توصلنا في القسم الأول من هذا الكتاب، إلى أن الإسلام دين الفطرة، وأن المسلمين هم معظم سكان الأرض، وأن الإيمان تكليف، وأن المؤمنين هم أتباع محمد (ص).
وانتهينا إلى مفهوم عالمي إنساني واضح لقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ..} الأنعام 125. وإلى أن الله سبحانه هدى معظم سكان الأرض للإسلام فعلاً، وشرح صدرهم له. وأن الذي يرفض المثل العليا الإسلامية فعلاً، ينطبق عليه قوله تعالى في تتمة الأنعام 125 {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ..} لأنه لا يستطيع أن يواجه الناس والمجتمع إلا بهذه الحالة.
وعلى هذا، فنحن بحاجة إلى تصحيح الكثير من المفاهيم، وبخاصة ما يتعلق منها بأمور العقيدة، وطريقة التعامل مع الآخرين. علينا نحن المسلمين المؤمنين أتباع محمد (ص) أن نتعامل مع الناس على مستويين:
المستوى الأول، مستوى الإسلام. مستوى الإيمان بالله واليوم الآخر والتوحيد والمثل العليا. وبما أن الإيمان بالله واليوم الآخر والتوحيد أمر شخصي لا إكراه فيه، يخص كل إنسان على حده، فإننا نتعامل مع الآخرين على أساس المثل العليا الإسلامية، لأن الإسلام ميثاق للإنسانية جمعاء، ولأن مثله العليا لا تخضع للتصويت. وهذه الطريقة في التعامل إنسانية عالمية، ولا تقتصر على العرب دون العجم، ولا على المؤمنين دون غيرهم، وهذا المستوى في التعامل مستوى دنيوي اجتماعي بحت، أي مجال عبادة الله طاعة ومعصية.
أما المستوى الثاني، فهو مستوى الإيمان. مستوى الشهادة بأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، مضافاً إليها فيما نرى، الشورى والقتال. وهذا المستوى مستوى تكاليف جاءت إلى المؤمنين أتباع محمد (ص)، هو أساس التعامل بين المؤمنين بالإضافة إلى الإسلام. وهو مستوى شخصي بحت من جهة إقامة الشعائر، واجتماعي من جهة الشورى والقتال.
لننظر الآن أين يقع دور الدولة من هذين المستويين. وهل ثمة شيء اسمه دولة إسلامية، وشيء اسمه دولة علمانية؟
دور الدولة على مستوى الإسلام بأسسه وأركانه:
أ- إن تذكرة الدخول إلى الإسلام هي الإيمان بالله واليوم الآخر. وبما أن الله هو خالق السموات والأرض، واليوم الآخر ظاهرة تخص الكون كله، وبما أنه لا شيء في الوجود إلا ويسبح بحمد الله سبحانه، فإن الله واليوم الآخر أكبر من أي دولة. فالدولة بكل بنيتها لا تعتبر شيئاً أمام الله واليوم الآخر، فكيف نحقق الله واليوم والآخر في دولة، وكيف ينعكسان على بنيتها؟
لما كان مفهوم الله أزلياً سرمدياً مجرداً، وصل إليه إبراهيم فسماه فاطر السموات والأرض حنيفاً، فيجب أن نضع في الحسبان الفردي والاجتماعي أن كل شيء متغير وهالك إلا الله. وأن قانون التطور والهلاك وتغير الصيرورة، هو القانون الثابت الوحيد في هذا الكون. يجب أن تكون هذه الحنيفية في الوجود حاضرة في أذهاننا حين نتحدث عن بناء دولة ومجتمع واقتصاد وسياسة. وهنا تظهر أهمية إبراهيم لم يعرف كيف يضع الله اسماً فسماه {الذي فطر السموات والأرض حنيفاً}. علينا أن نعي دائماً ونحن نتكلم عن الدولة، أن الدولة كغيرها من عناصر الكون تتغير من شكل إلى آخر.
فالمجتمعات تتغير، والقوانين الوضعية تتغير، والعلوم تتقدم وتتطور، والوعي الجمعي عند الناس يتغير من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر. فلا يتوهم أحد أنه قادر على رسم هيكل لدولة تخلد في وجه هذه المتغيرات كلها. علينا أن نعلم أن مفهوم التوحيد ذاته قد تطور في وعي الناس اليوم إلى الأحسن، وأن مفهوم الله المجرد عن التشبيه والمماثلة في أذهان الإنسانية اليوم، أحسن بكثير من السابق، بل إنه أحسن حتى من عصر النبوة. فالتجريد يتقدم مع تقدم الإنسانية إلى الأمام في السير على طريق الحنيفية (التغير والتطور).
ب- أما وحدانية الله، وهي أن الله لا يجسد، فهي أيضاً تسير مع تقدم الإنسانية في طريق التجريد ابتعاداً عن التجسيد. أي أن الإنسانية تسير مبتعدة عن الوقوع في شرك التجسيد الذي لا يغتفر، لكنها معرضة دائماً للوقوع في شرك التثبيت والبعد عن الحنيفية. كأن تضع لنفسها نموذجاً للأعراف أو للتشريع أو للفقه، وتزعم أنه نهائي غير قابل للتطور والحنفية، فهذا هو الشرك الخفي، الذي يعطي الظواهر صفة الثبات والبقاء، بينما هذه من صفات الله وحده، ومن هنا، نفهم علاقة التوحيد بالدولة والمجتمع، على أنها علاقة بنيوية تدخل في الوعي الجمعي للمجتمع قبل الدولة، أي أن التغير والتطور في الفقه والقانون والتخطيط والعمارة وأدوات الإنتاج، وأن تغير وتطور وسائل الإنتاج والمعاش والعمل الصالح الذي ينفع الناس ويعمر الأرض، وأن تطور العلاقات الإنتاجية والاقتصادية والأعراف والتقاليد، كلها من ظواهر التوحيد للألوهية والربوية معاً، ومن هنا نرى أن التوحيد يكمن في بنية المجتمع ذاتها.
ج – عبادية الناس لله هي الأساس في علاقة الناس بعضهم ببعض، فكلمة الله العليا التي سبقت، هي أنه تعالى خلق الناس جميعاً ليعبدوه، أي ليكونوا عباداً له يطيعونه بملء إرادتهم ويعصونه بملء اختيارهم. وهي أنه تعالى خلقهم أحراراً في الاختيار، ثم يحاسبهم بناء على ذلك، ولهذا فالمجتمع الذي تكون فيه كلمة الله هي العليا، لا ترى فيه إكراهاً. وإذا رأيت مجتمعاً المؤمنون بالله فيه مؤمنون بملء إرادتهم، والملحدون المجرمون فيه ملحدون بملء إرادتهم، فاعلم أن كلمة الله في هذا المجتمع هي العليا.
