قراءة معاصرة في التنزيل الحكيم حول المجتمع الإنساني والمساواة بين الأفراد والمجموعات في الإرث والسياسة والاقتصاد

قراءة معاصرة في التنزيل الحكيم حول المجتمع الإنساني والمساواة بين الأفراد والمجموعات في الإرث والسياسة والاقتصاد

آ – المساواة في الإرث

قبل أن ندخل في موضوع الإرث، وتطبيقه كما ورد في آيات التنزيل الحكيم، نقف قليلاً محاولين تحديد مفهوم مصطلح هام جداً في حقل الإرث هو المساواة. خصوصاً وأننا نستعمل هذا المصطلح في حقول عديدة، كمساواة المرأة بالرجل مثلاً أو مساواة العامل برب العمل، أو في غير ذلك من حقول اجتماعية واقتصادية وسياسية. فما هي المساواة؟

عندما نقول بوجود مساواة بين شيئين، وخاصة في الحقول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فعلينا أن نحدد الوجه الذي تساوى فيه هذان الشيئان. أي علينا أن نضيف إلى المساواة صفة نفهمها بها. فمساواة المرأة بالرجل مثلاً، لا يجوز أن تؤخذ بعموم إطلاقها، إذ ثمة نواح لا يمكن أن تتحقق المساواة فيها مثل النواحي الفيزيولوجية مثلاً، ولهذا نقول بمساواة المرأة بالرجل في فرص العمل والأجر وحق الانتخاب وهكذا دواليك. من هنا فنحن نميز بين نوعين من المساواة:

1 – المساواة الرياضية:

كأن نقول مثلاً: 2+2=4. هذه المعادلة تحتوي على أعداد هي 2،2،4. لكنها أعداد مجردة عن أي صفة أو إضافة أو معنى، ولهذا فنحن لا نفهمها إلا من الناحية العقلية البحتة، أو إذا ألبسناها معنى مشخصاً تتلبّس به، كأن نقول 2 تفاحة +2 تفاحة = 4 تفاحات. أما بدون ذلك يبقى العدد مجرد عدد رمزي له دلالة عقلية. وهذه المعادلة التي تحتوي على مساواة بين (2+2) و 4، هي مساواة رياضية عقلية مجردة، إلا أننا لا نستطيع تطبيقها على المجتمعات، وإلا تحولت المجتمعات الإنسانية إلى أعداد، وكّمٍ مجرد لا يعني شيئاً. ولهذا في عملية تعداد السكان في الإحصائيات العامة، نقول أن عدد سكان مدينة دمشق هو أربعة ملايين نسمة مثلاً ولكننا لا نستطيع أن نقول أربعة ملايين نسمة فقط بدون أية إضافة بل يجب أيضاً أن نبين جانب الكيف في هذا الكم، ونعدد المجموعات التي تتألف منها هذه الملايين الأربعة، لأن التجمعات الإنسانية وإن كانت بالأصل عبارة عن أفراد، لكل فرد منهم أناه الخاصة، إلا أنهم بعد التجمع اندمجوا في مجموعاتهم. ومن هنا، فإن علينا أن نتعامل مع المجتمعات الإنسانية على أساس المجموعات لا على أساس الأعداد.

2 – المساواة في المجموعات:

والمساواة هنا تكون بين مجموعات وبين أفراد (عناصر) المجموعة الواحدة، حسب الكم في كل مجموعة وحسب الكيف في كل منها. فنستطيع تقسيم المجتمع الإنساني بادئ ذي بدء إلى مجموعتين حسب الجنس فنقول:

  1. مجموعة ذكور
  2. مجموعة إناث

فنرى في كل مجموعة مجموعات ثانوية قد تكون مجموعات وقد تكون زمراً *. ففي مجموعة الذكور نرى مجموعة الرجال (وهم البالغون) وضمن مجموعة الرجال نرى مجموعة المتزوجين ومجموعة العازبين وداخل مجموعة المتزوجين نرى مجموعة الآباء.. وهكذا. أما في مجموعة الإناث فهناك مجموعة النساء (وهن البالغات)، فيها متزوجات وعازبات، وفي المتزوجات أمهات وعقيمات. ونلاحظ أن كل مجموعة ثانوية موجودة ضمن المجموعة التي قبلها، لكن العكس غير صحيح. فكل رجل ذكر، ولكن ليس كل ذكر رجلاً.

وكل متزوجة هي امرأة، ولكن ليس كل امرأة متزوجة. ونفهم أن التنزيل الحكيم حين يخاطب الذكر والأنثى، فإنه يدخل في خطابه كل الذكور رجالاً وأطفالاً وآباءً وأبناء ومتزوجين وعزاباً، ويدخل في خطابه كل الإناث النساء والطفلات والأمهات والبنات والمتزوجات والعازبات.

فإذا أردنا أن نبحث في المساواة، علينا أن ننظر في المجموعات ومستوياتها، فإن كانت حدود المساواة تتكلم عن الذكر والأنثى، فهذا يعني أن المساواة هنا من المستوي الأول الذي يشمل كل ما يليه من مستويات حكماً. أما إذا كانت حدود المساواة تتكلم عن الزوجات، فالمساواة هنا من المستوي الثالث. والمتزوجات من ضمن النساء والإناث، ولكن لسن أمهات بالضرورة. وكذلك إن تكلمنا في المساواة عن الأمهات فالأم متزوجة بالضرورة وامرأة بالضرورة وأنثى بالضرورة وعندها أولاد بالضرورة. وتزداد المساواة دقةً حين تكون بين مجموعتين مختلفتين بلغا درجة الزمرة (أربع تعاريف). فعلى مستوى المساواة الانتخابية، لا يجوز أن ننادي بالمساواة بين الذكور والإناث فيها، بل بين الرجال والنساء.

