أي “علماء” نريد؟
عندما أطلق الاتحاد السوفيتي أول مركبة فضائية حول الأرض عام 1957، وجهت أكاديمية العلوم السوفيتية الدعوة للعلماء في دول العالم لحضور هذا الحدث الهام، ومن بينها سورية، حيث وصلت الدعوة لرابطة علماء الشام، وأعضاؤها علماء الفقه والشريعة، ومع احترامي لهم، لكنهم ليسوا المعنيين بالموضوع، ولا أعتقد أن ما جرى في الدول العربية الأخرى يختلف عن ذلك، والالتباس هو في التسمية، فكلمة “علماء” في عالمنا العربي تخص “علوم الدين” فقط لا غير، وطلاب كليات الشريعة هم فقط طلاب العلم، و”هيئة كبار العلماء” وما شابهها هي أبعد ما تكون عن علوم الفيزياء والرياضيات والطب والهندسة.
قد لا يستحق الأمر الوقوف عنده لو أنه يقتصر على التسميات، لكنه يتعدى إلى سلسلة طويلة من الأمور تعكس ما نحن عليه منذ قرون.
فالعقل الجمعي العربي تتلمذ على يد أبي حامد الغزالي الذي أحيا علوم الدين وسفه الفلسفة، في حين تمت تنحية علماء وفلاسفة ذاك العصر، وكانت إشارة البدء لعصور من الانحطاط يبدو أنها ما زالت مستمرة، حيث استكان ذاك العقل للنوم ليحل مكانه النقل، ويتصدر الأولويات، فما زلنا حتى اليوم لا نناقش النصوص، ولا نتجرأ على التفكير بها، بل نقدس تلك العنعنة، وإذا كان الإيمان بالله هو المسلمة الوحيدة التي يفترض أن يقبلها المؤمن، أضحى التسليم معمماً على كل الإرث الثقافي الإسلامي، لا بل أحيط بهالة من القدسية تمنع المساس به، وتعلو من شأنه على حساب النص الجوهر “التنزيل الحكيم”، فنسينا كتاب الله واهتممنا بسير الرجال وأقوالهم وأفعالهم، ولأن “خير القرون قرنهم” أصبح خط سيرنا إلى الخلف بدل الأمام، واعتاد عقلنا على القياس، لكن الأنكى أن مقاييسه أموات، سواء أفراد أم مجتمعات أم دول، فاتخذ “الإسلامي” الصحابة ومجتمعهم مثلاً أعلى يعود له في كل شؤون حياته، واتخذ الماركسي الاتحاد السوفيتي المندثر مثالاً يقيس عليه، ومن ثم اختفى الإبداع، وعمم القول “كل بدعة ضلالة” على جميع نواحي الحياة، ولم يخرج عن القطيع إلا “الضالين”، الذين شذوا عما وجدوا عليه آباءهم، وحاولوا التفكير خارج الصندوق.
ولأن العقل تراجع أمام النقل، أصبح من المنطقي أن تنعدم الدقة ويسيطر الترادف، ويصبح “كله عند العرب صابون” فلا فرق بين العام والسنة ولا النبي والرسول ولا الأب والوالد، ولا المسيحي والكافر، وعدم الدقة طغى على كل الأمور، حتى باتت المبالغة أمر طبيعي، والكذب ليس عيباً، يلجأ إليه الأفراد كما تلجأ إليه الحكومات، فلا غضاضة فيه.
وفي ظل الأمور السابقة لا يمكن إنتاج المعرفة، وبالتالي من الطبيعي أن العلوم هي علوم الدين، ولا علماء إلا علمائه، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل هذا الدين من الصعوبة بمكان ليحتاج كل هؤلاء العلماء والموسوعات والكتب؟ فلننظر إلى الياباني في أرقى الدول حضارياً ونقيس عليه (كما اعتدنا) لماذا لا يغش ولا يكذب ولا يسرق، ويتقدم ويتطور دون أن يعلم شيئاً عن البخاري أو مسلم؟ لماذا قدم الألماني مأوى وحضن للاجئين دون أن يسأل عن دينهم وإمامهم وطائفتهم؟ لأن فطرة الله التي خلق الناس عليها أصبحت في تكوينهم بينما بقينا نحن نحتاج لنص يمليها علينا وفتوى من “الشيخ” يحلل هذا ويحرم ذاك، وكان حري بنا أن نعي ما أرسله الله لنا لنكون رواد حضارة وعلم قبل غيرنا، فنحن كما يفترض حملة الرسالة للناس جميعاً، والأولى بنا أن نعمل بهديها، الذي تختصره آيات {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33) فالصلة مع الله تقترن بالعمل الصالح لتشكل الإسلام، وهو رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107)، لا إكراه فيه لأحد، بل مطلق الحرية {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، وللعقل فيه مكان الصدارة {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (الأنفال 22) وآيات الكون مواضع التعقل {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الجاثية 5)، والثواب والعقاب منوطان بالعمل {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة 105)، وفي النهاية {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة 286).
فما آن لنا أن نعيد للعقل مكانته وننطلق للحاق بركب الحضارة ونهيء البيئة للأفراد المبدعين في مجتمعاتنا ليكونوا علماء في الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء؟ ألم يحن الوقت لأن نرفع من مستويات جامعاتنا ونغير من مناهجنا ليحل البحث بدل التلقين، والتدبر والتعقل بدل الحفظ والتكرار ؟