أما السائل فلا تنهر
تبرع السيد مارك زوكربيرغ وزوجته الاسبوع الماضي ب 99% من أسهمهما في فيسبوك للأعمال الخيرية في العالم، وما إن تم الإعلان عن ذلك حتى انتشرت التعليقات في وسائل الإعلام، وما لفت انتباهي هو تناول الموضوع من قبل مجتمعاتنا العربية والإسلامية بالسخرية والتهكم غالباً، وبين قائل أن هذا الملياردير يريد التهرب من الضرائب، وقائل أن هذه الأسهم لا تشكل 99% من ثروته كلها وهذا تحايل في الإعلان، وبين آخر يقول أن من يملك هذه الثروة الطائلة لا بأس إن تبرع بمعظمها، فالمتبقي يبقى كبيراً، وقد تكون باقي الشعوب تناولت الموضوع بالطريقة ذاتها، وقد يكون جزء من الكلام أو معظمه صحيحاً، لكن تبقى فكرة التبرع بمبلغ كبير لأعمال خيرية جديرة بالتقدير والاحترام، سيما وأنه في عرف المسلمين السيد زوكربيرغ هو يهودي كافر، سيدخل النار شاء من شاء وأبى من أبى.
وإن كنت هنا لست بمعرض الحديث عن شخص بذاته، لكني بصدد مناقشة أهمية الإنفاق في الرسالة المحمدية، إذ أول ما تصادفه وأنت تقرأ التنزيل الحكيم بعد الفاتحة: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة 1-3) فصفات المتقين الإيمان بالغيب وبالتالي إقامة الصلاة كعلاقة عمودية مع الله (غيب)، تصاحبه علاقة أفقية مع الناس هي {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ويتابع التنزيل في طياته إعطاء الإنفاق منزلة فائقة، ولطالما وقفت عند قوله تعالى {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}(المنافقون 10) فالإنسان حين يدركه الموت يتمنى العودة إلى الحياة ليتصدق بأمواله ثم يكون من الصالحين، ولم يقل (لولا أخرتني لأعتكف في المسجد) أو (لأصوم) حيث الصلاة والصيام والحج كلها علاقة مع الله فقط دون الناس، في حين أن الصدقات علاقة مع الآخرين، وبالطبع لم يقل الله تعالى (لولا أخرتني لأقتل الكافرين).
وباعتبار الإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر مقترناً بالعمل الصالح {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(البقرة 62) والإنفاق هو عمل صالح يفترض أن يلتزم به جميع المسلمين بمختلف مللهم، فالزكاة قد أتت مع كثير من الرسل، ابتداءً من اسماعيل {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً* وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّا}(مريم 54- 55) إلى بني إسرائيل إذ أتاهم الأمر{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}(البقرة 43)، ونقرأ قوله تعالى عن المسيح {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً* وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} (مريم 30 -31)، أما محمد صلى الله عليه وسلم فالزكاة هي إحدى الشعائر التي يفترض على أتباعه الالتزام بها وفق ما أمرهم {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(النور 56).
وبالتالي فإن المسلمين المؤمنين بالرسالة المحمدية هم أمام الإنفاق كمسلمين بشكل عام، بصفته فعل خير{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج 77) ينبع من الفطرة، ويعود خيره على النفس {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} (البقرة 272) ومواضعه مفتوحة {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة 215) غير محددة بجنس أو لون أو دين، إنما هم يتامى أو مساكين أوأبناء السبيل، هذا من حيث كونهم مسلمين.
إضافة لذلك فهم أمام الإنفاق كزكاة، وهي تكليف، يفرضه المؤمن على نفسه طواعية وفق استطاعته {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا}(البقرة 286)، لكن هذا التكليف لا يقل أهمية عن إقامة الصلاة، فهما متلازمان، نطيع الرسول بهما ونتبعه {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(النور 56)، رغم أنه اعتاد الناس في مجتمعاتنا على اعتبار إقامة الصلاة وارتداء المرأة للحجاب هما المقياس في التقوى والتدين، ونسوا أو تناسوا أهمية الزكاة، ونقرأ تعريف المصلين فنجدهم {إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ* وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(المعارج 21- 24) ونقرأ قوله تعالى أيضاً {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ االله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَالله واسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 261)، والآيات المشابهة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، لكنها تعطينا فكرة واضحة عن أهمية الإنفاق.
وإن كان الرسول الأعظم قد حدد نصاب الزكاة، لكن السادة الفقهاء لم يبينوا أن هذا النصاب هو الحد الأدنى المقبول، وأن مصطلحي الصدقات والإنفاق أعم وأشمل، ولهذا فإن التنزيل الحكيم أطلق الأمر من حيث الكم والكيف، وإن كان قد زاد بنود المستفيدين من زكاة الإيمان عن أولئك المستفيدين من زكاة الإسلام {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة 60) وجاء تحديد المستحقين ليؤكد أن الزكاة ليست ضريبة للدولة، ويمكن أن تكون دخلاً للدولة في ظروف تاريخية معينة، كما حدث عند قيام الدولة العربية الإسلامية، حيث كانت الزكاة هي أول دخل رسمي للدولة، وهذا الربط الذي جرى بين شعيرة إلهية شخصية وبين الدولة هو ربط مرحلي لا أكثر.
