العالمية في الإسلام
يعتبر كثيرون أن التنزيل الحكيم مجرد نص تاريخي عفا عليه الزمان، يصلح لتزيين رفوف المكتبات كبقية كتب التراث، فيما يعتقد كثيرون أيضاً أنه كتاب مقدس، لكن لا يمسه إلا المتطهرون، ويحمل إلى البيوت قبل سكنها، وتتلى آياته في مجالس العزاء، وفي رمضان، وتؤسس المعاهد لحفظه وتقدم الجوائز للحفظة، في تكريس لثقافة تجعل الفكر والفهم في آخر سلم اهتماماتها، وتولي أهمية للشكل لا للمضمون.
وللأسف كلا الفريقين لم ينصفا كتاب الله:
فالفريق الأول أغفل أنه كتاب يحمل صفات لا يحملها سواه، من ثبات النص مع حركة المحتوى، إضافة لما تجمعه آيات القرآن من دقة علمية مع جمالية التعبير، ووقع الفريق الثاني في مغالطة كبيرة، فاعتبر الكتاب عصي على الفهم، وفي أحسن الأحوال يمكن اعتماد تفسيرات السلف الصالح، فهم أقدر على فهمه، وبالتالي أخذ تفسير ابن كثير وغيره مكانة تكاد تكون أعلى من الكتاب نفسه، هذا ما عدا تصدر كتب البخاري ومسلم والشافعي لإرثنا الثقافي، لتشكل محتوياتها ديناً آخر، لا يشبه الإسلام الذي ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا بالإسم فقط، وينتج بالتالي واقعاً أليماً يساعد مع عوامل أخرى، على وضع “المسلمين” خارج التاريخ، ويعود بهم إلى القرن السابع الميلادي، ليتحجروا بظروفه ووفق أرضيته المعرفية، فحولوا كتاب الله من كتاب صالح لكل زمان ومكان، إلى كتاب يصلح للقرن السابع الميلادي فقط، فأعطوا برهاناً لمن يدعي أن الكتاب من تأليف محمد، فقدموه كتراث يصنعه الناس، وليس كتاب إلهي موحى من الله ويحمل طابع المطلق في المحتوى، والنسبية في الفهم الإنساني له.
فالتنزيل الحكيم نص مقدس، لا يمس ولا يحرف، وإنما يجري تأويله على مر العصور، وليس تراثاً، وإنما التراث هو فهم الناس النسبي له باختلاف الزمن، فتفاعل الناس في القرن الأول الهجري مع الكتاب هو التفاعل الأول، ويدخل ضمن التراث، ما عدا القيم والشعائر، فاللباس والطعام والشراب وأساليب الحياة هي تفاعل مع الشروط الموضوعية، قام به النبي (ص)، مشرعاً لعصره وفق مقتضيات ذلك العصر، وبقراءة أولى للتنزيل الحكيم، ودون أن يفسر القرآن الكريم، فآيات القرآن تحوي أنباء لم يكن يعلم تأويلها، ولا يمكن لأحد ادعاء ذلك، وإنما يظهر تأويلها تدريجياً مع تقدم العلوم والمعارف {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام 67)، ويبقى بعضها دون تأويل حتى قيام الساعة {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} (آل عمران 7).
وإذا أعطينا كتاب الله حقه من الدراسة والتمحيص، وقرأناه وفق أرضيتنا المعرفية، نجد فيه مصداقاً لقدسيته، إذ ليس مطلوباً منه الإجابة على كل تساؤلاتنا، لكنه يقدم نظرية متكاملة في المعرفة الإنسانية، ويقدم قصة الخلق والوجود الإنساني بما لا يتناقض مع آخر النظريات العلمية، كذلك من خلال القصص القرآني، يعطينا العبر التي تساعد على دراسة التاريخ ونشوء الأمم وزوالها.