لكنك إذا رأيت مجتمعاً كل أفراده مسلمون، ليس فيه ملحد واحد، أو على العكس، كل أفراده ملحدون ليس فيهم مسلم واحد، فاعلم أنه مجتمع مستبد، هذا يسوق الناس إلى الإسلام كرهاً، وإلى إقامة الصلاة غصباً، أو يسوقهم إلى الإجرام ويكرههم على الالحاد، واعلم أنه مجتمع كلمة الله فيه هي السفلى.
لذا، فإن أساس الأسس في أي وعي جمعي، وفي أي مجتمع يريد بناء دولة، هو الحرية، كلمة الله العليا، وأن الله خلق الناس عباداً وليس عبيداً، وأن العبادية هي الحرية والعبودية هي الاستعباد. وعندما تتحقق وتتجلى فكرة عبادية الإنسان لله بأنها عين الحرية، تظهر أهمية الإسلام كميثاق.
د- بما أن الله خلق الناس أحراراً، فقد طلب منهم، بناء على ثقتهم به، أن يتبعوا تعليمات (عبادات) تتناسب وفطرتهم الإنسانية (الحنيفية)، هي تعاليم الإسلام. وهي ميثاق يتجلى، بعد الإيمان بالله واليوم الآخر، في أركان الإسلام، وفي مثله العليا الإنسانية. أي أن أركان الإسلام ميثاق الإنسانية جمعاء، الذي وافق الناس طوعاً وبدون إكراه على الالتزام ببنوده، فهو ليس بنداً في دستور ولا مادة في قانون، ومع ذلك لا يمكن لمجتمع إنساني أن يعيش بدونه، وإلا تحول إلى مجتمع بهيمي. هذا الميثاق هو التنازل والقبول الطوعي للحد من الحرية، انطلاقاً من الثقة بالله، وإيماناً بأنه مثل عليا إنسانية فطرية، وبناء عليه يكون الثواب ويكون العقاب.
وهذا الميثاق له طرفان: الطرف الأول هو الله سبحانه، والطرف الثاني هو الإنسان خصوصاً والخلق كله عموماً. ولما كان الميثاق مثلاً عليا، فالإنسان الذي يقبل بتطبيقها طائعاً مختاراً ينال ثوابه الأخروي، إضافة إلى ثوابه الدنيوي من قبول مجتمعه به وحبه له، أما الإنسان الذي يرفض بملء إرادته تطبيقها، فينال عقابه الأخروي، إضافة إلى عقابه الدنيوي بنبذ الناس له لخروجه من الدائرة الإنسانية. من هنا نرى كيف تلتحم الدنيا والآخرة في ميثاق الإسلام التحاماً لا انفصام فيه.
لقد قلنا إن الميثاق عموماً، وميثاق الإسلام خصوصاً، ليس بنداً من دستور، أو مادة في قانون، وقلنا إن أركان الإسلام وعلى رأسها الإيمان بالله واليوم الآخر أكبر من الدولة، لماذا؟ لأن الدولة عقد بين أفراد في مجموعة إنسانية، له بنود وشروط، تسري ضمن رقعة جغرافية هي الوطن، والعقد شريعة المتعاقدين، تأتي القوانين بموادها الرادعة وإجراءاتها الجزائية لتعاقب المخالفين لبنود هذا العقد، أما ميثاق الإسلام فهو ميثاق إنساني لا يتغير من مكان إلى آخر، أي لا تحدده رقعة جغرافية، وليس خاصاً بجماعة إنسانية دون غيرها، فهو أكبر وأوسع وأشمل من الدساتير والقوانين، لا بل إن على الدساتير والقوانين أن تصاغ ضمن دائرته ولا تخالفه. بكلمة موجزة: الميثاق الإسلامي مثل عليا عامة إنسانية، أما الدولة فعقد اجتماعي لمجموعة معينة من الناس ضمن رقعة معينة من الأرض.
قد يسأل سائل: كيف نجعل الملحدين يقبلون بميثاق الإسلام؟ أقول: أما الإيمان بالله واليوم الآخر، فهذا أمر بينهم وبين الله سبحانه، لست معنياً به طالما أنهم لا يكرهون أحداً على الالحاد، ولا يحاربون الله ورسله، أما المثل العليا الإسلامية فسيقبلونها بفطرتهم الإنسانية لأنهم من الناس.
نحن لا نستطيع أن نجعل من بر الوالدين مثلاً بنداً في الدستور، ولا نستطيع أن نصوغ مواد قانونية تضبط حب الوطن وإكرام الجار، إلا أن الملحد لا يستطيع في الوقت نفسه أن يقتل أو أن يكذب، ثم يقول إنني فعلت هذا لأنني ملحد، فالقتل والكذب محرمان على المسلمين وأنا لست مسلماً، ولا بأس بما عندي.
دعونا نأخذ الموضوع على مستوى الدولة ونسأل: هل يستطيع أي رئيس وزراء في دولة ملحدة أو غير دينية، أن يطلب من السلطة التشريعية إصدار تشريعات تسمح بالغش في الكيل والميزان .. أو الكذب والزور .. أو بحنث الأيمان والعهود والعقود .. أو تسمح بضرب الوالدين ..؟ أقول: هو قطعاً لا يستطيع، وإلا اتهم بالجنون وأرغم على الاستقالة، رغم أنه لا توجد أي مادة في دساتير الدنيا وقوانينها ما يمنع ذلك علناً، لماذا؟ لأن هذه الأمور من المثل العليا الإنسانية، التي يدافع عنها المجتمع نفسه، وليس الدستور أو القانون. ومن يخالفها يتعرض إلى نبذ المجتمع وعدواته، لأنها أكبر من الدستور وأكبر من القانون.
لذا، فإن من الخطأ الفادح إخضاع الإسلام ومثل الإسلام العليا لعمليات التسييس، لأن للسياسة معنيين، المعنى الأول: هو مفهوم كلمة “Politics” وتعني “فن تدبير المصالح المتنازعة “Art of Managing Conflict of Interests” فإن تسييسنا الإسلام بالمعنى الأول فيه ضياع للإسلام والسياسة معاً.
ففي المعنى الأول تصوروا معي حزباً يزعم أنه إسلامي، فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن أعضاء هذا الحزب يؤمنون بالله واليوم الآخر وبالتوحيد والمثل العليا، وكأن أعضاء الأحزاب الأخرى لا يؤمنون بهذا كله. إنه يعني تحديد الإسلام بمجموعة بعينها من الناس، وسحبه من غيرها، وهذه هي المهزلة الخطيرة. فإذا نحن نظرنا في أركان الإسلام واستعرضنا مثله العليا، كما وردت في سورة الأنعام وغيرها، رأينا أنها جميعاً غير قابلة للتسييس، بل هي للتأطير الاجتماعي الإنساني كله، لا يحدها وطن ولا لسان ولا عرق، وهذا ما لم يستطع العرب المسلمون المؤمنون استيعابه حتى اليوم.
