من يمثل الإسلام..؟!!
أوردت المصادر الإعلامية خبر تبرع الكنيسة الكاثوليكية في بلدة سان إتيان دو روفري بقطعة أرض لبناء مسجد للمسلمين في البلدة عام 2000 ، مصاحباً لخبر مقتل الكاهن “جاك هامل” قسيس الكنيسة على يد داعش، وإذ لا يحتاج المرء لسماع الخبر الأول ليتعاطف مع ما جاء في الثاني، لكن لا بد أن يتداعى لذهنه القول “اتق شر من أحسنت إليه”، ورغم أن الجحود لا يضاهي القتل قسوة، إلا أنه مدعاة لاستهجان مضاعف، سيما إذا كان المتهم هو الإسلام برمته، لا فرداً بعينه.
والكاهن “هامل” هو واحد من بين مئات الأبرياء الذين يقضون كل يوم على يد الإرهاب، إرهاب الدول وإرهاب الأفراد، لا ذنب له سوى أن منفذ أو منفذي الهجوم رأوا فيه كافراً مشركاً تنطبق عليه كل المواصفات التي تجعل من قتله مشروعاً، يفرغ من خلاله القاتل ما عاناه من اضطهاد أو تهميش أو عقد نفسية، ويرضي في الوقت ذاته إلهاً شريراً رسمه في خياله، لا يشبه إلهنا بشيء. كما لا ذنب أيضاً لأطفال حلب وإدلب سوى أنهم وجدوا في الزمان والمكان الذي رافق مستبد حرق بلاده وأدخل إليها كل شذاذ الآفاق.
ولأن العالم يكيل بآلاف المكاييل من العنصرية، يُتهم شاب سوري مضطرب نفسياً بالإرهاب لقتله حبيبته، بعد رفض طلب لجوئه ومحاولته الانتحار مرتين، فيما يوصف شاب إيراني مسيحي التربية بأنه مختل عقلياً بعدما أطلق النار فقتل ستة أشخاص، خمسة من بينهم مسلمين، بدافع تأثره بأفكار النازيين الجدد وكراهية المسلمين، فلا يمكننا اتهام المسيحيين مثلاً بتلك الجريمة الإرهابية، إلا أن الغرب يحمّل المسلمين جميعاً ما ترتكبه فئة ضالة، فالمسلم إرهابي حتى يثبت العكس، وما يرتكب اليوم باسم الإسلام يدفع ثمنه المسلمون في شتى أنحاء العالم، قبل غيرهم، ولكن هذا لا يمنع أننا أمام مشكلة كبيرة علينا مواجهتها، ولا يكفي هنا النأي بالنفس، فقد آن أوان الثورة الفكرية، وإلا فسنخرج من التاريخ، غير مأسوف علينا.
وحيث تعلو أصوات الاستنكار هنا وهناك، ويتبارى المحللون كل يشد البساط إلى طرف ما، فداعش لا تمثل الإسلام، ولا السعودية ولا إيران ولا حزب الله ولا زيد أو عمرو، فمن يمثل الإسلام إذاً؟ ألا يحق للسائل أن يرى ما هو الإسلام في نظركم؟ وإذ يتدفق “المجاهدون” إلى نفق الجهل المقدس أفواجاً، فيما يخرج أيضاً المسلمون من هذا الدين باتجاه الإلحاد أفواجاً أيضاً، وتقف المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي بلهاء تتفرج على ما صنعت يداها، أو ساهمت بقدر كبير في صناعته، ويواصل خطباء الجمعة ختم خطبهم العصماء وهم يصرخون “اللهم شتت شمل النصارى واليهود، اللهم أعنا عليهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر”، ثم يخرجون في الفضائيات للتشدق برحمة الإسلام وتسامحه، أما الدول “الإسلامية” فلا أدري إن كان لسان حالها “أعلمه الرماية كل يوم – فلما اشتد ساعده رماني”، أم أنها لم تع أن هذا ما جنته من وراء التواطؤ مع هامانات عملوا طيلة قرون على إغراق الناس في جهل مطبق، بحيث لا يجرؤ أحد على السؤال أكثر مما يتعلق بكيفية الدخول إلى الحمام والخروج منه، وبدلاً من الإسلام باتباع ملة إبراهيم {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء 125) الذي جادل ربه ليصل إلى اليقين {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي –} (البقرة 260) {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام 75)، اتبعنا ما وجدنا عليه آباءنا دون أدنى تفكير {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة 170) وتركنا ما أنزل الله لنتبع ما وضعه الفقهاء منذ 1200 عام، وفضلناه على كلام الله، حتى أصبح الحديث ينسخ آيات بحذافيرها، دون أن يكلف عموم المسلمين أنفسهم عناء قراءة التنزيل الحكيم بتمعن، ليستنتجوا أن هناك ادعاءات لا أساس لها من الصحة، في مواضيع شتى، منها مثلاً تعدد الزوجات وحجاب المرأة، والإرث والوصية، ورجم الزاني والزانية، والأنكى من ذلك هو أن التدليس والتزوير طال كل المواضيع، فجرى تسليط الضوء على آيات القتال ووضعها خارج إطارها الظرفي والتاريخي، كالآية {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة 5) التي تخص معركة معينة لها ظروفها، وغض الطرف في الوقت ذاته عن آيات الإسلام بمعناه الإنساني {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17).