المجتمع الإنساني

فإذا انتقلنا بعد هذه المقدمة الصغيرة إلى قواعد الإرث في التنزيل الحكيم، منطلقين من أن هذه القواعد إنما وضعت لأهل الأرض قاطبةً (إشكالية العالمية)، وجدناها موضوعة على أساس المستوي الأول (ذكر، أنثى). وهذا يعني أولاً أن المستوي الأول يتضمن كل ما تحته من مستويات حكماً، ويعني ثانياً أن ثمة مساواة قائمة بين مجموعتين مختلفتين. ومن هنا نصل إلى القول بأنه ليس من الضروري أبداً أن يكون نصيب الذكر الواحد في المجموعة الأولى من الإرث يساوي بالضرورة نصيب الأنثى في المجموعة الثانية، لأن ذلك يتبع عدد الأفراد في كل من المجموعتين.

فإذا أخذنا مجموعة ذكور تساوي 3 ومجموعة إناث تساوي 6 ووضعنا مساواة بين المجموعتين، أي جعلنا حصة الذكور = حصة الإناث. ففي هذه الحالة يكون {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء : 11] وينطبق ذلك على كل الحالات التي يكون عدد الأفراد في مجموعة الإناث ضعف عدد الأفراد في مجموعة الذكور: 1/2، 2/4، 3/6، 4/8، وهكذا. (لاحظ هنا كيف أخذت {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء : 11] معنى جديداً وأنها ليست قطعية الدلالة كما فهمت خلال 14 قرناً). فإن اعترض قائل بأن حالة ذكر واحد وأنثيين ليست مساواة بين مجموعتين مختلفتين، باعتبار أن حدها الأول هو الواحد، نقول: إن الحد الأدنى في المجموعة هو الواحد (راجع الرياضيات الحديثة)، والفرق بين العدد واحد كمجموعة والعدد واحد كفرد، هو أن العدد واحد كمجموعة عدد معرف. أما العدد واحد فغير معرف.

أما إذا كان عدد أفراد المجموعة يساوي الصفر فهي ليست مجموعة أصلاً أي حالة الجنس الواحد كأن نقول إن عدد الذكور يساوي الصفر وعدد الإناث يساوي 2 فهذه الحالة غير واردة في التنزيل الحكيم البتة إذ لا يوجد في التنزيل الحكيم إلا حالات الذكور والإناث والمساواة بين مجموعاتها أما حصة الأفراد في كل مجموعة فهي متساوية حكماً. وبالتالي من كان عنده ذكور فقط أو إناث فقط فتوزع التركة بالتساوي بينهم فلا أعمام ولا أخوال. ولمزيد من التفصيل والبرهان انظر شرح آيات الإرث في هذا الكتاب.

ونلاحظ أن أعداد الأفراد في المجموعات لا تكون إلا أعداداً صحيحة، أما النسبة والتناسب بين أعداد مجموعة، وأعداد مجموعة أخرى، فقد يكون عدداً صحيحاً أو كسرياً. كأن نقول مجموعة ذكور فيها ذكران ومجموعة إناث فيها خمسة فالمجموعة الأولى عدد صحيح والمجموعة الثانية عدد صحيح أما نسبة الإناث إلى الذكور فهي عدد كسري 5/2 =2.5. وهكذا نفهم الفرق بين (فوق) و (أكثر) فأكثر تستعمل للأعداد الصحيحة فقط وفوق تستعمل للأعداد الصحيحة والكسرية معاً، وكأن نقول صوت البرلمان على مشروع القانون بأكثرية 60 صوتاً إلى 50 صوتاً فكانت النسبة 60/110= 54.54 % فوق الخمسين بالمائة.

أما إذا أخذنا مجموعة ذكور عدد أفرادها يساوي عدد أفراد مجموعة إناث، وكانت حصة المجموعة الأولى تساوي حصة المجموعة الثانية، كان نصيب الأنثى في هذه الحالة يساوي نصيب الذكر، وفي هذه الحالة يكون {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}[النساء : 11]. أي مجموعة ذكور عناصرها يساوي الواحد (ذكر واحد) ومجموعة إناث عناصرها أنثى واحدة وبينهما تساوٍ.

وأما إذا أخذنا مجموعة أرامل من الرجال ومجموعة أرامل من النساء، وساوينا بين حصتي المجموعتين، أي:

حصة مجموعة الأرامل من الرجال = حصة مجموعة الأرامل من النساء

وكان عدد الأرامل من النساء ضعف عدد الأرامل من الرجال، كان نصيب المرأة الأرمل يساوي نصف نصيب الرجل الأرمل.

نصل بعد هذا كله إلى أن نفهم وبكل وضوح أن آيات الإرث جاءت لأهل الأرض جميعاً، بدليل ابتدائها بالمستوي الأول (ذكر / أنثى) وأنها بدأت بقوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء : 11] ولم تأت أبداً كالشعائر فصوم رمضان لأتباع الرسالة المحمدية فقط إذ بدأت بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة : 183] بينما آيات الإرث لم تبدأ بذلك، وأنها تحدد أنصبة الأفراد في المجموعات، هذه الأنصبة التي تتغير كما قلنا بتغير أعداد الأفراد في كل من المجوعتين، وأنها لا تمثل حالات إرثية بعينها، إذ يستحيل وجود حالة إرثية نموذجية تنطبق عليها قواعد التوزيع كما ورد في التنزيل. فقد أعطى التنزيل الحكيم الحدود لاستنتاج قواعد الإرث (حدود الله).

