قيم الإسلام ومفاهيمه
ينطبق مصطلح “شهيد” على الشاب “خالد العيسى”، وهو مصور صحفي سوري، عمل خلال السنوات الماضية على توثيق الجرائم المرتكبة في سوريا ونقل الأحداث بشكلها الحقيقي دون تزييف، أي شهد الحدث، وقدم وثائق عنه، ساعياً بشكل أو بآخر للوصول إلى الحرية المنشودة، وتحقيق قيم العدالة والمساواة التي لطالما عبرت عنها لافتات بلدته الصغيرة “كفرنبل”، فهو قدم شهادة شهيد، وجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله في الحرية، وقتلته فئة ظالمة، بغض النظر عمن هي، أي أن هذا الشاب توفرت لديه الشروط كلها لأن يكون شهيداً وقتيلاً في سبيل الله، تشمله الآية {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران 169) ورغم ذلك لم يقبل إمام المسجد في بلدته إقامة صلاة الجنازة عليه، وهو يعلم على الأرجح في قرارة نفسه أن “خالداً” له مكانته عند الله، وإن كان لا يعلم فالمصيبة أعظم.
والشهادة وفق التنزيل الحكيم يقدمها الأحياء لا الأموات، كقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} (النور 4) و{وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء — وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ — ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ — وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} (البقرة 282)، فالشهيد لا يمكن أن يسمى بهذا الإسم إلا وهو على قيد الحياة، وأن يقدم شهادة علنية، ومقعده في الآخرة مع الأنبياء والصديقين {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} (النساء 69) حيث لقب النبي لم يكتسبه أحد إلا إذا أتاه الوحي وهو حي، والصديق كذلك يكتسب هذا اللقب وهو حي، والصحفيون الذين يقدمون شهادة علنية دون تزوير هم شهداء سواء قتلوا أم لم يقتلوا.
وليس كل جهاد في سبيل الله، وإنما فقط الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة 40) وكلمة الله التي جعل إعلاءها هدفاً هي مجموعة ميزات أعطاها الله للإنسان العاقل ومجموعة قوانين الوجود الموضوعي الحقيقي الصادق {وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (يونس 82) التي من خلالها تنفذ كلمة الله العليا التي أعطاها للإنسان وهي الحرية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} (الذاريات 56) ونحن عباد الله في الدنيا لا عبيده، يفترض أن نمارس حريتنا وعلى رأسها حرية المعتقد {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29)، وديننا دين حياة لا دين موت، على عكس ما تصوره الثقافة الموروثة.
وفي الوقت الذي يرفض إمام مسجد إقامة الصلاة على “خالد العيسى”، ينتشر الانتحاريون ليدبوا الذعر باسم الإسلام في أرجاء العالم، فيقتلون الأبرياء الآمنين هنا وهناك، ويقتلون أنفسهم، وكلهم ثقة أن الله سيحتسبهم مع الشهداء والصديقين وأن الجنة بانتظارهم، وهؤلاء من وصفهم الله في التنزيل الحكيم بقوله {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (الأنفال 22) أو قوله {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف 104)، وهم إرهابيون مجرمون، أعمالهم تندرج تحت مسميات عدة ابتداءً من قتل نفوس بغير حق، وانتهاءً بمحاربة الله ورسوله والإفساد في الأرض، ولن يغفر لهم صدق النوايا، رغم أنهم بشكل أو بآخر ضحايا من غرر بهم، واستخدمهم لتحقيق مآرب كبيرة، متخذاً من الإسلام شعاراً، ومتكئاً على فهم مشوه، وضع قبل قرون عديدة، شوهه المفسرون والفقهاء عن قصد أو غير قصد، لكن الوزر يحمله بلا شك من يتبعهم في يومنا هذا، ناسياً أنهم بشر لا قدسية لهم، وأن الله أرسل نص حي، ليتدبره أهل كل زمان ومكان.
