محمد شحرور.. عندما يتحول الرحيل إلى بداية – عادل عصمت

محمد شحرور.. عندما يتحول الرحيل إلى بداية – عادل عصمت

– هل غيب الموت «شحرور» أم أكد حضوره؟!

– وهل كان رحيله كغيره مُسطراً للنهاية أم مكرساً لبداية جديدة؟!

– وهل يرحل المفكرون والمبدعون كما يرحل غيرهم؟!

– وهل ينتهي وجودهم بالموت كغيرهم أم أن الموت لا ينال من أفكارهم ومن كتبهم ومن إبداعهم ومن تركتهم وما تركوه لغيرهم،

– فبينما يكون الموت نهاية محققة للبعض، يكون الموت بداية للمفكرين حيث قد تلفت نهايتهم جديداً من القراء والباحثين والمشتاقين والعطاشى للمعرفة وللجديد، فتتحول النهاية إلى محض بداية جديدة لانتشار ما سطرت أيديهم وما أنتجت عقولهم من مشاريع فكرية.

– فمثل الدكتور محمد شحرور الذي ترك مشروعاً هائلاً وثرياً، أثرى المكتبة العربية والثقافة الإسلامية بخير كثير وجديد كثير لا يمكن أن يكون موته بداية رحيل أبداً.

– كنت أعلم أن الرجل سيرحل طبعاً كغيره من البشر، لكني كنت متيقناً من عدم رحيله أيضاً، فمثل شحرور لا يرحلون وتبقى أفكارهم وكتبهم وتلاميذهم ينقلون ويتناقلون، أجيالا وأجيالا ما ترك الرجل من تركة ثقافية ومعرفية ستبقى جديدة لقرون قادمة، وستكون بداية لبدايات وبدايات، فقد فتح الرجل طريقاً لا يؤذن بانتهاء لثراء قرآني دافق ولثراء معجز للتنزيل الحكيم لن يتوقف عطاؤه، ولسوف يفتح آفاقا رحبة للباحثين والمشغولين بدقة القرآن الكريم وإعجازه اللفظي الهائل الذي جعل للغة العربية ثراء غير مسبوق عندما تعمل «شحرور» مع مفرداتها رافضاً الترادف وطارحاً (اللا ترادف) أساساً للتعامل مع لغة القرآن حتى صرنا أمام حدود معرفية صارمة ومختلفة ومحددة ومغايرة لكل لفظ من ألفاظ الكتاب!!

– وبعيداً عن المشروع الفكري الفريد والمتفرد الذي قدمه الرجل على مدى ٥٠ عاماً كاملة في ١٠ كتب منشورة، نشرتها دار الساقي اللبنانية التي اهتمت بما أنتج الرجل من أول لحظة وهو ما يحمد لها طبعاً، بعيداً عن ذلك فإن «شحرور» سيظل أنموذجاً فريداً للباحثين ومثالاً يحتذى للدارسين والكتاب والمبدعين وكل رواد القلم، فلقد عكف الرجل على بحثه ٥٠ عاما ً كاملة دون كلل أو ملل أو قنوط أو يأس أو ضجر أو ضيق وانكب على مهمته في جدية وصرامة بلا حدود، تلفت النظر، وهي محط إعجاب وتقدير لكل من تابع مشوار الرجل.

– ويلفت النظر بشدة أن الرجل بدأ من الصفر، ولم يبدأ من حيث انتهى غيره، فشحرور كان بداية طريق جديد لم يمش فيه غيره لم يسر فيه أحد، ولم يعرفه أحد قبله، ولم يمهده أحد غيره، ولم تطأه أقدام سابقة عليه.

– بدأ الرجل من الصفر كحال أي مثقف محايد متجرد وكحال أي مثقف طبيعي، حيث ظل كل المتعاملين مع العربية يتعاملون معها وفق قاعدة (الترادف) والمترادفات والحروف الذائدة، والحروف المحذوفة.

