في رحيل المفكر السوري محمد شحرور رائد القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم – عادل عصمت

في رحيل المفكر السوري محمد شحرور رائد القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم – عادل عصمت

  • كان سهلاً عليه أن يردد كما عاشوا يرددون، وأن يعيد كما لم يملوا يعيدون، وأن يجتر دون إدراك، كما يجترون، وأن ينقل عن الموتى ما ينقلون، وأن يعاود تقديم القديم وترديد السائد والمألوف والذي وجدنا عليه آباءنا، كما يرتاحون ويفضلون ويستسهلون.
  • لكنه رفض أن يلغي عقله، وأن يرتاح ويتحلل من حمل وعناء البحث والمراجعة والتحري والتدقيق والفحص والفرز والتصنيف واليقظة والدقة والنقد وإعمال العقل وسهر الليالي وعناء رحلة البحث التي قاربت ٥٠ عاماً.
  • استقبح نقل آراء الموتى وترديد السائد والمألوف وما قالوه، وأن يظل يردد كالببغاء آراء غيره من الموتى، وأن يعاود عرض القديم، وألا ينفك عن حدود فهم وإدراك ناس القرن الثاني الهجري وعلمائه ومفكريه، وأن يعمل كناقل لما سطره الأولون في كتب التراث التي تجاوزها الواقع تماماً.
  • قرر أن يتجاوز كل ما قدم من فهم بشري، وأن ينطلق من موقف محض حداثي يتأسس على الانقطاع الجذري مع ما قيل وما أنتجه عقل ووعي وإدراك القرن الثاني الهجري، وأن يمسك بالكتاب وكأن الرسول قد مات بالأمس وتركه ولم يحدث له أي تفسير أو تأويل أو شرح أو بيان.
  • أدرك أن عرب القرن الثاني فهموا الكتاب وفسروه وفقاً لأرضيتهم المعرفية المحدودة وحدود زمنهم البسيطة، وأن عليه أن يقوم بالمهمة وأن يحاول أن يفهم من جديد بعيداً عن فهم من فهموا وبعيداً عن رأى من رأوا وبعيداً عن تصورات وأقوال من قالوا قبله، ليقدم لنا قراءة ثانية معاصرة مختلفة تماماً بعد تلك القراءة الأولى التي تسيدت طوال ١٢ قرناً حتى تحولت إلى دين مقدس يرفض الكثيرون الاختلاف معه!!!
  • رفض إلا أن يعمل عقله وأن يتحمل ثقل المهمة وثقل المسئولية، وأن يجهد نفسه بالبحث والتحري وتحملت وعثاء السفر وإعادة القراءة.
  • رفض تقديس آراء الموتى واجتهاداتهم، وقرر على الفور أن ينقطع تماماً مع القديم، وأن ينقطع مع كلام الموتى وإفهامهم واجتهاداتهم، وأن يتركها بكل احترام وتقدير لزمانها هناك في متحف التاريخ.
