هل أعددنا من قوة؟
فيما يعيش العالم فوضى عارمة، بين أقصى التطرف والعنصرية من جهة، وصراع الاستبداد ضد حرية الشعوب من جهة أخرى، وصراع المصالح هنا وهناك، لا يكاد يسمع صوت للمسلمين إلا صوت التطرف، حتى حين تهاجمهم العنصرية ينكفؤون على أنفسهم، دون أي رد فعل، ويتركون الساحة للمتطرفين للتعبير بالعنف عن رفضهم لهذا الواقع، ليدفع ضحايا لا ذنب لهم ثمن هذه الغوغاء، ونبقى ندور في حلقة مفرغة، ونقصد هنا المسلمين بالمعنى المتعارف عليه، والذين يعتبرون أنفسهم أتباع محمد (ص) فقط، وللمفارقة تنتفض الشعوب الحرة دفاعاً عن حقوق المسلمين ضد قيم الفاشية، في الوقت الذي نقذف نحن هؤلاء الشعوب بأشد الاتهامات العابقة بالكراهية والحقد.
وإن كنا لا نريد المبالغة في جلد الذات، حري بنا أن نبحث عن الأسباب التي جعلتنا على ما نحن عليه ومعالجتها، بدل أن نقف مكتوفي الأيدي ونترك مصيرنا بيد غيرنا، سواء دول عظمى أم أحزاب متطرفة أم أشخاص متهورون، وإذا كان الله تعالى قد قال في توجيهه للمؤمنين بعد غزوة بدر {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (الأنفال 60) فالعبرة التي تعنينا أن نتهيأ لمواجهة الأعداء أياً كانوا، والرهبة لا تعني الرعب، ولم يستخدم فعل “رهب” في التنزيل الحكيم بمعرض الحديث عن القتل والقتال أبداً، والآية المذكورة تعني إعداد العدة لمنع الحرب والحفاظ على السلم، وكلما كنت قوياً وتملك قوة ردع، زرعت الرهبة في قلوب أعدائك، فلا يجرؤون على تقرير مصيرك ولا على الاستهتار بحقوقك، لكن نحن لم نعد العدة لشيء أبداً، وننتظر من الله المدد، ونستغرب يومياً لماذا لا يرسل إلينا هذا المدد، ونعتبر أن الله كتب علينا، منذ الأزل، كشعب سوري مثلاً أن نعيش في ظل الطغيان خمسين عاماً ونيف، ثم يشرد أطفالنا وتنتهك أعراض نسائنا، ويموت الشباب في المعتقلات، ويتحول الصراع من طلب حرية إلى حرب بالوكالة، وكل هذا “قضاء وقدر”، وعلينا الاستسلام له، لا سيما و”حبر الأمة” قد نقل لنا ما يؤكد هذه القناعة: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: “يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ” (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
وإن كنت هنا لا أريد التشكيك بابن عباس، وهو وفق الطبراني كان لا يتجاوز الخامسة عشرة عندما مات رسول الله (ص)، إنما أريد لفت نظر القارىء إلى أن كل ما قاله قد يكون صحيحاً لو أنه لم يضف “لك” و”عليك” بعد جملتي “قد كتبه الله”، فلو اجتمعت الأمة لن يضروا إنسان بأمر لم يكتبه الله، ولن ينفعوه كذلك بأمر لم يكتبه الله، فالله كتب قوانين الوجود، لكنه لم يكتب لزيد أو على عمرو، وقضاء الله النافذ في الإنسان مشروط بموقف الإنسان، وقضاء الله النافذ في الوجود هو من خلال القوانين الموضوعية (كلمات الله)، فالله كتب هذه القوانين منذ الأزل، وكلها تسير من خلال كتب، فكتاب الموت يحصل من خلال مجموعة من الشروط الموضوعية، فإذا حصلت واجتمعت مع بعضها حصل الموت لا محالة، وهي مؤجلة غير موقوتة {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} (آل عمران 145) فالله أذن إذ ا بلغت حرارة جسم الإنسان /44/ درجة مئوية فما فوق أن يحصل الموت، وأذن إذا شنق الإنسان أن يحصل الموت، وأذن إذا أصابت رصاصة رأس الإنسان أن يحصل الموت، فكتاب الموت مازال يُدرس وسيبقى يدرس حتى قيام الساعة، وكذلك كتاب الحياة، والله تعالى أخرج الموت إخراجاً {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فالحب يخرج من النوى بشكل مباشر {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ولكن نحن نستطيع أن نطحن القمح فيصبح غير قابل للإنبات، ونستطيع أن نقتل إنساناً فيخرج الموت ليحصل القتل، لذا وضع الموت في صيغة (مخرج) وليس (يخرج)، ففي جدل الأشياء استبعد قضاء الإنسان لأن الموت هو المنتصر دائماً، لكن في جدل الإرادة الإنسانية وضع الموت بصيغة “تخرج” {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران 27) فهنا (يخرج) ولم يقل (مخرج) لأن الضدين متكافئان، فالإنسان يمكنه أن يخرج الميت من الحي بالقتل، أي أن الله قدر