الله لا يُساء له
انشغل الإعلام العربي هذا الاسبوع بمقتل الكاتب الصحفي ناهض حتر على يد متشدد إسلامي، رأى في رسم نشره القتيل ما يدعو لتنفيذ حكم الإعدام به دون رحمة، وأثار الموضوع ردود أفعال مختلفة، بين مؤيد للجريمة، على اعتبار أن الرسم مستفز ومسيء للذات الإلهية، وآخر يرى أن القتل عقاباً على رسم هو جريمة بكل المقاييس.
ومما لا شك فيه أن فعل القتل هنا لا يمكن أن نجد له تبريراً إسلامياً، إلا إذا اعتمدنا الفقه الموروث حيث مساحة التلفيق عن الرسول الأعظم كبيرة، بحيث يمكن للباحث أن يستند على أمور عدة نسبت للرسول زوراً وبهتاناً، بينما لا تحمل الرسالة المحمدية في طياتها أياً من ذلك، بل على العكس تدين الفعل من كافة نواحيه.
ونحتاج هنا أن نتذكر قوله تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة 32)، فالرسالة المحمدية رسالة رحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107)، رفعت الكثير مما جاء في سابقاتها، فانخفضت العقوبات من (16) حالة تستوجب الإعدام في شريعة موسى إلى واحدة فقط، عدا عن التساهل في أمور أخرى كثيرة، ولذلك قال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف 157)، فإذا كان سب الإله في شريعة موسى يستوجب الإعدام، فإن ذلك لا ينطبق على رسالة محمد، إذ الإعدام هو حد أعلى لجريمة القتل العمد أو في بعض حالات الإفساد في الأرض باستخدام السلاح، فقط لا غير {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام 151) والحق هنا هو القتل العمد {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (الإسراء 33)
فما بالكم إذا كان القتل عقاباً مقابل رسم؟ وما بالكم إذا كان القتل حكم اتخذه شخص متطرف موتور بناء على ما أملاه عليه فهم عقيم لمعنى الإسلام؟
إذا كان القاتل قد اعتقد أن الكاتب أساء إلى الله تعالى فالله لا يحسن له ولا يساء إليه{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء 7)، وإن اعتقد أن الكاتب قد سب الله تعالى فبهذه الجريمة سيسبب مزيداً من الشتم لدين الله {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام 108)، وإن اعتقد أنه يدافع عن دين الله فالله لا يحتاج من يدافع عنه {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} (النساء 140)، والتنزيل الحكيم ترك للناس حرية الطاعة والمعصية والإيمان والكفر {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29) {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران 97)، والدفاع عن دين الله لا يمكن أن يكون بالقتل وانتهاج العنف.
من جهة أخرى لا يمكن نكران أن الرسم الذي وضعه الكاتب المقتول مستفز، ومسيء لمعتقدات المؤمنين من جميع الملل، وإذا كانت الرسوم الأوربية التي اعتبرت مسيئة للرسول (ص) قد استندت لصورة قدمتها ثقافتنا الموروثة، فإن الرسم الذي نتكلم عنه يستهزء بما ورد في الكتب السماوية الثلاث، في استهتار واضح بمعتقدات الناس، لكن لا يمكن إخراجه في أقصى الحالات عما ورد في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} (الأحزاب 57)، علماً أنه لم يؤذ الله ورسوله بقدر ما آذى قاتله الله ورسوله.
والمفارقة أن يقضي السيد “حتر” على يد متطرف في سبيل رأيه، وهو من وقف في صف الطاغية الذي قتل مئات الآلاف من شعبه، منهم مئات الصحفيين وآلاف الأطفال، وهو من صنف الشعب السوري إلى فئتين، الأولى جديرة بالعيش في نعيم الدولة العلمانية، والأخرى مارقة لا تستحق ذلك، حيث قال: “فإذا استثنينا المضامين فعلاً من الاضطهاد الإرهابي لأبناء المكونات السورية غير الوهابية، فيمكننا القول إن معظم اللاجئين السوريين خارج وطنهم هم من الفئات غير القادرة على التعايش مع التعددية والنمط الحضاري الخاص بسوريا. وهكذا، فإن خساراتهم لا تعد نزيفا ديموغرافياً، في حين ينبغي إيقاف نزيف الكتلة الوطنية المدنية، التي تئن من الهاونات وانقطاع الكهرباء والماء والغلاء وانخفاض المستوى المعيشي حتى اليأس.” فالسيد حتر لم ير كل معتقلي الرأي في سورية التعددية، وغض الطرف عن سبب هروب معظم اللاجئين لدرجة رمي أنفسهم في البحر، أي أن قتيل الرأي كان ضد حرية الرأي أيضاً، وكان متطرفاً كقاتله بنفس الدرجة، والمفارقة أيضاً أن يدين جريمة قتله من أباح دم سلمان رشدي ذات يوم، في خضم اختلاط المعايير الذي نعيشه، لكن كل ذلك لا يجعل من قتله مبرراً بأي شكل من الأشكال، وإلا فمن يبرر قتله أمس يسمح بقتلنا جميعاً غداً، وكون موقفه من القضية السورية كان مخزياً، لا يجعلنا مثله، بل يجعلنا نقرأ قوله تعالى {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة 28).
والسيد حتر كان قصير النظر، إذ لم يأخذ بعين الاعتبار العقل الجمعي في الأردن وفي العالم العربي بشكل عام، وبغض النظر عن خلفية الشخص الذي نفذ جريمة الاغتيال، فإن المسؤول هو العقل الجمعي الذي حرض على هذا الاغتيال، وفي ظل التطرف الديني الذي يودي بنا إلى تصدير الإرهاب، الأجدر بنا نحن المسلمون المؤمنون بالرسالة المحمدية أن ندعو لإعادة النظر في أدبياتنا التي تربينا عليها، ومسؤوليتنا تجاه الله تعالى تحتم علينا تبيان الرسالة الخاتم كما أتت، لا كما وصلت إلينا، فالتنزيل الحكيم أوضح رسالة الرحمة والعالمية والخاتمية، التي تستوعب معظم أهل الأرض ضمنها، إلهها رؤوف رحيم يعفو عن كثير، ويغفر الذنوب جميعا، لا يحب القتل ولا الظلم، بل يحب السلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة 208)، حيث السلام تحية أهل الجنة {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} (إبراهيم 23)، جزاء لما عملوا من عمل صالح، لا بما قتلوا بعضهم بعضاً أو ظلموا وعاثوا في الأرض فساداً.
وإذا كانت الحرية في الإسلام مصانة، حيث {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة 256) فحرية المعتقد جزء منها، لكن دون تعدي على حرية الآخرين ومعتقداتهم، بغض النظر عن ماهية هذه المعتقدات، ويفترض على البرلمانات، أي السلطة التشريعية في أي دولة، تحديد عقوبة عدم احترام معتقدات الناس، لا أن تترك هذه الأمور للأفراد، سواء حُددت هذه العقوبة بالغرامة المالية أم السجن أم غيرها، بحيث يراعى فيها مستوى ثقافة المجتمعات ومدى تقبلها للنقد، وعلينا أخذ العلم بأن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعمل من خلال مؤسسات وهيئات، لا كهيئات ضرب الناس للدخول إلى المساجد، بل كمنظمات مجتمع مدني تنقد الخلل في المجتمعات والدول، أما حديث “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده” فالأجدر بنا التخلي عنه، كونه مسؤول عن معظم ما يرتكب باسم الإسلام من جرائم، يرتكبها مغفلون، وقوانين الله لا تحمي المغفلين.