لماذا لا يستجيب الله لدعائنا.؟
بعد أكثر من خمس سنوات على الثورة السورية، ومئات الآلاف من القتلى، ومثلهم من المعتقلين والمشردين، ومشاهد الدمار اليومية، يجد السوريون أنفسهم في مواجهة أسئلة كبيرة تجعلهم يعيدون النظر في كثير من مسلماتهم، ويترافق هذا مع شعور عام بالخذلان وخيبة الأمل، يودي إلى تطرف في الفكر، باتجاه التدين الأعمى أحياناً أو الإلحاد أحياناً أخرى، فينقسم بعضهم بين قطبين متعاكسين، يرى الأول عند الله الحل الأكيد، ويسخر كل طاقاته للبحث في مراجعه عما يبرر عنف مضاد، بينما يتساءل الثاني عن وجود الله الذي لا يستجيب للدعاء ولا يبالي بكل هؤلاء الأطفال والأمهات.
ويؤسفني القول أن الله تعالى لن يتدخل ليمنع قتل المدنيين، ولن يرسل ملائكة من السماء بأيديهم حجارة تقاتل مع المظلومين، فزمن المعجزات انتهى مع الرسالة المحمدية، والله تعالى حين أعلن ختم الرسالات وضع الإنسانية أمام عصر جديد مختلف تماماً عما قبله، قائم على أهليتها للعيش بلا رسالات جديدة، ودون تدخل مباشر من الله، وإذا كان الله تعالى قد وصف الرسالات بأنها تحمل نوراً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} (النساء 174)، {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ}(المائدة 44)،{وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} (المائدة 46)، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} (التغابن 8)، فقد كانت الإنسانية تحتاج إلى نور وإلى كتاب منير {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (آل عمران 184)، أما بعد ختم الرسالات فقد وضع ذلك على عاتق الإنسانية لتصنع كتبها النيرة بنفسها {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} (الحديد 13). ولم يقل الله تعالى أن هذا نوره، والجاهل لا يصنع نوراً بل يصنعه من يعتمد المعرفة والعلم طريقاً لحياته {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف 179)، ومن هنا نفهم قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(المائدة 3)، فقد أكمل برسالة محمد الإسلام الذي ابتدأ بنوح وتراكمت قيمه تدريجياً مع الرسل، عرفناهم أم لم نعرفهم، وأتم نعمة التنوير، وأعلن بلوغ الإنسانية سن الرشد، وأهليتها بالتالي لتدير شؤونها بلا رسالات وبلا معجزات، فبينما أيد الرسل والأنبياء بقدرات محسوسة تفوق ما يفهمه معاصروهم، كانت معجزة محمد (ص) الوحيدة هي التنزيل الحكيم، بصفته نصاً حياً صالحاً لكل زمان ومكان، يتمتع (فيما عدا المحرمات) بثبات النص مع حركة المحتوى، إلى أن تقوم الساعة.
والله تعالى لم يختم الرسالات إلا ووضع أسس للسير عليها تقوم على مبدأ رئيسي هو {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا}(البقرة 256)، أما الإسلام فهو الإيمان بالله واليوم الآخر مقترناً بالعمل الصالح، والمحرمات أربعة عشر مغلقة لا يزاد عليها ولا ينقص منها ولا تتغير مع الزمن، ووضع الهيكل العام لحل كل الظواهر الاجتماعية والسياسية التي لا تنقرض مع الزمن، مثل:
- الأسرة: وضع أحكام الزوجية كميثاق، وملك اليمين كعقد نكاح، وفصل هذه الأحكام وشرحها أكثر مما شرح إقامة الصلاة، لأن ظاهرة الأسرة تخص كل مجتمعات الأرض.
- وضع أسس نقل الثروة من جيل إلى جيل آخر، وفق خيارين، إما الوصية أو الإرث في حال عدم وجود وصية، وهذا ما يفعله كل أهل الأرض.
- وضع أسس العلاقات بين الدول، بحيث تقوم على أمرين اثنين، هما التعارف والتدافع، والتدافع يمكن أن يكون سلمياً، أو غير سلمي وبالتالي هو أحد أسباب الحروب، وقد وضع أسس التعامل فيها أيضاً، حيث يجب أن تكون لصد العدوان بشكل رئيسي، بينما معظم الحروب المعاصرة سببها تدافع المصالح الاقتصادية (الاستعمار).