– حتى جاء «شحرور» فتعامل معها وفق قاعده (اللا ترادف) الصارمة والدقيقة للغاية ووفق قاعدة أنه لا توجد حروف محذوفة ولا حروف زائدة في لغة القرآن الكريم.

– تعامل الرجل وفق قاعدة «أنه كلما زاد المبنى زاد المعني»، وأن لكل لفظ معنى مستقلا عن الآخر، ومدلولا مستقلا عن الآخر، كما أعطى شحرور الأهمية وردها بشدة للسياق والنظم في كل مرة والذي جاء ضمنه اللفظ واستخدم، حيث رد الفضل للسياق في الوصول إلى المعنى الجديد للفظ في كل مرة.

– ورفض شحرور «الاستقسام» في التعامل مع آيات التنزيل الحكيم، فمع شحرور لا بد وأن تأتي بالآية من بدايتها وبموضوع الآية من أوله ولا يجوز أن تخرجها أو تحاول فهمها مجتزئة من سياقها العام الذي جاءت ضمنه.

– كان شحرور حريصاً دائماً على نزع البداهة تماماً، كما كان حريصاً على الأشكلة، وطرح الأسئلة وإعمال العقل وتجاهل النقل ونبذه ورفضه وتجاوزه، كما كان حريصاً على البعد والابتعاد عن السائد والمألوف وتنحيته تماماً وتجاوز عن الموروث وانطلق من انقطاع تام مع التراث والذي وجدنا عليه آباءنا، وصار الرجل وحيداً في طريقه الذي رسمه بيديه، فتحه بنفسه وشقه بيديه وعبده وشجره بمجهوده وعرقه وحروف كلماته وبنات أفكاره وأطروحاته، وتركه للعالمين ليسروا في رحابه وليكتشفوا الجديد والجديد وليستمتعوا بالسير في رحابه الوارفة وفي ظله الظليل، فلقد فتح الطريق طرقاً لا تأذن بنهاية وأفضى إلى دروب لم تطأها أقدام بشر وفتح محاور جديدة للبحث والسير والوصول إلى الجديد والمختلف دون نهاية ودون آخر.

– ومن اللافت للنظر أن شحرور كباحث ومفكر ومنتج للمعرفة لم يلتفت يوماً لأحد من لاعنيه أو شاتميه أو من تطاولوا عليه أو من تسافلوا عليه، وكأنه لم يكن يراهم أو يسمعهم أو يعبأ بهم، كان باحثاً لا يعرف غير الجد والصرامة والدقة في بحثه والانشغال بمهمته ومشروعه وبالعكوف والانكباب على بحثه، ولم ينجح أحد في جره بعيداً عن بحثه وعن مهمته التي عكف على إنجازها طوال خمسة عقود، وهذا عجيب ولافت للنظر حيث يقع معظم مثقفينا في فخ الصراعات الفكرية والتنابذ والتناحر الذي قد ينزلق إلى دروب التناول الشخصي بعيداً عن الموضوع، وهو بعد لافت للغاية في شخص الدكتور محمد شحرور.

فلم أسمعه يوماً يرد على متحرش به ولم يسجل عليه أنه التفت لخصومه أو رد عليهم، ولم أجده يوماً عابئاً بمن سبوه أو قذفوه

ولم أسجل عليه مرة أنه أنجر إلى الشخصي أو راح يرد أو ينتقم من رافضيه أو لاعنيه!!

– وسيبقى «شحرور» أنموذجاً فريداً ومتفرداً للباحث الذي لا يخجل من مراجعة طرحه ومن إعلان خطأه ومن تصحيح أفكاره، فقد طرح «شحرور» تصويبات عديدة وجذرية للطبعة الأولى لكتابه العمدة «الكتاب والقرآن» والتي صدرت في العام ٩٠ وأعاد إصدارها بعد أكثر من ٢٠ عاماً كاملة بعد أن غير رأيه وصوب فكره وضبط مسيرته في طبعة منقحة ومختلفة في العام ٢٠١١.

