ديمقراطية أم شورى؟
تتناقل الأخبار صور رئيس وزراء كندا “ترودو” تارة وهو يستقبل اللاجئين السوريين، وأخرى وهو يساعد رجلاً على كرسي متحرك، وكثير من الأخبار التي تعكس إنسانيته، وتعكس سلوكاً لا يمكن أن يظهر إلا في دول ديمقراطية، وإن كان الإعجاب بتصرفاته قد طال الشعب الأميركي، فما بالكم بشعوبنا، العربية عامة والسوري خاصة، ونحن ما زلنا للعام السادس على التوالي ندفع ثمن المطالبة بأبسط الحقوق، ونخيّر بين الأمان والحرية، ولا يعلم أكثرنا أن تأخرنا بالمطالبة بالحرية هو ما جعل ثمنها باهظاً، كذلك للعام السادس أيضاً لا يزال النقاش قائماً بين مُطالب بالديمقراطية وآخر يراها كفراً وإلحاداً، لكنه لا يمتنع في الوقت ذاته عن اللجوء للغرب الديمقراطي والتنعّم بما يوفره من حقوق، أولها المساواة.
وتكمن المفارقة هنا أن أولئك الإسلاميين المعارضين لمفهوم الديمقراطية يتناسون أن دولة النبوة في المدينة المنورة كانت ديمقراطية بامتياز، وأن الإسلام قدم خطة متقدمة جداً في القضاء على نظرية الحق الإلهي للحاكم في الحكم، فالحاكم ليس خليفة الله المطلق في الأرض، وإنما {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}آل عمران 15، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}الشورى 38، ولا وجود لطبقة رجال دين تنصّب الملوك والخلفاء وتضفي الشرعية عليهم، والله تعالى لم يعط الحق لأحد من عباده أياً كان، بالتكلم نيابة عن الناس أو أن يفرض عليهم تبني موقف ما، ولا حتى الرسل أنفسهم {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}الأنعام 107، ومنذ عهد عثمان بن عفان “لا أخلع ثوباً ألبسنيه الله” وحتى اليوم ونحن نعيش تحت حكم من ألبسهم الله أثوابهم زوراً وبهتاناً.
ورغم أن التنزيل الحكيم لم يقدم “الحرية” كمفردة بحد ذاتها سوى بمعرض الحديث عن الرق، إلا أنه كرسها كقيمة عليا أساسية حمل الإنسان من خلالها المسؤولية، فهو حر في الاختيار بين الطاعة والمعصية، وبين الإيمان والكفر {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29)، وهو مسؤول عن حرية غيره بالاعتقاد {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة 256)، والاختلاف سنة الله في خلقه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118) ، والطموح أن يعم الإيمان الأرض أمر ميؤوس منه فهو ضد قوانين الجدل، والإيمان بالله يعرف بوجود الكفر، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما عرفنا الإيمان.
أما حرية الرأي فهي هبة من الله للناس، والمفروض أن الإنسان حر في إبداء رأيه ولا يحتاج في ذلك إذن من أحد، وهذا يقتضي وجوباً وجود رأي آخر، وحرية الإنسان في التعبير عن رأيه، لا تقاس بمقدار ما يعطيه لنفسه في هذا الحق، بل بمقدار ما يعطيه للطرف الآخر، وأساس الإنسان الحر هو إنسان ال “لا” وليس إنسان ال “نعم”{وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}الكهف 54، والجدل بين الرأي والرأي المضاد هو من أساسيات المنهج العلمي في العلوم الإنسانية، ويفترض أن تقوم بنية الدولة على هذا الأساس.
والإسلام أقر الشورى كمبدأ مطلق وكممارسة تاريخية، فنقرأ قوله تعالى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} الشورى 38، وهي آية مكية أي تسبق مرحلة بناء الدولة، فنجد أن الله قد وضع الشورى شرطاً موازياً لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، كجزء أساسي من الاستجابة لرب العالمين، وبالتالي هي مبدأ راسخ من الناحية العقائدية البحتة، أما في المدينة فقد أتى قوله تعالى للنبي (ص) {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران 159، والشورى هنا ممارسة تاريخية طبقها النبي من خلال بنية مجتمعه، وطبقاً لكل حالة هو بصددها، أما كل ما روي من أحاديث نبوية متعلقة بأنماط الحكم وطاعة أولي الأمر واقتصار الحكم على جماعة دون أخرى، فهي أحاديث ملوية مرفوضة، لأنها تخالف الرسالة كعقيدة والنبوة كسلوك، وكل ما حدث بعد وفاة الرسول هو اجتهاد إنساني بحت له ظروفه الموضوعية.
واليوم إذا أردنا الالتزام عقائدياً بقوله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وممارسة {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} معتبرين أن “هم” في الآيتين هي “نحن” لا يهمنا كيف التزم الأسبقون بها، وإنما البحث عن كيفية تحويلها إلى فعل، فإذا آمنا أن مبدأ الشورى من أساسيات العقيدة الإسلامية وأنه النمط العلمي المتحضر الذي يبتعد بالإنسان عن المملكة الحيوانية، وجدنا الطريق إلى تغيير ما بأنفسنا، حيث من خلال ممارسة حرية الرأي تظهر المسؤولية التي حملها الإنسان دون غيره بنفخة الروح، أي علينا الإيمان أن الشورى ليست ترفاً فكرياً مرحلياً في حياة المؤمن، وإنما نمط حياة يكافح لتحقيقه له ولغيره، حتى لو كان هذا الغير مختلف بالعقيدة والرأي.
