ألغام شبكات التواصل الاجتماعي… شحرور يغرد خارج السرب – أمين الزاوي
أيمكننا القول مبدئيا ومن خلال هذا الحضور قبولا، مدحا أو رفضا أو قدحا، إن اسم المفكر محمد شحرور كان وازنا في المجتمع الثقافي العربي والمغاربي؟ وهل يمكننا أيضا الاطمئنان إلى وجود حيز لـ”الفكر التنويري” بين النخب، ومن هنا الإقرار بأن كثيراً أو قليلاً من أفكاره قد تم تثميرها في الجيل الجديد؟
لا جدال في أن المفكر محمد شحرور، ومذ صدور كتابه الذي صنع له اسما، وهو “الكتاب والقرآن.. قراءة معاصرة” العام 1990، قد سجّل اسمه في قائمة مفكري التنوير والعقل المعاصرين الذين صرفوا حياتهم كلها على جبهات معارك فكرية حامية ومفتوحة ضد جبهة التجهيل والسلفية والتعصب والإرهاب الفكري، وقد قدم الكثير منهم حياته دفاعا عن قناعاته، ومن بينهم فرج فودة وحسين مروة ومهدي عامل وصبحي الصالح. ومنهم من عاش حياة مهددة من أمثال نصر حامد أبو زيد و”جمال البنا” (مصر) ومحمد الطالبي (تونس) و”طيب تيزيني” و”صادق جلال العظم” (سوريا). ومنهم من لا يزال مستمرا في نضاله الفكري ضد الظلامية والتجهيل، من أمثال هشام جعيط ويوسف الصديق (تونس) وأحمد عصيد (المغرب) وسعيد جاب الخير (الجزائر).
ولعل النقاش الذي صاحب خبر الإعلان عن وفاة محمد شحرور على شبكات التواصل الاجتماعي بيَّن أن المسألة الدينية، بأبعادها التاريخية والفكرية والسياسية والعقائدية والاجتماعية، لا تزال حاضرة وبعنف في حياة المواطن العربي والمغاربي، بل إن جلّ النقاشات التي تشغل النخب السياسية والعلمية والإبداعية العربية والمغاربية ترتبط بمعضلة “الدين” و”التدين” وعلاقتها بالتخلف والاستبداد.
ما يمكن ملاحظته، وهذا ينسحب على مدى العقود الثلاثة الماضية، هو أن الحياة قد “تديّنت”، كل شيء فيها تديّن، العلم واللغة والحفل، تَحضُر مؤتمرا علميا في دولة عربية أو مغاربية، في الفلسفة “العقلانية” أو “الوجودية” أو “الجمال” أو”التكنولوجيا” أو “اللسانية”، في التاريخ أو النقد المعاصر أو الرواية أو الشعر، حول سارتر أو حنا أريندت أو ألتوسير أو هايدغر أو ريكور أو جاك دريدا أو دوسوسور، فيصرّ المنظمون على افتتاح الملتقى بقراءة آيات من القرآن الكريم. قراءة القرآن لها شروطها وفضاءاتها.
تناقش أطروحة جامعية في الفلسفة أو علم الاجتماع أو النقد الأدبي أو تاريخ الماركسية أو الإلحاد أو القصيدة النثرية فتجد الطالب يبدأ الرسالة بالبسملة والحمدلة، بل إنه يثبت المصحف الشريف كأول مصدر قبل جميع المراجع والمصادر، مع أنه لا علاقة للنصّ القرآني بمضمون الأطروحة نهائيا، لا من بعيد ولا من قريب!!
لقد أصبح الخطاب السياسي والفكري والتربوي والإعلامي المتداول في الحياة اليومية العربية والمغاربية خطابا غارقا في مظاهر “التدين” الشكلي، وهو ما يدل على أن النخب لم تتمكن من تحرير نفسها من “ضغط” المجتمع الذي يعيش حالة من “النفاق” الديني المفروض والوعي الزائف.
حين التدقيق في سلوكات النخب العربية والمغاربية نجد أن الفقيه، كشرطيّ قامع، يسكن رأس العقلاني العربي باستمرار، مهما كان موقعه في السياسة أو الإبداع أو البحث العلمي أو الإعلام. إن معركة التخلص من هيمنة الفقيه لا تزال مستمرة، وهي دون شك طويلة.
كشفت لنا الحوارات والنقاشات بما احتوته من سجلات الشتائم والتكفير والتخوين والاتهامات، المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي، تلك التي عبّرت عنها النخب أو العامة، والتي رافقت خبر الإعلان عن رحيل المفكر محمد شحرور، كشفت عن المستوى المتدني لطبيعة النقاشات المرتبطة بالمهمة التاريخية المنوطة بالشخصيات المحورية أو المرتبطة بالأفكار المركزية التي تشغل الرأي العام في البلدان العربية، وفي شمال أفريقيا.