أي لم يستطيعوا التفريق بين المعنى الأول للسياسة المذكور سابقاً والمعنى الثاني للسياسة والذي هو Policy وتعني النهج وهو أعم من الأول بكثير، فسياسة الدولة لها منهج إسلامي التي يقال عنها أسلمة السياسة، أي أن الذي يعمل بالسياسة، يؤمن بالمثل العليا سواء أكان من هذا الطرف أو ذاك. أي أن ذوي المصالح المتضاربة الذين يمارسون السياسة بالمفهوم الأول تحدهم سياسة عامة Policy التي هي المثل العليا الإسلامية أو ميثاق الإسلام، والتي تعتبر حقوق الإنسان جزءاً منها، فمثلاً أي تضارب في المصالح بين فئتين تمارسان السياسة فإن كلاهما يؤمن بأن التجسس على الناس يخالف المثل العليا. وهنا نلاحظ الفرق الدقيق بين المفهوم الأول للسياسة والمفهوم الثاني الذي هو نهج، أي أن الإسلام هو نهج للمجتمع كله ولأي إنسان سواء أكان في السلطة أو المعارضة أو لإنسان أصلاً غير مسيس.
إن كل ما حدث بعد وفاة الرسول الأعظم، كان تكتيكات سياسية (Politics) قام بها مسلمون مؤمنون (هم الصحابة) للوصول إلى الحكم، وإدارة دولة تضم مسلمين مؤمنين ونصارى ويهود وآخرين، وقد برع في هذا الفن عمر بن الخطاب وأبو بكر (رض) حين حدث فراغ سياسي خطير بوفاة النبي (ص) فمارس عمر السياسة بانتخاب أبي بكر وتجنيب المؤمنين أزمة سياسية خطيرة. علماً أنه بوفاة النبي (ص) لم يحدث أي فراغ ديني (إسلامي)، لأن الإسلام كان مكتملاً عند وفاته، وما زال إلى الآن مكتملاً وشائعاً بين معظم سكان الأرض.
وهذا كله لا علاقة له بالإسلام كمنهج إنساني. لكننا وقعنا في خطأ مرعب حين اعتبرنا كل خطوة قام بها الصحابة إسلاماً. بينما هي خطوات إجرائية سياسية لحل تضارب المصالح (المهاجرين، الأنصار، الأوس، الخزرج)، والتي أدت إلى الحروب الأهلية ذات المنشأ السياسي البحت الذي يقوم على تنازع المصالح، أي أننا عندما سيسنا الإسلام (Politics) ضيعنا الإسلام المنهج (Policy) وضيعنا السياسة معاً (Politics).
وعندما تفاقمت الأزمة السياسية بالمعنى الأول، ابتداء من عثمان بن عفان وانتهاء بالجمل وصفين، مارس معاوية السياسة بالمفهوم الأول (تنازع المصالح) ورد عليه على (رض) بممارسة السياسة بمفهومها الثاني (النهج) فانتصر الأول. لأن السياسة بمفهوم النهج، لا يمكن أن تكون بديلاً للسياسة بمفهوم تنازع المصالح. وهذه القاعدة ما زالت إلى الآن صحيحة. فالأحزاب التي تطلق على نفسها اسم “أحزاب إسلامية” تستعمل السياسة بالمعنى الثاني، عوضاً عن السياسة بالمعنى الأول، والنتيجة هي الفشل، وآلاف الضحايا والقتلى.
بينما نرى النبي (ص) مارس السياسة بالمعنى الأول بكل أبعادها، وأهم دليل على ذلك هو أن مجموع القتلى في غزوة بدر الكبرى وغزوة أحد لم يتجاوز 200 قتيل من الطرفين، بينما يصل عدد القتلى الآن إلى أضعاف هذا العدد في يوم واحد بأفغانستان والبلاد الأخرى.
وأرجو من القارئ ألا يفهم أنني مع النتائج التي توصل إليها معاوية، من ترسيخ الاستبداد وجعل الحكم وراثياً، فكل ما أقوله هو أنه مارس السياسة بالمفهوم الأول بكل براعة. والسياسي البارع قد يكون مستبداً، وقد يكون ديمقراطياً، لأن الكلام هنا عن السياسة كفن، بغض النظر عن الحقل الذي تمارس فيه، وعن الوظيفة التي تؤديها.
تعالوا نستعرض أركان الإسلام وأركان الإيمان، لنبحث عن الركن الإسلامي أو الإيماني الذي قامت عليه الخلافات والحروب ابتداء من السقيفة والجمل وصفين:
- هل كان الخلاف على الإيمان بالله واليوم الآخر؟ .. كلا.
- هل كان الخلاف على التوحيد؟ .. كلا.
- هل كان الخلاف على بر الوالدين؟ .. كلا.
- هل كان الخلاف على قتل الولد؟ .. كلا.
- هل كان الخلاف على الفواحش؟ .. كلا.
- هل كان الخلاف على قتل النفس، أم على الإرث ومحارم النكاح، أم على شهادة الزور وأكل مال اليتيم، أم على الحنث باليمين؟ .. كلا.
- فهل كان الخلاف على شهادة أن محمد رسول الله؟ .. كلا.
- وهل كان على إقامة الصلاة وإخراج الزكاة والصوم والحج؟ .. كلا.
لقد كانت الشورى والقتال كمركبات أساسية لممارسة السياسة هما لب المشكلة، ومع ذلك لم يصلانا كركن من أركان الإيمان أصلاً، أي أن الشورى كعقيدة وكممارسة بشكلها التاريخي هي ركن من أركان الإيمان، لأنها ليست فطرة، بل هي تكليف. وكذلك الجهاد في سبيل الحرية، هو تكليف وليس فطرة، جاء إلى أتباع محمد (ص). فوضع على عاتقهم نشر حرية الاختيار، والقتال دفاعاً عن حرية أهل الأرض في أن يكونوا مسلمين أو ملحدين، وبأن يختاروا ما يشاؤون دون إكراه. تماماً كما تم تكليف أتباع محمد (ص) بالشورى، إلا أنهم الآن أبعد الناس عنها، وعن الحرية، منذ قرون طويلة.
المشكلة فينا الآن، ونحن نعتبر كل الناس بعد وفاة الرسول الأعظم، هم من الصحابة، نحبهم لأنهم جيل الصديقين، لكننا رفعناهم فوق مستوى البشر حتى في تصرفاتهم السياسية، واعتبرنا ما فعلوه تسييساً للإسلام، بينما الإسلام غير قابل للتسييس أصلاً، فإذا تم تسييسه مات بموت الدولة التي سيسته لذا فإن من الشائع الآن، أن الإسلام طبق في عهد الرسول الأعظم وبعد وفاته، ثم طبق في عهد الخلفاء الراشدين، ثم توقف.
