هل أخلف الله بوعده للمؤمنين، أم أننا ننتظر الوفاء بما لم يعدنا…؟!
تنتشر صورة الطفل الحلبي الذي نجى من تحت الأنقاض في كل وسائل الإعلام، تناشد ضمير الإنسانية لعلها تحرك ساكناً، فيما يتساءل السوريون بعد خمس سنوات ونيف، أين الله من كل هذا؟ هل هو راض ٍ عما يحصل من قتل وقهر وتشرد؟ هل سيبقى صامتاً متفرجاً؟ وتتكاثر الأسئلة لتستطلع الخيبة، فيما يترسخ لدى الكثيرين الاعتقاد بأن غضب الله قد حل على سوريا ليهلك البشر والحجر.
وكل هذه التساؤلات تأتي نتيجة الصورة التي وضعناها لله تعالى في أذهاننا، وكأنه جالس على كرسيه في السماء، يلقي الأوامر بتعذيب فلان، وإهلاك آخر، وإغداق المال على هذا، ومنع الرزق عن ذاك، وفق أهوائه، أو وفق عدد مرات قولنا تميمة معينة دون أخرى، وننسى أن الله تعالى وضع قوانين الكون والتاريخ، ولا يغيرها مراعاة لأحد، وأنه سبحانه ظل يبعث الرسل مواكباً تطور الإنسانية، حتى وصلت لمرحلة تستطيع فيها أن تقف على قدميها، وتشرع لنفسها، فختم الرسالات وأعلن صلاحية الإنسانية لترتقي وتأخذ دورها على الأرض {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة 3)، ضمن دين يمكن أن يضم تحت جناحيه كل أهل الأرض، تذكرة دخوله الإيمان بالله واليوم الآخر، ومعياره هو العمل الصالح {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) فلا فرق بين ذكر وأنثى أو أبيض أسود إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13).
والإسلام الذي ارتضاه الله ديناً للناس هو دين إبراهيم {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء 125)، إبراهيم الذي حاجج ربه وأعمل فكره قبل أن يقتنع ويطمئن قلبه، فامتازت ملته بالحنيفية لكونها توائم الفطرة، ومن هنا جاءت الرسالة المحمدية رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) تتحرك حدود تشريعها بين العفو والعقوبات التي لا تتعارض مع ما توصلت له الإنسانية في قوانينها، وضمن مبدأ أساسي هو راحة الإنسان في الحياة الدنيا، كفرد ضمن مجتمع محيط به، بما لا يؤذي الآخرين {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة 185)، أما في الآخرة فمقاييس العدالة الإلهية المطلقة تختلف تماماً عن مقاييسنا النسبية، ورحمة الله واسعة بينما عذابه محدود {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف 156).
والله في التنزيل الحكيم {رؤوف رحيم} يغفر لعباده جميعاً، المؤمنون والمسرفون {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر 53) بعكس ما صورته لنا المنظومة الفقهية، حيث استمد الفقهاء إلههم من الثقافات السابقة للبعثة المحمدية، التي كانت تقوم على تعدد الآلهة وفق تعدد الاختصاصات، فهناك إله الخصب وإله المطر وإله الصحة وإله المرض، وكل مشاكل الإنسان هي جراء غضب الآلهة، فإذا مرض فإله المرض غاضب، وإذا جفت الأرض فإله الخصب غاضب، ثم عندما تم توحيد الآلهة بإله واحد بقي هذا الإله غاضب دائماً على مدار الساعة، وهو سادي قبلي مزاجي متعطش للدماء، يتلذذ بعذاب الناس ويهوى العيون المقلوعة والأيدي المقطوعة والبطون المبقورة، يعد على الناس عثراتهم، ويبتليهم ليختبر صبرهم، فإذا مر عليك أربعون يوماً دون أن تصاب بأذى أو مرض فاعلم أنه غاضب عليك، وإذا أصبت بأذى فهو غاضب عليك أيضاً، لذلك يردد المؤمنون “اللهم لك الحمد حتى ترضى”، والجنة لا يدخلها إلا من كابد أشد أنواع العذاب، بينما جنة التنزيل الحكيم يدخلها كل من عمل صالحاً {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف 43) و{ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل 32) والعمل الصالح المقصود لا يعني إقامة الصلاة وصوم رمضان، على ما لهما من أجر وثواب، بل كل ما يخص العلاقة مع عباد الله، وكل ما يخص المهمة التي أوكلها الله للإنسان بصفته خليفة على الأرض، حباه الله بنفخة الروح فميزه عن سائر مخلوقاته، وحمله الأمانة فامتلك خيار الطاعة والمعصية، على أن يحاسب في اليوم الآخر على عمله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة 7 – 8).