ونصل أخيراً إلى أن نفهم كيف أعطتنا نظرية المجموعات (الرياضيات الحديثة) زوايا وآفاقاً جديدة في قراءة آيات الإرث قراءة معاصرة، بعد أن أعطتنا آفاقاً جديدة في قراءة المجتمع.

فكما أن آيات الإرث تقسم الإنسان إلى مجموعات ذات مستويات، فبحسب الجنس إما ذكر أو أنثى، وبحسب العمر إما قاصر أو بالغ، وبحسب الوضعية الاجتماعية إما متزوج أو عازب أو مطلق أو أرمل، كذلك فإن نظرية المجموعات تبين أقسام المجتمع الأخرى. فعلى الأساس الديني ينقسم المجتمع مثلاً إلى مسلمين وملحدين. والمسلمون إلى مؤمنين ونصارى ويهود، والنصارى إلى كاثوليك وأرثوذوكس وبروتستانت، وهكذا. وعلى الأساس المهني ينقسم المجتمع إلى مجموعات، مهندسين وأطباء وعمال وفلاحين، نراها تنقسم بدورها في مستوٍ تالٍ إلى مهندسين مدنيين ومهندسين معماريين ومهندسي كهرباء. وقد تنقسم هذه في مستوٍ آخر إلى مجموعات.

ب – المساواة بين المجموعات المختلفة في المجتمعات

فإذا نظرنا في المجتمع من خلال المجموعات التي تنقسم إليها بحسب الأسس المتعددة المختلفة – وهي ذات عدد كبير – ظهر لنا بشكل واضح مفهوم “الدرجية” التي أشار إليها قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف : 32].

حيث الدرجية بين المجموعات وضمن المجموعة الواحدة، ولكن لكل مجموعة ودرجة دورها الذي لا يقوم المجتمع بدونه وهكذا يظهر لنا أن المجموعات في المجتمع والدرجية في المجتمعات هي من سنن الله في المجتمعات الإنسانية مما لا يعني أبداً أن الله كتب على زيد أن يكون مهندساً منذ الأزل ولكنه قدر المجموعات واختلافاتها في المجتمع الإنساني.

وهكذا يظهر لنا بشكل واضح مفهوم المصلحة الخاصة Private Interest التي تختلف لكل مجموعة عن المصلحة الخاصة للمجموعة الأخرى، لا بل تختلف لكل مستوٍ عن المصلحة الخاصة لمستوٍ سابق أو لاحق في المجموعة نفسها. فكما أن المصلحة الخاصة لمجموعة الفلاحين تختلف عن المصالح الخاصة لمجموعات الأطباء والمهندسين والعمال، كذلك فإن المصلحة الخاصة لفلاحي القطن تختلف عن مصلحة فلاحي الحبوب والأشجار المثمرة والخضراوات.

ونصل أخيراً لنرى كيف أن السياسة Politics، وهي فن إدارة المصالح المتنازعة بحسب تعريفها، هي التي تدير هذه المصالح المتشابكة المشتركة حيناً والمتنازعة أحياناً، وتنظمها وتسوسها ضمن الدولة الواحدة والمجتمع الواحد، بشكل لا تطغى فيه ولا تنفى مصالح مجموعة على مجموعة أخرى ومصالح مستوٍ على مصالح مستوٍ آخر، لأن أي طغيان أو نفي في مصالح المجموعات بعضها على بعض يؤدي إلى تناقضات غير متصالحة، تؤدي بدورها إلى العنف والفساد. وهنا تكمن روح الديمقراطية وحرية الصحافة والمجتمع المدني مجتمع المساواة بين المجموعات كلها أمام القانون وفي المواطنة.

ثم نرى أن الاقتصاد هو عصب السياسة، وأن السياسة في الدولة يجب أن تقوم على مبدأ اقتصادي واضح، تستطيع من خلاله أن تعرِّف لكل فئة دورها ومستوى دخلها وحقوقها وواجباتها وهنا يظهر مفهوم النقابات والأحزاب في المجتمع المدني القائم على التعددية.

ومن تجمع المجموعات ذات المصالح المشتركة، يظهر مفهوم الأحزاب السياسية. فالحزب ليس سوى مؤسسة تمثل مصالح فئة أو مجموعة فئات محددة مشتركة المصالح، وتساعد على حماية هذه المصالح من أن تطغى عليها مصالح حزب آخر شكلته فئات أخرى ومن هنا نرى أن الحزب السياسي ذو فعالية في المجتمع المدني أعلى من فعالية النقابة لأن فعالية النقابة هي فعالية مهنية أكثر منها سياسية، أي أنها تضبط مواصفات ومستوى الأداء المهني فالنقابات تضبط الجانب المهني والأحزاب تضبط الجانب السياسي، لكن الحزب في حمايته ودفاعه عن مصالحها، يسلك أحد سبيلين:

1 – إما أن ينفي مصالح الفئات الأخرى والأحزاب الأخرى تماماً، وبالتالي ينفي نشاطها السياسي، فيتحول المجتمع بذلك إلى مجتمع الحزب الواحد، وتنتفي التعددية. وهنا تكمن الديكتاتورية الطبقية بكل أبعادها.