والمؤمن إذ يتبنى حرية الرأي والرأي الآخر، يتبنى بشكل مواز مرجعية معرفية وعرفية وأخلاقية تضمن سيره في الاتجاه الصحيح، دون إكراه.
فالمرجعية المعرفية تعلو سلطتها في المجتمع كلما زاد رقيه، وإذا اعتمد الإنسان على البينات والأدلة والحجج المنطقية زادت قدرته على إقناع الطرف الآخر، والمعرفة أسيرة أدواتها، وتطوير هذه الأدوات ضرورة للتقدم، والمجتمع الذي تسن قوانينه بناء على البحث العلمي والحقائق لا مانع للفرد فيه من احترام تلك القوانين والتشريعات.
كذلك فإن المرجعية العرفية تلعب دوراً في التأثير على رأي الفرد، والأعراف تختلف وفق المستوى الانتاجي والموقع الجغرافي والإرث التاريخي، لكن عليها أن تتطور، فما اتفق عليه الناس قبل مائة عام لا يمكن أن يبقى سائداً اليوم، وللأسف فإن مجتمعاتنا اعتادت تغليب العرف على الدين، فتحولت التقاليد إلى دين، مما أنتج أوجه عدة للإسلام، ما أنزل الله بها من سلطان، وأصبح كل من يخالف التقاليد حتى لو في مجتمعات أخرى هو عدو لنا، وأصبحت صورتنا أمام الناس أهم من صورتنا أمام الله، و”الحجاب” أحد الأمثلة التي تحول فيها العرف الاجتماعي إلى دين، وجرى ويجري تقييم أخلاق المرأة وعفتها بناءً عليه.
وللمجتمع مرجعية جمالية تشكل مع الأعراف جزءاً من تراث الشعوب، يحكمها مصطلح “يليق وما لا يليق”، يختلط خطأً أيضاً في مجتمعاتنا مع الحلال والحرام، فقد لا يليق برجل عجوز أن يلبس بنطال قصير أحمر في دمشق، لكنه يليق في باريس مثلاً، ويبقى حلالاً في المكانين.
أما المرجعية الأهم على الإطلاق في أساس قيام الشعوب وترابطها، فهي المرجعية الأخلاقية، وهي ما اتفق عليه أهل الأرض، واتفقت عليه الأديان جميعها، وبالنسبة للمسلمين المؤمنين برسالة محمد تلخصها الآيات: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الأنعام 151- 152، وإذا استنثنينا الوصية الأولى نجد أنها قانون إنساني عام للمؤمن والملحد، علماً أن تسلسل هذه الوصايا كما وردت في الآيتين أعلاه هو تسلسل تاريخي، لا من باب الأهمية، وقد تطورت تراكمياً ابتداءً من نوح وانتهاءً بالرسول (ص)، وهي مثل عليا لا يمكن فرضها بالقوانين على الناس ولا يتم الالتزام بها إلا من خلال التربية، وتمثل الوازع الذاتي للإنسان (الضمير)، ويمكن خرقها بسهولة إن لم تتحول إلى قيمة اجتماعية راسخة، وهي لا تحتاج لبينات في الدعوة إليها، لا دينية ولا علمية، ولا تخضع للرأي والرأي الآخر، ويفترض أنها موضع اتفاق الجميع، فالصدق فضيلة عند المؤمن والملحد، والغش بالمواصفات منبوذ لدى المسلم والبوذي والمجوسي والهندوسي.
وتختلف المرجعية الأخلاقية عن سابقاتها بأنها ثابتة لا تتغير ولا تخضع للتطور، فكلمة الحق يجب قولها في كل زمان ومكان {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} سابقاً ولاحقاً إلى أن تقوم الساعة.
وللأسف فنحن أبعد ما نكون عن الالتزام بهذه الفضائل، واختصرناها بفضيلة واحدة حصرناها بالمرأة دون الرجل وهي العفة، وجعلنا منها سيفاً مسلطاً على رؤوس النساء، فيما تقهقرت باقي القيم نزولاً، فلا يعنينا أن يشهد أحدهم زوراً قدر ما يعنينا زنى أخته مثلاً، فلا يبالي المجتمع بالأول بينما يلحق العار بالعائلة نتيجة لفعل الأخت لأجيال، وكأن الفاحشة عمل أحادي الجانب ترتكبه الأنثى فقط، وبينما لا يشعر العامل في مجتمعاتنا بأدنى تأنيب ضمير إن لم يتقن عمله، ينتقص هذا من شرف عامل ياباني أو ألماني.
ولم يقتصر تشويهنا للقيم على تبديل أولوياتها، بل تعداه ليدخل عليها أموراً تحت اسم الكبائر، لا علاقة لها بالفضائل من قريب أو بعيد، فأصبح عقوق الوالدين يساوي لعب النرد، ونقض العهد يساوي وشم الحواجب، والطامة الكبرى اعتبارنا الخلل في عقول الآخرين وأخلاقهم لا عقولنا، وبدل من أن يكون شعار الخوف من الله مقتصراً على حدود الله ومحرماته، أسقطناه على كل أمور حياتنا، فغدا قانوناً سلطوياً لا تربوياً، والسلطة لا تصنع أخلاقاً.
فإذا اعتمدت المرجعية الأخلاقية الإسلامية المذكورة أعلاه أساساً لأي دستور، فإن ذلك لا يتعارض نهائياً مع فصل الدين عن السلطة، آخذين بالاعتبار قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} الحج 17، أما اعتماد الشورى كمنهج حياة يقوم على احترام الرأي الآخر فلا يمكن أن يتجلى في يومنا هذا إلا من خلال الديمقراطية، شاء الإسلاميون ذلك أم أبوا.