ثمة مصطلحات ترد في التنزيل الحكيم، يطيب للبعض أن يذهب فيها مذهب قطرب، فيعتبرها دليلاً على اتساع كلام العرب عند الإطناب والإطالة والإطالة في الخطاب. منها: الذنب والسيئة والخطيئة والخطأ والمعصية والفسوق والإفساد وإتيان المنكر. ومنها بالمقابل: المغفرة والتكفير والصفح والعفو.
ولقد وقفنا أمام هذه المصطلحات في قراءتنا المعاصرة للتنزيل، منطلقين من نفي الترادف في مفرداته، مستنكرين أن يكون محلاً لاستعراض العضلات اللغوية. فرأينا أن (الذنب والسيئة والخطيئة) وأن (المغفرة والتكفير والصفح) وإن كانت مجموعة مفردات تأتي تحت عنوان عريض، إلا أن بينها، في المجموعة الواحد، فروقات لا يمكن معها اعتبار هذه هذه، وها نحن نبين بعضها.
لقد ورد الذنب، بمختلف اشتقاقاته، في تسعة وثلاثين موضعاً من التنزيل الحكيم، نلاحظ منها ثمانية عشر موضعاً يرتبط فيها الذنب بالمغفرة. ووردت السيئة، بمختلف اشتقاقاتها، في ستين موضعاً من التنزيل الحكيم، نلاحظ منها خمسة عشر موضعاً ترتبط فيها السيئة بالتكفير. ونلاحظ أيضاً أن العكس غير صحيح، فالذنب لم يراد أبداً مقترناً بالتكفير، والسيئة لم ترد أبداً مقترنة بالمغفرة. لا بل رأينا التنزيل يجمع الذنب والمغفرة والسيئة والتكفير في قوله تعالى: {.. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} آل عمران 193.
من هذا كله، نمضي إلى القول في الذنب والسيئة، كما فهمناهما في التنزيل الحكيم، ونبدأ بالذنب.
الذال والنون والباء، أصول ثلاثة: أحدها الجرم، والآخر مؤخر الشيء، والثالث كالحظ والنصيب، فالأول الذنب والجرم: يقال أذنب يذنب، والاسم الذنب، وهو مذنب، والآخر الذنب: وهو مؤخر الدواب، ولذلك سمي الأتباع الذنابى، والمذنب من الرطب ما أرطب بعضه، ويقال للفرس الطويل الذنب: الذنوب، والذناب: عقب كل شيء، والذانب التابع (ابن فارس ج2، ص261).
ونحن نرى أن الذنب ورد في التنزيل الحكيم يحمل المعنيين معاً. فهو عمل يحمل المعصية (القطع)، وله تبعة وذيول. فإذا ارتكب إنسان الفاحشة التي حرمها الله، فقد قطع أمراً من أوامر رب العالمين، ولهذا القطع تبعة تقع على مرتكب الفاحشة. ومن هنا نقول إن ارتكاب الفاحشة ذنب. وبما أن الابتعاد عن الفاحشة أمرم من الله تعالى، ومرتكبها مذنب مع الله، فعصيان أوامر رب العالمين معصية يتبعها ذنب مع الله بالنسبة لمرتكبها.
أما السيئة فقد جاءت من فعل سوأ: فالسين والواو والهمزة هي من باب القبح. نقول رجل أسوأ أي قبيح، وامرأة سواء أي قبيحة، قال: (ص): سوآء ولود خير من حسناء عقيم. لذا سميت السيئة سيئة وسميت النار سوأى لقبح منظرها، كما في قوله تعالى: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى..} الروم 10 (ابن فارس، ج3، ص113).
ونفهم أن الذنب والسيئة علاقة ببعضهما البعض، لكن الذنب قد يكون بدون سيئة، أما السيئة فلا تكون بدون ذنب. فما هو الذنب بدون سيئة؟
إذا أفطر إنسان في رمضان، وهوة قادر على الصيام، فهو لم يسيء إلى أحد بإفطاره هذا، بل عصى الله في أمر وتكليف هو قادر عليه. وبهذا فهو يرتكب ذنباً لا يسيء فيه إلى أحد .. لماذا؟ لأن الله سبحانه يعبد طاعة ومعصية، والإنسان يذنب بمعصيته، ولأن الله سبحانه لا يساء ولا يحسن إليه، فهو الغني عن العالمين. وممن هنا لا يمكن اعتبار إفطار رمضان سيئة يرتكبها المفطر القادر على الصيام، بل هي ذنب. ولهذا قال تعالى: {إن أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها ..} الإٍسراء 7.
فالإحسان والإساءة لا تكون إلا من الإنسان للإنسان، أو من الإنسان لكل المخلوقات الأخرى في الطبيعة.
أما الله سبحانه فلا يخضع للإحسان ولا للإساءة، وإنما يعبد طاعة ومعصية. ولهذا، فالذنوب بدون سيئات لا تكون إلا مع الله، ولأنها كذلك فهي قابلة للمغفرة، كما في قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً …} الزمر 53. وقد شرحنا في فصل “العباد والعبيد”، أن لفظة (عبادي) الواردة في الآية تتضمن ك عباد الله، الطائعين منهم والعصاة، والمجرمين والمشركين في حالة توبتهم.
ونفهم في ضوء ذلك، أن الله سبحانه يخبرنا بأن كل الذنوب المرتكبة بحقه قابلة للمغفرة بدليل قوله تعالى: {.. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول..} غافر 3. باستثناء ذنب واحد لا يمكن غفرانه هو الشرك، ورد في قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..} النساء 48 و116.
وبهذا المفهوم خاطب سبحانه رسوله الكريم قائلاً {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ..} الفتح 1، 2. وواضح أنه تعالى يغفر سلفاً لرسوله الكريم ما تأخر من ذنبه، أي ما سيقع منها بعد نزول الآية. وواضح أيضاً وهو العادل العدل أنه يعني الذنوب المحصورة بعلاقتها بين الرسول وربه. وواضح أنه لا يعني الإساءات التي للآخرين حقوق فيها. فعندما أساء النبي الكريم لابن مكتوم بإعراضه عنه، نزل الوحي بسورة عبس، وفيها يعاتب سبحانه نبيه على ما فعل. وهذا يقودنا إلى الحالة الثانية، حالة اقتران الذنب بالإساءة.
قلنا إن السيئة تكون بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، عاقلة وغير عاقلة، فقد يسيء الإنسان إلى إنسان آخر، وقد يسيء إلى المخلوقات الأخرى في الطبيعة (تعذيب البهائم، قطع الغابات، تلويث المياه ..)، أما أن يسيء الإنسان إلى الله، فهذا محال.
فإذا غش زيد عمرواً، فقد أساء إليه، وارتكب بحقه ذنباً لا يزول إلا بإصلاح آثار الإساءة، وإذا أراد الله أن يغف لزيد ذنبه هذا، فلا بد من إرضاء عمرو وتعويضه عما لحقه من الإساءة الواقعة عليه. ومن هنا نفهم معنى التكفير الذي ارتبط في التنزيل بالسيئة والسيئات.
فالتكفير من كفر، هو التغطية مع سابق علم، يقابلها في الإنجليزية cover. أما التغطية فنفهمها بالمثال التالي:
إذا أراد امرؤ استيراد سيارات من اليابان، فأول ما يفعله بعد الإتفاق مع الشركة الصانعة على المواصفات والعدد وجدول التسليم، هو أن يفتح اعتماداً لدى المصرف، الذي يعلم الشركة بذلك، فتقوم بإرسال السيارات المطلوبة، وتذهب إلى المصرف لتقبض حقها.
ونفهم أن المصرف أعطى المشتري تغطية cover، وكفله أمام الشركة الصانعة، وتعهد بتسليم حقوق الشركة عنه. وهذا هو بالضبط معنى قوله تعالى
{.. يكفر عنكم سيئاتكم..}. فلكي يغفر سبحانه ذنوبكم، يقوم بتغطية وتسديد حقوق الآخرين عنكم لإرضائهم. ولكن هذه التغطية والتعهد بالتسديد، لا يقوم بها أي مصرف في العالم، ما لم للمشتري حساب مفتوح لديه، وما لم تكن سمعة المشتري المالية لدى المصرف طيبة. وكذلك الأمر في تكفير السيئات.
فلكي يكفر الله تعالى سيئات الإنسان، ويتعهد بتسديد ما عليه من حقوق للغير، يجب أن يكون لهذا الإنسان حساب مفتوح عند الله تعالى، وأن يكون له اسم فيه. ولكي يكون له حساب مفتوح واسم في المصرف الإلهي، ولله المثل الأعلى، يجب أن يحصل على طلب تسجيل، أو تذكرة دخول، هذا الطلب وهذه التذكرة هي الإيمان بالله واليوم الآخر. بعد ذلك كله يستطيع صاحب المصرف ومالكه أن يكفر السيئات، ويغطيها من الحساب المفتوح لديه.
أما الذين قطعوا كل صلة لهم بالله، واختاروا بملء إرادتهم البقاء خارج سجلات هذا المصرف وحساباته، فهم المجرمون القاطعون لصلاتهم بالله، الذين لا حاجة حتى لسؤالهم عن ذنوبهم (لمزيد من التفصيل انظر فصل الإيمان والإسلام).
هنا يتضح لنا بجلاء مفهوم تكفير السيئات. فالإنسان الذي يأمل بأن تكفر عنه سيئاته عليه أن يحسن وأن يعمل صالحاً {.. إن الحسنات يذهبن السيئات ..} هود 114. والمسلم الذي يضيف إلى إسلامه الإيمان، وينتقل إلى الإيمان بعد إتمام الإسلام ويشهد أن محمداً رسول الله، وهي رأس الإيمان، سيكفر تعالى عنه سيئاته ويغطيها تجاه الآخرين ويتعهد أن يسدد لهم حقوقهم ويرضيهم. بدليل قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} محمد 2.
