بالنوع لا بالكم
تتوقع احصائيات وتقارير مختلفة تزايد أعداد المسلمين – بالمعنى الشائع – حول العالم في العقدين المقبلين، نظراً لارتفاع معدل الخصوبة لديهم مقارنة بغيرهم من أتباع الملل الأخرى، ويبالغ البعض في تلك التقارير التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليتصور أن نسبة التزايد ستجعل من المسلمين هم الفئة الأكثر في أغلب المجتمعات الغربية، مما يشكل نصراً عظيماً لدين الله، ونصراً لرسول الله، وتحقيقاً لرغبته فيما نسب له من قول “تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة”، إذ لم يكلف أتباعه أنفسهم عناء التحقق من صحة الحديث أصلاً، وهو حديث ضعيف حتى ضمن اعتبارات المنظومة الفقهية المتوارثة، إلا أنه راق لغالبية المسلمين الأخذ به، ولم يتوانوا عن التكاثر والتناسل محملين الرسول الأعظم جميلة العمل بوصيته، وضاربين عرض الحائط بكل ما يسمى تحديد النسل، سيما إذا كان هذا النسل سينتشر في أصقاع العالم حاملاً لواء الإسلام وناشراً دعوته.
ومع كل أسف، وإذا افترضنا صحة هذه الإحصائيات، فإن العالم لن يكون مكاناً أفضل مع ازدياد أعداد المسلمين، وهذا لا يعني أنه سيكون أفضل مع تزايد غيرهم، لكن وفق ما نراه، لم يكن للمسلمين في القرون القليلة الماضية أي تأثير إيجابي على من حولهم، لا بل ها هم ينشرون العنف والإرهاب، وهذا يدهس هنا وذاك يفجر هناك، وفي أفضل الاحوال يتقوقعون على أنفسهم ويواجهون “الكفار” من حولهم بالعدائية والكره، ورغم أن هذا الكلام لا يمكن تعميمه على الجميع، إلا أن الانطباع العام عنهم يدور ضمنه، ولم تنفع ثقافة الغرب بتوجيه أبناء الأجيال المتعاقبة هناك، فأغلب من نفذوا عمليات إرهابية هم من أبناء الجيل الثاني والثالث، سيطرت على عقولهم ثقافة التكفير والجهاد والقتال، ودار الإسلام ودار الكفر، يذهبون إلى المساجد ليسمعون خطباً تبث الكراهية، وتحرضهم على الآخر المختلف، وتغذي لديهم عنصرية شريرة، تستند إلى دين لفق في العصور التي تلت الرسالة المحمدية، ليستقر في العصر العباسي، عصر التدوين، ويصلنا وقد أحيطت به كرة الثلج فغطت على أساسه، وانحرفت به فشوهته، بحيث عزل أتباعه أنفسهم عن العالم، وأرسلوا كل من يخالفهم إلى النار، بينما الجنة حكراً عليهم، يتسابق بعضهم إليها عبر قتل الأبرياء، باعتبار أن من قتلهم قد أخذ وكالة حصرية من الله بمحاسبة عباده، وعدا عن هذا فإن تصرفات غالبية المسلمين لا تعكس التقى الذي يدّعونه، أو ذاك الذي يجدر بهم أن يتحلون به.
فالله تعالى ختم الرسالات بالرسالة المحمدية، لتشمل كل سابقاتها وتختصر الإيمان بالله الواحد تحت مسمى الإسلام {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (الأنبياء 108)، فأنا مسلم من خلال كوني أؤمن بالله الواحد إضافة لليوم الآخر، وأقرن ذلك الإيمان بالعمل الصالح، فلا أكذب ولا أسرق ولا أغش ولا آكل مال اليتيم ولا أقتل نفس ولا أقرب الفواحش، فإذا كنت مؤمناً بمحمد كرسول من عند الله وأتبع ما جاء به أصبحت مشمولاً ضمن الآية {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62)، كوني ممن وجه لهم الخطاب في التنزيل الحكيم بصيغة “الذين آمنوا”، وبالتالي أقيم الصلاة وآتي الزكاة وأصوم رمضان وأحج البيت كما فعل محمد (ص)، فالإسلام يسبق الإيمان، والعمل الصالح يسبق الشعائر، ومن هنا جاءت عالمية الإسلام، وتوصيفه من الله تعالى بأنه دين الفطرة، فالفطرة التي توحي للنمل أن يدخل مساكنه كي لا تدوسه الأقدام، وتوحي للسلاحف أن تحفر على السواحل لتضع بيوضها، هي ذاتها التي توحي للإنسان إنّما إلهه إله واحد {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم 30)، وهي ذاتها التي تجعله يبر والديه ويرأف بهما مهما كانت ملته، والله تعالى إذ خلقنا واستخلفنا في الأرض يريد منا أن نتحرر من كل أنواع الإكراه ونمارس حريتنا بما لا يتعارض مع القيم الإنسانية، وهي ما تميل إليه النفوس ولا تبغضه، ومن هنا أتت حنيفية رسالة محمد، لتستوعب ما قبلها، فحددت المحرمات بأربعة عشر لا غير، ووضع التنزيل الحكيم تفصيل هذه المحرمات بحيث تتماشى مع التشريعات الإنسانية في تطورها عبر الزمن، لكن السادة المفسرين وأتباعهم أغفلوا بنداً بالغ الأهمية من تلك البنود الأربعة عشر، وهو التقول على الله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ —وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف 33)، فجادوا بما لا يعلمون، واخترعوا ما لم ينزل به من سلطان، وجاء من بعدهم من ثبت هذه الفتاوى، وعمل بها، حتى إذا خرج مجرم يريد أن يروي غليله من عباد الله وجد سنداً يتكىء عليه، فهؤلاء أناس أبرياء يتسوقون لعيد الميلاد فيأتي من يدهسهم باسم الإسلام، وأولئك شبان يحتفلون ببداية عام جديد لم يرق لمضطرب احتفالهم ووجد فيه ما يخالف عقيدته فقتلهم، وتجد من يعترض على تسميتهم بالضحايا كونهم في ملهى، متناسين أن الله لم يوكل أحد ليقوم بمهمته، ولم يطلب منا محاكمة بعضنا بعضاً، فما بالكم إن كان الحكم هو إعدام الآخر، وبدل أن تحاكموا هؤلاء الأبرياء الذين لم يؤذوا أحد فلتحاكموا من أصدر الفتاوى، ومن زرع الغل والكره في النفوس، حتى وصل بها هذا الكره إلى قتل الناس دون وجه حق.
