التبني ضرورة إنسانية
لا تقتصر آثار الحرب الدائرة في سورية على الدمار الهائل للمدن، أو للبنية التحتية والاقتصادية، بل تتعدى ذلك لما هو أقسى وأكثر قسوة، فأعداد الضحايا كبيرة جداً، لا يقل عنها أعداد المفقودين والمعتقلين والمشردين، واللاجئين في بلاد الله الواسعة، إضافة للشرخ الحاصل في بنية المجتمع الأساسية، وتأثيره على كافة نواحي الحياة، لعل أكثرها وضوحاً وخطورة هو انقطاع الأطفال والناشئين عن الدراسة والتعليم، سواء أولئك في المناطق الساخنة أو معظم من في بلاد اللجوء، مما يهدد بنشوء جيل كامل غير متعلم، لم يقض على حاضره فقط وإنما على مستقبله أيضاً.
وكثيراً ما تصلنا أخبار تبني السكان المحليين في كندا وألمانيا لأطفال سوريين لاجئين، لا سيما من وصل منهم بلا أهل، حتى أني قرأت عن طفل رفض الانضمام لأخيه الشاب بعد أن تبنته عائلة ألمانية طامحاً في مستقبل أفضل، فقوانين هذه البلدان تسمح بالتبني بينما تمنعه بلداننا بحجة “الحرام”، في حين يسمح “الحلال” باستغلال القاصرات والزواج منهن مقابل مبلغ للأهل في المخيمات، فللأسف مفهومنا للحلال والحرام ملتبس، تسوقه اعتبارات عدة، ليس بينها الأخلاق أو القيم الإنسانية.
وبدل أن نجد ذريعة “الحرام” جاهزة للاستخدام عند أي وخز عارض للضمير، قد يكون من المناسب إلقاء الضوء على موضوع التبني في التنزيل الحكيم، وشروط تطبيقه، آخذين بالاعتبار أن التنزيل من حي إلى أحياء، خال من الترادف والحشو {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت 42، وبالتالي نقرؤه وفق الأرضية المعرفية للقرن الحادي والعشرين، لا القرن السابع، وهي قراءة ليست مطلقة وإنما مرهونة بزمانها ومكانها.
فالباحث في التنزيل يجد أن “الأب” غير “الوالد”، ويفهم أن “الوالدين” المعنيين بفعل الولادة شيء مختلف عن “الأبوين”، فالوالد هو صاحب الحيوان المنوي الذي بدونه لا يتولد جنين، والوالدة هي صاحبة البويضة التي بدونها لا يتولد جنين، وبعد اللقاح تأتي مرحلة الحمل {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} (مريم 22)، ثم مرحلة الوضع أي الولادة {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران 36)، فإذا تلازمت البويضة مع الحمل والوضع في أنثى واحدة فهي والدة وأم حاملة وواضعة {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} (النحل 78)، وباعتبار أن هناك خصوصية للأم الوالدة حصراً لا تنسحب على أية امرأة أخرى، فقد استنكر سبحانه الظاهرة التي كانت فاشية في الجاهلية، كأن يقول أحدهم لزوجته: “أنت علي كظهر أمي” واعتبر ذلك منكراً وزوراً {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} (المجادلة 2)، مع إمكانية أن يكون للإنسان أكثر من أم، أم والدة، وأم مربية، وأم مرضعة، ولهذا نجد تحريم النكاح في التنزيل شمل الأم ولم يخص الوالدة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ — وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء 23)، ونقرأ قوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ–} (الأحزاب 6) فزوجات النبي هن أمهات المؤمنين ولسن والداتهم، ومن هنا دخلن في محارم النكاح.
وفي حين أن دور الوالد لا يتعدى مرحلة الإلقاح {وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} (لقمان 33)، فإن الأب له وضع مختلف تماماً، فإذا رعى الذكر الوالد الأم في حملها وأنفق عليها وساعدها فهو أب، فالأب من القصد والعناية والتربية، والأم من التغذية والحنو (تؤم جنينها ووليدها).
ونقرأ قوله تعالى في دعاء نوح على قومه {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} (نوح 27) فنجد أن الولادة هنا أخذت معنى التربية والتشكيل العقائدي في المجتمع، ففعل “يلدوا” هنا لا يعني مطلقاً الولادة من حمل ووضع وأمومة، لأن الإنسان لا يولد كافراً فاجراً ولا مؤمناً تقياً، بل يخرج من بطن أمه صفحة بيضاء {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} (النحل 78) أي أن هناك أولاداً بالولادة، وأولاداً بالتربية، فالتربية هي التي تجعل منهم فجاراً أو صالحين، والمربون هم الآباء لا الوالدين، فإذا قام الوالدان بالتربية المادية والمعنوية بالرعاية والإنفاق أصبحا أبوين، وإذا قام غير الوالدين بذلك كانا أبوين أيضاً.
أما التبني فقد أطلق عليه التنزيل “اتخاذ الولد”: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} (يوسف 21)، و{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} (القصص 9)، حيث في حالتي موسى ويوسف لم يكن المربي والد، أما في الأب الوالد فنقرأ قوله تعالى {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً –} (يوسف 4) مع أن يعقوب والد يوسف وأباه، فقد استعمل مصطلح الأب للدلالة على أن يوسف دخل دائرة الوعي في الدنيا وهو في كنف يعقوب وتحت رعايته، بينما نجد مصطلح الأب يرافق إبراهيم دائماً عدا عن الآية {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم 41)، ونقرأ قوله تعالى {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} (الشعراء 86) وقوله {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة 114) فنعرف أن أبا إبراهيم ليس والده، وذكر الله تعالى اسمه آزر {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (الأنعام 74) وهو أبوه بالتربية والرعاية وربما بالعقيدة.