وفي حين أن الدعوة لإعادة النظر في محيط كرة الثلج التي تشكلت فوق الإسلام كما أتى به محمد (ص) تلقى الاستهجان الشديد، وكأن فيها انتقاصاً من قدره، لا ينفك المسلمون عن الإساءة لله والرسول كل يوم، دون أن يرف لهم جفن، بل على العكس يموتون على هذا الطريق، وبدل أن يتبعوا الأسوة الحسنة لرسولهم، تقوّلوا عليه الأقاويل والأفعال، وفهموا من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب 56) أن يتباروا في عد كم مرة تقول “اللهم صل على سيدنا محمد”.
فالله تعالى يضع في كتابه أسوتين: بمحمد (ص) على مستوى الأفراد {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب 21)، والثانية في إبراهيم ومن معه على مستوى الجماعة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة 4) إذ تبرىء إبراهيم من المشركين لكنه لم يقاتلهم بل استغفر لأبيه على رغم من معاداة هذا الأخير له {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} (مريم 46) فكان رد إبراهيم {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} (مريم 47 – 48) أي رغم عدائهم بادلهم الموقف بأسمى معاني الإنسانية، واعتزلهم دون أي موقف عدائي، والرسول محمد (ص) اقتدى بهذا السلوك، أي بالإيمان بالله وحده والإيمان باليوم الآخر، وعدم خلق أجواء التشاحن والكراهية والتباغض مع الآخر مهما كان مخالفاً بالرأي والمعتقد، لا كما فهم السادة الفقهاء الأسوة على أنها إطالة اللحية مثلاً وأكل ثلاث حبات تمر، فالأسوة الحسنة هي لمقام الرسالة بما فيها من قيم عليا ووصايا أخلاقية، تحكم علاقتنا بالناس من خلال عملهم الصالح فقط لا غير.
أما قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب 56) فهو تبجيل لمقام النبوة، وصلة مع ما حملته من علوم يظهر تأويلها على مر الزمن، وما جاءت به من طفرة اجتماعية وسياسية، فالنبي أقام دولته في المدينة على أسس ديمقراطية تعددية، قوامها {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى 38) وفيها فصل بين السلطة السياسية والعسكرية والقضائية، واجتهد لمجتمعه ضمن تنظيم الحلال، والحركة بين الحدود بما فيه التيسير على الناس، ووضع حجر الأساس لتحرر المرأة، وحجر الأساس لنظام انتاجي جديد يقدم بديلاً عن ذاك القائم على الرق، ولم يغفل العلاقات الدولية مع جيرانه، ولم يمارس الإكراه في المعتقد، فلم يكلف أحد بمراقبة من يصلي ومن لا يصلي، أو من يصوم ومن لا يصوم، لكنه عاقب السارق وقاطع الطريق.
وللأسف فإن التاريخ بعد وفاة الرسول عاد لخط سيره الطبيعي، فلم تستمر تلك الطفرة، بل عادت الروح القبلية السائدة، وجرى اعتماد توريث الحكم والنزاع على السلطة، حتى الغرب لم يصل إلى ما حققه النبي إلا بعد الثورة الفرنسية وما صاحبها من ثورة في الفكر وأدوات الإنتاج، ولم يجر تحرير الرق إلا على يد إبراهام لينكولن منذ مائتي عام، واليوم يأت من يدعون التأسي بالرسول للعودة بالتاريخ إلى الوراء، بتصرفات همجية، فيدخلون تارة بيت يذكر فيه اسم الله ليأسرون ويقتلون {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج 40)، ويذبحون الناس في الأماكن العامة فينطبق عليهم قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة 33) فهؤلاء يحاربون الله ورسوله ويعيثون في الأرض فساداً {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} (النحل 25).
أما الذين يتجهون نحو الإلحاد فقد وجدوا أن هذا الدين لا يقدم أجوبة لتساؤلاتهم، بل يزيدها استخفافاً بعقولهم، سيما وأنهم يرون مجتمعاتهم تعيش في قناع من الورع لا ينسجم مع تدني الأخلاق، فيما ترزح مجتمعات لا دينية بنعيم من الأخلاق والقيم العليا.
وفي النهاية للأسف، فإن داعش والأزهر وقم يمثلون الإسلام شئنا أم أبينا، وسوف يستمرون بتمثيل الإسلام حتى يأتي من يمثله بطريقة مختلفة، وعلينا، إن أردنا الوقوف في وجه العنصرية الغربية المتصاعدة، وموجات الإلحاد المتزايدة، أن نمثل الإسلام كم نراه نحن، وكما أنزله الله على محمد (ص)، علينا أن نظهر للعالم أجمع تعاليم الإسلام الحقيقية، بدل الوقوف جانباً متبرئين من ممثلي الإسلام الحاليين، والاعتراف بوجود المشكلة هو بداية الطريق لإيجاد الحل، أما الحل فهو ليس في تجديد الخطاب الديني، بل بنسف ما هو موجود، ولا ينفع الاجتزاء هنا، فنحن بحاجة لثورة فكرية، تصحح المسار، فلا يمكن محاربة داعش ونحن ما زلنا نفكر في منح المرأة الحق بتزويج نفسها من عدمه، أو السؤال عن ضرورة إنشاء حضانات الأطفال أم الاكتفاء برياض تحفيظ القرآن، هو منهج متكامل عليه أن يعيد للإسلام رسالته الأساسية في كونه دين الرحمة للعالمين، كل العالمين بغض النظر عن جنسهم ولونهم ومعتقدهم.