إسلام كامل
يعرف الكمال بأنه تمام متقطع، أما التمام فهو كمال مستمر، فنحن نكمل ما بدأناه بعد انقطاع، لكن نتم العمل حين ننهي ما اتصل منه، فإذا صمنا من الفجر إلى المغرب نتم يوم صيام، وإذا صمنا أيام شهر رمضان كلها، نكون قد أكملنا الصيام.
فإذا وقفنا عند قوله تعالى في التنزيل الحكيم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة 3) نتبين أن الإسلام الذي ابتدأ مع نوح {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ —* —إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس 71 – 72) ونادى به كل الرسل اكتمل بالرسالة المحمدية الخاتم، وتمت النعمة التي أنعمها الله على عباده بما حملته هذه الرسالة من رحمة، فخففت عنهم الإصر والأغلال، وأعلنت صلاحية الإنسانية لبدء عصر جديد، يحمل سمات مغايرة لما قبله، حيث لا فرق بين ذكر وأنثى، ولا رق ولا تمييز بين الناس، والفطرة التي يقبلها كل أهل الأرض هي الأساس في قياس الأمور، مع حنيفية بين حدود مرنة، يبلغ اتساعها ما يضم اختلاف الأهواء عبر الزمان والمكان.
قد يظن القارئ أني أبالغ، لكن هذا الكلام تجدون مصداقيته في كتاب الله، وربما أو من المؤكد لن تجدوه فيما بين أيديكم من أمهات كتبنا وأدبياتنا التي اعتمدناها لننهل منها ثقافتنا ومناهجنا وخطب مساجدنا، فنحن لا نهتم بدراسة التنزيل الحكيم وتدبره، وإنما نعتبره كتاباً للخاصة يتعذر علينا فهمه، ونكتفي بتفسيرات أكل عليها الدهر وشرب، ومات أصحابها قبل مئات السنين، وهم اجتهدوا مشكورين، فنسخوا آيات وألغوا العمل بأخرى، وتقوّلوا على رسول الله فصنعوا أحاديث ورفعوها على كتاب الله، واخترعوا ما يسمى الأحاديث القدسية فتقوّلوا على الله أيضاً، فكانت النتيجة أن الإسلام اختصر بالأركان الخمسة من شهادتين وإقامة صلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وكل ما عداه كفر وضلال، وبالتالي أصبح من يلد لأبوين يعترفان بهذه البنود هو مسلم سيدخل الجنة، وحتى لو ارتكب جرماً دخل على أساسه النار فسيغفر الله له، أما غير “المسلمين” فلن يجدوا من أعمالهم الصالحة إلا هباءً منثورا، ومن ثم فإن خمس الناس تقريباً في الجنة، وما تبقى في النار خالدين فيها، ولا تحتاج الجنة إذاً لأن تعرض في السموات والأرض بل تكفيها مساحة لبنان مثلاً.
وإن كان غير “المسلم” لا يعنيه كيف ننظر له، سيما أن نظرته قد لا تكون مختلفة كثيراً، لكن نحن معنيون أمام الله وأمام أنفسنا بحمل رسالتنا وتقديمها إلى العالم، وبالدرجة الأهم تقديمها إلى أبنائنا كما جاءت لا كما شوّهت، فتحولت من دين عالمي إلى دين محلي شرق أوسطي يستقي أساسياته من عصور ولّت، ويحاكم الناس ويقيمهم، ويمنح شهادات إيمان وكفر لهذا وذاك، ولا يتوانى عن قتل أي مخالف في ظروف معينة، ونحن معنيون أن نزرع في مجتمعاتنا مبادئ الإسلام بصفته دين الإنسانية، يضم كل من آمن بالله، على اختلاف تصور كل منا عن الله، واختلاف تصور من سبقونا عنه أيضاً، والفصل بيننا هو لله وحده يوم القيامة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17) بما في ذلك من لم يؤمن، وعلاقة الناس بعضهم مع بعضها تحكمها القيم الأخلاقية، وهي الوصايا، ولا يخالفها إلا الاستثناء.
والدين كعلاقة مع الله هو شأن فردي خاص، لا يحتاج لرجل دين ولا وسيط، ولا يمكن إكراه أحد على الإيمان {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، وأنت كمسلم مؤمن بريء من شرك جارك {أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (هود 54) لكن تعاملك معه من خلال القيم يحتم عليك الإحسان إليه {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (النساء 36) فلم يحدد لك الله تعالى دينه وعرقه ولونه، ولا يعنيك كيفية أدائه للشعائر، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، من ملتك أو غيرها، فلكل إنسان طريقته في التقرب إلى الله، عليك احترامها.
خلاصة القول أن الإسلام جدير أن ننقذه من الإجحاف الذي لحق به، وأن نكرسه كرسالة إنسانية، الآخر ضمنها وليس خارجها، قوامها التعدد والاختلاف، نشترك بأننا جميعاً أبناء آدم الإنسان، الذي اختاره الله خليفة على الأرض، لنعيش بسلام فيما بيننا فلا نفسد فيها ولا نسفك الدماء، بل نفعل الخير ونعمل صالحاً، وهذا التكريس يجب أن يدخل في العقل الجمعي ويدخل في التركيب الاجتماعي، بحيث يصبح عصياً على أن تزعزعه فتوى أو دعوى جهاد أو حرب دينية أو طائفية، ونعيش حينها الإسلام كاملاً كما ختمته رسالة محمد.