والمتتبع لمعنى الإسلام في التنزيل الحكيم يجد أن المصطلح المضادّ للإسلام هو “الإجرام”، ويقابله وصف “مجرمون” مضادّاً لوصف “مسلمون” كما جاء في قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم 35، 36)، وإن كان المصطلح القانوني المتداول اليوم في كلّ المجتمعات، بتسمية السارق والقاتل والغاصب مجرماً، فإن الأصل في ذلك يرجع إلى المعنى اللغوي لوصف “مجرم” بحيث إنه بصفة عامّة هو الذي يقطع صلته بالمجتمع وقوانينه وينطلق على هواه دون مراعاة لقوانين أو قيم إنسانية، وهذا ينطبق على من يدعون الإسلام ويعيثون خراباً في الأرض، أو يبيحون لأنفسهم السرقة والغش في المجتمعات الغريبة عن مجتمعاتهم، فيلجأؤون للتحايل على القوانين واستغلالها بما يتيح لهم أكبر قدر من التلاعب، مبررين ذلك بكفر أو شرك أهل تلك البلاد، فهل بمثل هؤلاء سيباهي الرسول الأمم ؟ وهل سيعد نصراً لدين الله إن تكاثر هؤلاء في أرجاء الأرض؟ وهم يتوالدون اليوم في بلاد اللجوء بحجة أن الله سيرسل رزقاً لكل مولود، والواقع أن هذا الطفل إن لم يكن في دولة تخصص راتباً للأطفال، فسيكون مصيره التعرض لمصاعب العمل منذ نعومة أظفاره، دون تعليم ودون أي مقومات للعيش الكريم.
وفي ظل ثقافتنا الحالية ونحن عاجزون عن انتاج أي معرفة، هل سيكون من المجدي كثرتنا؟ فقد يكون العالم بحاجة إلى شعراء، لكنه بحاجة لعلماء وأطباء ومخترعين ومكتشفين بشكل أكبر، ولا يمكنه الاستغناء عن هؤلاء، ونحن للأسف لم ننتج عالماً واحداً في المائة عام الأخيرة، نعيش مستهلكين غير منتجين، نرزح في ثقافة الحلال والحرام، ونعامل العالم بفوقية وعنجهية باعتبارنا أصحاب الجنة وكل ما عدانا في النار.
وإذا كان الله تعالى قد قال في كتابه {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (البقرة 249)، وفي معرض الحديث عن غزوة بدر نقرأ قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} (الأنفال 65) فالله يثني على النوع لا على الكم، فهل نحن لدينا ما نغلب به أحد؟ وهل نحن قوم يفقهون؟ إلا ما خلا في فقه الطهارة والنجاسة ودخول الحمام.
والإسلام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، بمعناه الشامل لكل أهل الأرض على اختلاف مللهم ومعتقداتهم، والله أخبرنا أنه لا يمكن أن يكون أتباع ملة معينة هم الأكثرية على الأرض، إلا بالإكراه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} (يونس 99) وسنة الله في خلقه هي الاختلاف {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118)، وهذا منطقي وواقعي وفضل من الله على خلقه، فلو أن ملة تفوقت عددياً على باقي الملل لاضطهدت الآخرين، لذلك كونوا مطمئنين أننا لن نسود العالم بتخلفنا، لكن الإنسانية بفطرتها تسير نحو الإسلام كدين الفطرة، ودين الله القيم بما فيه من قيم أخلاقية عليا، وعلينا إذا أردنا اللحاق بالركب أن نعيد النظر بأدبياتنا وترتيب أولوياتنا، لنستطيع بالتالي أن نضع لمسة في هذا العالم بالنوع لا بالكم.