سلامٌ على ابراهيم
يقرأ المسلمون المؤمنون الصلوات الإبراهيمية خمس مرات على الأقل في اليوم الواحد، ويرددون “اللهم صل على سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم” في ترداد تلقائي غالباً، دون أن يبذلوا جهداً للاقتداء بأي منهما، إبراهيم عليه السلام، أم محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن الصلة معهما تقتصر على هذا الترداد فقط، أو تتعدى ذلك إلى ذبح الأضاحي في عيد الأضحى تأسياً بالأول، وإطالة اللحية وأكل وتر من حبات التمر تأسياً بالثاني، ولا يبدو الأمر مستغرباً طالما أننا نأخذ ديننا من البخاري ومسلم بدلاً من التنزيل الحكيم، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت 42)، يقدم رؤوس أقلام لحقائق علمية، وقوانين تاريخ، فلا هو كتاب علمي، ولا هو كتاب تاريخ، لكنه يحوي على إشارات تشكل منهجاً في البحث يصلح لكل زمان ومكان، ووفق هذا المنهج جاء سرد القصص القرآني، كي نأخذ منه العبر{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف 111).
ووفق ما جاء في التنزيل، فإن إبراهيم يعتبر نقطة علام في تاريخ النبوات والرسالات، إذ ظهرت في عهده مفاهيم عقائدية جديدة، تركت بصماتها على من أتى بعدها، كالحنيفية وبر الآباء (اقتصر البر في عهد نوح على الوالدين)، وبدأت المفاهيم الأخلاقية تأخذ مكانها على سلم التدرج نحو القيم العليا، إضافة لاكتمال ظاهرة سدنة المعابد وكهانها، التي ستتحول في ما بعد إلى هامانات تنطق باسم الآلهة، ورجال دين وعلماء أفاضل موقعين عن الله ومفوضين منه، ولعل أبرز ما أرساه كنبي ورسول هو ظهور مبدأ التجريد في التقرب من الله في الفكر الإنساني، بعد أن كان التشخيص سائداً، واكتمل الانتقال من التشخيص (في الحج) إلى الرمز للوصول إلى التجريد (في الصلاة).
وإذ تربى إبراهيم في بيئة تتعدد فيها الآلهة {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء 62)، وتقدس فيها ظواهر الطبيعة من شمس وقمر وكواكب، لم يقتنع بما نهج عليه من حوله، وبدأ رحلة البحث عن الله من الشك إلى اليقين، مقلباً أنظاره في ملكوت السماء والأرض، ولم يقبل عقله أفول أربابه، ليجابه قومه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام 78- 79)، ولم يتوقف إبراهيم هنا، بل طلب من الله تعالى إقناعه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة 260)، وبناءً على هذا المنهج الاستقرائي الرشيد جعل الله إبراهيم إماماً {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (البقرة 124)، ولم يوبخه أو يؤنبه، والإمامة هنا في التقصي والبحث، لا الاتباع الأعمى المذموم في أكثر من موضع {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان 73)، أما قوم إبراهيم فقد حاورهم بموضوعية، وبين لهم بالأدلة الحسية عجز أصنامهم عن دفع الضرر عن نفسها، لكنهم وجدوا صعوبة في قبول الحياد عما عرفوه من دين آبائهم {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الأنبياء 53- 54)، وأمام عجزهم عن مجابهته لم يجدوا بداً من إلقائه بالنار عقاباً له.
ولم يخالف حفيد إبراهيم محمد (ص) سنة جده، فحنف عما انتهجه قومه من اتباع آلهة لا تنفع ولا تضر، واتبعه في البدء قلة قليلة، وسلكت الأكثرية طريق قوم إبراهيم وحذت حذو الآباء لا تحيد عنه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة 170)، وتكبد محمد ومن تبعه شتى أنواع العذاب، في سبيل الدعوة التي آمنوا بها، لكن الله وضع في قلبه اليقين أن {أمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد 17).
ورغم أن الرسالة المحمدية دعت إلى التعلم والتفقه والتعقل، إلا أن الثقافة الموررثة كرست ديناً يقوم على اتباع الآباء دون أي نقاش، ديناً تراكمت فيه الخرافات والترهات، يضع العلم جانباً ويناقضه، فيما تقام مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن هنا وهناك، وتتصدر كتب الطب النبوي رفوف معارض الكتاب، وكأن الرسول الأعظم كان يملك البنسلين لكنه وضعه جانباً وتداوى بالأعشاب.