والله تعالى لم يكتب منذ الأزل أن يموت الناس في سوريا بمئات الآلاف في فنرة زمنية محددة، ولا أن يتشردوا في البلدان، أو أن يغرقوا في البحار، لكنه كتب على عباده الموت فلا أحد خالد في الدنيا سواه، ولا ثابت غيره، وقوله تعالى {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} (التوبة 51) يعني أننا لن نموت بمرض خارج عن الأمراض الموجودة على هذه الأرض، ولن يصيبنا ما هو مختلف عن القوانين التي وضعها الله لهذا الكون، وكل في كتاب، كتاب المرض، وكتاب السير، وكتاب الحرب، وكتاب السلم، وكتاب الظلم، وكتاب الطغيان، ومن قوانين التاريخ أن الفساد والظلم يوديان بالحضارات {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} (الكهف 59) و {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء 16).
أما الإنسانية فرغم وصولها إلى درجات من التطور الفكري والحضاري والأخلاقي، إلا أن التعاطف نجده لدى الأفراد كل على حدى، بينما تطغى المصالح السياسية على تعاملات الدول، ولا يمكننا أن ننكر ما يجده المهاجرون واللاجئون من ود لدى شعوب المهجر في أغلب الأحيان، ومن تعاملهم على أساس إنساني محض، بينما ما زلنا ننظر إليهم بصفتهم مشركين كفار، وكأن الله سلمنا مفاتيح الجنة ووكل إلينا مهمة فرز الناس، بكل تجاهل لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17) وقوله أيضاً {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة 113)، علماً أن معظم شعوب البلدان المضيفة تلتزم بالعمل الصالح الذي طالب به الإسلام أكثر ممن يدعون أنهم أهله، فلا يكذبون ولا ينافقون ويحترمون حرية الآخر بكل أريحية، فيما نسخر نحن بعنصرية وتعجرف من الشعوب الأخرى التي تتميز علينا أخلاقياً وعلمياً وحضارياً، فتجد من يرفع شعار “أنا لست هندي” وكأن الهندي إنسان درجة ثانية، علماً أننا نكاد نكون في الدرجة الأخيرة حضارياً، ونريد من الآخرين معاملتنا بإنصاف.
أما في موضوع التعاطف فترى أهل الحي لا يتعاطفون مع من كانوا جيرانهم، بل على العكس يتمنون لهم أسوء الأماني، وترى الضغينة والكره قد بلغا أوجهما بين الأخوة والجيران في الشارع الواحد، فإن لم يختلفوا سياسياً اختلفوا دينياً، وزاد الطين بلة ما طفا على السطح من تكفير للناس، على أسس ما أنزل الله بها من سلطان، بل أنزلها الشافعي والبخاري وابن تيمية، وأضف إلى ذلك أن التصنيف يتم بناءً على القشور لا على الجوهر، فما يسمى الحجاب الشرعي يسم الفتاة بالعفة مهما فعلت، وتزاحم مقيمي الصلاة أمام المسجد يوم الجمعة يسم المجتمع بالتقوى، رغم أنه يرزح بالنفاق والفساد، فالأجدر بنا أن نعتب على أنفسنا قبل أن نطلب التعاضد ممن نصفهم بالكفار وندعو عليهم ليلاً نهاراً.
خلاصة القول، عودوا إلى الله وفعّلوا صفة الرحمة في نفوسكم، وليكن اسم الله “الرحيم” هو مرشدكم، فالغاية من أسماء الله الحسنى هي أن نفعلها في نفوسنا لنقترب منه، لا أن نرددها كالببغاوات، وإذا كنا نريد الفلاح في الآخرة علينا تزكية النفوس بالعمل الصالح {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس 7 –10)، واعلموا أن الله يكون معنا بقدر ما نفعل من خيرٍ {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل 20)، وكما كتب ربنا على نفسه الرحمة لنتقرب منه ونكتبها على أنفسنا أيضاً.