وهذا ما فعلته الأحزاب الشيوعية حين نفت ما سمته الطبقات البورجوازية أو الإقطاعية أو الرأسمالية نفياً كاملاً، وأعلنت ديكتاتورية البروليتاريا والدولة العلمانية المستبدة، ونحن نرى أن هذا النفي حصل في الماركسية اللينينية في القرن التاسع عشر في ظل غياب الرياضيات الحديثة عن الساحة العلمية آنذاك، حيث تم تقسيم المجتمع إلى طبقات ينفي بعضها بعضاً، وتمت محاولة خداع قوانين الاقتصاد التي لا تخدع.

وهكذا جاء مفهوم الطبقة عوضاً عن مفهوم المجموعة مفهوماً ضبابياً غير واضح، وقد طبق العنف في هذا النفي بأبشع صوره بتجربة طوباوية فاشلة هدفها إلغاء التاريخ الإنساني، بطرح الغائية التاريخية في أطروحة المجتمع الشيوعي فنفت الإنسان نفسه، وقد ضحك التاريخ على هذه التجربة عوضاً عن أن يضحكوا عليه أي مكر التاريخ بهم، وعلى كل من يمارس العمل السياسي أن يحذر مكر التاريخ ومكر العقل الإنساني، فالتاريخ لا يتوقف عن السير والعقل لا يتوقف عن العمل. فهو إما أن يعمل في الواقع الموضوعي وفهمه وتحليله وإن لم يقم بذلك فإنه يعمل في الممكنات العقلية المجردة وهذا ما حصل في عصور الانحطاط حيث انشغل العقل العربي في الممكنات العقلية واستقال عن العمل في تحليل الواقع الموضوعي الكوني والاجتماعي ففقد بُعْدَ الصيرورة.

2 – أو أن لا ينفي مصالح الفئات والأحزاب الأخرى، ولا ينفي نشاطها السياسي، وهذه هي الديمقراطية القائمة على التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، والانتخابات، وحرية الرأي والرأي الآخر، وحرية الصحافة والكلمة والفكر، ضمن مجتمع مدني تتجسد فيه الثقافة الحقيقية للشعب بكل متنوعاتها، ويكون صاحب الحق بالتشريع فيه هو إجماع الأكثرية، شرط عدم نفي الأقلية مهما كان نوعها مهنياً أو دينياً أو قومياً، وعدم نفي حقها بالوجود والحرية والتعبير والممارسة السياسية.

لكن هذا الاحتمال الثاني لا يتحقق إلا في مجتمع ناشط اقتصادياً، ومتقدم علمياً وتكنولوجياً، وواعِ لمسؤولية مواطنيه أمام المجتمع ولأهمية الانتخابات والرأي العام، وإلى أن الدولة ليست سلطة مفارقة عن الشعب فلا يوجد شيء أسمه مصلحة الدولة ومصلحة الشعب، فهناك مصلحة واحدة هي مصلحة المجتمع الذي يوجّه الدولة من خلال مؤسساته المدنية التي يمكن أن تعد بالمئات. فالحاكم في مجتمع مدني من هذا النوع يهاب المحكومين ويخافهم لأنهم هم الذين يوجهونه، على عكس الأنظمة الديكتاتورية. والسياسة في دولة مجتمعها من هذا النوع، تقوم من أجل التعايش بين الفئات على مبدأ التنازلات المتبادلة من كل مجموعة لصالح المجموعات الأخرى.

والبرلمان باعتباره الممثل الوحيد لكل مجموعات وفئات المجتمع لا لبعضها هو المكان الوحيد الذي تدور فيه نقاشات المصالح وإقرار التنازلات المتبادلة، وهذا هو جوهر الديمقراطية.

فالديمقراطية تؤتي أكلها عندما يكون الاقتصاد والسياسة الاقتصادية هي العصب الأول المحرك للقرار السياسي، لأن الهم الاقتصادي (مستوى المعيشة / مستوى الدخل / التأمين الصحي والاجتماعي.. الخ) هو الهم المشترك بين جميع فئات المجتمع بمستوياته ومجموعاته دون استثناء، الذي يستحيل قهره أو إغفاله أو إهماله. فإذا حصل وأغفله القرار السياسي والبرنامج السياسي عن جهل أو عن عمد أو قام بقهره وقمعه، تراه يعبر عن ذاته في صور مشوهة يتجسد فيها الفساد الإداري والأخلاقي بأبشع أشكاله (دعارة / رشوة / غنى غير مشروع).

وفي ظل دولة ديمقراطية ومجتمع مدني تظهر السمات والثقافة الحقيقية للمجتمع بكل فئاته صغيرة كانت أم كبيرة. أما لو حاولنا تطبيق الديمقراطية على مجتمع منقسم إلى مجموعات، لا تعتبر المصالح الاقتصادية والمعاشية والإنتاج والخدمات أساسية ومسيطرة فيه، نتج عندنا ديموقراطية ممسوخة. وهذا ما نراه واضحاً في الدولة القبلية العشائرية وفي الدولة الدينية، حين يتم تقسيم المجتمع إلى مجموعات ذات طبيعة قبلية، أو إلى مجموعات ذات طبيعة دينية، بدلاً من تقسيمه إلى مجموعات ذات طبيعة اقتصادية ومصالح مشتركة في المجموعة الواحدة متنازعة في المجموعات المختلفة.

