الآبائية… وثقافة القطيع
بُعث محمد عليه الصلاة والسلام نبياً في مكة، وبدأ دعوته سراً، وآمن به قلة قليلة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ثم أمره الله تعالى بالجهر بالدعوة، فجابهته قريش بشتى الوسائل، وبكل ما أوتيت من قوة، رغم انتشار حرية العقيدة حينها في شبه جزيرة العرب، إذ إن ما أتى به كان متناقضاً مع ما عرفوه ودأبوا عليه من عبادة للأصنام، وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة 104)، وهذا ما دأبت عليه الأقوام السابقة التي جاءها الرسل والأنبياء وكان الجواب دائماً يماثل قول قوم هود {أجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (الأعراف 70) أوقوم إيراهيم {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء 52-53).
ولا يبدو هذا السلوك غريباً، فمن الصعوبة بمكان تغيير عادات مجتمع ما، لا سيما إذا كان هذا المجتمع بدائي، يعتمد على التقليد الأعمى، دون أي جدل أو تفكير، ولا يكتفي أفراده بعدم التجاوب مع أي فرد يأتي بجديد، بل يعمدون إلى محاربته بشتى الوسائل، كما في نظرية القرود الخمسة، حيث يعتاد القردة مهاجمة أي قرد جديد يحاول تسلق السلم للحصول على الموز، بعد أن تعرضت المجموعة الأولى منهم للرش بالماء حين محاولة أي منهم نيل الموز، فأصبح التصرف تلقائياً من قبل القردة الجدد، ودون معرفة السبب الذي أدى إلى هذا في الأصل، فهذا ما وجدوا عليه الذين سبقوهم.
ويحضرني أيضاً هنا تجربة رأيتها حول الامتثال الاجتماعي، تنتشر هذه الأيام عبر وسائل التواصل، تجري أحداثها في عيادة لطب العيون، بحيث يجلس المرضى المفترضون (ممثلون) في غرفة الانتظار، ويقفون عند صدور صوت صافرة، وحين تأتي مريضة لا تدري بالتجربة، ويصدر صوت الصافرة، تقف المجموعة، وتقف المريضة الجديدة أيضاً، كلما سمعت الصوت، بشكل تلقائي، دون أي تفكير، بل نتيجة ضغط سلوك المجموعة، فهي لا تريد أن تخرج عن المألوف، وحتى لما ابتعدت المجموعة بقيت المريضة ملتزمة بقانونها الذي لا تعرف مصدره أو هدفه، وهذا حرفياً معنى القطيع، إذ لا يمكن لأحد الأغنام أن يخرج عن خط السير وإلا سارعه الراعي بالعصا، وللأسف هذا حالنا كمسلمين منذ قرون طويلة، فإن كانت الرسالة المحمدية قد أحدثت طفرة مجتمعية ومعرفية، إلا أن خط سير التاريخ ما لبث أن عاد إلى وضعه، لكن ما دون الطبيعي، حيث توقفت السيرورة عند الآباء، ولم تتقدم قيد أنملة، على عكس ما جاءت به الرسالة تماماً.
وإذا كان بر الوالدين هو البند الثاني في الصراط المستقيم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً –} (الأنعام 151) فإن هذا البر هو لقاء العناية والتربية التي قدمها الوالدان، بحيث أحالا ضعف أجساد أبنائهم إلى صحة، وسمح لعقولهم بالنمو، ومنحاهم التعليم اللازم، وبالمقابل يكتسب الوالدان سلطة تستعمل مفهوم الرضا في حالة الحب والمودة المتبادلة مع الأبناء، أو الغضب في حال تمرد الأبناء، ولعل المثال الأكثر وضوحاً لما يطلبه التنزيل الحكيم من الأبناء هو تصرف إبراهيم عليه السلام مع أبيه {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّا} (مريم 46-47) حيث رفض إبراهيم الخضوع لسلطة والده إلا أنه لم يبادله العداوة والبغضاء بل قابله بالسلام والاستغفار، بتصرف نابع من إنسانية بحتة، وهذا تماماً ما أراده الله تعالى، فسلطة الوالدين ليست مطلقة وإنما يحدها “الشرك”، كما جاء في قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت 8) و {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان 15). أي مصاحبة الوالدين بالمعروف لا تعني الخضوع المطلق لهما، والشرك هنا هو الثبات على مبدأ الآبائية الذي يعيق تطور الإنسانية ويجمدها{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة 104)، وعصيان الآباء في طلب الشرك يأخذ شكل المجاهدة، فقد يسلكا طريق استغلال المشاعر بالترغيب {لِتُشْرِكَ بِي} أو التهديد {على أَن تُشْرِكَ بِي} لإخضاع الابن لسلطتهما، على حساب طموحاته أو قناعاته، لكن الله تعالى حسم صراع الأجيال هذا لصالح الأبناء، ودعى إلى الإحسان للوالدين بما لا يتعارض مع حرية الإنسان وإرادته واستقلاليته الشخصية، وتطور المجتمعات دعاها إلى سن القوانين التي تحدد سن الرشد، أي السن الذي يسمح للشخص فيه بأن يسلك طريقه في الحياة بحرية ومسؤولية، بحيث يكون مسؤولاً عن تصرفاته وخياراته.