وهكذا نرى أن مقولة “الإسلام يجب ما قبله” غير دقيقة والأصح أن نقول أن “الإيمان ما قبله” لأن الإسلام بدأ بنوح وختم بمحمد (ص). وكذلك غفران الذنوب بعد الإيمان، فإن الذنوب السابقة ستغفر أيضاً بدليل قوله تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم} الصف 11، 12.
ثم يأتي بعد ذلك كرم الكريم الواحد، وتأتي رحمة الرحيم الأحد، ليبشر الإنسان بأن أصغر عمل صالح يعمله، سيحتسبه له ربه مساوياً لأحسن ما عمل في حياته، يكفر له به أسوأ ما عمل في حياته. فالله سبحانه يبشر الذين يجيئون بالصدق، ويجهدون في برهان وإظهار مصداقية كتاب الله بأنهم من المتقين وأنهم من المحسنين، كما في قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} الزمر 33 – 35.
وهكذا نفهم تماماً أن من يسيء للآخرين يصبح مذنباً بحقهم، ولهذا قال موسى لربه {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} الشعراء 14. ولهذا أيضاً يأتي أول سؤال يسأله القاضي للمتهم أمامه: هل تقر بذنبك؟ تماماً مثل يوم القيامة، حين لا يدخل أحد جهنم إلا بعد اعترافه بذنبه، الذي ورد بقوله تعالى: {فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} الملك 11. وهكذا نرى أن السيئة يتبعها الذنب، وتقابلها الحسنة، وفي هذا قال تعالى {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ..} آل عمران 120. ونرى أن ميزان الحسنات والسيئات عند الله غير متساو، فهو يجزي الحسنة بعشر أمثالها، ويجزي السيئة بمثلها، كما في قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلهم وهم لا يظلمون} الأنعام 160.
وقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} القصص 84. وقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} النمل 89، 90. وقوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} القصص 54. وأكد تعالى أن قانون (الحسنات يذهب السيئات) قانون مفتوح أمام الناس إلى أن تقوم الساعة، بقوله سبحانه {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهب السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} هود 114، 115.
نستطيع بعد هذا كله أن نضع للحسنات والسيئات والذنوب المخطط التالي:
1 – الشرك بالله ← ذنب فقط ليس فيه سيئة لأن الله لا يساء ولا يحسن إليه.
هذه الحالة، شرحها التنزيل الحكيم في خبر يوسف مع امرأة العزيز، فقد اشترى عزيز مصر يوسف وآواه في بيته، بقوله تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ..} يوسف 21. ولكن امرأة العزيز وقعت في غرام يوسف: {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، قد شغفها حباً ..} يوسف 30. إلا أن الله صرف عن يوسف السوء والفحشاء، حين كاد أن يقع فيها لولا أن رأى برهان ربه فهرب، قال تعالى: {.. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إن من عبادنا المخلصين} يوسف 24.
لم تكن الفحشاء، كزنا وممارسة للجنس، قد حرمت شرعاً إذ نزل تحريمها أول مرة على موسى، بعد زمن يوسف، وكانت تحكمها الأعراف كظاهرة. وأراد سبحانه أن يصرف عن نبيه الفحشاء، فما هو السوء الذي أراد سبحانه أن يصرفه عنه قبل الفحشاء؟
إنه السوء الذي أشارت إليه امرأة العزيز نفسها، زاعمة أن يوسف أرادها به {.. قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم} يوسف 25. إنه السوء الأكبر من الفاحشة، إنه الإسٍاءة إلى الرجل الذي كرم مثواه وأحسن إليه في بيته وأئتمنه على أهله.
لقد صرف الله تعالى السوء والفحشاء عن نبيه، لكن امرأة العزيز المطعونة في كرامتها زعمت أنه هو الذي أراد بها سوءاً، واتهمت يوسف بأنه راودها عن نفسها وهاجمها، فأذنبت بحق يوسف لاتهامها له بالباطل. هنا نفهم معنى قوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك، إنك كنت من الخاطئين} يوسف 29. ونفهم أن الخطيئة هي ارتكاب الذنب عن عمد وسابق إًصرار، وليس عن خطأ غير مقصود، ويذكرنا هنا هذا افهم للخطيئة بآياته تعالى:
- {بلى من سكب سيئة وأحاطت به خطيئة فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون} البقرة 81.
- {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} النساء 112. وهذا ما فعلته امرأة العزيز تماماً.
وبما أن إخوة يوسف كادوا له عن عمد وسابق إصرار، وكانوا يعملون ما يفعلون فقد قالوا:
- {قالوا تالله لقد آثرك علينا وإن كنا لخاطئين} يوسف 91.
- {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} يوسف 97.
ونلاحظ كيف أتبعوا قولهم {ذنوبنا} بقولهم {خاطئين}، أي أنهم أساءوا ليوسف عن سابق إصرار ووعي، فأذنبوا وكانوا خاطئين. فالذين يرتكب ذنباً وسيئة عن سابق إصرار ثم لا يصلح ولا يعترف ولا يتوب، له جزاؤه كما في قوله تعالى:
- {ولا طعام إلا غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون} الحاقة 36، 37.
ومثل ذلك قوله معن قوم نوح، عاندوه، وكذبوه وجادلوه عن سابق إصرار وترصد:
- {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً ..} نوح 25.
أما الخطأ غير المقصود، بمعنى الإساءة غير المتعمدة، فقد جاء في قوله تعالى:
- {.. وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ..} الأحزاب 5.
- {.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ..} البقرة 286.
- {وما كان لمؤمن بأن يقتل مؤمناً إلا خطأ .} النساء 92.
أما مفهوم الخطايا فقد ورد أيضاً في التنزيل الحكيم بقوله تعالى:
- {.. وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ..} البقرة 58.
تماماً كما ورد في مصطلح الخطيئات في قوله تعالى:
- {.. وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم} الأعراف 161.
قلنا إن الخطيئات هي الذنوب والسيئات عن سابق إصرار ومعرفة من قبل مرتكبها. أما الخطايا فهي الذنوب بحق الله والسيئات بحق الناس عن جهل. وقد ورد بهذا المعنى في خبر سحرة فرعون، إذ آمنوا بألوهية فرعون وربوبيته طعماً بمكافأته، لكنهم لما واجهوا موسى وشاهدوا ما شاهدوا، عرفوا أنهم على باطل وأن موسى على حق، فآمنوا برب موسى وهارون قائلين:
- {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ..} طه 73.
- {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين} الشعراء 51.
- {.. وما هم بحاملين من خطايهم من شيء ..} العنكبوت 12.
وهكذا نفهم الفرق بين {نغفر لكم خطيئاتكم} و {نغفر لكم خطاياكم}. وهذا يتوافق مع قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون} البقرة 81. ومع قوله تعالى: {.. أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} الأنعام 54. ومع قوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ..} النساء 18.
هنا علينا أن نميز بين الخطأ في قوله تعالى: {.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وبين الخطأ في قوله تعالى: {.. إن قتلهم كان خطأً كبيرا}. فالخطأ ارتكاب عمل غير مقصود نهائياً كالقتل الخطأ، أي الخطأ المادي. أما الخطأ فهو في القرار. أي عندما يقتل الوالدان ولدهما، فهما يعلمان ما يفعلان، وهذا لا يدخل في مفهوم القتل الخطأ، ولقد سامح الله وعفا عن الخطأ لكنه لم يسامح ولم يعف عن الخطأ.
وهكذا يتبين لنا الفرق بين الخطأ – الخطأ والخطيئات – الخطايا. ننتقل الآن إلى قوله تعالى عن قوم لوط:
- {وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات ..} هود 78.
ونتذكر أنه وصفهم بالمجرمين في قوله تعالى:
- {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين} الحجر 58، 59.
فأين ظهر إجرام قوم لوط؟ وما هي السيئات التي عملوها؟
للجواب على هذا، نقرأ قوله تعالى:
- {ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} العنكبوت 28، 29.
لقد ظهر إجرام قوم لوط في تكذيبهم بالله وباليوم الآخر وبالبعث وبالثواب وبالعقاب، وذلك في خاتمة الآية 29. أما السيئات فهي ثلاث:
- اللواط: وهو ذنب فيه إساءة للعلاقات الجنسية {إنكم لتأتون الرجال}.
- قطع السبيل: وهو ذنب فيه إساءة لبقاء النوع البشري، والسبيل هنا سبيل النسل، فهم يقطعونه بالابتعاد عن النساء.
- المجاهرة بالمنكر: وهو ذنب فيه إساءة للعلاقات الاجتماعية والإنسانية، فهم يأتون المنكر في النوادي وأماكن الاجتماعات العامة.
وننتقل بعدها لنلقي نظرة على تعاليم الإسلام، لنرى أين السيئات، وأين الذنوب.
- ألا تشركوا به شيئاً: فالشرك ذنب ليس فيه إٍساءة لأحد، حتى ولا لله، لكنه ذنب غير قابل للمغفرة في حال الإصرار عليه.
- وبالوالدين إحساناً: عقوق الوالدين وعدم الإحسان إليهما ذنب فيه إساءة لهما، لكنه قابل للإصلاح والمغفرة والتكفير.
- ولا تقتلوا أولادكم: قتل الولد من إملاق، ذنب + سيئة قابل للتكفير والمغفرة.
- ولا تقربوا الفواحش: الفاحشة العلنية ذنب مقصود (خطيئة) + سيئة بحق المجتمع، أما غير العلنية فهي ذنب مع الله فقط ليس فيها إساءة لأحد بل تمت برضا الطرفين.
- ولا تقتلوا النفس: فقتل النفس بغير حق إن كان عمداً، فهو ذنب وسيئة غير قابل للمغفرة والتكفير. أما إن كان خطأً فله حكم آخر.
- ولا تقربوا مال اليتيم: أكل مال اليتيم ذنب + سيئة قابل للمغفرة والتكفير.
- وأوفوا الكيل والميزان: الغش بالمواصفات إطلاقاً ذنب + سيئة قابل للمغفرة والتكفير.
