لا إكراه في الدين
طردت إحدى الشركات في بلد عربي موظفاً لديها لعدم أدائه الصلاة مع زملائه أثناء العمل، ثم أعادته بعد أن أثار طرده ضجة في الأوساط المحيطة، ولا يخفى على أحد أن القوانين في معظم بلداننا العربية تعاقب من يأكل في نهار رمضان، فالحكومات لدينا لم تكتف بتأمين العيش الكريم لمواطنيها في الدنيا، بل تريد ضمان دخولهم الجنة في الآخرة أيضاً، حتى لو لم يريدوا ذلك، في مزيج واضح من النفاق والإكراه والتناقض، يكاد يعصف بكل نواحي المجتمع، وإذا كانت العقوبات لدى داعش في مثل هذه الحالات تصل إلى القتل، فإن “الإسلام المعتدل” لا يقل تطرفاً من حيث المبدأ، إنما تبقى عقوباته في حدود اعتادها الناس وتقبلوها.
وفي حين أن المجتمع العربي يتراخى أمام الغش والسرقة وشهادة الزور ونقض العهد وحتى قتل النفس في أحيان كثيرة، وما يحصل من تغاضي عن قتل المدنيين في سوريا دليل على ذلك، يتشدد في موضوع إقامة الشعائر، بل على العكس يتعلم الأطفال في البيت والمدرسة كيف يكذبون في موضوع إقامة الصلاة وصوم رمضان، درءاً لما قد يسببه صدقهم من إحراج هم بغنى عنه.
ورغم أهمية الشعائر في أي دين أو ملة، فالمفروض إدراك أمور أساسية:
1- الدين بشكل عام علاقة بين الإنسان وربه، يأتيه طواعية، دون إكراه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256)، والدافع فيه ذاتي نابع من الضمير، وكوننا عباد الله في الدنيا يعني قبولنا بالانقياد لدينه بملء إرادتنا، وفعل “عبد” في اللغة من أفعال الأضداد (ابن فارس) فهو يحمل، إلى جانب معنى الطاعة، معنى الرفض والعصيان {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف 81) وعبد الرق طاعته لا عصيان فيها، أما عبد الله فهو الإنسان المخير بين طاعة الأوامر وعصيانها، وهو يملك زمام أمره في الدنيا، ولا يملكه في الآخرة ولذلك يتحول الخطاب من “عبادي” في الدنيا {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر 53)، إلى “العبيد” في الآخرة {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (آل عمران 182)، وكون عباد الله قد أسرفوا على أنفسهم فهم ليسوا مؤمنين {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر 43) ومع ذلك وجه لهم الخطاب بصفتهم عباده، فالعبادة هي ممارسة حرية الطاعة والمعصية في كل أمور الحياة الدنيا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56) ومنها ينشأ الاختلاف بين الناس {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ –} (هود 118) وفي الآخرة يحاسبهم وفق اختياراتهم، فلا ثواب ولا عقاب دون حرية.
2- يتجلى الإيمان بالله بالاستعانة به والتوجه له وحده دون غيره بالدعاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة 5) دون وسيط ودون إمام أو شيخ، وبالطريقة التي تختارها، غير ملزم بصيغ معينة، ودون إشراك أحد غيره لتطلب منه، راجياً منه المغفرة عند ارتكاب ذنب ما، كذلك باحترام حاكميته أي الالتزام بصراطه المستقيم {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (الفاتحة 6) بكل طواعية، والصراط المستقيم هو مجموعة القيم الإنسانية التي فطر عليها الإنسان مهما كان جنسه ولونه وعرقه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم 30).