وتحديد مستحقي الإنفاق يؤكد على موضوعية الإسلام، وابتعاده عن الطوباوية، إذ يعترف بوجود فروق في الدخل بين الناس، لكن تبقى مسـألة الغنى والفقر نسبية، وليست مطلقة، تتبع الظرف التاريخي والبنية الاقتصادية لمجتمع ما، وهي تأخذ مظاهر مختلفة حسب بنية المجتمع، والإسلام يؤمن بالمساواة المطلقة بين الناس في إنسانيتهم وحقهم في الحياة والحرية بغض النظر عن عقائدهم أو مستواهم الاجتماعي أو المادي، لكن وضع التكافل الاجتماعي في سلم أولوياته.
ويكثر الجدل في تعريف الفقير والمسكين، ونقول أن هذه المصطلحات تتطور وفق الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمكان والزمان الذي نعيش فيه، ولسنا ملزمين بتعاريف وضعها الفقهاء لعصورهم ووفق ظروفهم الموضوعية، بل علينا تحديد هذه المصطلحات بما ينسجم مع ظروفنا، لا سيما الحالية.
قد يقول قائل: ” وإن كنت لا أملك ما يسد رمقي فهل علي أن أتصدق كي أصبح من المصلين أو من المتقين؟” أقول إن الله رحيم بعباده، يعلم ما هم عليه لذا قال {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق 7) وقوله هذا ينطبق دائماً لا في حالات الطلاق فقط، ولنتأمل في {مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} فمن لم يؤت المال قد أؤتي أمراً آخر، سواء علم أم موهبة، فقد يملك الإنسان علماً يمكن أن يقدمه للمحتاج له، وقد يملك صوتاً جميلاً يطرب من حوله ويدخل السعادة لقلوبهم، وقد يملك وقتاً وقوة جسدية فيساعد من لا يملك منها، سبحان الله خير الرازقين.
قد يتشدق الآن أنصار السلف الصالح، فيرددون على أسماعنا: “ولماذا أنت معجب بما يفعله الغربيون ألم يعطي علياً وفاطمة طعامهما للسائل ولم يكن لديهما ما يأكلانه؟” و “ألم يعطي عمر مساعدة ليهودي من بيت مال المسلمين؟” أقول نعم كل هذا صحيحاً لكن مشكلتنا أننا لم نتجاوز الأشخاص، وأبقينا على عمر وعلي، بينما الدول المتقدمة تجاوزت الأشخاص وحولتهم إلى مؤسسات، واليوم تقدم ألمانيا والسويد وغيرهم كل المساعدات للاجئين السوريين عبر مؤسسات، لا عبر أوامر مباشرة من ميركل أو ملك السويد، فالمسؤول لديهم يخدم منصبه، بينما يحصل لدينا العكس تماماً، إذ نربط المنصب أو العمل بشخص ما، فلا يستمر بعده، ويبقى رهناً للأهواء والتقلبات، بينما لو حولنا ما يدفع من أموال الزكاة، أو ما يمكن أن يدفع فدية لصيام رمضان إلى صناديق تديرها مؤسسات لما وجدنا هذا الكم من المحتاجين.
يبقى أن نشير إلى أن ما يلفت النظر في تبرعات زوكربيرغ وقبله بيل غيتس وغيرهم أنهم لا يضعون شرطاً للون أو دين المستحقين، على عكس ما يعتمد من قبل شيوخنا الأكارم، حيث توجه التبرعات في الكوارث لمن يسمونهم مسلمين لا غيرهم، ولا أستغرب ذلك، فأعرف في دمشق من يطلب إخراج قيد من الفقير ليعرف من أي منطقة هو قبل أن يجود عليه بالصدقة.
لا أريد هنا أن أبخس الناس أشياءهم، وأعلم أن السوريين تكافلوا جيداً فيما نمر به، وأن هناك مؤسسات تعمل في تدريس الأطفال وأخرى في إيواء اللاجئيين، والكثير مما شابه، لكن أمام هول ما نحن فيه نطمح دائماً للمزيد، وصدقاً أني أشعر بقمة الخجل والألم حين أرى الأطفال السوريين يبيعون الزهور في شوارع عمان أو بيروت، هؤلاء لا ذنب لهم سوى أن الحاكم الإله دمر منازلهم وشردهم، وأتت دول العالم بحجج مختلفة لتساهم في قتل أحلامهم وآمالهم، وأول ما يتبادر لذهني قوله تعالى {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضحى 9 -10) فإن كنت لا تريد الشراء منه فلا تنهره، وهذا أضعف الإيمان، وتذكر أن {َمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة 7-8) فهنيئاً لك يا مارك بما ستراه.
(1) تعليقات
يوسف
أستاذنا الكريم:
هل تعني أن المقصود بـ”السَّائِل” بقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} هو من يطلب المال أو الصدقات؟؟
إذا وضعنا بعين الاعتبار التسلسل التالي في السورية الكريمة
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ….. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى …….. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ
وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ……. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
أليس المقصود بالسائل هو طالب العلم؟؟؟!!
الأخ يوسف
قد يكون السائل طالب علم، وقد يكون طالب صدقة، كقوله تعالى {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات 19)، ولا يوجد ما يمنع ألا تنهر الاثنين.