هل الدولة الإسلامية هي الحل؟
لعل أكثر الأطروحات رواجاً اليوم، أطروحة الدولة الإسلامية أوما شابهها، فشعوب بلدان الربيع العربي حلمت بالحرية، لكنها وجدت نفسها تصارع كل أنواع الاستبداد، وعندما أطاح بعضها بالحاكم الإله وجد نفسه تحت وطأة من يحكم باسم الإله، متحصناً بحجج وشعارات تسوغ له استعباد الناس، بمختلف مللهم وعقائدهم، حاملاً راية دين الإسلام.
فهل يمكن لدولة إسلامية أن تقدم حلاً ؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد لنا من تعريف معنى “دين الإسلام”، فكلمة “الدين” جاءت من الأصل “دين” وهو جنس من الانقياد الطوعي بدون إكراه بالتقيد بالقيم والشعائر ، والطاعة جاءت من الطوعية والمعنى المضاد لها هو الإكراه، فالدين الطاعة، والدَّين فيه طاعة المدين للدائن مقابل أخذ وعطاء، و”دين” بالمعنى الإسلامي هو ما دان به الإنسان لله في الخروج من المملكة الحيوانية وما لزم به طاعته، وهو نفخة الروح، ومن جراء هذا العطاء من الله للإنسان تطور الإنسان وأصبح له مدنية، وتعرف على قوانين الوجود تدريجياً، أما كلمة “الإسلام” فهي من الأصل الصحيح “سلم” ومعظم بابه الصحة والعافية، وسلامة الإنسان أن يسلم من الأذى، والله هو السلام لسلامته من النقائص والعيوب.
ومن هنا “الدين الإسلامي” هو الدين الخالص من العيوب، وهو دين سهل الانقياد ولا يوجد فيه عنت ولا تحجر، وليس كما يفهمه البعض أنه الاستسلام لله، فالله طلب أن نسلم له لا أن نستسلم دون قيد أو شرط.
وإذا قرأنا قوله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران 85) تبادر إلى أذهاننا ما درسناه في فقهنا الموروث، من أن كل هؤلاء الناس في الكرة الأرضية، ممن سبقونا وممن سيتبعونا، من غير المسلمين، سيجدون ما عملوا من عملٍ صالحٍ هباءً منثورا، سواء مارتن لوثر كينغ أم ماري كوري أم نلسون مانديلا، أم غيرهم من الملايين عبر التاريخ.
لكن من يقرأ التنزيل الحكيم يجد أن الإسلام بدأ بنوح {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس 72)، وختم بمحمد (ص)، مروراً بإبراهيم {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران 67) ويعقوب وموسى وعيسى {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران 52)، وأنه هو الدين السماوي الوحيد الذي عرفته الإنسانية وجاء به الرسل على اختلاف رسالاتهم، وخضع للتطور والتراكم المعرفي والانتاجي عند الإنسان، فبدأ التوحيد مشخصاً، ثم تطور إلى مجرد، وبدأت القيم ب {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح 28) إلى أن أصبحت تشمل مختلف نواحي الحياة، والإسلام متقدم على الإيمان وسابقاً له، وأركان الإسلام في كتاب الله هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، بينما أركان الإسلام التي نعرفها (بني الإسلام على خمس—) هي أركان الإيمان بالرسالة المحمدية تحديداً، فقول الصدق وعدم الغش من أركان الإسلام، بينما الصيام من أركان الإيمان، إلا أن كتب الأصول الإسلامية شاءت أن تضع أركان الإيمان على أنها أركان الإسلام، وبهذا صار أتباع الملة المحمدية هم المسلمون فقط، وصارت الأركان خالية من القيم والأخلاق.
فإذا قرأنا قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) علمنا أن الإسلام يشمل معظم أهل الأرض، علماً أن “الصابئين” هم من صبأ عن الملل الثلاث، حيث المقصود ب “الذين آمنوا” هنا المؤمنون بمحمد، وكانت العرب تقول “صبأ فلان” أي خرج عن دين الآباء.