  • راح رائد القراءة المعاصرة المفكر السوري محمد شحرور يغرق في البحث ويقدم الجديد والدقيق والحاذق والعلمي.
  • اعتمد منهج تفسير القرآن من داخله واحترم نظامه المعرفي ودقته المفرطة، لاحظ استخدامه الفريد للألفاظ وتوظيفه في سياقات ومعان مختلفة عن استخدامنا البشري المحدود والقاصر.
  • راح يبحث عن معنى اللفظ في المقصود الإلهي لا في العقل البشري وعند الناس.
  • وأمسك «شحرور» بيديه مفاتيح الكتاب وقواعد التعامل العلمي الحاذق وفي مقدمتها «اللا ترادف» و«الترتيل» وجعل جميع الآيات التي ورد بها اللفظ في طول القرآن رتلا (طابوراً) وأكد أهمية السياق والنظم واهتم به بشدة، ورفض الاستقسام ورفض فكرة الحروف الزائدة وسار وفق قاعدة أنه كلما زاد المبنى زاد المعنى ورفض فكره الناسخ والمنسوخ مؤكداً عدم إلغاء أي آية من آيات الله، حيث أكد أن لكل آية مدارها الذي تعمل به ووضع الخطوات والمنهج العلمي في التعامل مع الآيات وفي مقدمتها مبدأ اللا ترادف الذي تفرد به فتعامل مع ألفاظ القرآن وبأن لكل لفظ معنى مختلف عن الآخر ينفرد به ويتفرد، فالكتاب ليس هو القرآن، والقرآن ليس هو الفرقان، والإسلام ليس هو الإيمان، والنبي غير الرسول، والذكر غير الولد، والفقراء ليسوا هم المساكين، والبلاغ غير الإبلاغ، والروح ليست هي النفس، والعرش ليس هو الكرسي، والهبوط لا يعني النزول، والعدل غير القسط، والوفاة غير الموت، وجاء غير أتى، والأب ليس بالضرورة هو الوالد، والعام غير السنة، والخبر غير النبأ، وأهل الكتاب غير المشركين غير الكفار غير المجرمين، الصيام غير الصوم، والصلاة غير الصلوة، والشاهد غير الشهيد، والزوج غير البعل، والعبادة غير الاستعانة، وفرق بين القسط والعدل، وكلام الله وكلماته، الفدية والكفارة، الذنب والسيئة، العباد والعبيد، القضاء والقدر، والقلب والفؤاد، القنوت والقنوط.
  • كما قام «شحرور» لأول مرة تاريخياً بتقسيم محتويات الكتاب التي جاءت في ٦٢٣٦ آية هي “مجمل التنزيل الحكيم” إلى أربعة محتويات أساسية منفصلة هي:
    • القرآن، وهو أكبر جزء وهو الذي سمى به الكتاب كله، وهي مجموعة القصص النبوي، وقصة خلق الإنسان والكون والتي جاءت حسب القرآن لتصديق ألوهية الرسالة.
    • الرسالة المحمدية