- وإذا قلتم فاعدلوا: فالزيغ عن العدل في كل شيء بداعي الهوى أو العصبية والقربى ذنب + سيئة قابل للتكفير والمغفرة.
- وبعد الله أوفوا: للحنث بالإيمان وبالعهود جانبان، جانب لا يتعداه الحانث إلى غيره فهو ذنب فقط قابل للمغفرة، وجانب يتعداه إلى غيره كيمين المهنة أو القضاء، وهذا ذنب + سيئة قابل للمغفرة والتكفير.
- 10 – ذلكم وصاكم به: إن عدم الأخذ بما سبق مجتمعاً وترك وصية الله به ووعظه لنا ذنب، يضاف إلى ذنب وسيئة الجزء المتروك.
ونرى أن الكبائر هي مخالفة هذه الوصايا (الأركان) وعلى رأسها الشرك.
وهكذا نفهم قوله تعالى:
- {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ..} النمل 90.
- {.. ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار} الرعد 22.
- {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ..} غافر 40.
- {وجزاء سيئة سيئة مثلها} الشورى 40.
- {.. إن الحسنات يذهب السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين} هود 114.
أما تكاليف الإيمان فهي ذنوب بحق الله فقط، قابلة للمغفرة مع التوبة النصوحة، كترك الصلاة وإفطار رمضان وعدم الحج مع الاستطاعة. وفي بعضها سيئات إضافة إلى كونها ذنوب، كالشورى والقتال في سبيل الحرية ورفع الظلم. وهذه أيضاً قابلة للتكفير والمغفرة.
لقد لاحظنا في آيات السيئات أن الحسنات تذهب بها، ولاحظنا أن الإحسان يأتي بعد الإسلام لله مباشرة في قوله تعالى:
- {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ..} البقرة 112.
فما هو الإحسان وكيف نفهم قوله تعالى: {وهو محسن}؟
الإحسان ضد الإساءة، فهو في علاقة جدلية معها، والمطلوب من الإنسان في الحياة الدنيا، تغليب الإحسان على الإساءة. والإحسان يكون اللنفس، ويكون للغير من المخلوقات، لكنه كما أسلفنا قبلاً، لا يكون لله، فهو أعز وأكبر وأعظم وأكمل من أن يحسن أو يساء إليه.
إن علينا أن نتعامل مع كل عناصر الوجود الأخرى، على أساس الإحسان لا الإساءة. إلا أن غموض مصطلح الاحسان {وهو محسن} كان نقطة المقتل عند العرب المؤمنين في تطورهم التاريخي.
علينا أن نحسن للناس كل الناس، زوجاً وولداً وجاراً ووالداً ووالدةً كما في قوله تعالى: {.. وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ..} النساء 36.
وعلينا أن نتبع بالسيئة الحسنة لتذهب بها، وأن ننطلق في تقييم الآخرين من زاوية إحسانهم ونفعهم وعملهم الصالح، فتقييمنا للمرأة لا يجوز أن ينطلق من مبدأ (سافرة ومحجبة)، بل من مبدأ إحسانهم وعملها الصالح ونفعها في المجتمع.
وعلينا أن نحسن في العمل. فهذا النوع من الإحسان أهم نقطة يغفلها العرب المؤمنون اليوم، ويهملونها إهمالاً شبه كامل. فإذا سأل سائل: فلماذا هذه المجلدات والأسفار في الطهارة والنجاسة، ومفسدات الوضوء والصوم، حتى اقتربنا فيها من الوسواس، رغم أنها بسيطة جاءت لابن العشر سنوات؟ أقول:
لقد ظهر الفقه بعد أن ترسخ الحكم الاستبدادي وغدا حقيقة قائمة، فلم يتدخل الفقه في شؤون السلطة، بل انصرف إلى التوسع في ما لا يهم السلطة. ومنه الاستفاضة والتوسع في فقه الشعائر، من وضوء وغسل وصلاة وصوم وحج. فذهبوا فيها مذهباً جعل من العسير معه تطبيقاً والالتزام بها، علماً أن الالتزام بها لا يزيد من الحسنات، وعدم لزوم ما لا يلزم فيها لا يزيد من السيئات، ولو أنهم أفاضوا في شرح الإحسان بالعمل، كما أفاضوا فيما ضيع وقت الناس بأمور لا تفيدهم، لما سبقنا على سلم الحضارة أحد في الدنيا.
فالطبيب مطالب بالإحسان في عمله، وكذلك المحامي والمدرس والعامل والمزارع، وعلينا أن نفتح في الفقه موضوعاً جديداً تحت عنوان “فقه الإحسان في العمل” نتوسع فيه بالشرح والتفصيل، ونربطه مع الاتقان من جهة، ومع الوفاء بمواعيد الانجاز من جهة أخرى، ونقسمه إلى عناوين فرعية نستفيض في كل منها مثل:
- الإحسان إلى المكان: ويتجلى في نظافة وترتيب مكان العمل، ومكان الإقامة، وبالتالي الحارة والشارع والمدينة. فلا يكفي – كما اكتفى السادة الفقهاء – بأن نضع آلاف الصفحات والكتب، لتعليم الإنسان كيف يتطهر ويستنجي، دون أن نشي بكلمة واحدة إلى: أين يضع هذا الإنسان فضلاته، وكيف يصرفها ليحافظ على نظافة وطهارة المكان. ومثال على ما نقول دورات المياه العامة في البلاد الإسلامية، وبخاصة الملحق منها بالمساجد.
- الإحسان إلى الوطن: ويتجلى في الغيرة على الوطن الأم، ومحبته وسمعته أمام الأجانب، وعلى صناعته وزراعته وحدوده، والتصدي لمن يعتدي عليها.
- الإحسان إلى الحيوان: وذلك بمعاملتها برفق، وعدم الإساءة إليها، حتى الذبيحة علينا أن نحسن إليها بذبحها بسكين حادة، بالرفق بالحيوان يدخل تحت بند {وهو محسن}.
- الإحسان إلى النبات: وذلك برعاية الأشجار والغابات وعدم إبادتها لأغراض التوسع السكني، والمحافظة على نظافتها ونظافة المياه الجارية التي تشرب منها.
- الإحسان إلى الطبيعة بشكل عام: وهو ما انتهت إليه الإنسانية اليوم في جميع أقطار المعمورة، حيث انصبت الاهتمامات على التلوث بمختلف أشكاله وأنواعه، سواء منه ما يتعلق بالماء أو بالهواء، أو بالأرض. ومكافحة التلوث تدخل حتماً تحت باب {وهو محسن}.
- الإحسان إلى النفس: وهو قسمان، قسم يختص بالجسد، أي بالمحافظة على الصحة، والتزام قواعد الطب الوقائي، والعلاج والرعاية في حال المرض، والعناية بالهندام واللباس وقص الشعر والأظافر، مما يجعل الإنسان مقبولاً اجتماعياً.
وقسم يختص بالنفس كنفس، وهو التقوى الفردية، وتكون بإقامة الشعائر (صلاة، صوم، زكاة، حج)، وتكون في الطاعات التي تكفر السيئات، وتزيد من رصيد الإنسان في مصرف ب العالمين.
هذه كما قلنا أمثلة على الإحسان، الذي أوجزه تعالى بقوله: {وهو محسن}، والذي يدخل فيه كل أنواع النشاط الدنيوي، والتزامنا بهذا الإحسان في النشاطات الدنيوية لا يعني أبداً أننا نسينا الآخرة، فالدنيا مزرعة الآخرة، ولولا الدنيا لما كانت الآخرة، ولما انتصب ميزان، ولما قام حساب، وحق الثواب والعقاب. فإذا فهمنا هذا صار للحياة طعم ومعنى، وأصبح بإمكاننا أن نشارك في صنع الحضارة الإنسانية، وفي صنع التاريخ.
ننتقل الآن إلى قوله تعالى:
- {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة 112.
- {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً، واتخذ لله إبراهيم خليلاً} النساء 125.
ونلاحظ أن ما ورد في الآيتين جاء بعد قوله تعالى: {وهو محسن}. ونفهم من آية البقرة أن الأجر في الآخرة مرتبط بالإحسان في الدنيا، وأن الدنيا فعلاً مزرعة للآخرة، نزرع فيها إحساناً، فنحصده عند ربنا أجراً. ولما كان تسجيل الحسنات والأجر عند الله فردياً، فقد قال بصيغة المفرد: {فله أجره عند ربه}، أما عندما قال بصيغة الجمع {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فهي لجميع المحسنين بالآخرة، وأن الإحسان في الدنيا لا يعني فقدان الآخرة وبيعها.
يقول تعالى في آية النساء {ممن أسلم وجهه لله}، ونفهم أن أي دين مهما كان اسمه وعنوانه يسلم الإنسان فيه وجهه لله + وهو محسن، فهو دين مقبول. ولكن كيف ندخل قانون التطور وجدلية الفرد والمجتمعات الإنسانية في قوله تعالى: {وهو محسن}؟ إننا نجد ذلك واضحاً في بداية الآية {ومن أحسن ديناً} وربط ذلك مع نهاية الآية بقوله: {واتبع ملة إبراهيم حنيفاً}. مما نفهم معه أن الإحسان مرتبط بالحنفية التي تتضمنها ملة إبراهيم. فهو لم يقل (دين إبراهيم) بل قال: {ملة إبراهيم}، لأن الدين يختلف عن الملة. فالدين هو ما دان به الإنسان من أحكام مدنية وأخلاقية، تتجلى بالإحسان انعكاساً على الفرد والمجتمع، وأنه في التنزيل الحكيم لا يوجد إلا دين واحد هو الإسلام من نوح إلى محمد (ص).
أما الملة، فهي المبدأ الذي تقوم عليه هذه الأحكام، وهو مبدأ الحنفية الذي تم شرحه تفصيلاً في كتابي الأول، ويعكس التطور في الأحكام والتطور في المجتمعات. فقد أعطانا تعالى الثابت (الصراط المستقيم والوصايا) وترك لنا الحنفية بالتطور والتغير، وتجلى ذلك في ا لرسالة المحمدية بالحدود.
