الإسلام، ومفهوم الحرية
طالما وددت أن أكون مخطئاً في اتهامي للسادة دعاة الإسلام الوسطي بأنهم لا يختلفون عن داعش، وأن ما ينقصهم فقط هو امتلاك سلطة، وطالما تمنيت أن تثبت تصرفاتهم ما هو عكس توقعاتي، لعل الأمل في تغيير منشود يكون أكبر، لكن بلا جدوى، فهم لا يفوتون فرصة لإظهار وجههم الحقيقي، من تكفير هنا وفتوى هناك، ولا غرابة إذ أن أخوة المنهج تفرض نفسها.
فعندما خرج السوريون في آذار 2011 ضد نظام الاستبداد، حلموا بدولة مدنية لا تهدر فيها كراماتهم، ولا تصادر حرياتهم، ولا يعلو أحد فيها على القانون، وكنت واحداً من الذين تفاءلوا بوعي الشعوب لمفهوم الحرية، لكن عوامل عدة لست في صددها، جعلت الثورة تؤول إلى نزاع بين أحاديين، الأول ديكتاتور طاغية يدعي العلمانية، والثاني جماعات ديكتاتورية طاغية تدعي الإسلام ولدت ونمت في حضن الأول ورعايته ومباركته المتخفية، ويبدو أنها أتقنت ما تعلمته من قمع لمعارضيها، ووأد أي رأي مخالف لها، وعدم التورع عن وأد صاحبه أيضاً، مع سهولة تجييش بيئة حاضنة، نقطة ضعفها ما تربت عليه من “مقدسات” هي أشد البعد عن الإسلام الحقيقي.
ويبدو أننا بحاجة لفهم الإسلام قبل مطالبتنا الغرب والشرق بفهمه وفهمنا، فهل يمكن ألا يقبل دين الرحمة بآخر مختلف؟ وهل يهتز دين العالمية أمام تساؤلات هنا وأفكار هناك؟ الحقيقة أن الرسالة التي أتى بها محمد (ص) أقوى مما صوره لنا الفقهاء والمفسرون، فهي الرسالة الخاتم، التي أعلن الله بها صلاحية الإنسانية لتحكم نفسها بنفسها، ولتشمل معظم أهل الأرض، على اختلاف ألوانهم وأعراقهم ومعتقداتهم، لا في القرن السابع الميلادي فقط، وإنما حتى قيام الساعة، بما تحمله سيرورة التاريخ من تغير في الفكر، لذلك كانت صفة التنزيل الحكيم المميزة هي ثبات النص مع حركة المحتوى، بما يؤهله ليصلح لكل زمان ومكان، وفق الأرضية المعرفية لكل عصر وبقعة جغرافية.
وإذا كانت سنة الله في خلقه الاختلاف{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يونس 19) فلا بد لرسالة الرحمة أن تستوعب هذا الاختلاف، سيما وأنها جاءت رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) ولا تقتصر الرحمة فيها على أهل شبه جزيرة العرب أو بلاد الشام، وترمي بغيرهم في الجحيم، بل هي تكرس القيم الإنسانية كعامل مشترك بين جميع الناس، وتجعل الفصل بينهم بيد الله تعالى ولا أحد غيره {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيمْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17( ورغم أن الحرية كمفردة لم تظهر في التنزيل الحكيم إلا أنه استعاض عنها بمصطلح “العروة الوثقى”، حيث {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256) وهذه الرمزية في الإشارة للحرية لها سببها المباشر في تاريخ الإنسانية، أوضحته الآية بربطها الحرية بثنائية (الإيمان بالله والكفر بالطاغوت) التي تربط أيضاً متغير بمتغير، فالطاغوت حالة متغيرة عبر الزمان والمكان، وطريقة الكفر به والتمرد عليه متغيرة أيضاً حسب الزمان والمكان ومعتقدات المجتمعات ومستوياتها المعرفية، لذلك تم تعريف الحرية بنقيضها في مختلف العصور، إلا أنها في الفقه الإسلامي ظلت غائبة أو مغيبة، فيما عدا ربطها بالرق تحديداً، مع أنها واضحة في الآية، فالمؤمن بالله يستمد قوته من هذا الإيمان للنهوض ضد الطاغوت، ليحقق من ثم الغاية التي خلقه الله من أجلها، وهي ممارسة حريته بكل أشكالها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56) حيث العبادية ليست العبودية، والعباد هم المطيعون والعاصون، وتقاطع الإيمان بالله مع الكفر بالطاغوت يتجسد في التصرف الإنساني وسلوكه بما يتفق مع القيم الإنسانية، فالإنسان لم يخلق مسلوب الإرادة، بل خلق بكامل حريته، وعقله الفطري يرفض كل أنواع الخضوع والاستعباد، وحتى إذا اختار الانقياد لله تعالى فهو يختار ذلك طواعية بملء إرادته دونما إكراه، ومن هنا نفهم قوله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ –} (هود 118 – 119) ولا يمكن أن يكون الناس على سلوك واحد، إلا بالإكراه، والحرية أساس