الإسلام وكراهية الآخر
لا يكاد يمر أسبوع دون أن نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام جرائم ترتكب باسم الإسلام، في سوريا والعراق واليمن وليبيا وأوروبا، ويعم الجدال بين الناس في جلساتهم وفي وسائل الإعلام حول صحة الاتهامات من عدمها، وعن مدى كوننا كعرب ومسلمين معنيين بالاتهام من قريب أو بعيد.
وبداية يفترض بما نحمله من إنسانية أن نتعاطف مع القتلى الأبرياء على اختلاف جنسياتهم وألوانهم ومعتقداتهم أينما كانوا، في بلادنا أو في أي بلد من بلدان العالم، حتى لو لم يتعاطف أهلهم مع ضحايانا وقضايانا، ومن لا يشعر بأحزان الآخرين فلديه مشكلة في إنسانيته.
وثمة الكثيرون حولنا ممن لا يتعاطفون مع الضحايا الأوربيين تحديداً بحجة “أن هؤلاء كفار ولا يستحقون تعاطفنا”، فهذا قول غير منطقي، لأنهم بشر أبرياء أولاً، ثم وهو الأهم “هلا شققتم عن قلوبهم” لتعرفوا إيمانهم من عدمه؟ عدا عن أن كفرهم بما تؤمنون به لا يبيح قتلهم.
أما القول بأن هناك من يريد تشويه صورة الإسلام، ومن يريد تعكير صفو أوروبا، وأن داعش صناعة غربية، وأن البحث عن المستفيد يبين على من تقع المسؤولية، فنقول بأن كل هذا قد يحمل شيئاً من الصحة، لكن لا أريد هنا مناقشة من الرأس المدبر لكل حادثة، وإنما اليد المنفذة.
وهناك القائل “لماذا جلد الذات؟ وهل نحن معنيون بكل شاردة وواردة تحصل في العالم، سيما وأن ما حصل في أوروبا مؤخرا قام به شباب أوروبيو المولد والنشاة؟”
نعم ولد هؤلاء في أوروبا ونشؤوا فيها، ولم تلتفت الدول الأوروبية إلى أنهم عانوا من انعزال عن المجتمع وتهميش واضطهاد، ساهم إلى حد كبير في زرع بذور العنف لديهم، وبعضهم كانت لديه سوابق إجرامية، لكن حين أراد الملجأ والهوية وجدها في الإسلام، وهم من جهة أخرى تلقوا تعليمهم الديني في المدارس أو المساجد على أيدي شيوخ لقنوهم في أغلب الحالات كراهية الآخر المختلف، وعلموهم كيف يضمروا العداء لأهل البلد المضيف لأسباب عدة، واليوم إذ يقاتل العالم داعش في سوريا والعراق يتناسى أن هذا الوباء متفش في كل مكان، فعدد الشباب من كل أنحاء العالم ومن أوروبا خاصة ممن انضموا إلى داعش وشاركوا في الجرائم لا يستهان به.
وإن كان الغرب يحمل جزءاً من المسؤولية عن اضطهاد المسلمين سواء في أراضيه كمضيف أم في أراضيهم كمحتل سابق أو معاصر، أو بمسؤوليته في السكوت عن الطغاة، لكن لا بد من الاعتراف بتحمل الثقافة الإسلامية للجزء الأكبر من المسؤولية عن هذا الكم الهائل من الكراهية للآخر، والتي تتحول على يد الكثيرين إلى قتل وإرهاب يطال الأخضر واليابس.
واليوم ينقسم المسلمون (بالمعنى الشائع) على أنفسهم بين من ينفي عن الإسلام تهم الإرهاب وبالتالي يعتبر أولئك متطرفون لا يمتون للإسلام بصلة، وبين من هو مبارك في قرارة نفسه لتلك العمليات الانتحارية ولا يجد غضاضة في قتل أبرياء لا ذنب لهم، وثالث يحمل الإسلام كل الذنب ويرى بأنه لا بد من الانعتاق منه وركنه جانباً، آخذاً عليّ وعلى غيري محاولة تجديد الفكر الديني، باعتباره ترقيع ما لا يرقع.
