي ورثوه ودنياهم التي يعيشونها، ولا سيما من الأجيال الشابة، خلقت عقدا نفسية وعذابات يومية تؤدي للشك والعجز والانزواء، بسبب إيمانهم وشعورهم بالغربة والاستلاب ناتج عن مخالفتهم الاضطرارية لأحكام الدين تحت ضغط التطور وحاجات المعاصرة. وإذا كان الإمام البخاري قد وقع في أخطاء فادحة وتبنى أحاديث لا تستقيم مع العقل والعلم والمنطق، ولم يكفره أحد، فلماذا لا يكون شحرور قد أخطأ وأصاب أيضا؟! وأليس من الطبيعي أن يقع كل مجتهد ومفكر محدث في بعض الأخطاء.

لكن ما يحسب لشحرور وأمثاله أنهم أسسوا منهجا علميا جديدا، ومسارا إسلاميا عقلانيا علميا يعكس معطيات الحداثة ومنجزاتها ويعبر عن روح الحضارة الإنسانية الحالية، قائما على المنطق والتفكير العلمي.

هؤلاء المجددون المسلمون ظاهرة تاريخية تتميز بالأصالة، فالله كما جاء في الحديث القدسي يرسل على رأس كل قرن من يجدد له دينه. وأعتقد أن جماعات التكفير والمشككين من (رجال الدين) التقليديين قد خسروا المعركة مع المجددين، وأن تيار المؤيدين والمشجعين يزداد اتساعا، ومنهج التوافق بين النص القرآني والعلم والعقل يزداد تجذرا ورسوخا، وهكذا فهؤلاء، ومحمد شحرور أحدهم هم رواد اتجاه تاريخي جديد لا يمكن وضعه إلا في مكانة مرموقة.

محمد خليفة

http://www.alshiraa.com/topics/1816-mhmd-shhror-fy-myzan-alaalm-oaldyn-bklm-mhmd-khlyf

اترك تعليقاً