- أعطى في الرسالة العلاقة الشاقولية مع الله والأفقية مع الناس بالإنفاق، أي أن الله فرض علينا إقامة الصلاة والزكاة فريضة، في سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النور 1) و{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور 56)، أما الحج فنحن نفرضه على أنفسنا، وفي الصيام أعطانا خياري الفدية والصوم وقال أن الصوم خير لنا.
كذلك فإن وضع التنزيل لنظرية الحدود نقل كامل التشريعات الإنسانية من كونها حدية في الرسالات السابقة، إلى الحدودية، بحيث تتراوح بين حدين أدنى وأعلى يقررهما المشرع وفق عصره وأدواته المعرفية، وهذا ما تسير عليه اليوم كل قوانين الأرض.
ومن خلال القصص القرآني بين لنا قوانين التاريخ الحتمية التي لا تغيير فيها:
- الزمن ونقص الموارد الاقتصادية من أهم أسباب زوال الحضارات {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف 130)
- زيادة عدد من يتمتعون بالامتيازات الطبقية يؤدي لدمار الحضارات {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء 16)
- الهلاك الحتمي لكل الحضارات قبل يوم القيامة {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} (الإسراء 58)
والله تعالى تدخل مباشرة وساعد المستضعفين لأخذهم حقوقهم، من خلال ظواهر طبيعية أي بحرب ربانية مباشرة {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت 40) لأنهم كانوا عاجزين عن فعل ذلك بأنفسهم، إلا أن هذه الظاهرة انتهت ببعثة محمد، حيث قامت دعوته على اتخاذ الأسباب ثم التوكل على الله بعدها، وعندما دعى الرسول ربه لمساعدته في بدر كان قد استنفذ كل التدابير المادية والبشرية، أما قيام الليل لدعوة الله أن يحارب عنا فلن يجدي نفعاً، ولن يقضي على الفراعين والقوارين والهامانات.
قد يقول قائل وماذا عن {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة 186)، أقول نعم إن الله يجيب دعوة الداع، وليس بعاجز عن تحقيق الأماني، لكن من ضمن الظروف الموضوعية الموجودة على أرض الواقع، ومهمة تغيير الحكام وضعها على عاتقنا كما مهمة تعيينهم، وكان الأجدى بنا وعي منذ زمن أن الحرية أهم من الحجاب، وأن تكميم الأفواه والسكوت عن الظلم مقابل أمان مزيف لا يعني أننا كنا بخير، وأن أقوال مثل “تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ” نسبت زوراً وبهتاناً للرسول هي من أوصلتنا إلى ما نحن عليه.
أما الظالم فسيلقى جزاؤه، عاجلاً أم آجلاً، في الدنيا أو الآخرة {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}(إبراهيم 42) ولا يمكن أن ينفد دون عقاب، واليوم الآخر وجد لهؤلاء، وأعلم أن هذا الكلام لا يواسي أماً ثكلى، أو يتيماً أو أرملة لكن إن لم نحظ بالعدالة في الدنيا، فعند الله لا يضيع شيئاً.
أقول هذا وكلي أسف لما يحصل في سوريا عموماً وحلب خصوصاً، آملاً زوال دولة الاستبداد وتوابعها من حركات أصولية نشأت في عهده، بأقل ما يمكن من الخسائر الإضافية والأثمان المدفوعة.
(1) تعليقات
شافعي عبد اللطيف
السلام عليكم
ارجو منكم يا دكتور توضيح الزكاة، أولا على ماذا فرصة الزكاة؟ رأس المال
أم الأرباح؟ أرجو منكم إعطاء مثال. هؤلاء الذين يسمون أنفسهم مشايخ و علماء لبسو دينا على مقياسهم.
أطال الله في عمركم يا دكتور.
شافعي عبد اللطيف.
الأخ شافعي
في أداء الزكاة نحن نتبع ما حدده الرسول الأعظم، عملاً بالآية {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور 56) وهي الآية الوحيدة التي وردت فيها طاعة الرسول منفردة ومنفصلة عن طاعة الله.