ثقافة الخوف
سألني محاور منذ مدة: لماذا نعيش في ثقافة الخوف؟ ولا يكاد يمر يوم إلا وأجد حولي ما يعزز هذا الخوف في الثقافة الجمعية، ولعل شهر رمضان يشكل موسماً تتعالى فيه نسبة الخوف والكذب، في متتالية ترفد بعضها البعض، ليس خوفاً من الله بل من عباده، في مجتمعات يمكنها أن تتساهل مع الكاذب والسارق والمرتشي غالباً، والقاتل في أحيان، لكنها لا تتساهل مع من يجاهر بإفطار رمضان، فيجد المرء نفسه وقد اختار الكذب طريقاً أسهل للاتقاء من تقييم الآخرين له كحد أدنى.
أما أن تأكل في الشارع فدرجة السماح بذلك متفاوتة في الدول العربية، ويدور السجال في كل عام عن حق الدولة في معاقبة الفاعل، وترى الكثيرين يؤيدون إنزال أشد العقوبات بحقه، ومنع تقديم الطعام أو الشراب في الأماكن العامة، بحجة احترام شهر الصيام ومراعاة شعور الصائمين، وينطبق هنا تشبيه “ملكيون أكثر من الملك” ولله المثل الأعلى.
فالله تعالى إذ كتب على المؤمنين بالرسالة المحمدية الصيام، لم يهددهم ولم يتوعدهم، بل وعدهم الأجر والثواب جزاءً لما عملوا، والصيام كغيره من الشعائر يقدم عليه الإنسان طواعية لا كرهاً، ولا يمكن لأحد إجباره عليه، أي أن تصوم فأنت تطيع الله وتتقرب منه زهداً وخشوعاً، وستلقى ثوابك في اليوم الآخر {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب 35).
والله تعالى إذ وضع الصيام بصيغة “كتب” {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 183) فيعني ذلك أن هناك خياراً آخر أمامك، وهو الفدية في هذه الحالة {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 184) و”يُطِيقُونَهُ” تعني لديهم الطاقة لتحمله، فهم ليسوا مرضى ولا على سفر، فلهم أن يختاروا الفدية، مع أن الصيام يفوقها خيراً “وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم”، ومع ملاحظة أن البديل هو “الفدية” لا “الكفارة” حيث لا ذنب هنا، وأن الله سبحانه اختار الرفق بعباده وترك لهم تقدير الاستطاعة {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة 185).
ولا يخفى على أحد مدى المساهمة في القضاء على الجوع لو أن كل من لا يرغب بالصيام دفع فدية إطعام مسكين كحد أدنى، والجوعى في كل مكان، دون الحاجة للف والدوران بفتاوى تنفع للضحك على الناس لا على الله، كقضاء 80 كيلو متر(أو 40 وفق المذهب الشيعي) في السيارة لتدخل في حكم المسافر مثلاً، ودون الحاجة لأشغال شاقة وضعها الفقه الموروث، كصيام شهرين متتالين كفارة عن كل يوم إفطار دونما عذر، بما يعادل كفارة القتل غير العمد، وإذا كان الله تعالى قد أراد بنا اليسر فأين اليسر بموجب الفقه لو أن طالباً اضطر للإفطار أثناء الامتحان ؟ فكل ما جرى عبر العصور هو تقول على الله ووضع العسر في طريق العباد ليس إلا، ومن ثم إصدار الفتاوى للتحايل بشتى الوسائل، ولعل إفطار الحائض والمرضع لا يبتعد كثيراً عن هذا، إلا أن “تحريم” صيام الحائض يدخل ضمن النظرة الدونية للمرأة وشؤونها، علماً أن التنزيل الحكيم لم يعرج على الموضوع، إلا بقدر ما يسبب الحيض من مرض، يحيث تعتبر ضمن “مَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً”.