وهي صغيرة الحجم في عدد آليات وهي مجموعة الشعائر والمحرمات والأحكام التي وردت للمحمديين فقط.

    • السبع المثاني المعجزة وهي أصغر ما جاء بالكتاب في عدد الآيات ٧ آيات فقط:

١ – الم، ٢ – المص، ٣ – كهيعص، ٤ – يس، ٥ – طه، ٦ – طسم، ٧ – حم.

  • قصة النبي محمد وقومه وهي جملة الآيات التي جاءت بصيغة يا أيها النبي وتحدثت عنه وعن زمنه وقومه.

 

  • كما أكد على أن القرآن (قرن) بين آيات وردت من مخزنين ربانيين وهما اللوح المحفوظ والإمام المبين، ولذلك سمى قرآنا.
  • كما قام لأول مرة تاريخياً بمحاولة تصنيف آيات الكتاب، فآيات الدين غير آيات التاريخ، وآيات الدين غير آيات الشريعة، والآيات المحكمات غير آيات تفسير المحكم، غير آيات وصف الكتاب، وآيات الرسالة غير آيات النبوة والتي وردت من مقام النبوة ولم ترد من مقام الرسالة، وآيات القرآن غير آيات الرسالة ايضا، غير آيات قصة النبي محمد وقومه، غير السبع المثاني المعجزة، وآيات اللوح المحفوظ الذي يحوي أسرار خلق الكون وخلق الإنسان، غير الآيات التي نزلت من الإمام المبين الذي يخزن فيه كل تصرفات البشر كالقصص النبوي، وقال بأن الكتاب جزئين جزء مخزن نزل من مخزنين ربانيين (اللوح المحفوظ) و(الإمام المبين) وجزء نزل مباشراً وقتها وهو الرسالة المحمدية.
  • فرق بين محرمات الإسلام العام (الدين) الذي جاء لكل البشر من نوح إلى محمد، ومحرمات الإيمان بالشريعة المحمدية الأخيرة والخاتمة وبين الدين والشريعة وبين الدين والفقه وبين ما هو تاريخي في كتاب الله وما هو ديني فيه.
  • كما فرق «شحرور» بين السنة النبوية، التي هي عادات وتقاليد وثقافة قوم النبي وزمانه وبين السنة الرسولية التي هي دين.
  • فرق «شحرور» بين استخدام الله للغة واستخدامنا نحن البشر المحدود للغة، كما فرق بين معاني الألفاظ في لسان العرب ومعجمهم وبين معاني الألفاظ في الاستخدام والتوظيف الإلهي.
  • قدم « شحرور» الدين في بساطة ويسر وحدد معنى الصراط المستقيم ومعنى الحكمة من قلب القرآن وحدد محرمات الدين كما احتواها الكتاب ورفض أن تزاد محرما واحداً وأقصر وظيفه التحريم على الله وحده، كما رفض أن يكون النسخ بمعنى الإلغاء في الشريعة الواحدة وأنه كان يحدث من شريعة إلى أخرى وفرق بين البشر والإنسان، بين الخلق والجعل، وبين محمد النبي ومحمد الرسول، بين مقام النبوة ومقام الرسالة بين الصلاة والصلة بين الشعائر والشرائع، وقال إن جنة آدم وفقا للقرآن كانت على الأرض.
  • قال إن السنين أيام نوح كانت قصيرة للغاية وأن الفاتحة ليست هي السبع المثاني كما فهم ناس القرن الثاني، وأن الصراط المستقيم ليس طريقاً رفيعا كحد السيف نمشي عليه يوم القيامة، وأن لفظ الحكمة في القرآن لا يعني أحاديث النبي، فرق بين أهل الكتاب والمشركين والذين كفروا والذين كفروا من أهل الكتاب، قدم فقها حديثاً للمرأة في لباسها وفي ميراثها وفي زينتها وفي حقها في القوامة، ووضع التعددية الزوجية في إطارها الحصري كرخصة للأقساط في اليتامى، وأفرد كتاباً كاملاً لمصطلح الحاكمية لله الذي تم توظيفه من قبل الإرهابيين.
  • أمطرنا بالجديد واتحفنا بالوافد وفتح طريقا ثرياً للبحث والتفسير ووضع طريقاً جديداً للتعامل بعلم واحترام ودقة مع آيات التنزيل الحكيم.
  • قدم «شحرور» تفسيراً رياضياً رائعاً علمياً محكماً لأول مرة لقوانين المواريث الإلهية، فهو أستاذ الهندسة وعالم الرياضيات الحديثة، وأكد على (فرض) الوصي، وقال إنها الأساس في توزيع التركة الشخصية وأن قوانين الميراث للمتوفى ولم يترك وصية.