– وما يلفت نظر أي متابع لمشروع «شحرور» أنه قدم مشروعاً لغوياً مدهشاً يعجز عن تقديمه أهل التخصص والعلم في اللغة العربية وهو أستاذ الهندسة المدنية ودكتوراه الهندسة من بلاد الإنجليز، ورجل غرق في بداية حياته وحتى حصوله على الدكتوراه في علم الرياضيات وفي فرع الهندسة المدنية منه، حيث أضاف شحرور للعربية الكثير والمثير، ووضع حدوداً معرفية لبعض مصطلحات العربية وألفاظها بشكل بديع، وحاول أن يسجل الفروقات الهائلة بين ما كنا نتعامل معه على طوال قرون مضت على أنه متطابق ومترادف.

– لقد ألغى الرجل تراخي المسافات في العقل العربي اللغوي، وضبط معاني الألفاظ بدقة متناهية ووضع الحدود المعرفية والابوستمولوجية لبعضها بشكل بديع وسيبقى فضل الرجل على اللغة وعلى الثقافة العربية وعلى العقل العربي يخلد اسمه ويؤكد بصمته ودوره.

– لقد أعلى «شحرور» من قيمة الحرية وارتكز عليها وانطلق منها وهو يقدم قراءته المعاصرة للنص المقدس، وهي قيمة مهملة ومتروكة في ثقافتنا.

رد «شحرور» الاعتبار للحرية الفردية وجعلها الأساس الذي يفهم منه التنزيل الحكيم، كما رد الاعتبار للعقل في فهم النص القرآني ولأعمال العقل مع النص.

– ركز «شحرور» على سؤال المنهج المتعلق بضرورة بناء أرضية معرفية صلبة ومتينة للتعامل مع التنزيل الحكيم، كما ركز على أهمية المنهجية في التعاطي مع القرآن الكريم وأن مسألة الإصلاح الديني لا بد وألا تنطلق من فراغ وأنه لا بد أن تتأسس أولاً وقبلاً على أرضية منهجية علمية ونظرية معرفية منضبطة وخطوات علمية مدروسة في التعامل مع آيات التنزيل الحكيم.

– نجح شحرور في وضع نظرية معرفية منضبطة وعلمية، كما استحدث منهجية صارمة وحاذقة ومرتبة في التفسير وفي محاولة الوصول إلى مفهوم النص ومحاولة فهم مراميه ومقاصده.

– تجاوز «شحرور» عن معنى الألفاظ والكلمات في استخدامنا البشري العاجز والمحدود والبسيط والعقيم ومعنى اللفظ في لسان العرب ومعجمهم وراح المفكر يبحث في مقصود اللفظ الإلهي ومراميه الربانية، وفق منهجية علمية حاذقة وفريدة تتأسس على طريقة (الترتيل) عبر المصحف لكل الآيات التي ورد بها نفس اللفظ أي جعلها رتلا (طابورا) والإتيان بها وتجميعها من كل المصحف والبحث والالتفات بشدة إلى السياقات المختلفة التي جاء وورد بها اللفظ، والتي حملت اللفظ الواحد في كل مرة بمعان مختلفة جديدة لم يكن يحتملها ولم يكن يعبر عنها من قبل أبداً ولم يحملها ولم يستخدم يوماً بها في لساننا البشري العاجز والقاصر وفي لغتنا العربية، فخرج لنا الرجل بثراء عظيم في المعاني، لم تألفه معاني الألفاظ لدينا من قبل وسجل بنجاح باهر إعجاز القرآن الكريم وقدرته التصورية واللفظية العجيبة على تغيير معنى اللفظ الواحد مرات ومرات عبر إدخاله ووروده في سياقات مختلفة في كل مرة وتحميله بمعان جديدة وجعل نفس اللفظ الواحد يعبر عن معان عديدة ومختلفة.

– نجح «شحرور» في إعادة تقديم الدين والشريعة المحمدية الخاتمة في إطار وقالب عالمي إنساني حضاري راق متجاوز للمحلية العربية البدوية التي أغرقوه فيها وصبغوه بها من قبل مفسري القرن الثاني الهجري ومن تبعهم.