هذا إن تكلمنا عن الآبائية المباشرة، أما الآبائية الأعم والأخطر فهي القديمة قدم الزمان والتي كلف الرسل والأنبياء مواجهتها والتصدي لها، وهي اعتقاد الصواب المطلق في اجتهاد الآباء وآرائهم لحد يبلغ القداسة، بحيث يفضي اتباعهم وتقليدهم إلى الجمود، مع رفض ومهاجمة كل محاولات التجديد ودعوات مراجعة تراث الآباء ونقده، وهذه الآبائية طغت على المجتمعات العربية والإسلامية فتداخلت التقاليد مع الدين، لا بل طغت عليه، وتم تجاوز تعاليم الدين لصالح الخضوع للتقاليد ، وولدت أنواعاً مختلفة من الإسلام؛ إسلام سعودي وإسلام باكستاني، وإسلام مشرقي، وآخر مغربي، وكلها لا تمت للإسلام الحقيقي إلا بالشعائر، وترسخت هذه التقاليد في ذهن القطيع ليظن أنها الإسلام، فحين تقول للباكستاني أن ما يسمى جريمة شرف هي جريمة ولا تستند للإسلام فلن يصدق ذلك، أو أن تقول للمرأة السعودية أن النقاب عادة اجتماعية وخروج عن حدود الله كذلك هي لن تصدقك، وقس على ذلك عادات مختلفة من الختان إلى شكل القبور إلى عادات الزواج والطلاق، كلها تمارس تلقائياً دون أي معرفة لحقيقتها، فالإنسان في أغلب الأحيان مغلوب على أمره، لا يجرؤ على تجاوز العادات والتقاليد أو رفضها، رغم عدم وجود سلطة رسمية تفرضها عليه، وإنما سلطة المجتمع، والإنسان المسلم والعربي همه الأكبر هو المحافظة على صورته أمام مجتمعه، وسلوكه وتصرفاته يتمحوران حول هذه الصورة، فتقييمه من قبل المجتمع أهم لديه من المنطق أو العقل أو الأخلاق، وبالتالي هي في الحقيقة أبعد ما تكون عن الإسلام، فيذهب إلى صلاة الجمعة كي يراه الناس، ولا مانع أن يسرق أو يرتشي لأن هذا السلوك غير منبوذ من قبل هؤلاء الناس أنفسهم.
ونحن اليوم إذ نجد أنفسنا أمام منعطفات عدة، لا بد لنا من الخروج عن مجتمع القطيع، والوقوف أمام أنفسنا، ونتجرأ على هدم القداسة المحيطة بأصنامنا، سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم دينية، لا سيما أن هذه القداسة ساهمت وتساهم كل يوم، بخلق المزيد من العصبيات، وكل منها يعتبر أنه الفرقة الناجية على مختلف الأصعدة، ويسعى لشيطنة الآخر ومناصبته العداء، فما بالكم حين يتحول هذا العداء لعنف وصراع دموي، أطرافه سجناء “آبائياتهم” وتتحكم بهم قوى كبرى، تستغل هذا القطيع الأعمى المتعصب لخوض حروبها وتحقيق أهدافها، فهذا يقاتل بناءً على فتوى ابن تيمية، ويستجلب المجاهدين من أصقاع الأرض، طمعاً بالحور العين، وذاك يجيش قطيعاً بالآلاف عبر نداء “لبيك يا حسين” لنصرة يزيد العصر، والإسلام بريء من الطرفين، بينما يحمل متبعو الموروث الإسلامي هذا الوزر، فتلك الثقافة قدمت المستندات لهؤلاء الأشرار ولغيرهم، وستقدم المزيد إن لم نرفع عنها الغطاء.
ولعل السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، هو أنه لو كنا نعيش في زمن بدء نزول الوحي على محمد (ص) هل كنا من أتباعه القلائل أم من جماعة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف 23).