  • احترم «شحرور» دقة الكتاب والتفت إلى إعجازه ودقته الحصرية، وأنه غير أي كتاب بالعربية رفض الترادف والاستقسام وأنزله منزلة تليق به، عرف قدره الصانع فقدر المصنوع أعطاه مكانته، ففتح الله عليه أبواباً من المعرفة وغمره بالكثير والكثير وغمره بالكنوز الوفيرة والمياه الدافقة فأتى لنا بخير كثير وفيض لن ينضب أو يجف، ثراء بلا حدود ونهر دافق منبسط بلا ضفاف غطى به يابسة المعرفة القرآنية التي تجمدت طوال قرون وجف عرقها وأصفرت راحاتها وتشققت أرضها.
  • أطلق «شحرور» سراح الكتاب الرباني من بين أيديهم، بعد أن خطف قروناً طويلة وبعد أن أغرقوه في محلية مقيتة وصبغوه بألوانهم وألبسوه مفاهيمهم، فإذا به يطلقه إلى عالمية وكونية رحبة تليق بطبيعته، وأسقط الرافعة النصية للإرهاب وقدم الإسلام في عالميته كما قدم الرسالة المحمدية في إطار يتجاوز الثقافات المحلية وقدمها في إطار إنساني عالمي وليس عربياً محلياً.
  • سيبقى أجمل ما صنعه «شحرور» أنه تجاوز عن فهم سابقيه وعن بضاعتهم وعرض ما لديه من بضاعة، ولم يضع وقته في معارك وهمية مع عبدة التراث ومقدسي آراء الموتى ورافعي رايات الجمود ورائدي العقم، ولم يشغل نفسه بما قالوا، احترم التراث لكنه لم يقل به.
  • تحياتي لاستراتيجيتك المعرفية ولمشروعك الفكري كله وما قدمت يا رجل حتى لو اختلفنا معك في أي شيء.
  • بالغ تحياتي لك وتقديري لكل رحلتك البحثية الثرية وما قدمت من جهد وفكر ومراجعات ولما أنتجت من معرفه أنرت بها عقول أمثالنا وأطلقت سراح كتاب الله عشت مع القرآن وقلت ما فهمت وعبرت عنه وفتحت أبواباً عديدة للباحثين وذهبت إلى ربك راضياً مرضياً.
  • لقد قرأنا وتابعنا كل ما أنتج عقلك وما سطرت يداك دكتور محمد وما أبديت أيضا من ملاحظات دقيقة ومراجعات للسائد والمألوف والذي وجدنا عليه آباءنا.
  • لقد نجح طبعا «شحرور» في تقديم مشروع متكامل لقراءة معاصرة للكتاب بلا أدنى شك أو ريب ولا أخشى عليه إلا من حسد العلماء وغيرة المثقفين وأمراض الذات، أما عبدة التراث ووثنيو المعرفة ورواد التفكير والجهلاء فلن يستطيعوا النيل من علم الرجل ولن يطالوه فهو عصي على إدراكهم حيث لن تسعه عقولهم الضامرة الخربة.
  • نجح «شحرور» في أن يقدم الجديد الوافد وأن يجيب عن أسئلة عديدة فشل فيها غيره وأن يترك بصمته على الفكر الإسلامي كله بعد أن ضربه الجمود والركود والتكرار والعفن طوال قرون مضت.
  • ولسوف يبقى «شحرور» رائداً للقراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم، وسيبقى التفسير البشري للقرآن يؤرخ له، بما قبل شحرور وما بعد شحرور.
  • لقد أمتعنا الرجل وقدم ما عجز غيره عن تقديمه وترك ثروة فكرية في ١٠ كتب تثرى المكتبة العربية الإسلامية يأتي في مقدمتها مشروعه الكبير وكتابه الأول العمدة «الكتاب والقرآن» في طبعة جديدة منقحة ومدققة، بعد مرور ٢٠ على طبعته الأولى في العام ٩٠.
  • ويبقى طلبه وأمنيته أن يقوم أحدنا بتجميع المحكم كل المحكم من الكتاب وفصله عن غير المحكم، ثم تجميع كل الآيات الخاصة بتفصيل كل محكم على حدة ووضعه خلف كل محكم، كما يبقى أن نقوم باستكمال ما بدأه في آخر كتبه وهو معجم معاني مصطلحات القرآن ويبقى أيضاً أن نقوم بترتيل لكل ألفاظ القرآن، كي نصل إلى المقصود الإلهي لمعاني كل لفظ على حدة في المقصود الإلهي، كما يبقى ما طرحه بخصوص تنظيم شعيرة الحج العالمية، يفتح آفقاً جديدة لتنظيم أداء هذه الشعيرة لكل من استطاع إليها سبيلاً.

عادل عصمت

https://www.albawabhnews.com/3848788?fbclid=IwAR1tifWOiTiBmlnfh2-97vfZeGrj3h_sY12XD1w-OUmsdEk1oNPuw30FHJc

اترك تعليقاً