وما تعنيه الحنفية في مجال الإحسان، هو أن ثمة أعمالاً حسنة ولى زمانها، وأن ثمة أعمالاً حسنة جاء بها التطور لم تكن موجودة سابقاً. وهناك أعمال حسنة ستولد في المستقبل. وعلينا أن نجعل من الحنفية ملتنا، ونتبع في ذلك ملة إبراهيم، فقد أعطانا تعالى مبادئ الإحسان، بحدوده وأسسه، وترك ظهوره وتجلياته للحنفية، ولقوانين التطور والجدلية بين الحسنة والسيئة.
إلا أن هذه التجليات وظهورات هذا الجدل تتغير من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر.
فالإحسان في الإنتاج، مثلاً، هو التقيد بالمواصفات الإنتاجية، والمواصفات الإنتاجية لا تخرج عن كونها نسب وزنية ثقيلة، أو وزنية بعدية، ينطبق عليها قوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} الرحمن 9، إلا أن ثمة مواصفات أخرى للإنتاج تتغير وتتطور مع التقدم العلمي والتكنولوجي، فمواصفات السيارة الحسنة في العقد الأخير من القرن العشرين، تختلف عن مواصفات السيارة الحسنة في العقد الثالث والرابع من القرن نفسه.
ونفهم أننا لو طبقنا المواصفات القديمة على سيارات اليوم لما كنا محسنين، ولما شملنا قوله تعالى: {وهو محسن}، لأن هذا القول كما قلنا يرتبط بحنفية ملة إبراهيم التي تراعي تطور وتغير مفهوم الإحسان بتغير الزمان والمكان، ونرى أن هذا المفهوم للإحسان له علاقة مباشرة بمصطلح اللهو والتفاخر والتكاثر الوارد في بنود الحياة الدنيا، والذي تم شرحه في فصل العباد والعبيد.
بهذا فقط نفهم لماذا أتبع سبحانه حديثه عن الحنفية في الآية بقوله: {.. واتخذ الله إبراهيم خليلاً}، ولماذا نال إبراهيم اسم خليل الرحمن، ونفهم أخيراً أن بإمكان كل إنسان أن يتقرب إلى الله ويصبح خليلاً له، إن اتبع حنيفية ملة إبراهيم، في إحسانه إلى نفسه وإلى المخلوقات الأخرى في الوجود، وأن كل شيء حنيف متغير حتى الإحسان نفسه.
ثمة مثال آخر عن الحنيفية في الإحسان، نراها في شروط العمل. فقد اختلفت معايير العمل وشروطه وأجوره وساعاته اليومية في وقتنا الحاضر، عما كانت عليه في القرن الماضي. فرب العمل الذي شغل عماله 12 ساعة في الماضي، كان محسناً، لأن ساعات العمل لم تكن محددة آنئذ. بينما رب العمل الذي ينشغل عماله 10 ساعات، إنسان مسيء غير محسن، لأن ساات العمل تحددت اليوم بـ 6 أو 8 ساعات، ولأنه ببساطة لم يلتزم الحنيفية في الإحسان.
لقد نصت آيتا البقرة والنساء على الإنسان الذي يسلم وجهه لله وهو محسن شرط التزام الحنيفية في الإحسان. فانظر معي كيف ربط سبحانه ذلك كله معاً، ووصفه بالعروة الوثقى التي يفلح من يستمسك بها، في قوله تعالى: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور} لقمان 22.
نخلص بعد هذا إلى القول بأن أهم تحول يجب علينا نحن العرب المؤمنين أن نقوم ب، هو التحول نحو فقه الإحسان في كل شيء، وأن نتوسع فيه منطلقين من أن الإحسان الحنفي مرتبط بالإيمان بالإحسان بالله واليوم الآخر، ومن أنه جزء لا يتجزأ من الحياة العملية الدنيوية، الذي سيأتي ثماره أجراً في اليوم الآخر. وأن هذا هو الطريق الذي بدونه سنبقى خارج التاريخ، وخارج الحضارة، وخارج الفعل الفاعل في سير الأحداث، وسنبقى أمة مهانة وذليلة، حختى لو أقمنا الصلاة وصمنا رمضان، وحجبنا نساءنا، وأطلنا ذقوننا، كما نلاحظ أن الإحسان الحنيفي بكل أنواعه غي موجود نهائياً في الوعي الجمعي عند العرب المسلمين المؤمنين ويوجد بدلاً عنه فقه الشعائر.
ونحن نرى أن أحسن نظام واقعي توصل إليه الإنسان، تظهر فيه بوضوح جدلية الحسنة والسيئة، وجدلية الاستقامة والحنيفية، وجدلية الثبات والتطور، هو النظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية، وحرية التعبير، وحرية العقيدة والشعائر. كما نرى أن النظام الاستبدادي هو الذي يقوم على قمع هذه الحريات، وقمع تلك الجدليات، ولهذا فإن أول ظاهرة تستشري في أي نظام من هذا النوع هي ظاهرة الفساد.
يقول تعالى {.. إن الله يغفر الذنوب جميعاً .} الزمر 53، لكنه يقول {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء 116، ويقول (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف 106. ونفهم نحن أن الذنوب جميعاً قابلة للمغفرة، إلا الشرك فهو ذنب بغير قابل للمغفرة. لكننا لا نستطيع إلا أن نقف أمام آية يوسف 106. التي كأنها توحي بإطلاقها ضمن ما فهمناه من آيتي الزمر والنساء، بأن معظم أهل الأرض سيخلدون في النار، بغض النظر عن إيمانهم وعملهم الصالح، لأن أكثرهم لا يؤمن إلا وهو مشرك.
لقد قادنا هذا إلى البحث في مصطلح الشرك، وإلى تقسيمه في أنواع، أحدها هو الذي لا يغتفر. ورجعنا إلى التنزيل الحكيم، لنجده يتحدث فعلاً عن نوع من أنواع الشرك، وبتعريف دقيق جداً، هو شرك التجسيد، بإعطاء الله بعداً زمانياً ومكانياً مادياً محدداً، وبتحويله إلى شيء، وهو الذي ليس كمثله شيء، تعالى الله عما يصفون، يقول تعالى:
- {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار} المائدة 72.
- {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} المائدة 73.
- {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيراً لكم، إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد ما في السموات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً} النساء 171.
لقد بدأ تاريخ الإنسان بانفصاله عن المملكة الحيوانية. وبدأ تاريخ التجريد اللغوي بالانتقال من العلاقة الطبيعية بين الصوت والمدلول، إلى العلاقة الإصطلاحية. فكان الإنسان قبلها لا يفهم، بمعنى أن الإدراك الفؤادي المشخص بالحواس مع سمع وبصر كان الأساس في الفهم عند الإنسان وما زال. إلا أن هذا الفهم كان في بداياته بعيداً عن التفكير والعقلنة، أي أن الفؤاد عند قوم هود كالفؤاد عندنا اليوم، لكن مستوى التفكير والعقلنة يختلف.
عندما نظر الإنسان إلى ما حوله من ظواهر طبيعية، كالرعد والبرق والمطر والنجوم والرياح، وربطها بإحساساته الداخلية، كالشبع والجوع واللذة والألم والأمن والخوف، ظهرت الوثينة الطبيعية باعتبار أن ظواهرها آلهة تسيطر على هذه الأحاسيس سلباً وإيجاباً. وجاءت النذر من الملائكة لتصحح هذا المسار عند الإنسان. ثم بدأت النبوات والرسالات عن طريق وحي إلى واحد من الناس هو نوح. وكانت عبادة ظواهر الطبيعة هي السائدة، ولها هامانات (كهنة) لخدمتها وللوساطة بينها وبين الناس.
وكانت هذه بداية التجسيد للمعبودات، الذي هو شرك بالله تعالى. ولهذا نرى أن أول بند في دعوات الأنبياء والرسل هو {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}(1).
ثم مع تطور المجتمعات الإنسانية، تطورت اختصاصات الآلهة، وأخذت لها أسماء مختلفة كالنجوم (المشتري والزهرة) ومع تطور وسائل الإنتاج تم تشخيص الآلهة بأشكال مختلفة (إله الحب، إله الخصب، إله القمر، إله الماء، عشتار، حدد، بعل) وصا لهذه الأشكال منحوتات ترمز إليها. أي أن الوثنية تطورت، فجعلت للآلهة أسماء واختصاصات وأشكال منحوتة توضع في معابد لها هامانات (كهنة) وتقدم لها قرابين. هنا نلاحظ كيف تطورت فكرة المشخص في مفهوم الآلهة، فصار التقرب منها تقرباً مادياً عن طريق تقديم الذبائح والقرابين (بهائم، محاصيل، قرابين بشرية)، أي أن مفهوم التقرب من الله بالصوم والصلاة تقرباً مجرداً لم يكن موجوداً البتة.
وهكذا نرى أن الإسلام بدأ بنوح بالتوحيد، وبقي التوحيد مدار دعوات الأنبياء والرسل حتى خاتمهم محمد (ص)، الذي ختم الإسلام. {وقل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فهل أنتم مسلمون} الأنبياء 108. ولعل سائلاً يسأل: إذا كان الإسلام قد بدأ بنوح – كما تقول – فلماذا ورد في التنزيل بأن إبراهيم أبو المسلمين؟ نقول: لقد نال إبراهيم هذا اللقب عقب رحلته من الوثنية إلى التوحيد، أي من المشخص إلى المجرد.
فقد بدأ إبراهيم رحلته بالبحث عن الله والتفكير فيه، كما يدلنا عليه قوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} الأنبياء 51.
- بدأ إبراهيم مستنكراً {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة، إني أراك وقومك في ضلال مبين} الأنعام 74. فهو يسأل ويقرر أن عبادة الأصنام ضلال، لكنه لم يكن يدري في تلك المرحلة ما هو الهدى، وأين هو الله المجرد عن الزمان والمكان والتشخيص.