وهذه الخطيئة جاءت من تسييس الإسلام، ومن ربط السياسة بالإسلام بالمعنى الأول. أما حين يكون ميثاقاً إنسانياً لا تحده الجغرافيا ولا التاريخ، بقي هو وماتت الدول ديمقراطية كانت أم استبدادية.
إذا وعينا هذه النقطة، نقطة أن الإسلام بمثله العليا غير قابل للتسييس، بل هو مبادئ إنسانية اجتماعية راسخة، لا تحدها بنية سياسية محددة صحابية كانت أم غير صحابية، وإذا وعينا مفهوم استمرارية الإسلام بمثله العليا في أحلك الظروف وفي أحسنها، أدركنا أن الدولة طبقاً للتنزيل الحكيم لا يمكن أن تكون إلا مدنية بحتة تأخذ شرعيتها من ميثاق إنساني اجتماعي عام، وعقد بين السلطة والشعب الذي ينتخب السلطة بنفسه. وهل يمكن لأحد في الدنيا أن يقول إن الدولة المدنية دولة بلا مثل عليا، وإن المجتمع الذي يقبل الدولة المدنية القائمة على التعددية الحزبية وينادي بها ويدعو إليها هو مجتمع بلا مثل عليا.
إلا إذا حصرنا المثل العليا في الجنس وعند المرأة حصراً، وهذا فعلاً ما يحصل في مجتمعنا الذكوري.
هذا عن تسييس الإسلام، فماذا عن أسلمة السياسة؟ نجيب: نفس النتيجة. فالقول بأسلمة السياسة يعني بأن الإسلام مثل عليا إنسانية. فهل يمكن لأي حزب سياسي أن يتخلى عنها لأنه يعمل بالسياسة؟ أي نسمح لأي حزب سياسي بأن يكذب على الناس تحت شعار أن الصدق من المثل العليا الإسلامية، وأن السياسة ليس لها علاقة بالإسلام كمثل عليا؟ وهل نسمح لحزب تحت شعار العلمانية بأن يمارس التجسس على رسائل الناس وهواتفهم، زاعماً أن مبدأ (ولا تجسسوا) هو مبدأ ديني فردي لا علاقة له بالدولة؟ وهل نسمح لحزب بأن يقوم بتزوير الانتخابات، تحت شعار أن النزاهة من الإسلام، وهو حزب سياسي، وأن السياسة لا علاقة لها بالنزاهة؟
أي هل نسمح تحت شعار العلمانية، بفصل مثل الإسلام عن الدولة، بأن يسود الغش والقتل والرشوة والسرقة والمحسوبية وشهادة الزور وأكل حقوق الناس، زاعمين أن هذه مثل إسلامية إنسانية عليا، لا علاقة لنا بها لأننا علمانيين، فنحن غير ملتزمين بها وبالدفاع عنها؟ أما شعائر الإيمان (صلاة، صوم، حج) فأمر مفروغ منه أنها مفصولة عن الدولة، التي لا علاقة لها بشعائر الإيمان إطلاقاً، لا عند المؤمنين ولا عند النصارى ولا عند الذين المؤمنين ولا عند النصارى ولا عند الذين هادوا لا عند غيرهم كائناً من كان.
والمثل العليا أمر لا بد منه ولا مناص، لكل مجتمع يريد أن ينتظم، ولكل حزب لا يتشكل ولكل فرد يريد أن يعمل بالسياسة. والقانون الأخلاقي مثل عليا تدخل تحت ميثاق المجتمع، أي مجتمع، وهي غير قابلة للاختراق تحت أي شعار إسلامي أم إيماني أم قومي أم غير ذلك مما شئت. وإن وضع هذا القانون تحت بند التراث، كقيمة تراثية، أوصل أصحابه إلى كارثة، وأوصل المجتمع إلى كارثة أكبر، كانت محصلتها الاستبداد السياسي وبالذات حين تم استبدال أركان الإسلام بأركان الإيمان.
لقد تم طرح العلم كشعار (أيديولوجيته التكنولوجيا وليس السياسة، والأخلاق ذاتية أيديولوجيتها الروابط والقيم الإنسانية الاجتماعية، التي تتجلى في المؤسسات العلمية والسياسية والتشريعية. أي أن الأخلاق كمثل عليا، موجودة راسخة في الوعي الجمعي، لكنها تتجلى بحسب تعقيدات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبحسب الموقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يشغله الإنسان. فإمام المسجد الذي عمله أن يؤم الناس في الصلاة، لا يتعرض لأكل مال اليتيم، ولا للغش في المواصفات، ولا لأن يبخس الناس أشياءهم، رغم أنها كلها من مبادئه ومعتقداته التي يدافع عنها. أما الصناعي، فإن أهم قيم عليا يواجهها في عمله الالتزام بالمواصفات، والقسط في الكيل والميزان، والوفاء العقود، بحكم تعرضه لها يومياً.
وأما التاجر، فأهم القيم عنده هي قيمة {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}، وهي القيمة التي يجب إسقاطها على كل إنسان مهما كان انتاجه، من العامل اليدوي إلى الفنان والعالم. وبالنسبة لمدير الأيتام، فأهم ما يتعامل معه من القيم هو قيمة لا {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} أما القاضي فأهم القيم عنده هي {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. وأهم القيم عند أمناء المستودعات والصناديق هي {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. أما بالنسبة لعامة الناس وخاصتهم في حياتهم اليومية مع الآخرين فهي {ولا تلمزوا أنفسكم} أي لا تبخسوا أنفسكم حقهان و {ولا تنابذوا بالألقاب} أي لا تحتقروا الآخرين طبقاً للموقع الاجتماعي والاقتصادي والعلمي.
أما بالنسبة للسياسة، وللذين يعملون في السياسة والصحافة، فالقيم العليا ضرورية لهم جميعاً بدون انقاص، لأنهم بحكم عملهم يتعرضون لمخالفتها أكثر مما يتعرض غيرهم.
فالذي يعمل في السياسة ويشغل منصباً من مناصب الحكم، عليه أن يعلم أن الأعين مسلطة عليه، وأنه نموذج يحتذى، وأن الأمانة والعدالة والنزاهة والصدق واحترام الآخرين، كلها مطلوبة منه شخصياً. ومطلوب منه الدفاع عنها إذا اخترقت فالسياسي وإن لم يكن مديراً للأيتام عليه الدفاع عن مال اليتيم، وإن لم يكن قاضياً عليه الدفاع عن العدالة والعدل، وإن لم يكن صناعياً عليه الدفاع عن المواصفات. وهذا يعني أن القيم العليا تجد منعكسها في البنية العليا من المجتمع وهي الدولة. فكلما ارتفع المنصب في الدولة زادت المسؤولية الأخلاقية على من يشغل هذا المنصب.