ومعاداة العلم لدى أتباع هذا الدين لا تشمل استهلاك منتجاته، من سيارات وطائرات إلى تكنولوجيا و وسائل اتصال، إلى أدق حاجات الحياة اليومية، على اعتبار أن الله تعالى سخر لنا القوم الكافرين ليخترعوا لنا ما نحتاج، فيما ننشغل نحن بتصدير الإرهاب، ثم تكون الجنة بانتظارنا وجهنم بانتظارهم، فينطبق علينا قوله تعالى {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} (النحل 25)
وضمن هذه المنظومة الفكرية الموروثة، أصبح من غير المقبول أن تجادل أحداً فيما يدعى “الأصول”، كما من غير المقبول أن تتطاول على ما خطه البخاري أو مسلم أو الشافعي أو غيرهم، بينما لا توجد غضاضة في الانحراف عن منهج التنزيل الحكيم كاملاً، وعن إمامة إبراهيم الحنيف أبي المسلمين {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} (الحج 78)، وعن خط رسولنا الأعظم في الأخلاق، وخط رسالته التي تضم تحت جناحيها معظم أهل الأرض، كرسالة رحمة خاتمية عالمية، ناهيك عن الإساءة لشخص الرسول كل يوم، عبر وصفه بما جعله محط انتقاد وذم هو أبعد ما يكون عنه، فهذا الدين هو دين الآباء بجدارة، حيث لا وجود فيه لمن ينتهج منهج إبراهيم في الجدل، ولا مكان لأمثال ابن رشد، وعليك أن تحافظ على المياه الآسنة راكدة، دونما حراك، ولا مكان للنقد وللانتقاد، فالسادة العلماء هم علماء الدين حصراً، وهؤلاء يعلمون جيداً بنواقض الوضوء، وعلم الرجال، لكنهم لا يستطيعون إجابة تلامذتهم على سؤال يتجاوز ما تعلموه، وبالتالي يحرم السؤال أصلاً، ويحرم التفكير بما هو أبعد مما جاء في كتب الأئمة، أربعة كانوا أم خمسة، وكل من يتجاوزهم هو زنديق فاسق، ويجب ألا يفتح الإنسان باب الأسئلة على نفسه كي لا يضل ويغضب الله تعالى، لذا لا عجب إن خاف التلاميذ على هذا الدين من أي سؤال أو فكر، ولا عجب إن حاربوا أي توجه لكسر الجدار المبني حول الموروث، ويتساوى في ذلك المتشددون مع من يدعون الوسطية، فالمناهل واحدة والمنهج واحد، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هذا الدين الذي تخافون عليه من النقد؟ هل هو جدير بالاتباع؟ هل سيصمد أمام أسئلة العلم وثورة الاتصالات؟
وإكمالاً للصورة المزرية تجد من يدعي الدفاع عن الإسلام شتاماً سفيهاً بذيء اللسان، لا يتورع عن استخدام شتى الألفاظ ليكيل السباب لغريمه، بإسلوب لا يليق بمن يحمل ذرة من خلق، فما بالك بكونه يفترض أنه يدافع عن خير الناس خلقاً؟{أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (النحل 59).
ما أعلمه أن الإسلام هو دين الأخلاق والعمل الصالح، وأن كتابه من حي لأحياء، لا يقبل أن يؤمنوا به دون تفكير، بل يريد إيماناً عن يقين {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر 99)، وأن هذا الكتاب لنقرأه ونعتبر، فمفاتيح فهمه داخله لا خارجه، ولا نخاف منه ولا نخاف عليه، ولا شك أن الله معنا {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصف 8).
(1) تعليقات
محمد
يا دكتور أنني أحترمك كثيرا لهذا التفكير والتفكر في كتاب الله تعالى وأقولها صدقا الله يجيزك الخير والصحة والعافية للعطاء وسوف نكون على المنهج الذي بدأته وأرجو من الله تعالى أن يكون الكثير قد تفكروا وتدبروا بما قمته به من صحوة كبيرة في عالم لا عقل ولا رشد. بارك الله فيك.