من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً
حلم الكثير من السوريين أن ينال أصحاب القبعات البيضاء جائزة نوبل للسلام هذا العام، كنوع من رد جميل لم يطلبه أولئك النبلاء، وإنما تقديراً لجهودهم في إنقاذ حياة العشرات وانتشالهم من بين الركام وتحت الرماد، رافعين شعار {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة 32) جسدوه بمعناه الحرفي، وخاطروا بحياتهم في سبيله، دون استعراض أو رياء، فأضاؤوا بأعمالهم شمعة في واقعنا المؤلم، الذي تسطره البراميل والصواريخ، وكل أنواع التطرف الأخرى، من داعش التي تبيع السبايا وترتكب أبشع الجرائم، إلى ترامب الذي يريد التصدي لـ “الإرهاب الإسلامي”، إلى الكثيرين أمثالهما الذين لا يريدون أن يروا الإسلام إلا قتلاً وإرهاباً وإرعاباً.
وإلى جانب عظمة ما قام به أصحاب القبعات البيضاء، فقد قدموا صورة ناصعة عن الإسلام من حيث لا يدرون، أو على الأقل لم يتقصدوا، وعنونت صحيفة التايم أحد أغلفتها بما هو ترجمة لمعنى الآية الكريمة، وانتشر شعارهم في الإعلام العالمي، لافتاً نظر المهتمين إلى إنسانية الإسلام، ورغم أن الآية تخبرنا بما كتبه الله على بني إسرائيل {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة 32)
إلا أن من يقرأ التنزيل الحكيم لا يخفى عليه أن الرسالة المحمدية باعتبارها الخاتم قد حملت ما هو أكثر رأفة بالإنسانية، فإن كتب الله تعالى على بني إسرائيل {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} فنحن أولى بالالتزام بها، سيما وأنها آية في كتابنا، عوضاً عما جرى حشره في ثقافتنا الموروثة من إسرائيليات تحمل الكثير من الإصر والأغلال، عدا عن كمٍ هائلٍ من الخرافات، فأضحى الإسلام بالنسبة لنا ولغيرنا هو دين الإكراه وتربينا وتربى أطفالنا على “أسلم عندك”، بدل {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29)، وتم فهم الإسلام في الآية {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران 85) على أنه إسلام الأركان الخمسة، فكل من لم ينطق الشهادتين أو لم يقم الصلاة خمس مرات في اليوم أو لم يصم رمضان سيدخل جهنم ليلقى جزاءه سعيرا، وبالتالي أصبحت الجنة التي عرضها السموات والأرض حكراً علينا، في إهمال لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62)، وإذا كان الله تعالى حرم قتل النفس مهما كانت، دون سؤال عن ماهيتها وجنسها ولونها وعرقها، فنحن نريد أن نصنف الناس ونفرزهم فنقبل هذا ونقتل ذاك، ونبكي الحسين ونقيم مجالس العزاء له بعد عشرات القرون، فيما نقتل النساء والأطفال تحت رايته وفداء له، علماً أن الحسين قتل مظلوماً نعم، لكن مقتله ومقتل غيره تاريخ، لا يهمني أكثر من مقتل الآلاف اليوم في سورية بشكل عام أو في حلب، مظلومين بقدره أو أكثر، ورضوان الله عليهم بقدر رضوانه على أي من الصحابة.
وما يثير الاستهجان أكثر من التعجب أن نجد شباناً مغرراً بهم من أطراف عدة، يجندون لقتل بعضهم الآخر، تجمعهم آيات واحدة، وكل منهم مقتنع أنه من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم من يقاتل في سبيل إقامة دولة الخلافة، والقضاء على كل ما عداها، ومنهم من يقاتل دفاعاً عن زينب والحسين، أو الانتقام لهما، وكأن أهل حلب أو دوما أو داريا هم من قتلوا الحسين، وكلا الفريقين على باطل، وكلاهما يدافع عن مصالح سياسية يكسبها من جنّده، ولا علاقة لله في ذلك، فالله لا يحتاج من يدافع عنه، ولا عودة للتاريخ إلى الوراء، ولندافع عن الأحياء لا عن الأموات، وكفانا ظلماً باسم الله، وهو براء من كل هذا، فرايته تقوم على {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} و{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99) و{وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (الشورى 8) والظالمون لن يدخلوا في رحمة الله، و{إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} (فاطر 40) و{وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (إبراهيم 42).
ولا يحتاج المسلم لكثير من العناء ليرى أن ما خلفته الثقافة الموروثة من آثار سلبية على تفكيرنا يتجاوز إطلاق اللحية وحف الشارب، ودخول الحمام بالقدم اليسرى وما إلى ذلك، إلى ما هو أكثر تأثيراً على حياتنا، سواء بمن حملوا مفاهيم دار الإيمان ودار الكفر والولاء والبراء، فنراهم اليوم يعيثون فساداً في أرجاء الأرض، أم من حملوا مفهوم آل البيت والأئمة المعصومين والمهدي المنتظر، ولو أن الأمر بقي على الاعتقاد فقط لقلنا أن كل إنسان حر في ما يعتقد، أما أن يتعدى المعتقد لإيديولوجيا تُسلب على أساسها الأوطان فيصبح الأمر مدعاة للتوقف عنده، فمهزلة (آل البيت) أسبابها سياسية بحتة، وهذا الطرح ظهر مقابل استيلاء الأمويين ثم العباسيين على الحكم وجعله وراثياً، ولم يتم التفريق بين مصطلحي (آل البيت) و (أهل البيت)، فآل محمد هم أتباعه عليه الصلاة والسلام، وهم كل من وجه وجهه للقبلة وأقام الصلاة، أي أن المؤمنين برسالته كلهم من آله، أما آل إبراهيم فهم كل من قال لا إله إلا الله، وهم المسلمون جميعاً، وهو من سماهم المسلمين {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} (الحج 78)، وعندما نذكر آل فرعون فهم كل من اتبع فرعون، بينما امرأته ليست من آله، وإنما من أهله، وعندما خاطب الله نساء النبي قال عنهم “أهل البيت”: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب 33)، والذرية لا تعطي العصمة ﻷحد، ولا تعطي التقوى لأحد، ويتضح هذا بقوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد 26) حيث يحسم مشكلة العصمة في الذرية، فالنبي محمد (ص) من ذرية إبراهيم، وهذا يعني حسب الآية أن هناك من ذريته مهتدون قلائل وفاسقون كثر، عدا عن أن الرسول (ص) نفسه لا عصمة له إلا في بلاغ الرسالة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة 67)، أما في المجالات الأخرى فهو بشر يصيب ويخطىء، ويعاتبه ربه أحياناً {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم 1) دون أن ينتقص ذلك من مقامه العظيم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب 56)، لكن أن تقام الحروب دفاعاً عن أحفاده بعد عشرات القرون من مقتلهم فهذا أمر لا يقبله الله تعالى ولا رسوله ولا أولئك الأحفاد الذين لا ذنب لهم في ما يجري.
خلاصة القول: في دين الله {َلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة 87) و {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (الأنعام 151) و {مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة 32) و {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال 61) و {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النساء 94)، وإذا كان أصحاب القبعات البيضاء قد خسروا نوبل فبالتأكيد هم ربحوا ما هو أهم منها، فقد قدموا بما عملوا شهادة حضورية عن نبل الإسلام وسينالوا عليها منزلة مع الأنبياء والصديقين {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} (النساء 69).
أما المتطرفون من كل الأجناس والمعتقدات فلا مكان لهم في الإسلام، ومكانهم مع فرعون وأمثاله من الطغاة والظالمين.