لهذا فإن تبني كل الأحزاب السياسية، يمينية ويسارية قومية وغير قومية، للمثل العليا في المجتمع أمر مفروغ منه وغير قابل للنقاش وللتصويت. وإذا تم غير ذلك فالدمار للمجتمع والطغيان واستبداد. والمثل العليا تتناسب مع درجات التطور في المجتمع، وتختلف تجلياتها وتوزعاتها بحسب تعقيدات المجتمع المجتمع، ومدى التزام المجتمع والدولة بها. فالقيمة الأخلاقية فيا لدولة الاستبدادية قيمة ثانوية لا يتم الدفاع عنها، ولهذا يؤدي الطغيان بالضرورة إلى الفساد الأخلاقي في المجتمع، الذي يؤدي بدوره إلى غياب الضمير، وهذا يؤدي آلياً إلى ظلم الناس وتخلف الانتاج وتخلف الدورة الاقتصادية.
من هنا لا يجوز أبداً لحزب من الأحزاب أن يطلق على نفسه اسم “الحزب الإسلام” كما لو أن المثل العليا ملك له، وكما لو أن باقي الناس والأحزاب بلا مثل عليا. ومن هنا نفهم تماماً ما معنى أسلمة السياسة. أي أن على الذي يعمل بالسياسة، عليه كائناً من كان أن يتقيد أكثر من غيره بالدفاع عن المثل العليا الإسلامية التي هي مثل إنسانية بحتة. أما أن نطرح شعاراً لحزب إسلامي (الإسلام هو الحل) نضع تحته حجاب المرأة، وفصل النساء عن الرجال، وإلغاء الرياضة والموسيقى في المدارس، ونطبق فقه الشافعي وفتح الباري وفتاوى ابن تيمية، فهذه مهزلة لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
فإذا سأل سائل: ما هي الأحزاب السياسية، وما هي مهمتها؟ أقول: الأحزاب السياسية هي بالضرورة أحزاب وطنية (تعمل ضمن رقعة جغرافية محددة هي الوطن) قومية (قوم لسان) اقتصادية اجتماعية يشترك فيها كل أبناء الوطن ضمن ميثاق عمل سياسي ذو نزعة إنسانية (مثل عليا) ولا علاقة لشعائر الإيمان ببرامج ونشاطات الأحزاب السياسية. فهي فوق التعصب الديني والمذهبي والطائفي، فالتعصب الواعي هو للوطن والقومية والشعب.
نعود الآن لننظر كيف انطلت علينا نحن العرب المسلمين المؤمنين، خدعة استبدال أركان الإسلام بأركان الإيمان، عدا الركن الأول منها وهو شهادة أن لا إله إلا الله. ونستعرض هذه الأركان كما طرحت علينا.
- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
- إقام الصلاة.
- إيتاء الزكاة.
- صوم رمضان.
- حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
فنلاحظ أنها لا تحتوي على أخلاق ولا على مثل عليا إطلاقاً، وتم طمس الإحسان والعمل الصالح منها نهائيا، فأصبحت لها الخواص التالية:
- الشهادتان لا علاقة لهما بنظام الحكم، ولا تتعارضان مع أي حكم مهما كان طاغياً استبدادياً، لأن الحاكم نفسه ينطق بهما. وهذه الخدعة انطلت علينا عندما احتل التتر البلاد العربية ونطقوا بالشهادتين فقبلناهم على أنه مسلمين.
- إقامة الصلاة لا تتعارض أيضاً مع شكل الحكم ونظامه، فليصل الناس ما شاؤوا والمستبد مستعد لأن يؤمهم ويصلي معهم.
- إيتاء الزكاة أمر لا يهم الحاكم المستبد، فليزك كل الناس وليساعد بعضهم بعضاً، لا بل إن في الزكاة متنفساً للناس من وطأة استبداده، فإذا اهتم بها، فهو يهتم بمعرفة دافعي الزكاة أكثر من اهتمامه بآخذيها.
- صوم رمضان، أيضاً لا يتعارض مع أي حكم استبدادي، فليصم الناس رمضان وشعبان ورجب، بل إننا نجد الحاكم المستبد يشجع الناس على إتباع سيرة أيوب النبي في الصيام.
- حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، كذلك لا يتعارض مع أي حاكم مستبد، فليحتج الناس ما شاؤوا، متى شاؤوا، لا بل إن المستبد ينتهز الفرصة ليؤمر عليهم أميراً من طرفه يسير الحجيج تحت لوائه، وأعوانه ينتهزون الفرصة ليتقاضوا الأموال من البسطاء، تحت شعار تعليمهم، وإرشادهم إلى المناسك باعتبارهم جهلة.
انطلاقاً من هذه الأركان الخمسة حكم من حكم من الطغاة المستبدين، ونتيجة لذلك قبل الناس حكم هؤلاء الطغاة، من تتار ومماليك وأتراك، ومن كل من هب ودب، طالما أنه مسلم (كذا)، وطالما أنه ينطق بالشهادتين ولا يمنع أحداً من أداء الشعائر التي جعلوها أركاناً للإسلام.
نشأ الطغيان وترعرع خلال قرون طويلة من عمر الأمة العربية الإسلامية المؤمنة، آخذاً شرعية استبداده من طرفين: الحديث النبوي السياسي الذي كان ضرورة لا غنى عنها للمستبد لاكتساب الشرعية وطاعة الناس، وأركان الإسلام الخمسة، التي أسندوها إلى الرسول الأعظم فيما أسندوه من أحاديث. بقوة هذين الطرفين أطبق الطغيان قبضته على رقابنا، وما زال، وسيبقى حتى نتخلص من هذه الأطروحات، ونفهم أن أركان الإسلام تؤخذ من كتاب الإسلام الإلهي، التنزيل الحكيم، وليس من كتب وأحاديث أحد.
نعود الآن إلى أسس الإسلام السياسي الإنسانية العالمية التي لا تحدها حدود جغرافية، والتي يجب أن يتمثلها كل حزب سياسي، عربياً أم غير عربي:
- كل الناس عباد الله، خلقهم أحراراً يطيعونه بملء اختيارهم، ويعصونه بملء اختيارهم، ويعصونه بملء إرادتهم، والثواب والعقاب متلازمان مع الحرية (انظر بحث العباد والعبيد). والحرية قدس الأقداس بالنسبة لكل الناس، يتنازلون عن قسم منها بملء إرادتهم (الميثاق الاجتماعي)، مقابل أن يعيشوا ضمن مجموعة واعية عاقلة، وكلما زاد تحضر الإنسان ورقية، زاد التزامه الطوعي بالحد من حريته من أجل الآخرين.
