إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
ينبئنا التنزيل الحكيم أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم بعد أن سواه وأهله بموجب نفخة الروح ليكون خليفة على الأرض، وعندما أبدى الملائكة تحفظهم على موضوع الاستخلاف قال تعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة 30)
والله جل وعلا علم أن البشر الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء سيتطورون بعد نفخة الروح تدريجياً، وسيستطيعون بمساعدته الوصول ليكونوا مؤهلين للترقي على سلم الحضارة والعيش من دون رسالات سماوية، وسيسبرون أغوار الكون الذي سخره الله لهم، وسيظهر منهم من يكون جديراً بأن يباهي الله به خلقه وتسجد له الملائكة.
فالإنسان هو وجود فيزيولوجي (بشر) مضافاً له كم معرفي (الروح)، وهذه الروح هي التي ميزته عن باقي المخلوقات، فكلما زاد الكم المعرفي زادت إنسانية الإنسان وابتعد عن المملكة الحيوانية، وكلما قلت المعرفة تقزمت الإنسانية ليصبح صاحبها جسداً بلا روح ومن ثم لا يستحق هذه الهبة من الله.
وبرحيل “ستيفن هوكينغ” منذ أيام فقدت الإنسانية عملاقاً، اضمحل جسده طوال سنين لكن روحه بقيت متوقدة، فقدم من العلم ما يشكل قفزة معرفية تنير طريق الإنسانية لقرون قادمة، فاكتشف لا محدودية الكون، وفسر الثقوب السوداء، وأثرى العلم بشهادات حضورية عن عظمة الخلق، تضاهي ما قدمه العلماء أمثال نيوتن أو داروين أو آينشتاين، ناهيك عن مواقفه الأخلاقية من الحروب في فيتنام والعراق، وموقفه من إسرائيل، وموقفه من الضحايا السوريين، حتى أن فائض الإنسانية لديه جعله مدافعاً عن الإنسان أينما وجد.
ورغم أني كمؤمن موقن بوجود الله، أختلف مع هوكينغ في هذه الجزئية تحديداً، إلا أنه بنظري شهيد، بغض النظر عن إيمانه أو عدمه، فالهدف من وجودنا يحققه أمثاله، وبدونهم سنبقى غافلين، كمن وصفهم الله تعالى بقوله {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف 179)، والله تعالى إذ جعل لنا من إبراهيم عليه السلام “إماماً” طلب منا أن نأتم بسلوكه في رحلته من الحواس إلى الفكر ومن الشك إلى اليقين، وحين قال إبراهيم {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} (البقرة 260) لم يوبخه الله تعالى ولم يؤنبه بل سأله {أَوَلَمْ تُؤْمِن} فالإيمان الأعمى لا يكفي إن لم يصحبه نظر وتفكر وبحث وسؤال، وعدم الإيمان لا يعني أن الله سيجعل من شهادات عالم كبير هباءً منثورا، فشهاداته تلك ستكون تصديقاً لعظمة الخالق، سواء آمن صاحبها أم لم يؤمن.
واليوم في حين ينشغل العالم بدراسة نظريات العالم الراحل، ينشغل عالمنا العربي “الإسلامي” به بصفته ملحداً، وبجواز الترحم عليه من عدمه، ولا أجد ذلك غريباً، فنحن قد اعتدنا التوقيع عن رب العالمين وتصنيف الناس وفرزهم إلى الجنة أو النار، ناهيك عن التمسك بالقشور بدل الألباب، وبالأشكال دون المضامين، عدا عن استهزائنا بالعلم والعلماء، ونحن نتباهى بابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم وهم بالنسبة لأمهات كتبنا يتأرجحون ما بين الهرطقة والزندقة، أما “العلماء” في ثقافتنا الجمعية فهم علماء الفقه والشريعة دون غيرهم، ولدينا من “هيئات ومجالس العلماء” ما لا يعد ولا يحصى، في كل مكان من الوطن العربي، وهم علماء في أحكام التجويد والطهارة وآداب دخول الحمام، لكنهم لم يستطيعوا خلال قرون أن يقدموا أسساً جديدة للفقه تساعد “المسلمين” على التقدم للأمام قيد أنملة، وهذا العدد من العلماء يكاد ما يوازيه في العلوم الحقيقية أن يكون معدوماً، فعلوم الدنيا لا تستحق الاهتمام، ولذلك لا تحتل جامعاتنا مكانة متميزة، ولا يكاد عدد ما يدخل منها ضمن أول خمسمائة جامعة على مستوى العالم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ولذلك أيضاً لا أتجنى على العقل العربي عندما أقول أنه عاجز عن إنتاج المعرفة، وإنما قادر على إنتاج عدد هائل من الشعراء، حيث لا يحتاج الشعر لدقة أو صدق أو بحث، ولا يعيبه الكذب ولا الخيال، وإن لم نكسر القوالب التي تحكم عقولنا لن نلحق بركب المعرفة، وسيمضي علينا الزمن ونحن نراوح مكاننا.
لا يسعني إلا أن أعزي الإنسانية بفقيدها، وكلي ثقة أن الله سيتباهى أمام خلقه بستيفن هوكينغ، كما يتباهى (ولله المثل الأعلى) الأب بإنجازات ابنه، حتى لو افترضنا أن هذا الابن لم يعترف بأبيه.