فحين طبعت الأسرة والعشيرة والقبيلة التقسيمات المجتمعية بطابعها ظهر المجتمع الذكوري (المجتمع البطركي)، وهذا ما كان سائداً عند العرب في زمن البعثة النبوية. حين كان يجري حل الأمور السياسية على أساس (القبيلة – العشيرة – العائلة)، مما نفهم معه لماذا كانت المرأة عندهم عنصراً ثانوياً لاحقاً، مرتبطاً بمجتمع الأبوة، تدور معه أينما دار، ولماذا ظلت هذه الصيغة الاجتماعية سائدة في عصر التدوين وتطور الفقه الإسلامي تاريخياً، ولماذا مازلنا نعيشها حتى بعد مرور أربعة عشر قرناً كاملة.

ومن هنا نفهم أخيراً سبب الذكورية الأبوية التي سيطرت على الفقه الإسلامي في زمن التدوين والتأصيل، والتي مازالت تسيطر على فكرنا الفقهي حتى اليوم.. وإذا عرف السبب بطل العجب.

هذا كله يفسر لنا ما حدث في السقيفة والجمل وصفين، والتي انعكست على علم المواريث بشكل واضح جلي بتفضيل الذكور على الإناث وتبرير ذلك بأن الذكر هو المسؤول من أخ وعم، وبالتالي يأخذ حصة أكبر، وهذه إحدى إشكاليات الإرث التاريخي.

وما حدث في الفتنة الكبرى، يوم كان قرار تعيين الحاكم ينطلق من أساس قبلي عشائري أسري مسيطر على المجتمع (المهاجرين – الأنصار – الأوس – الخزرج – الأئمة من قريش)، وكان العامل الاقتصادي ثانوياً في الأهمية عندما كانت العقيدة أقوى من الغنيمة، حتى عهد عثمان بن عفان، حيث بدأ العامل الاقتصادي يحتل مكانته ويمشي جنباً إلى جنب مع العامل القبلي العشائري الأسري. مما يدل على أن الأمور السياسية التي حدثت في عهد البعثة وفي عهد الراشدين هي قرارات سياسية لا تخضع للأسلمة وغير قابلة لأن يقاس عليها، ووضع هذه الأحداث في سياقها التاريخي يسمح لنا أن لا نستحي مما حدث في الفتنة الكبرى ويعفينا من مهمة الدفاع أو الهجوم على بعض الصحابة وإقامة محكمة لهم.

أما حين تم تقسيم المجتمع إلى مجموعات على أساس ديني، أي إلى مسلمين مؤمنين ونصارى ويهود وبوذيين وبراهمة وعبدة نار، ثم تم تقسيم المؤمنين إلى سنة وشيعة، والنصارى إلى أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت، ثم تم تقسيم السنة مثلاً إلى شافعية ومالكية وحنابلة وأحناف، ومثلها باقي الطوائف الأخرى، أصبحت الدولة دولة دينية، وتراجع العامل الاقتصادي ومعاش الناس ورفاهيتهم إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة، وساد الاستبداد والقمع. وفي دولة من هذا النوع لا يمكن تحقيق الديموقراطية، سواء وجدت فيها انتخابات أم لم توجد.

ذلك لأنه إما أن تقع الدولة بالقوة تحت سلطان طائفة معينة تنفي الآخر وتسيطر على القرار السياسي والتشريعي، تارة خلف شعار حاكمية الله وتارة تحت شعار هكذا أجمع العلماء. أو أن تقع الدولة تحت سلطان طائفة تشكل الأكثرية، فتصبح الانتخابات مبرراً شرعياً لنفي الآخر والسيطرة على القرار السياسي والتشريعي وفرض ديكتاتورية الأكثرية خلف شعارات مختلفة. وفي كل الأحوال نجد المال والنفوذ والأنشطة الاقتصادية محصورة بيد هذه الفئة أو تلك، مما يؤكد ما قلناه عن العلاقة المباشرة بين الاقتصاد والسياسة، فهما لا ينفصلان حتى لو أردنا لهما ذلك.

أخيراً، حين يجري تقسيم المجتمع على أساس قومي اثني شوفيني، وتسيطر فيه إحدى هذه القوميات وتنفرد بالسيادة لنفسها، وتقوم الدولة بنفي القوميات الأخرى، تظهر ديكتاتورية الأكثرية القومية. والمشكلة هي أن القومية لها وجود موضوعي، والدولة القومية موجودة فعلاً وحقاً. فالقومية هي حاملة الثقافة، حيث تحدد لغة القوم آلية التفكير عند المتكلمين بها. ومن هنا فنحن نقول “الثقافة العربية”، أي الثقافة المكتوبة باللغة العربية بغض النظر عن قومية كاتبها. وبما أن القومية وجود والإسلام عقيدة وسلوك، فإننا نقول “الثقافة العربية الإسلامية”.

ج – المجتمع المدني هو الحل

بعد هذا كله قد يخطر لسائل أن يسأل: فما الحل والطوائف موجودة والقوميات موجودة والمشاكل الخارجية موجودة وتناقض المصالح الداخلي موجود بمختلف أشكاله القومية والطائفية والاقتصادية؟ نقول: الحل هو في المجتمع المدني والدولة المدنية.

إذا كان المجتمع بالأساس الفعلي الواقعي يتألف على صعيد الدين من مجموعات، وعلى صعيد القومية من مجموعات، وكذلك على صعيد العمل والمهنة والدخل والوضع الاجتماعي، فيجب أن يكون هناك قاسم مشترك يجمع هذه المجموعات ويوحدها في مجموعة واحدة، هذا القاسم المشترك هو المواطنة. وبوجود هذا القاسم الذي يربط أفراد كل المجموعات بعضهم ببعض يظهر مفهوم المساواة بين أفراد كل المجموعات، ويندمج الجميع في مجموعة واحدة هي مجموعة مواطنين، تمثل مفهوم الشعب، وتتجسد فيها العلاقة الجدلية بين “أنا” المواطن الفرد، وبين “نحن” المواطنين في المجموعة.