- إن بنود الحياة الدنيا هي حقل عبادة الناس لله طاعة ومعصية. وكلما زادت وتنوعت هذه البنود عبد الله أكثر. لذا فإن تطور وتنوع بنود الحياة والتفاخر والتكاثر هو من أساسيات هذه الحياة. وطموح الإنسان، فرداً وجماعة، نحو حياة أفضل هو طموح مشروع، على جميع الأحزاب في سياساتها أن تعمل من أجل تحقيقه، وهذا هو الجانب الموضوعي، أي أن التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي يدخل تحت هذا البند.
- بما أن الحياة الدنيا، بما فيها من لهو وزينة وتفاخر وتكاثر، هي البنود المباشرة التي يعيشها الإنسان ويمارسها في حياته اليومية، فإن المجتمع بحاجة إلى قيم عليا (قانون أخلاقي)، لينظم العلاقات الاجتماعية على أساس إنساني، لا على أساس همجي بهيمي. هذه المثل العليا (القانون الأخلاقي) هي الجانب الذاتي الذي يجب على كل الأحزاب السياسية أن تلتزم به، دون أن يتغلب أي من الجانبين (الموضوعي والذاتي) على الآخر، وإلا كانت النتيجة كارثة.
فجانب الأخلاق والمثل العليا بدون جانب مادي موضوعي، يعني أن المجتمع مجتمع ملائكة، يعيشون على المثل بلا طعام ولا شراب ولا بيوت ولا سيارات، وهذا وهم.
وكذلك جانب المادة الموضوعي بدون أخلاق وقيم عليا، يعني أن المجتمع مجتمع وحشي بهيمي، الناس فيه ذئاب يأكل بعضها بعضاً.
من هنا نرى أن الدولة والمجتمع لا تقوم بدون هذين الجانبين، فهما مع الحرية العمود الفقري الأساسي لأي عمل سياسي ولأي برنامج سياسي، في جميع الأحزاب والدول. وهذه الأمور الثلاثة لا علاقة لها بقومية ولا بعرق ولا برقعة جغرافية، أي أنها إنسانية عامة. ونرى أن الإسلام غير قابل للتسييس، بل سياسة الدولة والمجتمع قابلة لأن تكون إسلامية، ونرى أن الخطوط العامة للسياسة بكل فروعها ما يلي:
1 – قانون التطور.
2 – البينات العلمية (مراكز البحث العلمي والجامعات ونتائج العلوم الإحصائية في العلوم الإنسانية).
3 – الأساس في الحياة الإنسانية الإباحة. فكل منع يحتاج إلى بينة مادية علمية، ويحتاج إلى موافقة الناس.
4 – الأساس في العلاقات بين الدول السلم. والحرب هي العرض والاستثناء. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى محذراً المسلمين المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ..} النساء 94.
فالله تعالى ينبه أتباع محمد (ص) ويأمرهم ألا يقاتلوا أبتاع الملل الأخرى المسالمين، بحجة أنهم ليسوا مؤمنين. ونفهم من هذا أن تقسيم الدنيا إلى دار إسلام ودار كفر، إنما هو تقسيم رسخه الفقهاء أنفسهم، الذين أعطوا المستبد المبرر الشرعي لاستبداده بصياغتهم لأركان الإسلام الخمسة. فأتباع محمد (ص) المبطقون للتنزيل الحكيم لا يقاتلون إلا من ظاهر عليهم وحاربهم وبدأهم بالقتال حتى ولو كان مؤمناً {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ..} ما عدا ذلك فلا. إضافة إلى أن هذا الفهم لآيات التنزيل يلغي مفهوم الجزية كما رسخه الفقهاء، فالجزية لا تؤخذ إلا ممن ظاهر على أتباع محمد (ص) وحاربهم، ثم انهزم عند قتالهم، عند ذلك تؤخذ منه الجزية، التي هي في وقتنا هذا عقوبات اقتصادية وتعويضات مالية تفرض على الدولة المنهزمة في الحرب.
5 – القتال في سبيل الوطن أمر مشروع أباحه التنزيل الحكيم تحت مصطلح “الإخراج من الديار” بمعناه الواسع والضيق. فيحق للإنسان أن يقاتل دفاعاً عن أرضه ونفسه وبيته ومزرعته ووطنه. وهذا ليس قتالاً في سبيل الله لذلك فهو ليس وقفاً على المؤمنين أتباع محمد (ص) وإنما هو قتال وطني يقوم به أصحاب الأرض والديار، بغض النظر أكانوا من المؤمنين أم من غير المؤمنين، ولكنه قتال مشروع أقره التنزيل الحكيم ضمن شروط، أولها عدم البدء بالقتال، وعدم المبالغة في القصاص، وعدم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا قصاصاً، ويفضل العفو وعدم قتل الأطفال والشيوخ والنساء. فإذا تم الالتزام بهذه الشروط سمي القتال عندها “حروباً وطنية”، وأصبحت حروباً مشروعة.
أما الجهاد في سبيل الله، الذي جاء إلى أتباع محمد (ص) تكليفاً ولم يجيء إلى غيرهم ولا يحق لهم إلزام غيرهم به إلا طوعاً، فهو القتال في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا، وعين القتال ضد الاستبداد ومن أجل الحرية لكل الناس قاطبة ورفع الإكراه عنهم أينما كانوا، بغض النظر عن مواقفهم العقائدية أو السياسية، وهذا ما سيأتي شرحه لاحقاً.
6 – الأسرة والتبني واحترام الأسرة، إذ لا توجد حياة اجتماعية بدون أسرة، والأسرة هي أساس المجتمع، وهذا من الفطرة.
7 – الإرث، إذ لا يوجد مجتمع في العالم ألغى الإرث كمفهوم. والخلاف على النسب والحصص خلاف ضمن حدود الله، ليس له علاقة بحلال وحرام، ولا بكفر وإيمان.
8 – العقوبات، إذ كل دولة في العالم عندها قانون عقوبات. والعقوبات في الإسلام هي حدود الله، التي يمكن النزول عنها، والوقوف عندها، إنما لا يمكن تجاوزها. وهذا منسجم مع فطرة الناس فيكل أنحاء الأرض.
لنبحث الآن عن النظام السياسي الذي يكفل الدفاع عن المثل العليا الإسلامية. ونبدأ بالمثال التالي:
عندما يعمل الإنسان ويقبض أجره، فهو يفعل ذلك بفطرته دونما حاجة إلى تربية تعلمه كيف يقبض المال. لكن دفع قسم من هذا المال للغير وخاصة دون مقابل (فعل الخير / الصدقة) يحتاج إلى تربية واقتناع بإيثار الآخرين. ولهذا سمي هذا النوع من الدفع (صدقات). وهو مصطلح راق جداً لأنه جاء من فعل صدق، يعني أن الإنسان الذي يدفع الصدقات، إنما يقدم تصديقاً عملياً لإيمانه بإيثار الآخرين وعطفه عليهم، ولتغلبه على الأنا الفطرية في داخله. وهذا ما نراه واضحاً فيدول العالم التي تفرض الضرائب على الأجور.
