الإسلام وخيارات الإنسان
اختصرت الثقافة الإسلامية الموروثة الإسلام بخمسة أركان، تبدأ بالاعتراف بوحدانية الله ورسالة محمد، وتختص الأربعة الأخر بالشعائر، بحيث يضمن أداؤها للمسلم دخول الجنة، ويتكفل الركن الأول بدخول غير المسلم النار، ولا يكمن الأثر السلبي لهذا الانحراف في تعريف الإسلام بمدى اعترافه بالآخر المختلف وعلاقته به، بل يتعداه إلى تشويه الرسالة المحمدية ومسخها، بحيث اختفت أهم خواصها وهي الرحمة والخاتمية والعالمية، لتحل محلها رسالة أخرى لا تمت لما أنزل على محمد (ص) بصلة.
وكون الرسالة المحمدية هي الخاتم فلا بد لها أن تحمل ما يكفي الإنسانية لإكمال مسيرتها دونما رسالات، ومن يتدبر التنزيل الحكيم ملقياً عن كاهله ما حمله من أفكار مسبقة عن الإسلام، يجد أن الله تعالى قد وضع كتاباً يحتوي على إجابة عن أسئلة الفلسفة الكبرى، وقوانين في فلسفة التاريخ، قوامها “لا إله إلا الله”، فالوحدانية لله فقط وهو “الصمد” وكل ما عداه مختلف متبدل، وهذا الاختلاف يحتم على الناس قبول بعضهم البعض، للعيش سوية على هذه الأرض، حيث كل أحادي غير الله زائل لا محالة، والبقاء للتعددية والاختلاف.
والله تعالى إذ اصطفى آدم ليكون مؤهلاً للخلافة على الأرض، زوده بنفخة الروح، فأصبح من خلالها إنساناً يملك حريته، وأهّل له ما في الكون لينسجم مع هذه الحرية، فجعل كل ما أمامه ضمن خيارات {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (النبأ29) وترك له حرية التنقل بينها، وفق ناظم محدد هو الصراط المستقيم، الذي يمثل القيم الإنسانية المتراكمة مع الأنبياء والرسل، ابتداءً بنوح وانتهاءً بمحمد (ص)، حيث ختم الرسالات بقفزة نوعية حملت عناوين رئيسية لما ستصل إليه الإنسانية بعد قرون، كي تتمكن من العيش وفق ما ينسجم مع فطرتها، وبحد مقبول من الراحة.
فإذا استعرضنا حياة الناس عبر العصور، كأفراد ودول، نجد أنها تقوم على أسس لم يغفلها التنزيل الحكيم، واحترم إرادة الإنسان من خلال وضعه أمام خيارين على الأقل في مجمل نواحي حياته، وأول هذه الأسس هو نقل الملكية، فكل أهل الأرض يحتاجون لنقل أملاكهم إلى من يخلفهم، بغض النظر عن القيمة المادية لهذه الأملاك، والله تعالى وجه الإنسان أن يكتب وصية يختار فيها ورثته وما سيرثون بكامل الحرية، مراعياً ظروف كل إنسان وأسرة على حده، فإن اختار عدم ترك وصية فإن الله قد وضع قوانيناً للإرث تأخذ بالاعتبار عدالة جماعية لا فردية، وهذا ما يسير عليه اليوم الناس في كل مكان.
وثاني هذه الأسس هو الارتباط بين الرجل والمرأة، فقد راعى الله تعالى ظروف الناس ومتطلباتهم، ووضعهم أمام خيارين، فإما ميثاق زوجية فيه ارتباط روحي وجسدي واجتماعي، يهدف إلى بناء أسرة وعيش مشترك في السراء والضراء، وتحفظ فيه حقوق المرأة في حالات الطلاق، أو عقد نكاح مدني ظرفي تحدد المجتمعات شروطه وفق ما تراه مناسباً، وهو شكل من أشكال ملك اليمين، حيث استبدلت الرسالة المحمدية الرق بعقود قوامها التراضي، لا كما فهم الفقه الموروث استعباد الناس واستباحة كل ما فيهم.
وثالث هذه الأسس هو التشريع، والرسالة المحمدية قامت على الرحمة، فبعد أن حملت شريعة موسى ما يزيد عن الستمائة بند، فيها ستة عشر عقوبة إعدام، أصبحت البنود التشريعية معدودة، يمتلك فيها المُشرع خيارات عدة بدءاَ من العفو حتى الإعدام كعقوبة لحالة واحدة بعينها، وهذا ما تسير عليه كل محاكم العالم اليوم، فمنها ما زال يعتمد الإعدام ومنها من ألغاه، وكل هذا ضمن الحدود.
أما الأساس الرابع فهو الحرب والسلم، فالتنزيل الحكيم وضع قواعد للتدافع بين الناس، وشروطاً للقتال، تعتمد على اعتباره آخر الحلول {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} (البقرة 226) حيث الخيار الآخر هو السلم وهو المفضل، والقتال المشروع هو لإعلاء كلمة الله في الحرية أولاً، وللدفاع عن الديار ثانياً، على أن يتم ذلك وفق أصول معينة، فالأسرى مثلاً إما يمن عليهم بإطلاقهم أو يبادل بهم {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} (محمد 4)، وهذا ما يجري بين الدول اليوم.
وعلينا هنا التذكير بأن هذه الأسس جاءت قبل ألف وأربعمائة عام، أي ما نراه بديهياً اليوم لم يكن كذلك حينها، وما وصلت إليه الإنسانية حديثاً حملته الرسالة المحمدية في القرن السابع الميلادي، ومارسه الرسول (ص) في المدينة بعد أن أقام دولته فيها، وفق ما سمحت به ظروف مجتمعه، وهذه الأسس الأربعة أجدها برأيي المتواضع كافية وحدها، لو لم يجيء بسواها، لأن يكون محمداً نبياً ورسولاً خاتماً يحمل رسالة للعالمين.