هذا الرابط المشترك الجامع الموحد، يجب أن يكون معروفاً ومعرفاً، فالمساواة بين أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات يوجب وجود قانون مدني يتساوى فيه وأمامه الجميع بدون استثناءات، ويخضعون للمساءلة. كما يوجب وجود معايير أخلاقية Code Ethics ومثل عليا يخضع لها وبما أن المعايير الأخلاقية هي أركان الإسلام فبهذا المفهوم لا يمكن فصل الإسلام عن المجتمع وعن الدولة فبدون هذه المعايير يتحول المجتمع إلى مجتمع غابة وتتحول الدولة إلى وحش مرعب.

إن للإسلام أركاناً شرحها وفصلها التنزيل الحكيم، تعتبر المثل العليا والوصايا الأخلاقية ركناً هاماً منها، تمثل ما أسميه ميثاق الإسلام فهي مثل عليا أخلاقية إنسانية عامة، تفقد الدولة بغيابها المبرر الأخلاقي لوجودها، لا يستطيع الفرد ولا الجماعة في كل أنحاء الأرض الخروج عنها. وهذا هو الجانب العالمي للإسلام، وهذا هو مصداق قوله تعالى {إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف : 158].

لقد قلنا، ونقول دائماً، إن الإسلام كما نراه في التنزيل الحكيم هو الدين الوحيد عند الله، والذي لا يرتضي بديلاً عنه من عباده. وقلنا ونقول دائماً إن الإسلام بدأ بنوح واختتم بمحمد مروراً بجميع المذكورين في التنزيل من أنبياء ورسل، وقلنا ونقول دائماً إن أركان هذا الإسلام تضم مُثُلاً عُليا أخلاقية إنسانية، جاءت في رسالات الرسل على شكل وصايا، ترسم للإنسان أينما كان خط السلوك القويم (الصراط المستقيم) وتبين له ما يفعل وما لا يفعل.

والمتأمل في آيات الوحي العظيم يرى أن ثمة وصايا لنوح جاءت ضمن ما أوحاه تعالى إلى خاتم أنبياءه محمد (ص)، وهي ذاتها وصايا إبراهيم وموسى وعيسى، وذلك في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى : 13].

لقد كانت المثل العليا والقوانين الأخلاقية الإنسانية عند نوح وإبراهيم وموسى وعيسى مجرد وصايا، كما في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام : 151]، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام : 153]، ثم ارتفعت درجتها في الرسالة المحمدية لتصبح محرمات، كما في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام : 151]، والمحرمات في التنزيل الحكيم اثنا عشر محرماً، تسعة منها في سورة الأنعام سمّاها تعالى الصراط المستقيم، أما العاشرة فهي محارم النكاح في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ …} [النساء : 23]. وأما الحادية عشرة فهي تحريم الربا في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا …} [البقرة : 275]، وأما الثانية عشرة والأخيرة فهي تحريم المحرم من المآكل والذبائح وغيرها في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة : 3].

وتفصيل هذه المحرمات هو الذي عناه تعالى بقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام : 119].

يضاف إلى هذا كله عدد آخر من المحرمات وردت في الرسالة المحمدية ولم ترد فيما قبلها من الرسالات السماوية نخص منها بالذكر: الأشهر الحرم (التوبة 136) والمسجد الحرام (النمل 91) وصيد البر في حال الإحرام (المائدة 96).

ونتوقف عند قوله تعالى في سورة الأنعام 153، وهي الآية التي تلت المحرمات التسع الواردة بشكل وصايا في الكتب السالفة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام : 153]. ونفهم أن صراط الله المستقيم هو الأخذ بالوصايا الواردة في الآيتين السابقتين 151،152، ولهذا قال {فَاتَّبِعُوهُ} بصيغة المفرد، أما الخروج عنها فقد جاء بصيغة الجمع في قوله {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ}. ذلك لأن الوصايا لا تصير صراطاً مستقيماً إلا باتباعها دفعة واحدة ككل لا يتجزأ.

أما الخروج عنها فلا يمكن أن يكون دفعة واحدة، إذ يستحيل أن نرى إنساناً يقتل ويعق والديه ويحنث باليمين ويخون العهد ويشهد الزور ويأكل حق اليتيم ويمارس الفواحش ظاهرها وباطنها. وعلى رأس ذلك كله يشرك بالله، ويخرج عن صراط الله المستقيم بكل سبله جملة واحدة. قد نجد في الواقع إنساناً يشرك بالله ويبر والديه، أو يغش بالمواصفات ولا يشهد الزور، أو يحسن رعاية اليتيم ويطفف في المكاييل، وقد نجد إنساناً يرتكب الفواحش وآخر لا يشهد بالحق وثالثاً يشرب الخمر ورابعاً يلعب الميسر، لكن من الاستحالة بمكان أن نجد إنساناً واحداً خرج على كل هذه الوصايا دفعة واحدة، وهذا معنى صيغة الجمع في قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ}.

