الإرهاب، ام الإرعاب؟
ربما لم يعد لعدد ضحايا تحطم طائرة هنا، أو مجزرة هناك الأثر ذاته في نفوسنا، كما كان عليه قبل سنوات خلت، فقد أصبحت المآسي شبه يومية، مما سبب للأسف نوعاً من الاعتياد أو التعايش مع موت الناس دون تعاطف جدير به، ودون تقدير لمشاعر أهالي الضحايا، ناهيك عن أهالي المعتقلين والمفقودين فيما يخص المأساة السورية.
ولا شك أن المآسي تصبح أعظم حين تكون بفعل فاعل، سواء كان طاغية مستبد، أم دولة محتلة، أم تنظيم إرهابي، أم مجرم فرد، وبعيداً عن كل نظريات المؤامرة فإن الثقافة الإسلامية الموروثة تتصدر الساحة كمسبب رئيسي لأعمال العنف حول العالم، بحق أو بغير حق، وأصبحت الأنظار تتجه فوراً إلى المسلمين عند كل حادث هنا أو هناك، حتى لو كان ناتجاً عن أسباب لا علاقة لها بالإرهاب، أو لأسباب فنية مثلاً، عدا عن أن “الإسلاموفوبيا” يبرر للطغاة أعمالهم بالنسبة للكثيرين البعيدين عن واقع ما يجري تماماً، وهذا ما نجح في صناعته النظام السوري من ناحيته، وأصبح الرعب من الإسلام سبباً أساسياً للعنصرية تجاه المسلمين والعرب، لا سيما من يعيش منهم في الغرب، ولنا في وصول العنصريين إلى الانتخابات خير مثال.
وإن كنا لا ننفي إمكانية وجود عقول مدبرة لا تمت للمسلمين بصلة وراء العمليات التي تتبناها داعش وغيرها من الحركات الإسلامية، إلا أن المنفذين غالباً شبان تحركهم دوافع دينية بحتة، رأوا في قتل الناس جهاداً مقدساً في سبيل الله، وكما أن القانون لا يحمي المغفلين، فلا يمكن أن ينجي الله هؤلاء المجرمين من العقاب، فلو قرأوا التنزيل الحكيم بتمعن لعلموا أن قتل النفس محرم {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة 32) وبالنسبة لنا كمؤمنين بما جاء لمحمد (ص) فالوصية الخامسة {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً — وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام151)، وأن سبيل الله هو طريق الله ومنهجه، سواء في القتال أم الجهاد أم الإنفاق أم السفر والعمل، وطريق الله لا يستقيم مع قتل الأبرياء، ومنهج الله تعالى قائم على حريتك في الطاعة والمعصية، واحترامك لحرية الآخرين أيضاً، حتى المشرك في زمن النبوة أمر الله تعالى بإجارته {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}(التوبة 6).
والجهاد في التنزيل الحكيم قد يكون جهاد نفس ضد أهوائها، أو جهاد سلمي لنصرة قضية معينة، أو جهاد مادي، فيصبح قتالاً، والقتال تكليف، والتكاليف ضد الفطرة الإنسانية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} (البقرة 216)، والقتال له شروطه وأسبابه، وهو فعل متبادل، لا يمكن أن يتعدى ليصبح قتلاً للمدنيين أياً كانوا.
و الخلط بين القصص المحمدي، أي الآيات المتعلقة بعصر النبوة، وآيات الرسالة، قد أدى لاعتبار الآيات الخاصة بالغزوات التي خاضها الرسول دفاعاً عن النفس ورداً للعدوان ولها سياقها التاريخي، أوامر يجب تطبيقها في كل العصور والأزمان، وهذا خطأ كبير، فخطاب “يا أيها النبي” يختلف عن خطاب “يا أيها الرسول”، والنبأ يختلف عن الخبر، وما كان خبراً بالنسبة لصحابة النبي، هو نبأ بالنسبة لنا، ننظر له كتاريخ نأخذ منه العبر ليس إلا، وتدخل معظم آيات سور الأنفال والتوبة والأحزاب والحشر ضمن هذا السياق، فلا تطبيقه اليوم منطقياً، ولا محاسبة الإسلام والمسلمين على أساسه منطقياً، إذ لا يمكن اعتبار التنزيل الحكيم كتاب “عنف”، والكتب السماوية الأخرى تحوي كماً هائلاً من الدموية والعنف، وكانت وراء حروب كثيرة، لكن تم تحويل معظم نصوصها إلى نصوص تاريخية، ولسنا هنا بصدد محاكمتها، إلا أن من يتهم التنزيل الحكيم و يختصر التاريخ الإسلامي بالعنف يخرج الأمور من سياقها حتماً، خاصة وأن آيات القصص المحمدي واضحة لا لبس فيها.