- من هذا القرار، قرار أن الأًنام ليست آلهة، وأن اتخاذها ضلال مبين، بدأت رحلة إبراهيم في البحث. فنظر في السماء ليلاً ولفت انتباهه كوكب، كان أكبر وأكثر إشعاعاً من غيره، فظن أنه ربه، لكن ظنه ذهب أدراج الرياح مع اختفاء الكوكب.
- ثم رأى القمر، فظنه ربه، لكنه أفل كسابقه فانصرف عنه.
- ثم لاحظ أن الشمس أكبر هؤلاء جميعاً، إلا أنها حين غابت، أدرك أنه ما زال في تخبطه وحيرته. لكنه خلال ذلك كله، كتان يعرف بحدسه عم يبحث. كان يشعر أنه يبحث عما هو أكبر من هذه جميعاً، عما هو خارج سلطان الليل والنهار، وفوق ما يراه من ظواهر تغيب وتشرق.
- هنا انتهى إبراهيم إلى وحدانية الله غير المشخص ووصل إلى نتائج هامة:
- الله هو خالق السموات والأرض، وهو فوق كل ظواهر الطبيعة.
- الله لا يرى ولا يسمع ولا يلمس، أي لا يمكن تشخيصه.
- كل شيء يتغير ويتحرك متطوراً في الكون، والله وحده الثابت.
هذا كله نلمحه في قول إبراهيم {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين} الأنعام 79. ومن هنا من اقتناع إبراهيم بالحنيفية التي فطر الله السموات والأرض عليها، بسنة التغير والتطور والحركة التي أخضع الله لها الوجود، ببقاء الله وحده ثابتاً لا يتغير ولا يتبدل، ولا يحده زمان ولا مكان، فقد استحق إبراهيم اسم “أبو المسلمين”.
ونرى أنه لا يوجد لإبراهيم مكانة خاصة عند كل المسلمين بفروعهم الثلاثة المؤمنين (أتباع محمد “ص”) والذين هادوا أتباع موسى عليه السلام والنصارى أتباع عيسى عليه السلام.
وكل فرع من هذه الفروع أطلق التنزيل الحكيم عليه مصطلح ملة كما في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم..} البقرة 120، فهناك ملة النصارى وملة اليهود وملة المؤمنين، ولكن المؤمنين أتباع محمد (ص) هم صراحة وبدون لبس على ملة إبراهيم (المسلمين المؤمنين)، لأن الحنيفية واضحة بشكل لا لبس فيه في التنزيل الحكيم (سنة التطور والتغير)، بينما هذا الوضوح غير موجود في كتاب موسى. ومع الأسف أن حالة المسلين المؤمنين الآن، هي أبعد ما يكون عن حنيفية إبراهيم.
ونلاحظ أن إبراهيم استعمل مبدأ الشك في وصوله إلى اليقين، ومبدأ تجربة الخطأ للوصول إلى الصواب. وهذان هما أساس البحث العلمي في العالم حتى اليوم، وبهذا كان إماماً للناس، وليس للمتقين فقط، وإماماً للمسلمين بالتوحيد المجرد، حتى أنه طبق مبدأ التجربة للتحقق من النظرية، حين طلب من الله إحياء الموتى، فتحول بعد التجربة من شاهد على إحياء الموتى (عليم) إلى شهيد على إحياء الموتى (سميع بصير). وبهذا انفرد إبراهيم وحده عن الناس بالتوحيد المجرد والحنيفية، ولهذا قال عنه تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين} النحل 120. ولكن إبراهيم وجد نفسه، وقد وصل إلى الله، أمام مشاكل:
- كيف يتقرب إلى هذا المجرد، خالق السموات والأرض.
- بما أن لكل معبود معبد، فأين بيت هذا الواحد الأحد، وهل له بيت؟
- أين تقدم القرابين لله؟ وما هي القرابين التي يحبها؟
- ما هو اسمه؟
لقد كان ثمة آلهة كثيرة عند الناس لكل منها معبد واسم واختصاص وأتباع وكهنة، وللتمييز فقد سمى الناس هذا الذي يدعو إليه إبراهيم “إله إبراهيم”، لأن فكرة الإلهة المجرد ولفظه كانت بعيدة عن الذهن وغير مفهومة.
هنا نلاحظ كيف استعمل التنزيل الحكيم هذه التسمية بكل دقة في قوله تعالى: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون} البقرة 133. ونلاحظ كيف لم يقولوا “نعبد الله” .. لأن هذا المفهوم المجرد لم يكن واضحاً في الأذهان كما أسلفنا.
ونمضي مع التنزيل الحكيم، لنرى كيف تم حل المشاكل أمام إبراهيم، وكيف جاءه جواب تساؤلاته:
- – لقد دل سبحانه خليله إبراهيم على مكان البيت، وأمره بتطهيره للعباد وبرفع قواعده، بقوله تعالى: {وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} البقرة 125. وبقوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم} البقرة 127. وبقوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين} آل عمران 96.
وتم حل مشكلة التقرب إلى الرب المجرد غير المشخص، والاتصال به والصلة معه بالصلاة، فأول مرة بالتاريخ تقام فيها الصلاة كشعيرة من الشعائر بركوعها وسجودها، كانت في زمن إبراهيم بدلالة البقرة 125، وبدلالة قول إبراهيم لربه {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء} إبراهيم 40. هذا فيما يتعلق بالشعائر المجردة (إقامة الصلاة).
أما فيما بتعلق بالشعائر المشخصة، فنلاحظ أن الكعبة بقيت حتى الآن بيتاً لله، بينما اندثرت كل بيوت الآلهة الأخرى، رغم ازدهارها في حينها. وبما أن الطواف حول الكعبة (بيت الله) هو من الشعائر المشخصة، أي عبادة فؤادية بحتة باعتبار أن الكعبة أساساً من جدران وأحجار، فقد قام إبراهيم داعياً {.. فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ..} إبراهيم 37. وقد قلنا بأن الفؤاد هو الإدراك المشخص.
وبقيت مشكلة الذبائح والقرابين تؤرق إبراهيم، إذ كيف تقدم القرابين، ومن بينها قرابين بشرية، إلى بيوت ومعابد آلهة مزيفة لا تضر ولا تنفع، ولا يقدم مثلها لبيت خالق السموات والأرض؟ وأصبحت شغل إبراهيم الشاغل حتى بدأ يرى في منامه أنه يذبح ابنه إسماعيل ليقدمه قرباناً، على جري العادة في القرابين. ولا بد أنه رأى هذا المنام ذاته أكثر من مرة، بدليل أنه قال لابنه {.. إني أرى في المنام أني أذبحك ..} الصافات 102، ولم يقل “إني رأيت”، كما قال يوسف لأبيه، وقد رأى رؤياه تلك مرة واحدة.
ولا شك أن جواب الابن لأبيه {.. يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين} الصافات 102، فيه إشارة إلى إيمان إسماعيل بإله أبيه من جهة، وإلى إيمانه بأبيه كنبي من جهة ثانية، وإلى بره بأبيه م جهة ثالثة، وإلى قناعته التامة بأن ذبحه قرباناً لله فيه تشريف له ورفع لمقامه، هذه القناعة التي كانت حتى لدى القرابين التي تقدم إلى معابد الآلهة الأخرى.
هنا يجيء الحل من الله سبحانه وتعالى، فيفدي إسماعيل بذبح عظي. وما زالت هذه السنة معمولاً بها في الحج حتى الآن، للدلالة على ما يلي:
- إن الله تعالى لا يناله شيء من لحوم ودماء الأضَاحي، إنما هي تعبير منا عن على طاعتنا وحبنا لله، إحياء لذكرى خليله، وتيمناً بما قدم من قربان، أما الذبائح نفسها فينتفع بها وتؤكل.
- إن الله لا يريد أية ذبائح أو قرابين بشرية، ومنع مثل ذلك بتاتاً، لأنه شأن من شؤون الآلهة الباطلة.
هنا نفهم تماماً قوله تعالى يصف البيت الحرام {.. ومن داخله آمناً}. الذي لا يمكن أن يعني أبداً أن من دخله، كان آمناً من أن يقتله آخرون، فهناك كثيرون قتلوا في المسجد الحرام، والمسجد نفسه سبق أن دك عدة مرات قديماً وحديثاً وكان فيه أناس قتلوا. بل يعني أن من دخله كان آمناً من الذبح والتقديم كقربان.
وهذه الناحية بالذات، ناحية منع تقديم القرابين البشرية بدأت عند إبراهيم، ثم انتشرت في كل أرجاء المعمورة، فقد نرى الآن إنساناً يقتل إنساناً آخر، لكننا لا نرى أبداً أحداً يذبح قرباناً لله تعالى، أو لأي إله آخر. وهكذا نرى رأي العين مصداقية قوله تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم} الصافات 108، 109. كما نرى اليوم في الإسلام بفروعه الثلاثة اليهودية والنصرانية والمؤمنة، وجود الصلاة التي تقام، وفيها ركوع وقراءة وسجود.
لقد غطى التنزيل الحكيم في القصص القرآني سيرة إبراهيم، إلى جانب سير أنبياء آخرين، لكنه خصص تغطية أكبر لسيرة موسى.. فلماذا؟ لأنه في فترة ما بين موسى وإبراهيم، كان إله إبراهيم، وهو رب السموات والأرض، واحداً من آلهة كانت موجودة بالعشرات. وكان أتباع إله إبراهيم قلة، خاضعة للاستبداد والعبودية. هكذا كان الوضع حين بعث موسى، لا شريعة كاملة، ولا مبادئ أخلاقية متكاملة، ولا نظرة شمولية إلى الحياة والكون والإنسان.