وللأسف فنحن العرب المسلمون أبعد الناس عن الاستفادة من كتاب الله الذي أرسله بلغتنا، وعن العمل بما جاء فيه، واليوم وبعد أربعة عشر قرناً ونيف من الوحي، نتمتم عقب كل قراءة للفاتحة “صدق الله العظيم”، ونحن مقتنعون أن الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتم، فلا نبي ولا رسول بعد محمد (ص) {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب 40)، وأن الرسالة المحمدية جاءت لكل الناس في أصقاع الأرض، بكل قومياتهم وأعراقهم وألوانهم {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف 158)، لكننا رغم ذلك مسخنا هذه الرسالة، وأصبح واقعنا أبعد ما يكون عنها، ويحق لنا أن نسأل أين مصداقيتها، لا في مكة والقاهرة فقط بل في طوكيو وباريس ولوس أنجلوس أيضاً؟ ولا في القرن السابع الميلادي بل في القرن الحادي والعشرين؟ وأين الإسلام الذي ابتدأ بنوح وختم بمحمد؟ وهل ما يطبق اليوم هو الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين؟ بينما البحث عن الجواب ينطلق من فهم كتاب الله وتنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لنجد أنه يقدم لنا في ما يقدم ميثاقاً للعالمية يقوم على ثقة متبادلة بين الله تعالى والإنسان، فجعل الله الإنسان خليفة على الأرض، وعبر عن هذه الثقة مادياً من خلال نفخة الروح (المعرفة والتشريع) وحرية الاختيار (الأمانة)، فكرمه بذلك عن كثير من المخلوقات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء 70)، أما الإنسان فله أن يختار بملء إرادته الثقة بالله فيؤمن به ويلتزم بطاعته.
وهذه العلاقة الميثاقية بين الله والناس أغفلتها كتب التراث، فتم فرض منهج معرفي موضوع في القرون الثلاث الأولى، وخضع التشريع لمستلزمات ايديولوجية صارمة كبلته وجعلته متزمتاً، أما الحرية فلا وجود لها في أدبياتنا، والإنسان لا قضاء له في أعماله وهو مسير بحكم ما كتب له.
في حين أنه من خلال الميثاق تعهد الله سبحانه وتعالى كطرف أول بينه وبين الناس أن يرحمهم ويرزقهم ويغفر لهم ويتوب عليهم، ويجيب دعاءهم ويهديهم، وينصر مظلومهم، وطلب منهم أن يتعهدوا بالإيمان به إلهاً واحداً، وأن يؤمنوا باليوم الآخر، وأن يعملوا صالحاً.
والعمل الصالح مفتوح ومتطور إلى أن تقوم الساعة، أعطانا الله تعالى خطوطه العريضة، من خلال الصراط المستقيم، حيث حصر المحرمات بأربعة عشر تمثل حاكمية الله، لا يشاركه أحد فيها، إنما ترك لنا الاجتهاد ضمن تفصيلها، على ألا نتجاوز حدوده، وكل ذلك ضمن التزام طوعي لا إكراه فيه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256)
وعليه فإن بنود ميثاق العالمية هي:
- التسبيح هو شكل الوجود، فكل الأشياء العاقلة وغير العاقلة في حركتها الدائمة المتغيرة تنزه الله أن يكون مثلها {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الإسراء 44)
- الخلق كلهم عيال الله، مؤمنهم وكافرهم، وهم عباده وليسوا عبيده، يطيعونه ويعصونه بملء إرادتهم، وعليه فلكل إنسان الحق باعتناق أي دين أو ملة، أو تغييرهما، شريطة الالتزام بالوصايا والعمل الصالح.
- الحياة هبة من الله للناس جميعاً فلا تؤخذ إلا بحقها، وحقها هو النفس بالنفس كحد أعلى لعقوبة القتل أو الفساد في الأرض (جرائم ضد الإنسانية)، فالأساس في الدماء هو الحرام والحلال هو الاستثناء {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (الأنعام 151).