وأن يصل غسيل الدماغ إلى أن يقتل شابان سعوديان أمهما لأنها منعتهما من الذهاب للجهاد المزعوم في سوريا فأي قبح هذا وأي دين؟ وأي إله هذا الذي يقبل أن يقتل شاب أخاه لأنه لا يصلي أو لا يبالي بالصيام؟ {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} (النحل 25) وأن يستسهل الإنسان القتل باسم الله فتلك قمة الجرائم، فما بالكم أن يصل الأمر به لقتل أمه أم أخاه أم أباه؟
ومن ناحية أخرى، لا نحتاج الكثير من التعمق لنرى المستوى الذي وصلته مجتمعاتنا من قلة الأخلاق، على جميع الصعد، وكيف يُستغل الدين أبشع استغلال، فترى حالات عديدة يتزوج فيها رجل مسن فتاة صغيرة قاصر في مخيمات اللجوء بحجة أن الله أمر بالستر وأنه سيقضي حاجات أهلها، ليقضي حاجته منها ويطلقها، وكأنه لا يستطيع التبرع ومساعدة أهلها دون هذا الاغتصاب، وكل ذلك تحت غطاء ديني يحلل ويحرم زوراً وبهتاناً، هذا الغطاء ذاته الذي يفهم الدين إقامة صلاة وصوم رمضان وغطاء شعر النساء، مما يضمن لصاحبه دخول الجنة، ويجعله من الفرقة الناجية، حتى لو ارتكب بعض المعاصي تحت شعار “الضرورات تبيح المحظورات”، وهو الغطاء الذي يستخدم كما قال المفكر “علي شريعتي” لاستحمار الناس، بتوظيف أحاديث مختلقة لتكون أداة يدار بها المجتمع، وينشغل الناس بالوضوء والطهارة والنجاسة، وأسئلة من قبيل هل الوشم حرام؟ وهل أستطيع وضع طلاء الأظافر في رمضان؟ بينما يغضون الطرف عن كل الجرائم التي ترتكب باسم الله، بكل أشكالها وألوانها، ويعيشون تناقضاً غريباً عجيباً بين قيم الإسلام وأخلاقه وما يدعونه ويمارسونه في حياتهم اليومية.
والأنكى من ذلك كله أننا نظن أنفسنا أفضل الخلق، وننظر للآخرين وكأننا نحن من نملك مفاتيح الجنة بأيدينا، ونتصور أن قوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران 110) ينطبق علينا، وأننا نحن خير أمة أخرجت للناس، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يصل بالمرء لقتل أمه أو أخيه أو جاره أو أي بريء آخر، فوقعنا بما وقع به من قال عنهم الله تعالى في قوله {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة 111) وغضضنا النظر عن الآية التي تليها {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 112)، فالإسلام هو دين الفطرة الإنسانية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم 30) أركانه تتماشى مع ميول كل أهل الأرض، وقوامه العمل الصالح {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62)، وعلاقتنا بالآخرين هي من ضمن عملنا الصالح وقيمنا لا من خلال صلاتنا وصلاتهم، وعلاقتنا مع الخالق شخصية، نؤكدها بالتزامنا بوصاياه، فلا نكذب ولا نغش ولا ننقض عهداً ولا نقبل بالخيانة الزوجية ونرعى اليتامى ولا نستغلهم، وفق منظومة فكرية قائمة على {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون 6)، فحتى من يشرك بالله، علاقتك معه ضمن أخلاقك وأخلاقه، وكل ما عليك براءتك من شركه {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام 19)، واضعاً نصب عينيك قوله تعالى لنبيه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، وإذا كان هذا قوله لنبيه ورسوله، فهل نحن جديرون بتقييم الناس أو إكراههم على الإيمان؟
ويهمني التذكير أن قيم الإسلام تبقى سارية المفعول أنى حللنا، في رمضان وفي غيره، في بلادنا وفي أوروبا، الآن وبعد مائة قرن، ولا ينفع أن نتوقف عن الغش في رمضان ونعود إليه في شوال، ولا أن نصدق مع أهل بيتنا ونكذب مع الغرباء، ولا أن نؤتمن مع المسلم ونسرق الملحد، وإحياء ليالي القدر لا يبرر لك أن تشتري أسئلة الامتحان لإبنك لتجعله يأخذ مقعداً في الجامعة حارماً طالباً مجتهداً يستحقه، والإنفاق على الفقراء والمحتاجين مطلوب في رمضان وفي كل أشهر السنة.
خلاصة القول، علينا إعادة تنظيم بيوتنا ومجتمعاتنا، وتربية أبناءنا على منظومة القيم الأخلاقية الإسلامية، التي تصلح مرجعاً لكل شعوب الأرض، لا على ثقافة “واضربوهن عليها وهم أبناء عشر”، لنتجنب بالتالي خلق أجيال عدائية تجاه الآخر، وإنما أجيال سوية تهتم بالعلم والمعرفة، تحب الحياة وتقدرها، قادرة على الإبداع والإنتاج، ولا تترك مكاناً لمغرر بها، سواء كان تاجر مخدرات أم شيخ داعشي.
لا أعرف لماذا لم يصلّ إمام المسجد على خالد، لكن ما أعرفه أنه لا يصلح ليكون إماماً يحتذى به…!!