ولكن عندما بعث الله موسى، تم حل هذه المشكلات:
1 – تم ترسيخ إله إبراهيم في أذهان الناس، فالآيات التسع التي جاء بها موسى هي تعبير عن معركة جرت بين إله إبراهيم وموسى، وبين بقية الآلهة، وتدخل فيها سبحانه مباشرة. أي أن المعجزات التسع التي أوتيها موسى، لم تأت لأن السحر كان شائعاً في ذلك الوقت، وإنما جاءت لتصيح بالناس: أيها الناس، أنا إله إبراهيم وموسى، فأين آلأهتكم؟ أروني ماذا تستطيع أن تفعل لكم. فكان لسان حال معجزات موسى، هو هذا التحدي وهذا الإعلان عن المعركة التي بدأت بقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ..} الإسراء 101.
2 – بما أن كل الآلهة كانت لا تنطق ولا تسمع، فقد كلم الله موسى، وسمع موسى كلاماً مباشراً من ربه، وهذا كان جديداً على الناس حتى وقت موسى، حيث اعتادوا قبله على المشخص من الملائكة، كما في قوله تعالى:
- {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً ..} هود 69
- {ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعا ..} هود 77.
- {كذبت قوم نوح المرسلين} الشعراء 105.
- {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ..} الأحقاف 21.
ولهذا قال الله لموسى {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ..} الأعراف 144. وذلك ليبين الله لنا أن تطور الإنسانية في ذلك الوقت كان بحاجة إلى هذه الصدمة المباشرة (كلامي) والمعرفة المباشرة (تسع آيات بينات).
حتى أن فرعون ذاته أدرك وصدق بأن إله موسى هو الله وأن كل ما عداه باطل {.. حتى إذا أدركه الغرق قال آمن أنه لا إله الذي آمن به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90. وهذا كان محصلة للآيات التسع التي قامت بصدمة كبرى، بدأ بعدها إله إبراهيم وموسى يدخل في وعي الناس، وفي وعي فرعون وسحرته.
3 – لقد تم تحرير بني إسرائيل بعد هذه الآيات التسع. وكان تحريرهم تحصيل حاصل، أي أن الناس التي تعودت العبودية مئات السنين، كانت لا تستطيع تحرير نفسها، والثورة كانت تعني القضاء المبرر عليهم.
4 – بعد تحرير بني إسرائيل بدأت الشريعة تنزل على موسى (الكتاب والفرقان) الشريعة والوصايا العشر في الألواح. إلا أن مشكلة المشخص ما زالت موجودة في أذهان الناس، رغم أنهم اقتنعوا بإله إبراهيم وموسى. ولهذا أراده أن يكون مشخصاً، هنا جاءت النقلة الخطيرة في التشخيص، من تشخيص الآلهة الباطلة إلى تشخيص الإله الحق. صحيح أنهم اقتنعوا تماماً ببطلان كل الآلهة المشخصة، ولكن ألا يمكن لإله إبراهيم وموسى أن يكون مشخصاً؟
إننا نرى ذلك واضحاً في قولهم لموسى {وإذا قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ..} البقرة 55. ونلاحظ كيف آمنوا بالله سبحانه، ولكن أين هو .. وكيف يمكن أن يدرك مشخصاً دون أن يرى جهرة لقد ضغط هذا الطلب على موسى إلى حد أنه طلب هو نفسه من الله أن يراه جهرة، وذلك في قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} الأعراف 143.
هناك علم موسى أنه الله، اصطفاه برسالاته، وبكلامه لا أكثر، وكلمة وأوحى إليه من وراء حجاب، أما أن يرى الله جرة، فهذا لا يمكن إلا إذا كان الله شيئاً مشخصاً، تعالى عما يصفون.
ونتذكر ما حدث قبل أن يذهب موسى لميقات ربه، فقد طلب منه قومه أن يشخص لهم الله، كما في قوله تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين} الأعراف 138 – 140.
هذا ما كان قبل ذهاب موسى، فماذا حدث بعد ذهابه وغيابه عنهم أربعين ليلة؟
- {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} الأعراف 142.
في هذا الميقات يعطي الله لموسى الوصايا العشر على الألواح ويوحي إليه من وراء حجاب، ويصطفيه على الناس برسالاته وبكلامه.
- {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذوها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها، سأريكم دار الفاسقين} الأعراف 145.
لقد جاءت الوصايا العشر إلى موسى (الفرقان)، وجاءت إلى محمد (ص) في سورة الأنعام 151 – 153. وعلى رأسها هنا وهناك التوحيد. ولعل النظرة التي نلقيها على الأسلوب الذي جاءت به هذه الوصية الأولى هنا، والأسلوب الذي جاءت به هناك، تلقي الضوء على ما نريد.
1 – الوصية الأولى (التوحيد) عند موسى (ع): لا تجسدني.
Don’t make image of me
2 – الوصية الأولى عند محمد (ص): لا تشركوا به شيئاً.
إن المحتوى واحد هو التوحيد، لكن الفرق في التعبير، فرق زمني تاريخي يتبع وعي الناس في كل وقت، ففي زمن موسى كان التجسيد مطلباً ملحاً عند الناس وفكرة راسخة في أذهانهم، فجاءت صيغة الأمر بالتوحيد متوافقة مع الوعي التاريخي (لا تجسدني). أما في زمن محمد (ص)، فقد بعد الناس عن التجسيد المباشر، حتى من يعبد الأصنام منهم قال: {.. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ..} الزمر 3. أي أن المشركين زمن محمد (ص) كانوا يعرفون أن الله الواحد هو خالق السموات والأرض، ويعرفون أن الأصنام مجرد واسطة. أما زمن موسى، فكانوا يريدون أن يجعلوا الله مشخصاً. وهنا نلاحظ الفرق الكبير في الوعي التاريخي بين الزمنين.
نعود إلى موسى في الميقات، لنرى ماذا كان يفعل قومه وهو يستلم الألواح وعلى رأسها وصية (لا تجسدني). لقد كانوا فعلاً يجسدون الله. واستطاع السامري أ يضلهم لأنهم حديثوا عهد بالتوحيد، ولأن التجسيد راسخ في أذهانهم للآلهة الباطلة وإله موسى على حد سواء، يقول تعالى:
- {واتخذ قوم موسى من بعده م حليهم عجلاً جسداً له خوار ..} الأعراف 148.
- {وما أعجبك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً، قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً، أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} طه 83 – 89.
- {ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم أتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} البقرة 92.
هنا نلاحظ كيف تم الاعتراف بإله موسى، ولكن تبع هذا الاعتراف تجسيد من السامري:
الوصية الأولى: لا تجسدني ← فأخرج لهم عجلاً جسداً ← فقالوا هذا إلهكم وإله موسى لقد بقيت فكرة تجسيد الله هذه في أذهان الناس، حتى صارت عند العرب زمن البعثة المحمدية أقل وأخف وطأة.
في الفترة الزمنية الفاصلة بين موسى (ع) ومحمد (ص)، بعث المسيح عيسى (ع)، ليحل بعض ما حرم على بني إسرائيل، وليضع عنهم الإصرار والأغلال، متمماً لرسالة موسى (ع). وليعلمهم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. فماذا حصل بعد أن رفع الله عبده ورسوله المسيح إليه؟
لقد فصل بولص المسيحية عن اليهودية، مع إبقاء الكتاب المقدس واحداً.
- الكتاب – شريعة موسى (كتوبيم) مع التعديلات وإلغاء الاصر والأغلال.
- الحكمة – الوصايا مضافاً إليها قواعد أخلاقية.
- التوراة – نبوة موسى.
- الإنجيل – نبوة عيسى.
بعد أن فصل بولص المسيحية عن اليهودية، وجعلها مستقلة تماماً، بقي الكتاب المقدس يتلى كمصدر لمعلومات خلق الكون (نبيئيم – قصص الأنبياء)، أما الشريعة (كتوبيم) فقد أهملت، وتم أخذ الوصايا العشر للعمل بها كمنظومة أخلاقية لا غنى لكل الناس عنها.
ولا بد من التنويه إلى أمرم في توراة موسى (ع} (الموجودة بين أيدينا اليوم) هو أنها خالية من أي ذكر لليوم الآخر، وهو أمر في غاية الخطورة، بينما نجد البعث واليوم الآخر بشكل لا لبس فيه في الإنجيل (كما هو بين أيدينا اليوم). وهذا ما جعل اليهود يؤمنون بالحياة الدنيا، ويحرصون عليها تماماً، ويؤمنون بأنهم أحباء الله فيها، وهذا ما تقرؤه في قوله تعالى:
- {قل إن كنت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم، والله عليم بالظالمين * ولتدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا، يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، والله بصير بما يعملون} البقرة 92 – 96.
هذه النقطة تثير الشكوك الكبيرة حول سلامة العقيدة الحالية عند اليهود بما يخص اليوم الآخر من جهة، وبما يخص اليهود والذين هادوا (كما وردا في التنزيل الحكيم) وهل هما اسمان لمسمى واحد؟
بعد فصل المسيحية عن اليهودية، بدأ البحث جداً بطبيعة المسيح، هل هي إلهية أم بشرية، وهل هي واحدة. وقام بالبحث العديد من المجامع المسكونية التي انعقدت في الفترة الواقعة بين رفع المسيح وولادة محمد (ص) عام 570م.
وبعثته عام 610م(2). فانقسمت الآراء حول طبيعة المسيح:
1 – قسم قال بالطبيعة الواحدة الإلهية للمسيح، وأنه هو الله مجسداً. وهذا من بقايا تجسيد السامري في زمن موسى، فطوروا التجسيد من العجل إلى المسيح.
2 – قسم قال بطبيعتين للمسيح إلهية وبشرية، منهم من غلب الإلهية ومنهم من غلب البشرية.
3 – قسم قال ببشرية المسيح، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم. وعلى هذا فمريم ليست أم إله. ويبدو أن نصارى الحبشة والأنباط أيام الهجرة الأولى، كانوا ن هذا القسم، بدليل أن النجاشي حين سمع جعفر (رض) يتلو سورة مريم، لم ينكر منها شيئاً، ولم يجد فيها ما يتعارض مع معتقده.
من هذا الانقسام حول طبيعة المسيح نشأت العقائد في الكنائس المسيحية فانقسمت إلى يعاقبة ونساطرة وأقباط آريوسيين وغير ذلك، إلا أن الزخم الذي ساد هو زخم الثالوث المقدس.