فالإنسان يقبض أجره بالفطرة، ويدفع الضريبة بالتكليف، ومن هنا جاءت تسمية “التكليف الضريبي”. وهنا ينقسم المكلفون إلى قسمين:
قسم تتغلب الأنا لديه على الوعي الجمعي الراقي، فيحاول أن يقبض أكثر ما يمكن ويدفع أقل ما يستطيع، بل إن بعضهم يبحث عن المخارج القانونية ويتهرب ليدفع أقل ما يمكن، ويسمى ذلك “فهلوة وشطارة”. وقسم ارتقى الوعي الجمعي لديه، فاعتبر أن ما يدفعه للدولة حق لها مقابل ما تقدمه له من خدمات، وليس مجرد أتاوة تأخذها الدولة لتصرفها على نفسها.
من هذا المنطلق نفسهم لماذا كانت الشورى وكان الجهاد من أركان الإيمان، أي لماذا جاءت الشورى وجاء الجهاد تكليفاً، تماماً كالتكليف الضريبي، ونفهم لماذا اختلف موقف الناس منها كتكليف. فالإنسان بفطرة الأنا الفردية لديه يميل إلى الغلبة على الآخرين.
ولهذا جاءت الشورى لتعديل هذا الميل الفطري لدى أصحاب السلطة الذين قد يدفعهم سحر السلطة إلى تغلب الأنا لديهم على الغير. ومن هذا المنطلق كانت الشورى ركناً من أركان الإيمان، تحتاج إلى تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتحتاج إلى أن يتنازل الإنسان أحياناً عن سلطته للآخرين طوعاً، وهذا هو عين التكليف. فالذي يصوم رمضان طوعاً، تغلب على فطرة الأنا لديه في تناول الطعام والشراب، والذي يؤدي الزكاة تغلب على فطرة حب المال واكتنازه.
كذلك هي الشورى، تكليف يجب أن يتربى الإنسان عليه ويتدرب، في البيت والمدرسة والجامعة والشارع، بحيث يصبح عنده جزءاً من سلوكه في ممارسة الشعائر كالصلاة والصوم والحج. ولكن لما كانت الشورى تكليفاً يحتاج إلى تربية ووعي فردي وجمعين فقد وردت في أركان الإيمان كعقيدة، وتركت ممارستها للتطور التاريخي ضمن إطار {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.
أي أن الشورى تمارس حسب الاستطاعة والإمكان، والتعبير عنها بشكل مباشر يأتي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا لا يتم إلا وفق استطاعة الفرد، وحسب التطور التاريخي بالنسبة للمجتمع ووعيه. ولقد تم إهمال الشورى كركن من أركان الإيمان، رغم أنها تحتاج إلى جهد وتربية أكثر مما تحتاج الصلاة والصوم والزكاة والحج بكثير.
هنا نستطيع أن نفهم كيف أن الشورى هي الوسيلة الوحيدة لحماية المثل العليا الإسلامية، وعلى رأسها الحرية. ونضع أيدينا بكل دقة على مفهوم الشورى بمصطلحها المعاصر وهو الديمقراطية. ونخلص إلى أن النظام السياسي الوحيد الذي يمكن حماية المثل العليا الإسلامية من خلاله، هو النظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية، ومبدأ تداول السلطة، وحرية الرأي والرأي الآخر، وحرية الصحافة والقلم، والتعبير عن الرأي بكل الوسائل السلمية. في مثل هذا النظام الديموقراطي تكون المثل العليا الإسلامية مصونة.
إذ حين يقوم مسؤول في السلطة كائناً من كان، باختراق هذه القيم الأخلاقية، تهب الصحافة والكلمة الحرة لتنبه مباشرة على هذا الاختراق وتفضح مرتكبه، وحين يعلم الجميع في مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بأن هناك من يراقبهم في الصحافة والنقابات والجمعيات، فسيحسبون ألف حساب لكل اختراق قبل ارتكابه.
نحن كمسلمين مؤمنين نؤمن بالمثل العليا الإسلامية، وبأن حقوق الإنسان جزء منها. لكن علينا أن نمارسها كتكاليف إسلامية وكتكليف إيماني وأن ندافع عنها بتطبيق الشورى وبممارستها حسب الاستطاعة، وحسب التطور التاريخي. والوصول إلى الشورى لا يأتي دفعة واحدة بين ليلة وضحاها، بل لا بد من ممارستها على كل المستويات حتى نصل إلى المستوى السياسي. أي حتى نصل إلى الديمقراطية والشورى، علينا أن نتحرر من الاستبداد العقائدي (الرزق المقسوم والعمر المحتوم) والاستبداد الفكري (تفويض بالتفكير عنا) والاستبداد المعرفي (نبذ تقديس الأشخاص والأخذ بأدوات معرفية معاصرة). بعدها نصل إلى الديمقراطية السياسية.
الاستبداد السياسي، وأنظمة الحكم الديكتاتورية، والطغيان والظلم، محصلة طبيعية لهذه الاستبدادات المذكورة، والتي تم ترسيخها عبر مئات السنين، بدءاً من استبدال أركان الإسلام بأركان الإيمان، وانتهاء باستبعاد الشورى والقتال من أجلها من أركان الإيمان.
الديمقراطية ضرورة لا غنى عنها لحماية مثل الإسلام العليا، والمثل العليا ضرورة لا غنى عنها لكل الناس، سواء كانوا مسلمين مؤمنين أم مسلمين فقط أم غير مسلمين وغير مؤمنين. ورغم أن الشورى الديمقراطية جاءت صمام أمان للمسلمين المؤمنين تكليفاً، إلا أنهم أهملوها وتركوها فتخلفوا عن باقي الشعوب التي أخذت بها، واستعاضوا عنها بمصطلحات ومفاهيم عجينة مثل: إجماع الجمهور، وإمام المسلمين، والخليفة، وأهل الحل والعقد، وكلها مفاهيم تاريخية فرضتها ظروف زمانية ومكانية معينة، أصبحت اليوم لا معنى لها، وبقي المعنى الذي يجب أن نعود لنتبناه وهو ولاية الأمة على نفسها. وأنه لا وصاية على الشعب، وأن الشعب ينتخب سلطاته بنفسه.
حين نقول إن أركان الإسلام ميثاق بين الله والناس، ونقول إن الزواج ميثاق بين رجل وامرأة يرغبان بإنشاء أسرة، كذلك نقول إن هناك ميثاقاً تم الانطلاق منه والارتكاز عليه في وضع الدساتير وصياغة القوانين. وكذلك نقول إن للعمل السياسي ميثاقاً ينتظم هذا العمل ضمنه ولا يخالفه، فالمجتمع يقوم على ميثاقين، الأول الميثاق الأخلاقي (المثل العليا) والثاني الميثاق السياسي، الذي تقوم الدولة على أساسه بصياغة دستورها في عقد اجتماعي ينظم السلطات وعلاقة الناس بهذه السلطات، وبصياغة قوانينها التي تنظم حياة الناس اليومية إطار الدستور والميثاق الأخلاقي بدون فقهاء وهامانات.