- الحرية هي الشكل الوحيد الذي تتجسد فيه عبادية الإنسان لله تعالى، تحقيقاً لقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56)، لا في إقامة الصلاة وصوم رمضان، فالعبادة كل أفعال الإنسان ضمن خياره الحر.
- الحرية هي كلمة الله التي سبقت لأهل الأرض جميعاً {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يونس 19) فالناس عباد الله في الدنيا، وعبيده يوم الحساب، والله لم يطلب العبودية لنفسه من أحد، وبموجب الأمانة التي حملها الإنسان، وتحقيقاً للعدل الإلهي، له الحق في اتخاذ قرارته طواعية، وإلا لفقدت أطروحة الثواب والعقاب معناها، علماً أن الحرية تسبق العدالة في سلم القيم.
- التطور والتغير سنة الله تعالى في الكون، والمجتمعات الإنسانية متطورة وتشريعاتها متغيرة، فالدين الإسلامي خضع للتراكم في القيم والتطور في التشريع واختلاف الشعائر، والثابت فيه هو وحدانية الله عز وجل.
- الدين الإسلامي، الذي يقوم على مسلمة الإيمان بالله واليوم الآخر هو دين عالمي شمولي، وهو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله للناس وخضع للتطور التراكمي على خط سير التاريخ، من نوح إلى محمد (ص)، وبالتالي ليس له علاقة بالجغرافيا ولا بسياسات الدول، وقوله تعالى {يا أيها الناس} يشمل كل سكان العالم بمختلف تقافاتهم وقومياتهم ومللهم.
- الحاكمية الإلهية هي المرجعية الأخلاقية للإنسانية جمعاء، وتمثل القيم الإنسانية الفطرية، وميزتها أن الإنسان يقبل بها قبول تسليم، فلا تخضع لاستفتاء أو لتصويت، سواء بر الوالدين أو عدم قتل النفس بغير حق أو اجتناب الفواحش والإحسان إلى اليتيم وعدم الغش في المواصفات وحفظ العهود، فكل هذه القيم إنسانية ومتفق عليها لدى كل الناس باختلاف مللهم وعقائدهم.
- القيم الإنسانية لا تحمل الصفة التشريعية، وفي جانبها العقائدي تخضع للاختيار (الإيمان بالله واليوم الآخر)
- التحريم من اختصاص الله وحده حصراً، وهو شمولي أبدي، والمحرمات الأساسية عددها أربعة عشر، عينية لا يقاس عليها.
- الشعائر من صلاة وصوم وزكاة وحج أمور شخصية لا علاقة لها ببنية أي دولة، وهي ليست من القيم الأخلاقية، وتدخل ضمن العلاقة الخاصة بين العبد وربه، والناس أحرار في ما يعتنقون.
- الجهاد في سبيل الله هو الدفاع عن الحرية الإنسانية، وهو جهاد مقدس مختلف الأوجه، ابتداءً من الكلمة وانتهاءً بالقتال، وهو نابع من عقيدة فردية يعبر من خلالها الإنسان عن التزامه بحريته وحرصه على الحفاظ عليها، وعلى الدفاع عن حريات الآخرين في حال تعرضها للانتهاك والتعدي من قبل الطغيان.
- يتم تقديم المساعدات المادية للمحتاجين في كل بقاع العالم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، وتوجهاتهم السياسية أو الفكرية أو العقائدية، ومن باب إنساني محض لا صلة له بأي حسابات أخرى. (مثال ذلك المتضررين من الحروب والكوارث الطبيعية).
وفي النهاية أقول، إن التنزيل الحكيم نص مقدس، يحمل صفة الحياة، والرسالة المحمدية رسالة عالمية، أتت بالرحمة للناس، لا بالكراهية والعنف، والله تعالى أرسل كتابه بلغتنا، فهل يمكننا السير إلى الأمام لنكون لائقين به بدل أن نسحب العالم إلى الوراء؟
(1) تعليقات
madjid-16
رائع