الموت، والإنسان يقضي بالقتل، فالموت قدر، والقتل قضاء، ولو كان كلام ابن عباس كله صحيحاً لكان كل هؤلاء الضحايا في المقتلة السورية قتلهم الله ولا داع لتقديم أحد للمحاكمة، وكل ضحايا الحرب العالمية الثانية وضحايا حرب البلقان وراوندا وغيرها كذلك، ولا معنى إذاً لهذا السيناريو عن حسابنا يوم القيامة، فإضافة “لك” و”عليك” في حديث ابن عباس حرفت المعنى تماماً، وهذه العقيدة الجبرية أساس تخلف المسلمين، علماً أن الله تعالى لم يتدخل إلا في معركة بدر {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال 17)، وإذا كانت قصة موسى والعبد الصالح (الكهف 65—82) هي المتكأ الذي يستعين به الجبريون لإثبات رؤيتهم، ففهم هذه القصة بشكل سطحي يوقع الإنسان في الأوهام والفوضى الفكرية والاجتماعية، وهي ليست للتسلية والتطمين، بل هي درس في الفرق بين التشريعات البشرية الإنسانية لتحقيق العدل الإنساني، والتشريعات الإلهية الموحاة لتحقيق العدل الإلهي، فالإنسان وضع التشريعات لتنظم مجتمعه وفق خصوصية ذلك المجتمع، وموسى مثل في القصة سلطة القانون الذي ينفذ العقوبات بناء على بينات مادية، فالشرائع السماوية والإنسانية تحمل العدالة النسبية في التطبيق، والشمول لتطبيقها على مجموعة من الناس، ولا تحمل العدالة الفردية لكل إنسان على حدى، بينما العدالة الإلهية مطلقة تعمل خارج التشريع والقانون، لكنها تعمل وفق الشروط الموضوعية الظرفية تحديداً، أي وفقاً لظروف كل فرد وعلاقته ببيئته ومحيطه، والعبد الصالح يمثل هنا سلطة المعرفة، أو إذا أردنا تمثيله في واقعنا الحالي فهو كسلطة الاستخبارات في الدول المتقدمة، والتي تعلم ما لا نعلمه، فالله آتاه من علمه اللدني، بمعنى “ماذا لدينا الآن” ضمن الدائرة المحيطة في الزمان والمكان، ولم يعلم غيب المستقبل حتماً، وهو خرق سفينة، وقتل غلاماً، وأقام جداراً دون أجر، وكل ذلك لم يستطع موسى تبريره ولم يصبر على عدم السؤال، فجاءه التفسير من العبد الصالح {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً *وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً* فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}مع ملاحظة أن إرادة العبد الصالح وحده ارتأت ذلك في الحالة الأولى “فَأَرَدتُّ”، وفي الحالة الثانية طبق حكم العاق في شريعة موسى، والغلام هو من بلغ الغلمة أي هو شاب، وحين قال “فَأَرَدْنَا” قصد هو وموسى، أما في الحالة الثالثة فكانت إرادة الله “فَأَرَادَ رَبُّكَ”، وحتى إرادة الله تعمل ضمن الظروف الموضوعية، أي دون خرق لقوانين الطبيعة، فالكنز موجود، والأب ميت، والعبرة من القصة في الحالات الثلاث أن الله رحيم بعباده، ولا يقبل الظلم من أحد على أحد، وحين تعجز القوانين على تحصيل حقوق الإنسان، فعليه أن يثق بعدل الله ورحمته، والحمد لله أنه لم يعط علمه اللدني لأحد آخر وإلا لدمرت المجتمعات، والله تعالى أوضح أن ما فعله العبد الصالح كان وحياً منه “وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي” والوحي قد انقطع مع وفاة محمد (ص)، ولا يمكن لأحد الادعاء بغير ذلك.
المهم من كل هذا السرد أن الله لا يتدخل في حياتنا إلا ضمن الشروط الموضوعية، ويفترض بنا بدل القول “اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه” أن نقول “اللهم لا نسألك رد القدر وإنما نسألك اللطف بنا” فقضاء الله غير أزلي، يتغير بتغير أحوال الناس، ولو كان أزلياً مبرماً لأصبحت الرسالات والنبوات والدعاء ضرباً من ضروب العبث، والله لم يكتب أن يقتل السوريون والعراقيون واليمنيون والفلسطينيون، ولا أن تقصف أعمار أطفالهم، بل هناك مسؤولون عن هذه الجرائم، ويجب محاسبتهم، والله وضع قوانين هلاك القرى فإذا تحققت شروط معينة فيها ستهلك لا محالة، والله لم يكتب وصول متطرف أرعن إلى أعلى منصب في أقوى دولة في العالم، ليشعل شرارات من التطرف والعنصرية ويضغط على الشعوب المقهورة حتى تنفجر، فالعنف لا يأتي من فراغ، وإذا أردنا موقعاً في هذا العالم علينا أن نعد ما استطعنا من قوة، لا أن نستكين للمكتوب، والقوة تأتي من العلم والمعرفة والبنيان المرصوص.