وهنا أكرر ما أقوله دائماً:
علينا ألا ندفن رؤوسنا في الرمال، ولنعترف بأن الإسلام الموروث يحمل في طياته ما يحرض على الكراهية والقتل، وأن القاعدة أو داعش أو غيرها ستتوالد على مر العصور لأن مصادرها ومراجعها هي أمهات الكتب ذاتها التي تدرس في مدارسنا ومعاهدنا الشرعية وكليات الشريعة على اختلاف بلداننا، ولا وجود لإسلام وسطي وإسلام معتدل وآخر متطرف، بل هو إسلام موروث، تتوارى الكراهية فيه تارة تحت غطاء من التعايش المصطنع، وتظهر تارة أخرى حين تسمح الظروف، فالآخر إما كافر أو مشرك سيجد عمله الصالح يوم القيامة هباءً منثورا، أو مرتد يجب قتله، وضمن ثقافة تقدس الموت وتكره الحياة فلا حرج من قتل هذا الكافر جهاداً في سبيل الله حين يحين الوقت المناسب، وقد يقول قائل “كلا هذا الكلام غير صحيح، وكنا وما زلنا نعيش سوية في مجتمع واحد متعدد الأديان والملل ولدينا صداقات وطيدة مع بعضنا البعض” أقول نعم لكن التعصب والعنف يظهران عند أول أزمة، وهذا التعايش لا ينفي وجود مشكلة في نصوصنا، يستطيع أي مجرم اتخاذها مرجع له، والنصوص الدينية الأخرى لا تقل عنفاً عما لدينا ولطالما كانت مرجعية لحروب ومذابح قام بها الأوربيون، لكنهم استطاعوا مراجعة تلك النصوص وركنها جانباً ومن ثم فصل الدين عن الدولة.
أما نحن فللأسف وقف بنا الزمن عند أكثر من ألف سنة مضت، وقدسنا السلف وأخذنا عنهم، ولم نغير قيد أنملة في رؤيتهم، رغم التطور الهائل في أدوات المعرفة، بل على العكس جرى ويجري وأد أي دعوة لإعادة النظر في الفقه الموروث وقراءة الإسلام وفق رؤية معاصرة، واعتبار هذه الدعوات ترفاً فكرياً لمتدخل فيما لا يعنيه، على اعتبار أن الإسلام حكر على ناس بعينهم، لديهم وكالة من الله تعالى في التوقيع عنه والبت بأمور البلاد والعباد.
فالسلف الصالح وورثتهم نظروا للتنزيل الحكيم ككتلة واحدة، وهو بالنسبة لهم نص مقدس، لكنهم لا يملكون جواباً عن التناقض بين آيات مثل {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة 82) و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} (المائدة 51) و{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62)، ولا يملكون جواباً حين يسألهم أحد عن الآية {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد 4) أو آية السيف {ِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة 5) وإذا كان الجهاد في سبيل الله بالنسبة لهم هو قتل الكافرين فلماذا نتفاجىء إذاً مما يرتكبه داعش وغيره؟
لقد ضرب الفقهاء والشيوخ بكتاب الله عرض الحائط، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث أو التدبر فيه، فهل من أحد فصل الآيات المتشابهات عن الآيات المحكمات المقصودة في قوله تعالى {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (آل عمران 7) وهل من أحد ميز بين الكتاب بكونه هدىً للمتقين فقط {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة 2) والقرآن بكونه هدى للناس جميعاً {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (البقرة 185)؟ فدقة التنزيل الحكيم بالغة، ولا يمكن لنص إلهي أن يسوق الكلام اعتباطاً، ودراسة الفرق بين الكتاب والقرآن والمحكم والمتشابه تصل بنا إلى أن الكتاب يحوي القرآن باعتباره الآيات المتشابهات وهي تتضمن قوانين الوجود والكون إضافة لأرشيف التاريخ (القصص)، وهو بذلك هدى للناس جميعاً، ويحوي أيضاً المحكم وهو رسالة محمد (للمتقين) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة 2- 3 -4)، ورسالة محمد العالمية الصالحة لكل زمان ومكان لا تشمل القصص المحمدي أي أحداث عصره ونبوته بما فيها من علاقاته مع محيطه من مؤمنين به وكافرين وأهل كتاب وغيرهم، وحروبه وغزواته (سورة التوبة والأنفال وغيرها)، ومعظم الآيات التي وردت في خطاب {يا أيها الذين آمنوا} موجهة للذين آمنوا في عصره لا على مر العصور، وآيات القتال والحرب نفهمها ضمن ظروفها وسياقها التاريخي ولا تخرج عن ذلك، والمشركون واليهود والنصارى ضمنها هم أولئك المعاصرين للنبي لا على مر العصور والأزمان.