وقد اتضح أيضا من خلال “سوق كلام” شبكات التواصل الاجتماعي أن العامة عندنا لا تجد حرجا من التدخل في شؤون فكرية وفلسفية معقدة، هي بعيدة كل البعد عن همومها، بل وتفرض رأيها بتعنت، حتى لتبدو شبكات التواصل الاجتماعية رهينة العامة، أكان الأمر مرتبطا بـ “سوق الكلام” أو بشأن فكري معقّد.
وأمام ضجيج العامة، فإن الجامعيين العرب والمغاربيين بشكل عام، يلوذون إما بصمتهم أو يتسترون خلف حيادهم، وهذا الحال يدل على أمرين لا ثالث لهما: إمّا أنهم لم يقرؤوا أصلا كتابات المفكر محمد شحرور، وكل ما عرفوه عنه هو ما نقلته وما جاء في بعض الفيديوهات التي تدور على شبكات التواصل والتي تمارس اختصارا قاتلا للفكر ولا تقدم صورة متكاملة عن المفكر، أو لأنهم جبناء لا يتمتعون بجرأة النقاش العلمي ويفضلون الصمت مجاراة للعامة التي يريدون إرضاءها بأي شكل من الأشكال. وفي الحالتين هي خيانة للتاريخ وللفكر وللمؤسسات الجامعية والثقافية.
وحتى الذين دخلوا النقاش من المثقفين والجامعيين، وهم قلة قليلة، بدا وكأنهم ضحية الطرح الأيديولوجي البعيد عن المعرفة في بعدها التاريخي والفلسفي، وهم في ذلك يؤدون مهمة الرد على تهم التخوين والتكفير، لا مناقشة أفكار محمد شحرور.
في الجزائر، صادف تاريخ موت المفكر محمد شحرور حدثا آخر هو اغتيال أحد الرقاة المعروفين، والمدعو أبو مسلم بلحمر، بمدينة غليزان على بعد 350 كلم غربي الجزائر العاصمة، وهو أحد الرقاة “النجوم”، وكان ينشط عبر برامج تلفزيونية في “الرقية والشعوذة” على قنوات “صفراء”!! برامج قائمة على تثمير الدروشة والفكر الخرافي في الجيل الجديد، والذي يستثمر أساسا في الجهل المقدس وفي الوعي الديني الشعبي البسيط القابل للتزييف. لقد صنع الراقي أبو مسلم بلحمر لنفسه، ومن خلال برامجه على قنوات تلفزيون خطيرة، صورة شعبية حولته إلى “شبه نبي” يعالج “الجنون” ويعالج الأمراض الخطيرة التي يعجز العلماء في أكبر المخابر عن علاجها ويجهدون منذ سنوات في تفكيك أسرارها الطبية!!
لم يترك فرصة تمرّ إلا واستثمرها لصناعة “شعبيته” من خلال “الجهل المقدس”، إذ شوهد هذا الراقي المشعوذ وسط جماهير “الحراك” في شوارع بعض المدن الجزائرية وهو يرقي المظاهرة، يصبّ على المتظاهرين ماء يبصق فيه ويقرأ عليه بعض آيات قرآنية أو دعوات على طريقة السحرة والمشعوذين.
اغتيل الراقي أبو مسلم بلحمر بطعنات قاتلة بخنجر فجر يوم الأحد 22 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في ظروف غامضة حتى الآن، وقد كشف لنا هذا الاغتيال الهمجي الوحشي، والذي يجب إدانته وبشدة، من خلال شبكات التواصل، درجة الوعي الفكري الزائف في الجزائر، فقد امتلأت شبكات التواصل الاجتماعي بالمديح لهذا الراقي، يجب التفريق بين التعاطف الإنساني الواجب في مثل هذه الحالة وبين الدفاع عن أفكاره الخطيرة في المجتمع.
ففي الوقت الذي ظلت بعض القنوات التلفزيونية الجزائرية تبث، مباشرة، تداعيات الاغتيال من بيت الضحية، تجاهلت الحديث نهائيا عن المفكر محمد شحرور ولم تأتِ حتى على ذكره في نشراتها الإخبارية، وهو ما يؤكد أن العقل لا يزال غريبا في بلادنا.
يبدو أن الإعلام المرئي الجزائري والعربي بشكل عام، هو الآخر سقط ضحية سلطة الغوغاء التي استوطنت شبكات التواصل الاجتماعي، ولاحقا ساعد هذا الإعلام نفسه على دعمها، معتقدا أنه يستفيد من شعبيتها.
إن معركة محاربة الجهل المقدس والتدين الشكلي الذي يلعب بعقول الشباب ويرمي بهم إلى التعصب والتطرف والإرهاب هي معركة مشتركة ما بين النخب الجامعية التنويرية والنخب الإبداعية والإعلام الجاد، لقد فرغت البرامج التلفزيونية والإذاعية من النقاش الفكري العميق والمختلف الذي قد يسهم في ترميم جزء من هذا الانهيار الذي تعرفه قيم العقل في البلدان العربية وفي شمال أفريقيا.
أمين الزاوي