نوتردام وخطاب الكراهية
يحدث للوهلة الأولى أن يتفاجئ المرء بردود الأفعال على احتراق كاتدرائية نوتردام في باريس، فرغم التعاطف الكبير، إلا أن نسبة ليست بالقليلة من تلك الردود كانت تمتلئ بالتشفي والحقد، لأسباب عديدة مختلفة، من شرائح متنوعة الأعراق والملل والعقائد، لكن المفاجأة سرعان ما تتبدد أمام ما نراه من تطرف وعنصرية يتغلغلان في المجتمعات، فيما يشكل ظاهرة لا بد من مواجهتها بتروٍ، سيما وأنها تحرف تدريجياً الإنسانية عن خط سيرها باتجاه التعايش والتسامح، وما حادثة مسجدي نيوزيلندا إلا مثال قريب إلى الذاكرة عن هذا.
وإن كنا كمسلمين مؤمنين بالرسالة المحمدية لسنا معنيين مباشرة بالأسباب التي أدت لتطرف غيرنا تجاه هذه الحادثة، إلا أننا معنيون بشكل أو بآخر، بالبحث فيما يخصنا من أسباب، فرسالة الرحمة التي يفترض أننا نحملها لا تتماشى مع الكم الهائل من الكراهية الذي يبثه بعض ممن يشاركوننا بحملها، والأنكى أنهم يتصدرون للتعبير عنها، بحيث تختزل صورة “المسلمين” تدريجياً بهؤلاء القلة الغوغاء الذين يشوهون صورة الإسلام، ابتداءً بتعبير في غير محله، وانتهاءً بأعمال إرهابية إجرامية.
ويرتكز التشفي الواضح على محور أساسي هو العداء لأصحاب الملل الأخرى، فهم قد أخرجوا تلقائياً من الإسلام ، وفق الثقافة الموروثة التي اختزلته بأركان خمس، من أخل بها خرج منه، وخرج من ثم من رحمة الله، ولن يقبل “دينه”، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى الآخرة، حيث تضمن له تلك الثقافة الخلود في جهنم مهما كانت أعماله صالحة، وقد تتكفل أحياناً بـ “قصف عمره” إن سنحت الظروف، كما حصل في أحيان كثيرة، ولو أن الأمر يقتصر على مشاعر فردية لكان من الممكن تجاوزه، لكن علينا الاعتراف أن هناك ما يؤيده في أمهات كتبنا، وآراء أئمة أمتنا في عصور خلت وعصورنا هذه، فنرى الشيخ “ابن عيثمين” في تعليقه على ما ورد في كتاب “زاد المستقنع”: “أما إذا نزلت بالكفار نازلة فذلك مما يشكر الله عليه، وليس مما يدعا برفعه”، فلماذا نستنكر إذاً تعليقات الكراهية عند أي مصيبة تلم بالناس؟ سيما وقد نصبنا أنفسنا لتقيميهم وتصنيفهم ضمن خانتي الإيمان والكفر، ناهيك عن الدعاء عليهم في نهاية خطب الجمعة حتى وقت قريب، في تناقض واضح مع ما جاء في كتاب الله، وما حملته رسالة محمد (ص).
وهنا نحن بحاجة للتذكير بأن الكفر هو اتخاذ موقف عدائي معلن من أمر ما، وأهل الكتاب ليسوا كفاراً {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة 1) وإن كفر بعضهم فهناك من ملتنا من قد كفر، مع ضرورة تحديد موضوع الكفر، وانتسابك لملة ما بالولادة لا يمنحك صك عبور إلى الجنة، فالله سيحاسبنا على ما قدمنا من أعمال صالحة، لا على ما ورد في خانة الديانة في بطاقاتنا الشخصية، ومن جهة أخرى فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة 51) هو قصص محمدي خاص بعصره وبفئات معينة ناصبت الرسول العداء، ولا يعمم إلى الأبد، بينما نقرأ قوله تعالى الشامل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) ونهتدي به، كذلك قوله {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ –} (المائدة 5).
من جهة أخرى حتى لو افترضنا أن مصيبة حلت بقوم لا يؤمنون بالله، فإن رسالة الرحمة تلزمنا بالانحياز إلى إنسانيتنا قبل كل شيء، والدليل أن كل آيات التعامل بالحسنى لا تشترط إيمان الطرف المقابل {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} (النساء 36)، والصدقات مثلاً لم يحدد دين أو ملة أو طائفة أصحابها {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة 60)، وإذا كان حري بنا أخذ العبر من القصص، فحتى آداب القتال بين المؤمنين والمشركين فيها من النبل والرأفة ما هو عامر بالإنسانية {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6).
والله تعالى جعل من الاختلاف سنة الحياة على الأرض، والتوازن يكمن في تعدد الملل وعقائدها وهو ما تعبر عنه الآية {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج 40) والطريق إلى الله “بعدد أنفاس الخلائق”.
خلاصة القول أن مشاعر الكراهية والتشفي ليست من رسالتنا، بغض النظر عن مشاعر الآخر نحوك، وعلينا كمسلمين رفع لواء التسامح والمحبة لعلنا نساهم في منع تدهور الإنسانية نحو التطرف والعنصرية.