وقل اعملوا
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ}
بحلول عام هجري جديد، أتقدم من السادة القراء بأجمل الأمنيات والتهاني، راجياً من الله أن يكون عاماً سعيداً، على الناس جميعاً وعلى السوريين خاصة في سوريا والمهاجر.
وفيما يستمر الجدال بين الدول الأوروبية حول تقبل اللاجئين، تعيش المأساة السورية عامها السادس، ولا يزال السوريون يبحثون عن ملاذ آمن، فيحاولون بشتى الطرق والوسائل الوصول إلى بلد ما، ينالون فيه بعض الراحة والاستقرار، تحت سقف يحميهم من الدمار والقتل والاعتقال، وكل الضغوط الأخرى الناتجة عن الحرب، فيعانون الأمريّن في طريق الهجرة، ورغم ما قد يجدونه بداية من تعاطف وود لدى أهل البلد المضيف، إلا أن خيبة الأمل ما تلبث أن تطفو على السطح.
إذ تصطدم الأحلام بالواقع، فيجد اللاجىء الحالم بالجنة أن الحياة على الأرض الجديدة تختلف عما تصورها في خيالاته، ولن يقدّم له العيش الكريم على طبق من فضة، فمجتمع الجنة تنتفي فيه ظاهرة العمل، والرزق مفتوح غير مشروط، ولا مرض ولا موت. لكن في الدنيا لا وجود لهذا المجتمع، والعمل أساس الحياة وكل ما فيها قائم عليه {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة 105)، ولا جزاء من دون عمل، يتساوى في ذلك الذكور والإناث {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل 97)، والله تعالى سخر الناس ليخدم بعضهم بعضاً من خلال أعمالهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف 32).
فطرق المعاش تجعل كل يعمل وفق اختصاصه، الطبيب يعالج المزارع، والمزارع يزرع طعام الطبيب، والنجار يصنع أبواباً لبيوتهما وهكذا، وعلى أساس العمل يأتي الرزق {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (يس 35)، والرزق الجماعي يأتي من خيرات الطبيعة {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات 22)،{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الجاثية 5)، أما اعتقادنا أن الأرزاق محددة سلفاً من عند الله، فهذا خطأ فادح، يبارك الكسل والتواكل، ويجعل من الحساب في الآخرة تمثيلية لا معنى لها.
وقد يقول قائل، وماذا عن {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(الطلاق 3)، أقول اقرأوا الآية التي تسبقها {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} (الطلاق 2) والتقوى أولاً هي تقوى الصراط المستقيم، أي اتباع الوصايا الأخلاقية {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام 153) فأن تبر والديك وتقسط لليتامى ولا تقرب الفواحش ولا تقتل ولا تغش ولا تشهد زوراً ولا تنقض عهد، فسيجعل الله لَك مخرجاً، إذ يهيئ الظروف الموضوعية لصالحك، وهذا ما نسميه “التوفيق”.
والله تعالى هيأ هذه الظروف لأغلب من وصلوا إلى بلاد اللجوء، لكن عليهم التقاطها {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال 47)، أما التحايل على القوانين للاستفادة من الإعانات دون وجه حق، أو استغلال تعاطف السكان الأصليين معنا بطرق دنيئة فهذا أبعد ما يكون عن الأخلاق، سيما من يبرر تلك التصرفات بكون البلد المضيف غير مسلم وبالتالي لا مانع من ارتكاب الموبقات فيه، في خروج سافر عن القيم الإسلامية وجحود لفضل من أحسن لنا.
والله تعالى إذ حض الناس على الهجرة لطلب حياة أفضل {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} (النساء 97)، طلب منهم التزام الأخلاق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النساء 94)، ولا يقتصر الأمر على تعاملنا مع الآخر المختلف، بل حتى مع بعضنا بعضاً.
ويبدو أن بصمات عهود من الاستبداد بكل أشكاله لن تزال بسهولة من نفوسنا، فنحن كشعوب مضطهدة تماهينا مع المستبد، سواء كان ديناً أم حاكماً أم أباً أم زوجاً أم غيره، وحملنا أمراضنا الاجتماعية معنا، وأصبحنا لا نتورع عن كيل الأذى لأي مستضعف، ضمن تفكير مجتمع ذكوري يجد في المرأة كائناً أقل شأناً، ولا يتقبل الذكر فيه أن يفقد هذا الامتياز، سيما وأن الأنثى المقموعة في مجتمعها وجدت فرصتها في العمل والعلم والاستقلال عن سلطة الرجل، وما لبثت أن خرجت عن الطاعة وحطمت القيد، وتركت الذكر لا يملك سوى اتهامها بشرفها وسيلة لاسترداد كرامته المزيفة، لاعناً ذلك المجتمع الجديد الذي جعل السلطة تخرج من يده، ومتحسراً على أيامه في بلده حيث الأخلاق الحميدة، التي تتجلى بعدد مقيمي صلاة الجمعة وعدد النساء المحجبات، ويسوده الكذب والنفاق والخيانة والغش، ناهيك عن الحكم على الآخرين بناءً على الشكل دون المضمون.
ورغم يقيني أن الصورة في بلاد اللجوء ليست مشرقة تماماً، لكن بالتأكيد ليست قاتمة، وعلى المسلم المؤمن بالرسالة المحمدية أن يكون مثالاً عن دينه، بكونه قائماً على العمل، والصالح منه تحديداً {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت 33)، واليوم إذ نتذكر هجرة الرسول (ص) من مكة إلى المدينة، بعدما نال أشد العذاب فيها، نتذكر أن المهاجرين تآخوا مع الأنصار، وانسجموا مع مجتمعهم، حاملين معهم أخلاق دينهم الجديد، وعملوا معاً تحت إمرة الرسول الأعظم لبناء دولته المدنية التعددية، ضمن طفرة تاريخية لم تصل إليها الإنسانية إلا بعد عشرات القرون، فالرسالة المحمدية سباقة في قيم الحرية والعدالة والمساواة، وإذا كان الفقه الموروث قد أعاد التاريخ لمجراه الطبيعي، وأعادنا 1400 سنة إلى الوراء، فلنعمل على اللحاق بركب الإنسانية، سيما من سمحت له ظروفه بالتواجد في المكان المناسب.
مع تمنياتي بأن تكون سوريا يوماً ما هي المكان المناسب.