الاختلاف، وبالتالي أساس ثنائية الثواب والعقاب في الآخرة، ولله وحده الفصل في ذلك، وإن كانت الحرية تمارس مقيدة، فتقيدها القيم الإنسانية والوصايا، أما سلطة المجتمع فغالباً تدخل في الآبائية {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف 23 – 24)، وسلطة الدولة لا يحق لها بشكل من الأشكال التدخل في العلاقة الدينية بين الفرد وربه، سواء كان مؤمناً بالله أم غير مؤمن، وتطبيق “لا إكراه في الدين” يجب أن يضمن حرية المعتقد مهما كان هذا المعتقد، ووقوفك ضد الطغيان يجب أن يتضمن ما يقع منه عليك وعلى غيرك المغاير لك بالمعتقد، ودفاعك عنه وعن حريته في ممارسة شعائره وإبداء رأيه، بغض النظر عن ماهية هذا الرأي، وخوفك على دينك من رأي ما يعكس هشاشة هذا الدين وعدم ممانعته أمام مقال أو رسم، وبالتالي فدينك غير جدير بتسميته دين الله أو الإسلام، حيث الإسلام فيه من الحلم وسعة الصدر ليستوعب ما لا تتصوره، والله تعالى تقبل إبليس الذي عصاه، وتقبل إبراهيم الذي حاججه وجعل منه قدوة للناس {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل 120)، وأوعظ لنبيه كيفية التعامل مع الناس بمنتهى الرقي {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6) و{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، ضمن منظومة أساسها الحرية {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29) لا ما اخترعه السادة الفقهاء “بعثت بالسيف وجعل رزقي تحت ظل رمحي”، وطبقه خلفهم من تهديد لعباد الله وتكفيرهم، بدعوى الغيرة على دين الله، علماً أن الله ليس بحاجة من يدافع عنه، فهو سبحانه غني عن العالمين، ومن يريد نصرة دين الله فليتحلى بالأخلاق والعلم لا بالبلطجة والقتل.
وإذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر علاقة شخصية في قلب الإنسان، فعلاقته مع الآخر القريب أم البعيد تنعكس من خلال عمله، صالحاً أم طالحاً، حسناً أم سيئاً، لا من خلال تردده على المسجد أم ارتداء زوجته أو أمه لغطاء على الرأس أو صومه رمضان، فكل هذا لا يعنيني، وولائي له بقدر احترامه للقيم الإنسانية ورفضه للطغيان بأنواعه، ولعل السوريين في المغترب أشد ما يجدون تطبيقاً لكلامي على أرض الواقع في تعامل الناس معهم إنسانياً، دون سؤالهم عن دينهم ومنطقتهم وماذا ترتدي نساؤهم.
وهنا لا بد من التطرق لمصطلح الإلحاد، الذي ما إن يتهم به أحد ما حتى تنهال عليه اللعنات من “حراس المعبد”، فقد ورد المصطلح في كتاب الله بمعنى الميل عن أمر إلى أمر آخر {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل 103) والملحد قد لا يكون مؤمناً بالله، لكنه لم يقطع صلته بالقيم الإنسانية، فلا يسرق ولا يقتل ولا يقرب الفواحش، أي ليس مجرماً، والمصطلح المضاد للإسلام هو “الإجرام”، كما ورد في قوله تعالى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم 35 -36) والمجرم هو من يقطع صلته بالله، ويقطع علاقته بالمجتمع فلا يعترف بالأخلاق ويعيث فساداً، مما يستدعي تدخل المجتمع إذا أساء له، لكن الملحد أمره بيد الله وحده، يحاسبه أو يغفر له، ولا يحق لأحد القاء التهم عليه جزافاً، وللأسف فإن أكثر الدول إنسانية وانعداماً للجرائم هي تلك التي لا يتشدق أصحابها بتدين مزيف، هذا التدين الذي يعبر عنه بزيادة عدد المساجد وعدد معاهد تحفيظ القرآن وعدد النساء المحجبات، فيما تدهورت الأخلاق والقيم، بتطبيق مثالي لما يكون عليه الاستبداد، فنمى الشكل على حساب المضمون، وشغل الناس بعدد مرات تسبيع الرز قبل طبخه وجواز نوم الأرملة قرب الحائط من عدمه، وتركوا رجال المستبد تلقي عليهم خطب الجمعة والأعياد، وهم يسبحون بحمده ويدعون له.
خلاصة ما أريد قوله ما قلته سابقاً أن الدولة المدنية المنشودة هي التي تقوم على حرية الأفراد بكل ما يختارونه من معتقدات وآراء وأفكار، لا دولة الراعي والقطيع، حيث “الطاعة لذي الشوكة”، سواء كانت الشوكة سجناً أم سيفاً مسلطاً أم فتوى من خطيب يتكلم باسم الله، ويبدو أن الطريق ما زال طويلاً، حتى يعي السوريون أن الحرية بأشكالها أهم من الحجاب.