بعد هذه المقدمة، نستطيع أن نفهم بكل دقة معنى قوله تعالى في المائدة 72 و 73 وفي النساء 171، ونستطيع أن نفهم أن الشرك كذنب لا يغتفر هو شرك التجسيد الذي يحرم تعالى على أصحابه الجنة.
أ –
- {لقد كفر الذين قالوا إن الله (هو) المسيح ابن مريم ..
- وقال المسيح يا بني إسرائيل ابعدوا الله ربي وربكم ..
- إنه من يشرك بالله ..
- فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار} المائدة 72.
ونلاحظ هنا أن الكافرين يقولون إن الله هو المسيح، وهذا هو التجسيد.
ونلاحظ أن المسيح يدعو هؤلاء إلى عبادة الله (توحيد ألوهية) لأنه ربه وربهم (تنزيه عن الوالدية ربوبية).
ونلاحظ أن المسيح يسمي ذلك كله شركاً يحرم على صاحبه الجنة (لأن التجسيد واضح فيه).
ب –
- {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ..
- وما من إله إلا واحد ..
- وإن لم ينتهوا عما يقولون ..
- ليمسن الذين كفروا (منهم) عذاب أليم} المائدة 73.
ونلاحظ هنا أن الحديث عن التثليث، وليس عن التجسيد، وأن للتنزيل موقفاً أقل شدة لم يأت فيه تحريم الجنة.
فهو هنا يهدد من لا ينتهي بالعذاب الأليم. ونلاحظ أخيراً أنه يقسم المثلثين إلى قسمين، وأن العذاب الأليم سيمس القسم الذي كفر منهم.
وهذا يقودنا إلى النساء 171.
- {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ..
- .. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ..
- .. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم ..
- .. إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون ولد ..} النساء 171.
هنا نجد ألطف أنواع الخطاب القرآني الثلاثة، فلا حرمان من الجنة، ولا وعيد بالعذاب، بل أمر إن كان لا يخلو من الحزم، فهو لا يخلو من الاعتدال الهادئ {انتهوا خيراً لكم}.
ولعلنا لا ننسى ما تورده السيرة النبوية عن نصارى نجران، حين قدموا على النبي (ص) في المدينة، فسمعوه وأكرمهم، وتركهم على ما هم عليه، وأعطاهم كل ما سألوا، ولم يدخل معهم في أي جدال.
هذا ما يتعلق بالشرك الذي لا يغتفر، وهو شرك التجسيد، أما الشرك الذي قع به كثير من المؤمنين، الوارد في قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف 106. فهو شرك الربوية أو شرك الألوهية أو شرك يقترب أحياناً من التجسيد دون أن يصل إليه. ولقد تحدثت بالتفصيل عن الشرك في “الكتاب والقرآن”، وملخصه أن شرك الألوهية يكمن في جعل جيل الصحابة والفقهاء معصوماً مطلقاً، وجعل ما قالوه شرعاً إسلامياً إلى أن تقوم الساعة.
أما شرك الربوبية فيتجلى في زيارة قبور الأولياء، والتقرب إلى الله عن طريقهم، كما لو أن التقرب منه يحتاج إلى واسطة، أو كما لو أن الله أصم غائب تعالى اله عما يصفون.
وقد يجتمع شرك الألوهية والربوبية في شخص الشيخ أمام المريد، فكلام الشيخ مطلق لا يناقش، والطاعة له مطلقة، والوصول إلى الله لا يكون إلا بواسطته. إضافة إلى أن البعض اقتربوا كثيراً من شرك التجسيد في نظرتهم إلى الرسول الكريم، من خلال الإطروحات التالية:
1 – مكتوب على عرش الرحمن: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
2 – خلق الله الكون من نور محمد.
3 – كل ما قاله وفعله محمد (ص) وحي من الله. أي أنهم جعلوا الوحي وحيين وحي التنزيل الحكيم، ووحي ما يقوله ويفعله محمد (ص).
4 – كل هذا ليثبتوا مقولة “العلماء ورثة الأنبياء”
ولإيجاد درع يختبئون وراءه (شرعية الطاعة)، وسيف يشهرونه على رؤوس الناس (شرعية الأوامر)، فكل شيء يريدون أن يجبروا الناس عليه أو يهددوهم به، يجدون له حديثاً يختبئون وراءه، والحديث وحي ثان كما يقولون. والرسول بريء من اضطهاد الآخرين باسمه وإشهار سيوف الطاعة والتخويف عليهم تحت رايته.
كانوا، وما زالوا، إذ لم يجدوا لما يريدون نصاً شرعياً في التنزيل الحكيم، التمسوا واخترعوا له حديثاً أو خبراً في السنة النبوية. حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أنهم إن وجدوا نصاً قرآنياً يعارض ما يقولون، اخترعوا حديثاً يوافقه، زاعمين أن الحديث ينسخ التنزيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لقد نظرنا حولنا اليوم، فوجدنا الإنسانية أحسن حالاً من وجهة نظر شرك التجسيد. فلقد جاءت البعثة المحمدية، وكان ثمة أصنام تعبد وأوثان تقدس، قضى التوحيد عليها، وأمر الرسول الكريم إن صح، لقرب العهد بعبادة الأصنام، بترك صنع التماثيل والتصاوير، تجنباً لما تحمله من رجس ما زال ماثلاً بشكل أو بآخر في أذهان الناس.
أما اليوم، فمن المضحك أن نأمر الناس مثلاً بإتلاف تمثال أبي الهول في مص، خوفاً من عبادته، أو أن نظن أن الناس في أمريكا تقدم القرابين لتمثال الحيرة زلفى إلى الله. فقد ابتعدت أذهان الناس تماماً عن التشخيص والتجسيد، وانغرس فيها التجريد، واتسعت مداركهم عن الكون وأبعاده، وزادت معارفهم عمقاً في فهم آيات الله تعالى، وأصبحوا بمنأى عن الاختلاط الوثني المشخص، وهذا كله مما تركه لنا إبراهيم أبو المسلمين حين نقلنا من التشخيص إلى التجريد، فسلام على إبراهيم.
ننتقل أخيراً إلى قوله تعالى:
- {لله ما في السموات وما في الأرض، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير} البقرة 284.
- {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} البقرة 286.
ولعل ما دعانا إلى الوقوف عند الآيتين، قوله تعالى في الأولى {فيغفر لمن يشاء} والمغفرة لا تكون إلا للذنوب، وقوله تعالى في الثانية {إن نسينا أو أخطأنا} وقوله في الثانية أيضاً {واغفر لنا} وعلاقة هذا بما نحن فيه من قول في الذنب والخطيئة.
أما ما يذهب إليه القائلون بالنسخ (انظر الناسخ والنسوخ لهبة الله بن سلامة ص 16) من أن قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} منسوخ من قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، وأن الناسخة هذه منسوخة بدورها بقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} فهو ليس عندنا بشيء، لعدد من الأسباب شرحناها تفصيلاً في كتابنا الثاني “دراسات في الدولة والمجتمع”.
منها أن النسخ يستهدف الآية، والمنسوخ هنا جزء من آية، ومنها أن النسخ يكون في آيات الرسالات، وليس في آيات الرسالة الواحدة، ومنها أن النسخ يستهدف الأحكام، والمنسوخ هنا قوانين ونواميس.
ونبدأ بقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}. ونرى أننا لا يمكن أن نفهمه بدقة إلا في ضوء قوله تعالى:
- {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، ويعلم ما في السموات وما في الأرض، والله على كل شيء قدير} آل عمران 29.
- {يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون، والله عليم بذات الصدور} التغابن 4.
ونلاحظ في آل عمران قوله: {ما في صدوركم}، أي أن الإبداء والإخفاء جاء لما في الصدور. والصدر، كما شرحت في كتابي الأول “الكتاب والقرآن” هو الدماغ، فمركز التفكير هو الرأس مستقر الدماغ، وليس الصدر مستقر الرئتين. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك مباشرة {يعلمه الله}، وأضاف متابعاً {ويعلم ما في السموات وما في الأرض}. ونفهم أن مجرد تفكير الإنسان بشيء معين، فإن الله يعلمه بنفس اللحظة، تماماً كما يعلم ما في السموات وما في الأرض، ونفهم أن صيغة فعل (يعلم) جاءت تشمل الاستمرارية اللحظية المتحركة دائماً.
كما نلاحظ في الآية أنه لا يوجد حكم بثواب أو بعقاب، على الأفكار التي تخطر في أذهان الناس، وإنما هي للإخبار بأن الإبداء والإخفاء يكون عن الآخرين وليس عن الله الذي {يعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم ذات الصدور}. وينتج لدينا: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدون ← يعلمه الله + ويعلم ما في السموات وما في الأرض.
يعلم ما في السموات والأرض {ويعلم ما تسرون وما تعلنون ← والله عليم بذات الصدور}
ونلاحظ أن مصطلح صدوركم والصدور جاء في الآيتين للإخبار عن علم الله به، وليس فيه أمر أو نهي أو ثواب أو عقاب. كما نلاحظ أنه سبحانه ربط معرفة خواطر الإنسان وأفكاره بمعرفة ما في السموات والأرض، فجعل من كليهما محلاً للعلم، إذ لا علم بلا محل. مؤكداً أنه عليم بذات الصدور. أي أن التركيبة العضوية للدماغ، التي هي محل صفته الوظيفية كفكر، من صنعه، وأن ما يصدر عنها من صنعه أيضاً، ولهذا ختم الآية بقوله: {والله على كل شيء قدير}.
لكننا نلاحظ أن آيتي آل عمران والتغابن تذكر الصدر، بينما آية البقرة تذك النفس {ما في أنفسكم}. كما نلاحظ أن الآيتين تذكران العلم، بينما آية البقرة تذكر الحساب {يحاسبكم}.