– نجح شحرور في أن يقدم الدين والشريعة أيضا في قالب عالمي إنساني متجاوز للثقافة العربية وللعادات والتقاليد والقيم العربية ورد له عالميته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

حيث انطلق «شحرور» من كون النص جاء للعالمين للناس في السعودية وفي النرويج وفنلندا أيضا وأستراليا واليابان كذلك.

– وفي مواجهه تفاسير وضعت الدين في قوالب العنف والقتل والنرجسية الدينية وتكفير الآخر المختلف وتكفير أهل الكتاب والتشدد والانغلاق ومباركة الرجعية الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأغرقته في محلية محض عربيد بدوية، نجح «شحرور» في تقديم الدين في قالب من «الحرية ومن التسامح».

ومن البساطة والسهولة ومن الرحمة ومن الرأفة ومن السعة ومن كثرة الحلال وندرة وقلة المحرمات.

– ولا يفوتنا أن نسجل للرجل المفكر والباحث والإنسان أنه كان هادئاً للغاية ولم يتشنج أو يضيق بمنكريه وكان متواضعاً إلى حد ملحوظ ولافت للنظر، وهو ما لا نلمحه في كثير من أنصاف المثقفين العرب أو أرباعهم في ربوعنا.

– اهتم شحرور «بدراسة» الأركيولوجيا وعلوم الحفريات ففهم القصص القرآني ببساطة وسهولة ويسر واستطاع تأويله والوصول إلى تفاصيل جديدة وفريدة أخرجها لنا في كتاب من جزءين كبيرين عن القصص القرآني.

كما مكنته قراءته للأركيولوجيا وتاريخ نشأت البشر والإنسان، وعلوم الحفريات أن يستوعب وأن يقدم لنا تصورا هو الأقرب إلى المنطقي والموضوعي لقصه خلق البشر وتحول البشر إلى إنسان والانتقال من مرحلة الخلق إلى مرحلة الجعل، كما مكنه اطلاعه الأركيولوجي على تقديم تصور لبني آدم ولقصة آدم ولبداية عصر الأنسنة الذي بدأ بالنفخة الإلهية للبشر نفخة الروح التي ذودت البشر بالإدراك وبالعلم وحولته إلى آدمي صالح لخلافة الأرض بعد أن كان مجرد بشر يعيش في المملكة الحيوانية ولا يعرف الحرام والحلال والمسموح والممنوع ولا يدرك من أمره شيئاً.

– نجح شحرور في تقديم قراءة معاصرة وتفسير جديد وفقه جديد وخصوصاً للمرأة كما نجح في هدم المؤسسة الفقهية الماضوية وعزلها ومحاصرتها عبر تذويب أطروحاتها وتقديم البدائل الأقرب إلى العقل والمنطق وطبيعة الدين والشريعة.

– وأخيراً فإنه لا يفوتني أن أسجل للرجل الباحث والمفكر والمبدع أنه لم يعرف اليأس ولم يتمكن منه الإحباط رغم كل الحصار الذي تعرضت له أفكاره وكتبه ورغم كل المصادرة لإنتاجه ورغم كل المعاداة لكلامه ورغم كل التشويه لأفكاره، ورغم كل المناخات القاتلة والمثبطة في واقعنا العربي الذي يقتل الغير ولا يسمح لاحد بالغيرية أصلا، تجاهلنا شحرور ولم يلتفت إلى تشوهاتنا الثقافية وقيمنا الخربة ونظرتنا القاصرة، ولم يأبه بشذوذياتنا وراح يمضي حتى مات في أول يوم من أيام شتائنا الوافد في هذا العام.

– رحل «شحرور» بجسده لكنه لن يرحل بما طرحه من جديد وافد وبما تركه من تركه معرفية للأجيال القادمة.

– فمثل شحرور لا يرث تركته أولاده حصراً بل تظل تركته مشاعا ترثها أجيال وأجيال.

عادل عصمت

https://www.albawabhnews.com/3853500

اترك تعليقاً