المؤمن في بلاد اللجوء
لا يكاد يمر يوم إلا ويطالعنا الإعلام بأخبار اللاجئين السوريين إلى أوروبا أو كندا، وألمانيا بشكل خاص، وتتنوع الآراء في هذا الموضوع، إلا أن الرضا عن حسن المعاملة يغلب عليها.
وإن كنا نتمنى لو أن أوضاع بلدنا كانت بخير، ولو أن هؤلاء الشباب والعائلات لم يضطروا لتركها والهجرة منها، لكن نشعر بالامتنان عندما نسمع بحسن الاستقبال والرعاية التي يتلقونها في بلاد اللجوء، فالإنسان أخو الإنسان أينما وجد، وهذه الدول، بغض النظر عن مصالحها وسياساتها، يفترض أنها تمثل أرقى ما توصلت إليه الإنسانية في عصرنا من حيث حقوق الإنسان، وبالتالي يعامل فيها السوري بصفته إنساناً قبل كل شيء، والناس متساوون بغض النظر عن دينهم ولونهم وجنسهم وعرقهم، والقانون فوق الجميع، والأفراد فيها بشكل عام يتصرفون بدوافع إنسانية محضة، دون أي مواقف مسبقة.
ورغم كون اختلاف الثقافات أمر طبيعي ومحمود، إلا أنه كان من الأولى بنا كمسلمين مؤمنين بالرسالة المحمدية أن نكون الأكثر انفتاحاً على الآخر، حيث نحمل رسالة رحمة عالمية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) قوامها الإيمان بالله مقترناً بالعمل الصالح {مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل 97)، ولا تميز بين دين وآخر {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) والفصل بين الناس بيد الله وحده، لا أحد غيره {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، تحت شعار عظيم تختصره الآية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256) فالإيمان بالله يوافقه الكفر بالطغيان بكل أشكاله، ومنه نفهم {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(الكهف 29).
أما العمل الصالح فمحوره القيم الإنسانية التي حددت في الوصايا، ويتفق عليها كل أهل الأرض، فالإسلام دين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، ولا يمكن أن يعاقب الله الإنسان على أمور خارجة عن تحمله، فكل أهل الأرض يتفقون على بر الوالدين، وإن خالف البعض ذلك، وكلهم متفقون على أن قتل النفس جريمة وأن الزنا والغش بالمواصفات وشهادة الزور والكذب أمور مدانة، أما الشرك بالله (الوصية الأولى) فله أوجه عدة بين شرك خفي وشرك ظاهر، وقد يشرك الإنسان بالله دون أن يدري، فالطاعة المطلقة لغير الله شرك، والثبات وعدم التطور شرك، حيث لا ثابت إلا الله، وسنة الحياة التغير الدائم، والشرك الذي لا يغتفر هو شرك التجسيد، أي الإيمان بأن الله مجسد في أحد ما {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء 48)، في حين كانت لهجته حول التثليث، على ما فيه من شرك، أخف وطأة، حيث ترك الله تعالى مجالاً للمغفرة {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة 73).
وعلاقة المسلم بالناس من خلال القيم الإنسانية فقط لا غير، وفق أرقى ما تقتضيه الأخلاق، ولنا أن نأخذ من القصص المحمدي العبرة، كما في قوله تعالى لرسوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران 159) وقوله {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6) ولم يقل “اقتله” أو “لا تساعده”، أما في حالة الاعتداء والحرب فكلام آخر، وأنت كمسلم مؤمن بريء من شرك المشرك {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام 19)، كبراءتك تماماً من كذب الكاذب أو سرقة السارق.
والله تعالى حدد علاقتنا بأهل الكتاب بقوله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران 64) أي نحن وأنتم مسلمون، وليس نحن مسلمون وأنتم كافرون، وسنقتلكم عند أول نزاع.
أما في الشعائر فلكل ملة شعائرها، وكوننا مسلمين مؤمنين بمحمد (ص) فهذا يعني أننا نؤدي شعائرنا كما أداها رسولنا، فنقيم الصلاة كما أقامها، ونعطي الزكاة كما حددها {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور 56) ونصوم ونحج كما جاء في كتابنا، ويفترض أن نملك الحق بأداء شعائرنا أينما كنا ودون اعتداء على حقوق الآخرين وضمن القوانين، علماً أن الشعائر من التكاليف أي تؤدى وفق الاستطاعة {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة 286)، آخذين بالاعتبار أنها فيما عدا الزكاة علاقة خاصة بين الإنسان وربه، وأن الرسول الأعظم لم يحاسب أحد على ترك إقامة الصلاة أو عدم الصيام، بل حاسب على السرقة والغش والزنا.
أخيراً لنتذكر دائماً أن الاختلاف سنة الكون، ولكل مكانه في هذا العالم، مهما كان دينه وشكله ولونه {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج 40)، وكونك ولدت لأبوين مسلمين لا يعني أن الجنة حكر لك، ولا يعني أبداً أنك مؤهل لتصنف الناس وتقيّمهم، أو أن تتقول على الله بما هو حلال وما هو حرام {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل 116)، أما الإيمان فضع في بالك قوله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، وبذلك تثبت للناس في الدول المضيفة أنك لا تقل عنهم رقياً وأخلاقاً.