3- ثمة فرق بين الصلاة كصلة للعبد بربه من الجانب الوجداني وبين الصلاة كشعيرة، فهذه العلاقة الوجدانية تجسدها إقامة الصلاة، ضمن حاجة الإنسان لتحويل المجرد إلى مشخص، وهذا ما يدلنا عليه قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (المدثر 39 – 46) وسياق الآيات يدل أن المصلين ليسوا مقيمي الصلاة كشعيرة، فتاركوها ليسوا مجرمين، وترك شعيرة الصلاة لا علاقة له بالإيمان باليوم الآخر، حيث التكذيب باليوم الآخر يخرج الإنسان من دائرة الإسلام، ويؤكد تعريف المصلين في سورة المعارج فهمنا هذا: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المعارج 22- 34) فالصلاة كشعيرة وردت في الآيات، لكن المصلين هم من صلتهم بالله جعلتهم يلتزمون بأمور عدة، وبالتالي ترك هذه العلاقة يستحق الويل، لا السهو عن إقامة الصلاة {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون 4- 7) وإلا لما تناسب هذا الوعيد مع رحمة رب العالمين، والله تعالى خاطب موسى بقوله {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه 14) فهدف إقامة الصلاة هو ذكر الله.
4- التكاليف ضد الفطرة الإنسانية، لذلك نثاب عليها خير ثواب، والالتزام بها فرضه الله علينا في إقامة الصلاة وأداء الزكاة {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *— وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(النور 1 و 56)، وفي الصيام خيرنا بين أن نفرضه على أنفسنا، أو نستبدله بفدية مع تفضيل الصيام، كذلك في الوصية فقد كتبها علينا {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة 180) وأعطاها الأولوية لكن ترك لنا تقسيم الإرث في حال عدم وجودها، وفي الحج ترك لنا أن فرضه على أنفسنا {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ –} (البقرة 197)، أي أن إقامة الصلاة وأداء الزكاة لم يعطينا بديلاً عنهما، وجعلهما من صفات المتقين {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة 2 -4) لكنه في الوقت ذاته قال {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن 16) فتقوى الإيمان وفق الاستطاعة و {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة 286)
5- كل الشعائر فيما عدا الزكاة هي عبارة عن ممارسة شخصية بين الإنسان وربه، في إطارالعلاقة الخاصة معه، دون مبررات كأن نقول أن الصيام له فوائد وأن الركوع والسجود رياضة وما إلى ذلك، فمن يريد الصلة مع الله وذكره لا يحتاج إلى فائدة عملية بل هي فائدة نفسية بحتة، ولا يمكنك إلزام أحد بها، فالله يعلم ما في قلوبنا، ولا ينفع معه أن تجبر ابنك على الصيام كي يعتاد ذلك، أو أن تدعي الصيام خوفاً من زملائك في العمل، فالله غني عن صومك هذا.
6- العلاقة مع الله شأن خاص، لا علاقة لأحد به، وكل إنسان مسؤول عن نفسه فيها {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر 38)، وعلاقتك بالآخرين من خلال أخلاقك وأخلاقهم لا من خلال صلاتهم وصيامهم، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مختلف عن ذلك تماماً، فإذا كان الرسول الأعظم غير مسؤول عن إيمان من حوله {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99) فمن أنت لتأخذ هذه المسؤولية وتتدخل في أدق خصوصيات غيرك؟ ثم أن الرسول لم يذكر عنه أنه عاقب أحد على ترك إقامة الصلاة أو عدم الصيام، لكنه عاقب سارقاً وزان وقاطع طريق.
مساجد دمشق وغيرها، كانت وما زالت تعم بمقيمي الصلاة في أيام الجمعة وليالي رمضان ولكن للأسف لم نر أثر ذلك على أخلاق المجتمع، ولو أن الموظف المذكور أعلاه كذب بشأن إقامته للصلاة لارتاح أصدقاؤه وصاحب عمله، فمجتمعاتنا يهمها الشكل لا المضمون، تريدنا كاذبين منافقين، وتجبر أفرادها أحياناً كثيرة على ذلك، وإلا قطعت رؤوسهم حين تسنح لها الظروف وتمتلك سلطة ما، وما ترتكبه داعش إلا دليلاً على ذلك، ولا يغرنكم الاستهجان لأفعالها، فمن يجبر ابنه على الصيام أو إقامة الصلاة يحمل المبادىء ذاتها دون اختلاف.
فلنعبد الله مخلصين حنفاء ونلتزم بأوامره امتثالاً لقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} (البينة 5)، آخذين بالاعتبار نصيحته سبحانه لنبيه {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران 159).