أما آيات القتال باعتباره تكليف ضمن الرسالة، فهي خاصة بحالة الدفاع عن النفس من اعتداء الآخرين، ولا يتسع المجال هنا لتكرار ما ذكرته في مقالات سابقة بهذا الخصوص تحديداً.
فإذا اخذنا آيات الرسالة على حدى نجدها منسجمة مع قولنا أنها صالحة لكل أهل الأرض، لا تخرج عن قيم إنسانية عليا، والشعائر في هذه الرسالة هي علاقة خاصة بين الإنسان وربه لا تختلف عن غيرها لدى الأمم الأخرى، أما أن نقول أننا ننتقي من كتاب الله ما يناسب الإنسانية ونحذف ما لا يناسب فهذا نفاق ولف ودوران لا معنى له.
والسؤال الذي قد يطرح نفسه هنا ما الحل الفعلي الذي يمكن تطبيقه؟ أجد الحل في اتخاذ قرارات جريئة بفصل الدين عن الدولة، على أن تكون القيم الإسلامية هي المرجعية الأخلاقية لأي دستور، ثم إغلاق كل ما هو موجود من معاهد شرعية ومدارس دينية وكليات شريعة، ساهمت عبر العصور بتخريج شيوخ وأئمة مساجد دعوا إلى الكراهية والعنف والقتل، وإعادة النظر في مناهج التعليم والقائمين عليها، وإلغاء مادة التربية الدينية منها واستبدالها بتدريس الأخلاق والتعرف على الآخر المختلف دينياً ومذهبياً، عسى أن يتم اللحاق بالأجيال القادمة والخروج بها من هذا المأزق المتوارث، وهنا لا بد من التذكير بما فعله الديكتاتور الأب في سوريا خلال أربعين عاماً حيث حول المجتمع المدني الذي كان سائداً في خمسينات القرن الماضي إلى مجتمع يتبع لرجال الدين تسوده ثقافة الدروس في المساجد للرجال وفي البيوت للنساء، تعلم الناس قمع المرأة والطهارة والنجاسة، وتترك الحاكم المستبد يفعل ما يريد وتسبح بحمده في الأعياد وخطب الجمعة، فانتشرت معاهد لتحفيظ القرآن وزاد الفساد والكذب والسرقة وانحدار القيم الأخلاقية، وفيما فرض المستبد ما يريد من قرارات وقوانين، أبقى على التشريعات وقوانين الأحوال الشخصية المتخلفة القائمة وما يسمى “الدين الأفضل”، وما إلى ذلك، ومواد الدستور التي تحصر دين رئيس الدولة بالإسلام، بحجة أن دين الدولة هو الإسلام رغم ادعائه العلمانية.
عودوا أيها المسلمون إلى كتاب الله واقرؤوه بعين العصر، واخرجوا من عباءة التفاسير الموروثة، وخذوا العبرة من {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة 28)، وميزوا بين الرسالة بما فيها من قيم إنسانية وبين ما هو تاريخ شبه الجزيرة العربية ليس إلا.