وثمة خلط آخر وتقول على الله جعل من الحياة الدنيا موضع ذم بالنسبة للمسلمين، وحبب لهم الموت، دون أي أساس في التنزيل الحكيم، فإذا أخذنا قوله تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد 20) فوصف الحياة الدنيا بأنها “متاع الغرور” لا يقلل من شأنها، بل يعني أنها لن تصل إلى الكمال، بل تنتقل من حال إلى حال، ويبقى الطموح محركها الأساسي، وهي مجال العبادة، فلا غش دون بيع وشراء، ولا شهادة زور دون احتكاك مع الناس، ولا فواحش في الاعتكاف، ونحن نعيش في هذه الدنيا ولكل منا دور يلعبه، وباللهو ينتقل الإنسان من دور لآخر، فالعمل يلهي عن الراحة، والطعام يلهي عن الصلاة، والاستيقاظ عن النوم، وكلما زاد لهونا زادت ديناميكية حياتنا، ومن لا يتحرك تتوقف حياته عند حدودها الدنيا، كالسجناء تماماً، وفي الأمور المادية المباشرة يطمح الإنسان للأجمل والأحدث (الزينة)، ويتفاخر فيها، وحتى ال ” تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ” هو مجال من مجالات العبادة، كتجارة وتعاملات وزواج وطلاق وإرث وكل هذا، بما فيه من طاعة ومعصية، وشبهه الله تعالى بالغيث الذي أعجب المزارعين، والغيث يرد دائماً في مجال الرحمة، لا كالمطر في مجال السخط والعذاب، وبالتالي لا يمكن فهم الحياة الدنيا كمحل ازدراء من الله تعالى، وإلا لما خلقنا وكرمنا بها، ولما نهانا عن قتل أنفسنا.
أما فكرة “الشهيد” فقد أخذت عن المسيحية، فالشهداء فيها ضحايا الاضطهاد بسبب إيمانهم، بينما لا نجد هذا المعنى في التنزيل الحكيم، والشهداء فيه هم من قدموا شهادة حضورية، أي بحياتهم لا بمماتهم {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور 4)، و {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي –} (البقرة 133)، ومن الشهداء من ساواه الله مع الأنبياء والصديقيين لما قدموا من شهادة أفادت الإنسانية، كمكتشف البنسلين مثلاً.
قد يقول قائل: وماذا عن {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران 169)؟، نقول أن الله تعالى كرم من قتل في سبيله، ولم يسمهم شهداء، ولم يقل أن سبيله هو قتل الأبرياء.
واليوم ونحن نسمع صباح مساء مصطلح “الحرب على الإرهاب” نجد أن المفردات المشتقة من فعل “رهب” استخدمت في التنزيل الحكيم لكن دون قتل وقتال، وحين قال {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (الأنفال 60) أمر بإعداد العدة للحرب بما يسمى “القوة الرادعة” بحيث تملكون موقفاً قوياً يمكنه الحفاظ على السلم، وهذا ما افتقدناه كعرب في حروبنا، بينما في القتل والقتال استخدم التنزيل مصطلح “الرعب” {– وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} (الأحزاب 26)، ويمكن لمنظر غريب أن يثير الرعب في قلوبنا، كمشهد أصحاب الكهف وقد طالت أظافرهم وشعورهم لأنهم نائمون لا أموات {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} (الكهف 18)، والإرهابي وفق مصطلحاتنا الحالية هو المرعب، من يقتل الناس ويثير في قلوبهم الخوف، سواء قتلهم ببرميل أم بقنبلة أم فجر نفسه، والإرهابيون ينطبق عليهم قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة 33).
وإذا كنا نريد حقاً تجفيف منابع الإرهاب أو “الإرعاب”، في ثقافتنا الإسلامية الموروثة، علينا العمل على مستويات عدة، بدايتها تحديد أهداف الرسالة المحمدية، وفصلها عن القصص المحمدي، والنظر إلى هذا القصص بصفته تاريخ نأخذ منه العبر، وبالتالي ما انطبق في حينه لا ينطبق اليوم.
أما تصنيفات “دار الكفر” و”دار الإيمان” فلا وجود لها في حاضرنا هذا، بل هو ولاء للوطن لا يتعارض مع إيمانك بربك واتباعك شعائر معينة في طاعته، و”دولة الخلافة” وكل ما شابهها لن تتمكن من الاستمرار طويلاً، فالتاريخ لا يعود للوراء.
ويبقى أن نقول أن العالم سيدور في حلقة مفرغة إن ظلت بؤر الاستبداد قائمة، فالشعوب المضطهدة التي لا تجد نصيراً لها، تلقي بنفسها وبغيرها إلى التهلكة أحياناً كثيرة.