جريمة نيوزيلندا
عكس جريمة نيوزيلندا حجم التطرف الذي يصيب العالم، في شتى أرجائه، وإذ بدا أن الإرهابي المنفذ لم يكن وحده، وأن هناك تيار من المناصرين له في كل مكان، فإن الإنسانية تحتاج للوقوف أمام حصيلة إنجازاتها فيما يخص مدى قبول الآخر.
فقد يبدو لنا المشهد العام جميلاً ما قبل الجريمة الأخيرة، لكنه ليس كذلك، لا قبلها ولا بعدها بالطبع، رغم ما يوحي به من أن العنصرية هي الاستثناء والتعايش والتسامح هما القاعدة، إذ لا تلبث مصطلحات معينة تطفو على السطح، لتهتز معها الصورة، فهذا أبيض وذاك أسود، وهذا مسلم إرهابي وذاك مسيحي صليبي، وهذا أوروبي متحضر وذاك آسيوي متخلف، ولا تقف القضية عند المصطلحات بل تتعداها كثيراً لتصل إلى القتل كما شاهدنا، قتل على أساس الاختلاف، فيتم الحكم على الآخر المختلف بالموت، نتيجة تحميله وزر انتماء لماض لا ذنب له فيه، أو لحاضر لم يرتكب فيه أي خطأ، وثمة دائماً مستفيد من تأجيج نيران الكراهية، يحقق من خلالها غايات ما.
ومجرم مساجد نيوزيلندا بالتأكيد لم يقرر بين يوم وليلة ارتكاب هكذا جريمة، لكنه خطط لها طويلاً، بناء على تهيئة فكرية حرضت لديه كراهية “المسلمين”، اعتمدت على وقائع تاريخية وغذتها بحوادث عصرية، أي هناك عقيدة فكرية معينة تلقنها، جعلته يرى في هؤلاء الأبرياء أعداء يجب قتلهم، ربما ذات منشأ ديني أو عرقي أو تاريخي أو غيره، في صورة مماثلة تماماً لما اعتمدته داعش في بث كره الآخر لدى أتباعها، فجعلتهم مجرمين سفاحين يرتكبون أفعالاً شيطانية، وإذ تضافرت جهود العالم للقضاء على داعش كتنظيم، يظهر أن العالم ذاته لا يعطي الاهتمام الكافي للتطرف الذي ينمو داخله في كل الاتجاهات، فالحوادث تتكرر في الشكل نفسه، إذ سبق لإرهابي مسيحي أن قتل مصلين يهود داخل كنيس في أميركا، وآخر قتل مسيحيين سود داخل الكنيسة أيضاً، وعلى الطرف الآخر سبق لمسلمين “بالمعنى المتعارف عليه” أن قتلوا مصلين مسيحيين في كنيسة في مصر، وفي مسجد للصوفيين في سيناء، ولا ننسى طبعاً مجزرة الحرم الإبراهيمي التي ارتكبها يهودي ضد مصلين مسلمين، والعامل المشترك في كل الحوادث هذه وما شابهها هو كراهية الآخر المختلف، إلى درجة القتل، بما يعني بشكل رئيسي أن هناك في كل أمة من يعتبر نفسه على حق دون غيره، والأنكى أنه صاحب الحق في الحياة دون غيره {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة 113) ولو أن الأمر بقي عند حدود اعتبار الآخر على خطأ دون قتله أو اضطهاده أو معاملته بسوء فالموضوع يبقى مقبول نسبياً، أما أن يصل إلى القتل فهذا لا يتناسب مع مستوى التحضر المرجو من العالم المتقدم، لا سيما في ظل ما حققه نسبياً على خط حقوق الإنسان، وإذا كنا نلوم أنفسنا عند كل شاردة وواردة على الإرهاب الذي صدرناه بدون قصد، حري أيضاً أن يلتفت المتنورون لقرع ناقوس الخطر في العالم كله أيضاً من إيديولوجيات الكراهية جميعها.
ونحن كمسلمين من أتباع رسالة محمد، ما يعنينا عدا لملمة جراحنا على الضحايا، فنحن نشاركهم الانتماء للإنسانية أولاً وللأمة ثانياً، وحزننا عليهم لا يزيد عن كل الأبرياء الذين قضوا بناءً على معتقداتهم أنى كانوا، يعنينا توضيح أن الإسلام هو دين رحمة لا دين إرهاب، والله تعالى جعلنا خلفاء على هذه الأرض لنعيش بسلام، وكتابنا المقدس موجه فيه خطاب الرحمة لكل الناس على مختلف انتماءاتهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13) والاختلاف سنة الحياة الدنيا {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118) ولا إكراه في الدين بل الحرية مصانة لأبعد الحدود {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} (الكهف 29)، والله يفصل بين الناس يوم القيامة فلا خلاف على العقائد {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17) أما في الحياة الدنيا فالسلم هو الأساس، وإن اضطرت الدول للقتال فضمن شروط معينة، تحكمها الأخلاق، والعبرة نأخذها من قوله {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6) (حيث “المشركين” هنا هم الطرف المعادي في غزوة تبوك).
وكل أحداث التاريخ نأخذ منها العبر، لا الحقد والرغبة بالانتقام، ولا نحاسب بريء بجريمة لا ذنب له فيها، واجترار أحداث الماضي والبناء عليها لخلق صراعات مع أبرياء ما هو إلا تغييب للعقل والمنطق، فلا “أهل السنة” اليوم هم من سبوا زينب، ولا أوروبيو اليوم هم ذاتهم الصليبيون الذين غزوا بلادنا، وعلى الشعوب جميعها وعي أن الأحداث التاريخية ولّت ونحن كأفراد لا نحمل وزرها، وإن كان من جراح فعلى من هم في موقع المسؤولية معالجتها لألا تبقى بؤر للكراهية تنكأ بيد متطرف عند اللزوم، أو تستخدم لخوض حروب في أحيان كثيرة أيضاً.
وإذا كان من امل لدينا فهو يكمن في تغذية قيم الإسلام في التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف بكل أشكاله.
الله رحيم بالضحايا، أما أهاليهم فنرجو لهم الصبر والسلوان.