وآدم هو أبو الآدميين لا والدهم، أبوهم الذي بدأ به الوجود الإنساني العاقل {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ –} (الأعراف 26)، وإبراهيم هو الأب المربي العقائدي لأكثر من مليار مسلم مؤمن وليس والدهم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج 78)
أما “الآباء” فقد وردت بمعنى مزدوج، مزيج من الأب الوالد فالجد صعوداً، والأب المربي عقيدة وثقافة، وقوله تعالى على لسان يوسف {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ} (يوسف 37 -38) يوضح أن آبائية العقيدة والثقافة تضاهي أهمية نسب الدم والبيولوجيا إن لم تفوقه أهمية.
ونقرأ قوله تعالى {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب 40) فقد اعتبر أصحاب “أسباب النزول” أن الآية نزلت في زيد بن حارثة، الذي كان يلقب بزيد بن محمد، لكن ما علاقة كون محمد (ص) أباً لزيد بكونه رسول الله وخاتم النبيين؟ فالأبوة هنا تعني الجانب العقائدي، ومحمد لم يتبن أحداً في رسالته ونبوته، وليس ثمة من يمكنه ادعاء أن محمداً علمه أسرار النبوة والرسالة أو أعطاه الحق بشرحهما للناس.
وحين يقرر التنزيل الحكيم وجود ولد مولود وولد متخذ، ثم نقرأ قوله {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ –} (النساء 11) وغيرها من الآيات، نفهم أنه سبحانه يعني النوعين من الأولاد، وحين يقرر التنزيل وجود أب والد، وأب مرب، وأب بالاتخاذ ثم نقرأ قوله {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} (النساء 11) نفهم أنه يعني الأبوين بكل أنواعهما، سواء بالولادة أو بالتبني.
وفي قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ —وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ –} (النساء 23) لو كان الاحتمال الوحيد للأبناء هو أن يكونوا من أصلاب الآباء لأصبحت جملة “الذين من أصلابكم” حشواً، وبالتالي هناك حتماً أبناء ليسوا من الأصلاب، والأبناء هم الولد وولد الولد نزولاً.
ونقرأ قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان 14) وقوله {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ –} (الأحقاف 15)، وكل الأحداث التي يسترجعها أطفال الدنيا في ذاكرتهم بعد أن يكبروا هي أحداث حصلت لهم بعد سن الثانية من العمر، والفصال علمياً هو الفصل بين الذات والموضوع عند الطفل، أي تمييز ذاته عن أمه، وبالتالي إذا تم تبني الطفل في سن العامين وما قبل، يكبر الولد وليس في ذاكرة وعيه إلا أبويه بالتبني، ويكون لهما نفس حكم الوالدين، حتى لو لم يلداه، لأنهما الوحيدان ضمن دائرة وعيه، ولا فرق بينهما وبين والديه، بالبر والإحسان والحرمة وإبداء الزينة والإرث.
ونسمع صيحات الاستنكار تقول أن الله تعالى منع التبني في قوله { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (الأحزاب 4 -5) نقول نعم صدق الله العظيم في إبطال أبوة محمد (ص) لزيد، فزيد كان غلاماً في سن نضجه يعي أهله وقومه ويميز الأشياء، وقوله تعالى {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} تبين أن القول بالأفواه لا يكفي، فإذا قال رجل لغلام: “أنت ابني” فهذا لا يعني أنه دخل بقوله هذا ضمن محارم الغلام، ولا يعني أن هذا الابن سيرث الرجل، ونفهم أنه سبحانه يسمح لنا بإطلاق ألقاب الأمومة والأبوة كما نشاء، شرط ألا يترتب على ذلك مسؤوليات محارم النكاح والإرث، فإن كان للغلام أب أو أم دخلا ضمن دائرة وعيه، وحصل التبني والغلام واع لهذا التبني عند حصوله فالتبني باطل، وعلينا في هذه الحالة (حالة زيد) أن ندعوه لأبيه الوالد، أما إذا كان الولد دون سن الفصال فيحق لمن يأخذه أن يتبناه، ويدخل ضمن المحارم والإرث، وعليه البر لقوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء 24) فهنا لم يذكر اللقاح والحمل والوضع، بل ذكر التربية.
خلاصة القول أننا أمام مشكلة العدد الكبير من الأيتام، علينا مواجهة مسؤولياتنا، فإن وجدنا في أنفسنا المقدرة علينا إما تبني أطفال دون سن الثانية بكامل الحقوق والواجبات، أو رعاية الأيتام معروفي أو مجهولي النسب رعاية كاملة لا تشمل الإرث والحرمة، وهناك الكثير ممن يرغب في تربية الأطفال لكنه لم يحظ بهم لمرض ما أو لسبب معين، والله سبحانه لم يفرض على أحد أن يعيش محروماً أو وحيداً.
أما من يدعي اختلاط الأنساب وإمكانية زواج الأخوة فإن فحص بسيط لل DNA يمكن أن يشترط في أي عقد زواج، سيكون كفيلاً بوضع حد لأوهامنا.