من هنا نرى المجتمع والدولة في الشكل التالي:
نأتي الآن إلى البند التكليفي الثاني من تكاليف الإيمان، الذي جاء إلى أتباع محمد (ص) حصراً، وهو الجهاد في سبيل الله، وهو تكليف لأنه ضد الفطرة. فالقتال في سبيل الله يعني القتال لتكون كلمة الله هي العليا. وكلمة الله العليا هي التي سبقت للناس أجمعين، مطيعين وعصاة، بأنهم عباده، أحرار في طاعته أحرار في معصيته، أحرار في أن يحدوا من حريتهم لأجله، انطلاقاً من ثقتهم به. وعلى هذا تتم المحاسبة والمساءلة يوم الحساب. فجاء الوعد بالثواب لمن اختار الطاعة، وجاء الوعيد بالعقاب لمن اختار المعصية، فيتحقق الوجه الأول من كلمة الله العليا وهو الحرية، ثم يتحقق الوجه الثاني من كلمة الله العليا وهو العدل، يوم لا يظلم ربك أحداً من عباده، فيجزيهم على ما اختاروا بملء إرادتهم.
هنا نفهم أن الحرية الإنسانية لجميع بني الإنسان قدساً مقدساً لا يجوز المساس به. ومن هنا نفهم أن الأمر بالقتال الذي تكلف به أتباع محمد (ص)، هو من أجل هذا القدس المقدس. ونفهم أن القتال في سبيل الله هو قتال في سبيل (الإكراه) عموماً، و {لا إكراه في الدين} خصوصاً. وكل ما عدا ذلك فهو ليس في سبيل الله، كائنة ما كانت ألوان ألويته أو الأسماء التي تطلق عليه. نفهم هذا ونحن نلاحظ أن مبدأ {لا إكراه في الدين} مرتبط في التنزيل بـ (العروة الوثقى) ومرتبط بزوال الطغيان (الطاغوت).
والقتال في سبيل الله ضمن ما ذكرنا، ليس قتالاً من أجل الوطن بالضرورة، فإذا كانت هناك مجموعة من الناس فقدت حريتها، وتعيش تحت حكم الطغيان والاستبداد، ولا خيارات عندها، فعلينا أن نساعدها حتى ولو كانت في أقاصي المعمورة. وهذا ما حصل حين توافد المتطوعون من كل أنحاء العالم للقتال في إسبانيا من أجل حرية إسبانيا. وهذا أيضاً من تكاليف الإيمان الذي جاء لأتباع محمد (ص).
ثمة مثال عن المهازل التي تحصل من جراء تسييس الإسلام، هو أفغانستان. فقد قاتل الشعب الأفغاني ضد الغزاة الروس، وهو قتال مشروع لا غبار عليه، إلا أن هذا القتال ما زال مستمراً حتى بعد جلاء الروس، رغم أن كل الأحزاب المتقاتلة هناك اسمها إسلامية. الواقع أن ما يحصل هو صراع على السلطة، (أي السياسة بمعناها الأول)، بين فئات مختلفة، لها جذور قومية / قبلية / أسرية / عشائرية / مذهبية، وكل فئة تحاول أن تستحوذ على السلطة لنفسها وهذا نموذج حي معاصر لأحداث الجمل وصفين. إن وقوع الشعب الأفغاني فريسة هذا التخلف في العمل السياسي (Politics) أمر لا علاقة له بالإسلام من قريب ولا من بعيد، ولو أن الأحزاب المتقاتلة هناك تؤمن بتداول السلطة وحرية الصحافة والانتخابات لما وقع قتيل واحد.
وإذا نحن استعرضنا أركان الإسلام وأركان الإيمان كلها، لما وجدنا ركناً مختلفاً عليهن يستحق القتال من أجله، إلا الشورى (الديمقراطية). والمعارك التي اشتعلت نارها على مدى القرون الماضية تحت شعار الإسلام، بدءاً من صفين، وانتهاء بأفغانستان اليوم، هي معارك قتال على السلطة، لا علاقة لأركان الإسلام والإيمان بها من قريب أو بعيد.
بعد أن عرفنا أن الديموقراطية هي النمط العلمي للحياة الإنسانية، وأنها من تكاليف الإيمان، والحامية الوحيدة للمثل العليا الإسلامية، التي من ضمنها حقوق الإنسان، يمكننا الآن نعرف المجتمع الإسلامي، بأنه مجتمع مدني بحت. فيه حرية التعبير عن الرأي والرأي الآخر والتعددية الحزبية، وتقوم الدولة فيه على الانتخابات الدورية بمستوياتها المختلفة، ومبدأ تداول السلطة والمساءلة والمعارضة وفصل السلطات الثلاث. وأن مفهوم أهل الحل والعقد، وهكذا أجمع الجمهور، والفقهاء والهامانات الذين يعيشون على أكتاف الناس، وكل هذه الأدبيات التي ورثناها بالمئات، ليس لها إلا قيمة تاريخية، لا تفيدنا بشيء في بناء دولة معاصرة، لأنها قامت على ظروف تاريخية مختلفة عن ظروفنا تماماً، واستعملت نظماً وأدوات معرفية تختلف عن نظمنا وأدواتنا.
مما تم ترسيخه في ثقافتنا العربية الإٍسلامية، قول أورده ابن قتيبة فيعيون الأخبار: سلطان تخافه الرعية خير للرعية من سلطان يخافها. وما علينا إلا أن نعكس هذا القول لنضع أرجلنا في مكانها الصحيح على طريق الألف ميل.
أرجو من الله سبحانه أن يقبل هذا العمل خالصاً لوجهه، فإن أصبت فبتوفيق من الله وفضل، وإن أخطأت فمن نفسي، آملاً أن أكون قد وفقت إلى إشعال شموع متواضعة، على طريق فهم حضاري أفضل للتنزيل الحكيم، عبر قراءة معاصرة تعتمد على نظم معرفية وأدوات معرفية معاصرة. خدمة لله ورسوله ولكتابه وللعروبة والإسلام والإيمان، لعل فيها ما يساعد على طرح حضاري عالمي للإسلام وعلى تجاوز التعصب الديني والمذهبي والطائفي، لبناء مجتمع عربي إسلامي متحضر مدني أفضل يشق طريقه نحو الوحدة العربية. والحمد لله رب العالمين.
{فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض …} الرعد 17.
صدق الله العظيم
الدكتور المهندس محمد شحرور