نعود لنتأمل هذه الوصايا التي سماها تعالى الصراط المستقيم، وسميناها نحن القانون الأخلاقي الناظم للعمل الصالح، فنجدها مقبولة ومتفقاً عليها عند أهل الأرض قاطبةً بغض النظر عن الدين والمذهب والعرق واللسان، ونجد أن المجتمعات لا تقوم بدونها محرمةً كانت أم غير محرمة، أي أن الملحد لا يستطيع أن يشهد الزور ويقتل بغير الحق ويحنث اليمين ويطفف المكاييل بحجة أنه ملحد، وأن هذه الأمور غير محرمة عنده. ونجد أخيراً أن هذه الوصايا فطرية، تنسجم مع إنسانية الإنسان التي فطره الخالق عليها، ومن هنا ننطلق إلى القول بأن المجتمع الإنساني كما يرسمه التنزيل الحكيم مجتمع إنساني مدني أساسه القانون الأخلاقي والصراط المستقيم، وأن مقولة الدولة الدينية التي يطلقها البعض مقولة غريبة تماماً لا تنبع من التنزيل الحكيم الذي نزل كتاباً للإنسانية جمعاء، وليس لطائفة أو فئة أو عشيرة بعينها.

قد يسأل سائل: فماذا عن أولي الأمر، وطاعتهم واجبة مقرونة في التنزيل الحكيم بطاعة الله ورسوله؟ نقول: إن وجود أولي الأمر بداية أمر مفروغ منه، إذ لا بد من أولي أمر في المجتمع، وإلا تحول هذا المجتمع بعدم وجودهم إلى قطيع. لكن الله في التنزيل الحكيم لم يأخذ على عاتقه أمر تعيين أولي الأمر هؤلاء (الدولة / السلطة)، لأنه عبارة عن حالة تعاقدية بين الناس من جهة، وبين من يقبل بهم هؤلاء الناس كأولي أمر من جهة أخرى، ومن هنا نشأ مفهوم الدولة التي تخرج من الشعب وتعمل من أجل الشعب وتحكم باسم الشعب. ومن هنا أيضاً انقسمت السلطة إلى ثلاث سلطات:

تشريعية / قضائية / تنفيذية. فإذا تحقق ذلك، فهذا لا يعني أبداً أن الدولة بلا مثل عليا، أو أن الشعب بلا دين، أو أن خرقاً حصل لصراط الله المستقيم في تنزيله الحكيم.

وباختصار نقول: إن مؤسسات الدولة مؤسسات حيادية تعكس بشكل عفوي الثقافة الحقيقية للشعب، ولا علاقة لها بدين أو تنزيل.

ولكن ماذا عن الشعائر من صلاة وزكاة وصوم وحج، وما علاقتها بالدولة المدنية؟ نقول: إن المثل العليا الإنسانية التي تحكم الدولة المدنية، وجدت من قديم الأزمان، وخضعت للتطور التراكمي عبر مسيرة التاريخ. أما الشعائر فقد خضعت للتنوع بعيداً عن مسار التاريخ. فالصوم عندنا هو ذات الصوم عند أقوام آخرين لكن له شكلاً آخر.

فالبعض يصوم عن الكلام، ونحن نصوم عن الطعام والشراب، والبعض لا يتقيد بصيامه بنهار أو ليل، ونحن نصوم في النهار، والبعض لا يلتزم في صيامه بشهر معين، ونحن نصوم في رمضان، والبعض يصوم امتناعاً عن بعض الأطعمة، ونحن نمتنع عنها كلها، والبعض يفهم الصوم هجراً لكل اللذائذ والطيبات هجراً لا رجعة فيه، ونحن نصوم عن اللذائذ نهاراً ونأتي ما حل منها ليلاً، وهناك أخيراً بعض لا يصوم على الإطلاق. وكذلك الصلاة والحج.

لقد خضع الجانب الشعائري (العبادات كما يسمونها) إلى التنوع من ملة إلى أخرى، وأخذ شكله على يد رسولنا الكريم (ص)، فنحن اليوم نصوم ونصلي ونحج تماماً كما صام وصلى وحج رسولنا الكريم، وفي هذا تظهر هويتنا، ونعرف بأننا من أتباع محمد (ص) والمؤمنين برسالته. وفي هذا أيضاً تتحقق الاستمرارية الإيمانية لهويتنا التي أخذناها من سنة الرسول الفعلية حصراً، حين فصل بنفسه الجانب الشعائري عن الدولة وسلطاتها، ووضع منذ ذلك العصر أهم أساس من أسس المجتمع المدني، وهو عدم تدخل الدولة بأجهزتها في أمور الصلاة والصوم والحج، لأن الدولة تعني السلطة، والسلطة تعني القمع والإكراه والعقوبة للمخالفين. والنبي لم يستعمل سلطة الدولة في الشعائر بأي وجه من الوجوه، وفصلها عن السلطة فصلاً كاملاً عدا الزكاة، التي كانت في عصره مصدر الدخل الوحيد لميزانية الدولة، ثم انفصلت بدورها عن الدولة بعد أن انفتحت أمامها أبواب جديدة للدخل.

ثمة من يروج مقولة تزعم أن الدولة المدنية دولة بلا دين، وهذا غير صحيح. فالدولة أولاً وآخراً فئة من الشعب، وحين يكون الشعب بلا دين تأتي دولته أيضاً بلا دين، لكن الواقع حولنا يقول غير ذلك، لأن المتأمل لا يجد في الدنيا كلها شعباً بلا دين، ولو في حدوده الدنيا. والحد الأدنى من الدين هو المثل العليا، فهل رأيتم شعباً قديماً أو معاصراً دون مثل عليا؟

الدولة المدنية لا تنظر إلى الناس ولا تقومهم بميزان الشعائر، لكنها في الوقت نفسه لا تمنعهم منها ولا تكرههم عليها. ومع ذلك فنحن حين ننظر إلى العالم، نجد الناس يصلون ويصومون ويتصدقون، كل بحسب الشكل الذي ترسمه له ملته، ونجد المساجد والكنائس والكنس ملأى بالناس، وهذا مصداق ما نقوله عن الجانب الشعائري في الدين.