وإذ رفع الله من شأن الإنسان فترك له مطلق الحرية في اختيار الطاعة أو المعصية، أبينا إلا أن نقيد هذه الحرية، ونمارس الإكراه باسم الله، سواء ضمن البيت أم المجتمع وصولاً إلى طاعة أولي الأمر، وما لا ندركه كمسلمين هو أن كلمة الله العليا التي سبقت لكل أهل الأرض هي الحرية، ومشيئة الإنسان من مشيئة الله {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (الإنسان 30) والله شاء أن نشاء، وآدم مارس حريته بالمعصية لا بالطاعة، وأن علاقتنا بالله نحن نحددها بملء إرادتنا ونحمل مسؤولية خياراتنا {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس 7 – 10) ولا إكراه هنا ولا محاباة لأحد، فالله تعالى لم يطلب لنفسه العبودية، بل طلب العبادية وشتان بين الاثنين، وحكم الله في الأرض هو الصراط المستقيم، عليك الالتزام به دونما حياد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران 102) وهذا الصراط ليس حبلاً رفيعاً تحته جهنم سنسير عليه في اليوم الآخر مهما كنا فاعلين من خير، بل هو ما ندعو الله أن يهدينا له كل يوم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام 151- 153) أما الحبل فصورته في الذهن كافية بحد ذاتها لتجعل الخوف يعشش في نفوس أبناء الأمة، ويدفع بهم إلى قتل أنفسهم والآخرين معهم في سبيل النجاة منه والتخلص في الوقت ذاته من حياة كل ممتع فيها حرام، الحزن فيها محبب والفرح مذموم، وكأن الله تعالى خلقنا لنشقى ثم يميتنا فنشقى مرة أخرى، وهو الذي سخر لنا كل ما في الأرض لنستمتع به {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك 15)، فإذا كنا نقر بألوهيته علينا التعامل بالحسنى مع خلقه، أي نتواصل معه ليهدينا سبيل الرشد، ونتواصل مع عباده وفق صراطه، فنخاف الله في علاقتنا مع الآخرين، فنبر والدينا ونقسط لليتيم ونفي بعهودنا ولا نغش ولا نرتكب الفواحش ولا نقتل، ونحسن للفقراء فلا نأكل ربا، ولا نتقول على الله، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام 54) ووعد الناس بالمغفرة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر 53) علماً أن العباد تشمل المؤمنين بالله والكافرين به.
ومع قرب انتهاء شهر رمضان يكون معظم المؤمنين قد أنهوا تلاوة التنزيل الحكيم ربما مرة واحدة أو أكثر، لكن كم منهم تدبر بكلام الله؟ وكم منهم توقف عند قوله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)؟ لو توقفوا عنده لتقبلوا أن يتركوا الناس وشأنهم، ولوعوا أن الله احترم مشيئة الإنسان ولاحترموها بدورهم، سيما بما لا يتعارض مع القيم الإنسانية، فكونك مؤمن أمر جيد لكن لا يعطيك الحق بمنع الملحد من التعبير عن رأيه، ولك ألا تسمعه، وكونك صائم أو غير صائم لا يعني أحد سواك، ويمكن لغير الصائم مراعاة شعورك فلا يقدم على الطعام والشراب أمامك، لكن عليك ألا تجبره على ذلك، ولا تحمله فضل صيامك، لكن كونك كاذب سيعود بتبعاته عليه أو على غيره، وللأسف فإن مجتمعاتنا يخدشها الطعام والشراب في الشوارع خلال الشهر الفضيل، وتخاف على مظاهر الإسلام في البلاد، لكن لا يخدشها ولا يخيفها كل هذا الكم من الجوعى والفقراء والمساكين والمشردين.
خلاصة القول أن الله خلق االناس أحراراً، يخشوه إن شاؤوا، ولهم مطلق الحرية في التعبير عما يريدون، فلا تحاكموا بعضكم بعضاً، ودعوا الخلق للخالق هو أدرى بهم {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة 118).