لقد بدأ سبحانه آية البقرة بالنص على مقام الربوبية، فملكيته لما في السموات وما في الأرض هي من مقام الربوبية، والحساب أيضاً من مقام الربوبية. أما النفس فقد وردت في التنزيل الحكيم ولها نوعان:
1 – الوجود العضوي الحيوي للإنسان كبشر، وذلك في قوله تعالى: {كل نفس دائقة الموت}. ويخضع للتطور العضوي (جنين – طفولة – شباب – شيخوخة).
2 – الأنا الإنسانية بأفكارها ومشاعرها. وهي ما نطلق عليه اسم النفس التكاملية. وهذه هي التي تشتمل على ما سنحاسب عليه، وفيها جدل النفس الإنسانية، وجاءت في قوله تعالى: {ونفس وما سواها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} الشمس 7 – 10.
ونلاحظ أن للنفس في التنزيل الحكيم ثلاثة مقامات:
- النفس الأمارة بالسوء: وهي التي غلب فيها الفجور على التقوى.
- النفس اللوامة: وهي التي في حالة صراع بين الفجور والتقوى، فإن غلبت التقوى، انتقلت إلى المقام الثالث.
- النفس المطمئنة: وهي التي غلبت فيها التقوى على الفجور.
لذا، فإن ذكر النفس فيه مجال عمل وسلوك، وليس مجال تفكير فقط، ولو اقتصر على مجال التفكير لذكر الصدر. وبما أن الثواب والعقاب يكونان للسلوك والعمل، وليس للتفكير، فقد قال: {وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه}، أما عن النفس التي تموت وهي محل تضحية فقد قال: {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم}. فالجهاد هنا هو (الموت).
من هنا فنحن نرى أن آية البقرة 284 تتحدث عن سلوك وعمل إنساني واع مقصود، وليس عن أفكار. ونرى أن الثواب والعقاب يقع على السلوك والعمل، وليس على الأفكار. فليس هناك ثواب على الأفكار الحسنة وعقاب على الأفكار السيئة، وإلا دخلنا في متاهة كبيرة وأصبح الحساب مهزلة.
والآية جاءت لتغطي مجالاً في السلوك الإنساني لا يستطيع شرع ظاهر أن يغطيه في أي مجتمع وضمن أي نظام إسلامي كان أم غير إسلامي. ونورد هنا مثالين عن الإبداء والإخفاء في السلوك الإنساني الواعي تجاه الغير:
1 – الإخفاء: يريد زيد أن يبيع قطعة أرض يعلم أن مرسوم استملاك سيصدر بشأنها، لكنه يخفي ذلك. فاشتراها عمرو ونقده الثمن وانتقلت الملكية لاسمه، دون أن يعلم بأمر الاستملاك الذي يخفيه زيد. ثم صدر المرسوم .. هنا لا يستطيع عمرو أن يطالب زيداً بشيء. ولا يوجد أي نظام قضائي يلزمه بشيء ويرد الحق إلى عمرو، إذا كانت نفس زيد من نوع الأمارة بالسوء، لكن الآية جاءت لتقول إن الله بالمرصاد {فيعذب من يشاء}. أما إذا كانت نفس زيد من نوع النفس اللوامة. وراجع نفسه وندم على ما فعل، وأعاد إلى عمرو حقه، فإن الله {يغفر لمن يشاء}.
2 – الإبداع: جاء زيد يسأل عمرواً عن شخص ما، فأبدى له عمرو كل مساوئ هذا الشخص، أو كل محاسنه. مما أدى إلى وقوع ضرر نتيجة هذا الإبداء، ففي هذه الحالة لا يوجد قانون في الدنيا، ولا نظام قضائي في العالم، يستطيع أن يعوض زيداً عما لحقه من ضرر. لكن الآية جاءت لتؤكد أن الله بالمرصاد {فيعذب من يشاء}.
وهكذا نرى الآية جاءت لتغطي كل حالات التعامل بين الناس مخفية كانت أم معلنة، ونرى أن نسخ هذه الآية من قبل الفقهاء (كذا) أدى إلى سقوط الضمير الإسلامي عند المؤمنين. ونرى أن قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ليس له أية علاقة بما ذكرناه، ولا مبرر إطلاقاً للقول بالنسخ، إذ لكل آية حللها الخاص بها ومجالها الذي تطبق فيه.
إن آية البقرة 284 تستهدف كما قلنا، السلوك والعمل الإنساني الواعي المقصود، وتتحدث عن الذنب يليه العذاب أو المغفرة، أما الآية 286، فتتحدث عن النسيان أو الخطأ {إن نسينا أو أخطأنا}، أي أن مجال تطبيقها هو الخطأ غير المتعمد أو المقصود، الذي شرحناه بالتفصيل في صفحات سابقة، مما نعود بعده إلى الجزم رمة أخرى بعدم جواز النسخ، في الرسالة الواحدة.
(1) نلاحظ أنه لا أحد من الرسل والأنبياء دعا الناس إلى وجود الله، بل دعوا إلى توحيده، فالله لم يترك للأنبياء والرسل أمر تعريف الناس بوجوده، إذ هو موجود في فطرة كل الناس، منهم من يشخصه ويجسمه ومنهم من يرتقي ويجرده. والمجرم بالأصل لا يعاقب على إنكار وجود الله، بل على تكذيب الرسل بالوحدانية والتكذيب باليوم الآخر (يوم الدين)، وعلى قطعه صلاته بالله عن سابق إصرار.
(2) عام 324م أصدر الإمبراطور قسطنطين قراراً، أنهى بموجبه اضطهاد المسيحيين ومنح جميع رعاياه حرية المعتقد.
1 – عام 325م: مجمع نيقيه المسكوني الأول: أنكر آريوس المصري ألوهية المسيح في هذا المجمع الذي حضره الامبراطور، 300 أسقف أكثرهم من المقاطعات الشرقية، وانفض المجمع النصف مؤيد والنصف معارض.
يقول آريوس بإله واحد هو الأب، أما الابن فهو مخلوق من العدم بإرادة الأب، لهذا لا يتساويان، والمسيح ليس إلهاً.
ويقول المعارضون: المسيح ليس مخلوقاً من عدم، بل من جوهر الأب قبل كل الدهور، ومساوٍ للأب في الجوهر، وإله حق من إله حق، لأجل البشر وخلاصهم. تجسد وتأنس وتألم ومات، وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء. وسيعود ليدين الأحياء والأموات.
قرر المجمع نفي آريوس وأتباعه، واعتبار كنائس روما وأنطاكية والاسكندرية متقدمة على الكنائس.
2 – عام 336م: مجمع القسطنطينية: أعيد آريوس وأتباعه من منفاهم، وأيد الامبراطور وجهة نظرهم.
3 – عام 343م: مجمع سارديكيه: انعقد بهدف إرضاء الفريقين، ثم انفض بلا جدوى.
4 – عام 345م: هادن الامبراطور كونستانتيوس الأرثوذكسيين النيقيين، وأعادهم إلى مناصبه. وانقسم الآريوسيون إلى فرقتين:
أ – أنصاف الآريوسيين: ويقولون بأن الأب والابن من نوعية متشابهة ولكنها ليست واحدة.
ب – الآريوسيون المحافظون: أنكروا كل تشابه في النوعية بينهما.
انقلب الامبراطور نحو الآريوسيين، وراح يضطهد الأرثوذكس اليعقوبيين.
5 – عام 381م: المجمع المسكوني الثاني / مجمع القسطنطينية.
150 أسقفاً جلهم من الأرثوذكس، أدان الهرطقة الآريوسية.
6 – عام 431: المجمع المسكوني الثالث. 200 أسقف حكموا على نسطوريوس بالهرطقة، ونفاه الامبراطور إلى مصر فاغتاله رهبانها. وكان بطرس القسطنطينية.
يرى نسطوريوس بوجود طبيعتين في المسيح، إلهية وبشرية. وهما منفصلتان والغالبة هي البشرية. وهذا يعني أن ميم ليست والدة المسيح الإله، وإنما والده المسيح الإنسان
ويرى معارضوه بزعامة كيريلوس بطرك الاسكندرية، أن للمسيح طبيعتين، إلهية وبشرية، وهما متحدتان في شخص المسيح.
7 – عام 419م: مجمع أفيسوس، ويسمى المجمع اللصوصي.
الاعتراف بمذهب الطبيعة الواحدة البشرية للمسيح، واعتبر كل معارض لهذا المذهب خارجاً عن الدين (هرطيقاً).
8 – عام 551: مجمع خليقدونية المسكوني الرابع:
تألف من 630 أسقفاً، وأدان مذهب الطبيعة الواحدة (اليعقوبي) والمذهب النسطوري. ورأى أن المسيح إله له كل صفات الإله، وإنسان له كل صفات الإنسان. هو ابن ووحيد واحد. وهو نفسه الله الكلمة الرب يسوع المسيح.
(3) تعليقات
ليث العراقي
بارك الله في طرحكم
hadjer hadjer
بارك الله فيكم على هذا المجهود المتميز فقد بينتم لنا ما جهلنا خاصة فيما يتعلق بهذا الموضوع
وارجو فقط ان اشير لكم ان هناك اخطاء في الكتابة قد وقعت سهوا يمكنكم مراجعتها خاصة في كتابة آيات القرآن الكريم
وفي فقرة رأيت انها غيرت المعنى او ليس المقصود هذه الكلمة واليكم الفقرة
الناحية بالذات، ناحية منع تقديم القرابين البشرية بدأت عند إبراهيم، ثم انتشرت في كل أرجاء المعمورة، فقد نرى الآن إنساناً يقتل إنساناً آخر، لكننا لا نرى أبداً أحداً يذبح قرباناً لله تعالى، أو لأي إله آخر. وهكذا نرى رأي العين مصداقية قوله تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم} الصافات 108، 109. والخطأ أراه فيما يلي:
كما نرى اليوم في الإسلام بفروعه الثلاثة اليهودية والنصرانية والمؤمنة، وجود الصلاة التي تقام، وفيها ركوع وقراءة وسجود.
الهادي ود الكامل
وفقكم الله لاصلاح البلاد والعباد