ومن خلال هذا المعنى الشامل، يمكننا أن نفهم قوله تعالى {من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}
والدين الإسلامي منسجم مع الفطرة الإنسانية، فالمحرمات فيه أربعة عشر فقط لا غير، مغلقة ومحصورة وأبدية، ولا تتعارض مع قوانين دول العالم، حيث لا توجد دولة تدعو لعقوق الوالدين أو لقتل النفس أو لظلم الأيتام أو للزنا أو للغش في المواصفات، والشرائع في الإسلام حدودية وليست حدية (عدا عقوبة الزنا العلني)، وعقوبة الإعدام هي حد أعلى للقتل العمد أو لأعمال ترويع الناس تحت تهديد السلاح، ويمكن للقانون تخفيفها بما يتناسب مع المجتمع، ونظرية الحدود هذه في التشريع، والتي قدمتها الرسالة المحمدية، هي أساس التشريع في كل بلاد العالم وفي كل المجالات، كالعمل والضرائب والأجور وقوانين السير وقوانين البناء وغيرها.
وميزة التنزيل الحكيم هي ثبات النص مع حركة المحتوى، وكون الرسالة المحمدية هي الخاتم، فالله تعالى أعلن فيها عن إكمال الدين وإتمام النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة 3)، وترك للإنسانية باب الاجتهاد في مجال الحلال، والحركة ضمن الحدود بما يناسب الزمان والمكان، وهذا ما فعله النبي والخلفاء من بعده، والخطأ الذي حصل هو تثبيت اجتهادات النبي والفقهاء باعتبارها دين، وهي لا تتعدى كونها اجتهادات سياسية من باب تنظيم الحلال، وينظر إليها بعين التاريخ فقط، وإلا لأصبح الدين الإسلامي متجاوزاً تاريخياً، وهذا غير صحيح، فعالمية الرسالة المحمدية موجودة اليوم في كل بلاد العالم، ومطبقة من موناكو إلى الصين، سواء علم الناس فيها ذلك أم لم يعلموا، تصديقاً لقوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم 30)
ونقرأ قوله تعالى {لا إكراه في الدين} (البقرة 256) ونفهم أن الدين لا يملك أداة الإكراه، بل نحن نقبل عليه طواعية، مدفوعين بسلطة الضمير فقط، فالدين يملك سلطة الضمير بينما تملك الدولة سلطة الإكراه، ومهمة الدين هي إرسال الناس إلى الجنة وإبعادهم عن النار بملء إرادتهم، وليست مهمة الدولة، والحرية هي كلمة الله التي سبقت لكل أهل الأرض {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف 29) والأمانة التي حملها الإنسان هي حرية الطاعة والمعصية بنفس الدرجة، وبالتالي المسؤولية عن أعماله أمام الله، مع مسؤوليته أيضاً عن إعلاء كلمة الله في الحرية لجميع الناس، المؤمن والملحد على حد سواء، وطالما أن الثواب والعقاب بيد الله فلا يحق لأي سلطة مهما كانت أن تتدخل في الحياة الشخصية للأفراد، ومن ثم فإن أي أدلجة للدين تجعل منه أداة للطغيان، وبالتالي يجب الفصل تماماً بين الدين والسلطة، والعلاقة بينهما تتمثل فقط في أن الدين يمثل المرجعية الأخلاقية للدولة والشعب معاً، بينما تتكفل السلطة بمهمة البنية الهيكلية للدولة وتنظيم الأمور الدنيوية فيها، بما يضمن حرية وحقوق كل أفرادها.
وبالتالي إن أطروحة “الدولة الإسلامية” أو “تطبيق الشريعة”، تحمل مفهوماً تاريخياً مغلوطاً ومتجاوزاً، وغير قابل للتطبيق حالياً، وقد يقول قائل: وماذا عن دولة النبوة؟ نقول أن الرسول (ص) حين أقام دولته أقامها من مقام النبوة وليس من مقام الرسالة، متبعاً التعليمات التي أتته كنبي، ومجتهداً في الحكم بما يقتضيه عصره ومجتمعه، ومخاطباً معاصريه وفق مدركاتهم المعرفية ومشاكلهم وظروفهم البيئية، ولم يخطر في باله أن من سيأتي بعد أربعة عشر قرناً سيتبع خطواته، سواءً بتحريم سفر المرأة بدون محرم أم بعدم أكل البصل والثوم أو نمص الحواجب للمرأة.
وإذا أرادت أي دولة تطبيق الإسلام، كل ما عليها هو وضع “القيم الإسلامية كمرجعية أخلاقية للدولة والمجتمع” كبند أساسي في الدستور، بدلاً من بند “الإسلام دين الدولة” الذي يحمل الكثير من المغالطات، وبالتالي يصبح كل أمر خاضع للتصويت، ما عدا المحرمات وحرية الاختيار.