لنعد إلى كتاب الله

لنعد إلى كتاب الله

يعد شهر رمضان موسماً للمسلم المؤمن برسالة محمد (ص) كي يتقرب من الله ويعزز علاقته به سبحانه، سواء بالصيام أو بالصدقة أو بالصلاة بمعناها الشامل، كصلة مع الله وذكر ودعاء وصلوات شعائرية، إضافة لقراءة التنزيل الحكيم وتدبر ما جاء فيه.
‎ودرج المؤمنون على تلاوة الكتاب وختمه في رمضان وهي عادة محمودة ولا شك، لكن ما يغفل الكثيرون عنه هو “تدبر ما جاء فيه” ومنحه ما يستحق من الاهتمام بما يتجاوز التلاوة والحفظ، إلى القراءة بما تحمله الكلمة من معنى، أي العملية التعليمية، “تتبع المعلومات” ثم القدرة على استقراء نتائج منها ومقارنتها بعضها ببعض، فقد عُلمت الأجيال المتعاقبة أن فهم التنزيل الحكيم للخاصة لا العامة، وأن من غير المطلوب فهم معاني الآيات، فليس من اختصاصك، وإن كان ولا بد فعليك بالتفاسير التي تجدها في الحاشية، لا أكثر، وهي مع احترامي لمؤلفيها لا تتعدى تفسير الماء بالماء، إن لم يكن تفسيراً يجافي الحقيقة أصلاً ويحرف المعنى تماماً، أما “علوم القرآن” فيمكن تسميتها ما نشاء إلا “علوم”، وهي تختص بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والتجويد، بينما تتجنب التدبر والتفكر والتفقه، وإن كان أصحابها اجتهدوا مشكورين وفق الأرضية المعرفية التي سمح بها عصرهم، فإن ما أنتجه عصرنا في هذا المجال هو معاهد وجوائز لحفظ القرآن، وطبعات فاخرة من المصحف، تكرس الاهتمام بالشكل دون المضمون، وأصبح كتاب الله للمناسبات، واستغني عما جاء فيه لصالح كتب موضوعة حرفت الكلم عن مواضعه، وقدمت ديناً بديلاً يتوافق مع زمان ومكان محدودين، حتى وجدنا أنفسنا أمام حائط مسدود، علماً أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لتعليم نفسه ولا هدى نفسه وأنزل الكتاب ليفهمه الناس، لذا فإن ما جاء فيه قابل للفهم بالضرورة على نحو يقتضيه العقل، وما هو غير مفهوم بالنسبة لنا اليوم سيظهر تأويله تدريجياً مع تقدم الإنسانية على سلم الحضارة وتبدل الأرضية المعرفية حتى قيام الساعة.
‎والتنزيل الحكيم بالنسبة لنا، نحن المسلمون المؤمنون، هو كتاب إلهي مقدس، نزل على رسولنا الكريم عبر سنوات بعثته، فيه من الإعجاز ما يثبت أنه لا يمكن أن يكون قول بشر، وهو حجة لمن آمن به، والإيمان به مسلمة لا يمكن إثباتها ولا دحضها، يتساوى فيها آينشتاين مع بائع الفول، وإيماننا بأنه نص إلهي يحتم علينا أن نبحث عن مصداقيته فيما حولنا، لنثبت قدسيته، وكون الكتاب من عند الله يعني أنه يحمل الحقيقة، فالله رفع من مكانة العقل الإنساني في معرض خطابه له، ومن ثم فلا تناقض بين الوحي والحقيقة، ولا تناقض بين الوحي وصدق الخبر ومعقولية التشريع، ولا كذب ولا خيال ولا حشو ولا تكرار ولا ترادف.
‎فإذا وضعنا باعتبارنا هذه الأساسيات وجدنا في كتاب الله عالمية الإسلام وشموليته، فهو يضم تحت مظلته معظم أهل الأرض، علموا بذلك أم لم يعلموا، ورحمة الله تشملهم جميعاً، إلا المجرمين الذين يعيثون في الأرض فساداً، ويمكننا منه استنباط ميثاق للعالمية يقوم على تعهد الله تعالى كطرف أول بينه وبين الناس أن يرحمهم ويرزقهم ويغفر لهم ويتوب عليهم، ويجيب دعاءهم ويهديهم، وينصر مظلومهم، فيما يتعهدوا بالإيمان به إلهاً واحداً ويؤمنوا باليوم الآخر، وأن يعملوا صالحاً، ووجدنا التشريع حدودي يتنقل في مجال واسع، فيه من المرونة ما يحتوي كل التشريعات التي وصلت إليها الإنسانية بعد مسار طويل من الإصر والأغلال، وضعت الرسالة المحمدية حداً له، فلا عقوبات تعسفية ولا أحكام حدية، ووجدنا قوانين نقل الثروة تتوافق مع ما يعمل به كل الناس إلا المجحفين، ووجدنا أسساً لأحوال شخصية فيها من التحضر ما لم تصل له بعد كثير من المجتمعات، أما العلاقات الإنتاجية فالرسالة حملت مبدأ العقود بالتراضي، فلا رق ولا استعباد، ولا عبودية لأحد، والإنسان حر وكرامته محفوظة، وله مطلق الحرية في كامل اختياراته ابتداءً من الإيمان بالله إلى كل ما يصادفه في حياته، والعلاقة بين الناس تقوم على القيم الأخلاقية، وعلاقتهم مع دولهم يحددها ميثاق المواطنة.
‎أما النبوة فإنها تحمل توقيع رب العالمين على هذه الرسالة لتمنحها المصداقية، إذ تحتوي على قوانين الكون وقوانين التاريخ التي نراها تنطبق على الواقع حولنا، وتضم قصص الأولين التي نأخذ منها العبر ومؤشر على خط سير الحضارة، إضافة لنظريات في الخلق والمعرفة الإنسانية، وخطوط عريضة تشير لحقائق علمية تثبت صحتها مع الزمن، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعلمها الرسول في ذاك الوقت لو لم يكن نبي من عند الله.
‎فهل لنا أن نتدبر كتاب الله ونفهمه وفق علوم اليوم وكأن الرسول قد توفي أمس وتركه لنا بما يليق برسالة رحمة خاتمية عالمية؟

الرابط على موقع هات بوست

اترك تعليقاً