ويعود السائل ليسأل: إذا كان الدين مثلاً عليا إنسانية يقبلها أهل الأرض بفطرتهم، وإذا كانت الشعائر لا علاقة لها بالدولة، والمرء حر في اختيار الشكل الذي يؤدي عليه شعائره، فأين هي المشكلة إذاً؟ أقول: المشكلة هي في التشريع.

والتشريع هو الأحكام. والأحكام هي الآيات التي ترسم للإنسان ما يفعل وما لا يفعل في مجال البيع والشراء والزواج والطلاق والإرث والعقوبات، التي لا يمكن فصلها عن الدولة مدنية كانت أم دينية، ملكية أم جمهورية، ديمقراطية أم ديكتاتورية، قومية أم أممية.

إن للدين كما أسلفنا جوانب ثلاثة: جانب المثل العليا الذي لا يمكن فصله عن الدولة ولا عن المجتمع، وجانب الشعائر الذي فصله رسولنا الكريم عن الدولة منذ العصر النبوي، وجانب التشريع والأحكام الذي يرسم حدود الله في حياة الفرد والدولة والمجتمع، والمشكلة هي في هذا الجانب الثالث.

لقد خضعت التشريعات السماوية للتطور، منذ عهد نوح إلى عهد محمد (ص)، فتم إلغاء بعضها وتعديل بعضها. وهذا ما أسميه النسخ بين الشرائع السماوية (14)، والنسخ بهذا المعنى ليس أكثر من تطور على محوري السيرورة والصيرورة. فإذا نظرنا في كتاب موسى، نجد فيه أكثر من ستمِئة بند تشريعي، بينما نجد البنود التشريعية في التنزيل الحكيم أقل من ذلك بكثير، والسبب هو أن التشريعات في كتاب موسى عينية مشخصة جاءت لحالات بعينها تتوافق مع زمن ورسالة موسى، أما التشريعات في التنزيل الحكيم فقد جاءت عامة مجردة غير مشخصة، تقوم على نظرية الحدود، أي أن التشريع في التنزيل جاء تحت عنوان حدود الله الدنيا منها والعليا، وما على المجتهد الفقيه إلا أن يجد ضمن هذه الحدود حلولاً لما يواجه من حالات، وهذه هي الحنيفية في التشريع.

فالتشريع الإسلامي تشريع مدني إنساني يتحرك ضمن حدود الله ويختار ما يلائم ظروف الزمان والمكان، في أحكام البيع والشراء والزواج والطلاق والإرث. ولقد أشرنا في كتابنا الأول إلى أن الإرث وأحكامه يخضع لحدود الله، وسنفصل في كتابنا هذا بعونه تعالى ما هي الحدود في الإرث، إنما قبل ذلك علينا أن نقف قليلاً أمام علم أسمه أسباب النزول، يصر البعض على حشره بين علوم القرآن.

(2) تعليقات
  1. عزيزي د /محمد كنت استغرب من مشايخنا أنهم يسمون فلانا بلقب ويعتبروته نقطة انعطاف في تاريخ الدين يعتمدون على شخص ليكتشف اسرارا في هذا الدين يخالف فئة ويوافق فئة يكفره هؤلاء ويعظمه اولائك لماذا لايحدس ذلك في العلوم الهندسية يحدس في الطب والدين فقط اقول الم يحن الاوان لنقوم بانشاء مراكز ابحاث يقودها اشخاص ليس لديهم هوى يمشون اليه ويمطون المعاني ويضغطونها لخدمة ما يفكرون به سلفا فاني لا اجد في التفكير الديني اي مهنية لماذا نجد من يهتم بالدين اما جاهل اوملحد وكلا يغني على ليلاه انا مهندس ان قلت لالف شخص يجلسون في مبنى ان الباء سينهار بعد مدة لانني راجعت الحسابات الهندسية ووجدت خلل  الجمييييييييع سيغادر واولهم الدكتور م شحر ور اللهم  يمكن ان يكون الوحيد الذي يسالني كيف عرفت هذه النتيجة فكيف بنهاية فيها شقاء او هناء ابدي

  2. إذا اعتبرنا أن كل رجل ذكر كما جاء في تعريف المساواة في المجموعات فكيف نفهم الآية الكريمة ” الرجال قوامون على النساء”.


    الأخ mohamed
    في التنزيل الحكيم “رجل” قد تعني ذكر، وقد تعني “راجلاً” على قدمين كما في قوله تعالى {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً}، والآية التي ذكرتها عليك أن تكملها {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فالقوامة للأفضل سواء اجتماعياً أو مالياً، وهذا ما نراه في حياتنا اليومية، فحين يكون الرجل عاطلاً عن العمل والمرأة عاملة أو صاحبة مال فالقرار يكون لها في المنزل، وهذا ليس خطأً، وتتمة الآية {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} أي المرأة الصالحة عندما تكون القوامة لها هي من تحفظ كرامة زوجها أو أخيها أو أبيها في هذه الحالة، فإن كانت زوجة واستبدت وتكبرت “نشزت” فبداية علينا بالنصح ثم الهجر في المضجع ثم الضرب، والضرب هنا بمعنى سحب القوامة منها واتخاذ موقف حازم منها، وليس بمعنى الضرب الجسدي، والآية التي تلي تتابع بتدخل الأهل لتسوية الموضوع.

اترك تعليقاً