زواج الصغيرة، كان شرعا وصار جرما – عبد الله الخليل
لا زالت قضية زواج القاصرات تثير الكثير من الجدل، وستظل تطفو على السطح كلما أطلعتنا وسائل الإعلام على حالة من الحالات الصادمة، ورغم القوانين المقيدة لهذه الظاهرة في عدد من البلدان فإنه عوض أن تخف حدتها وتتراجع نجدها تتزايد بشكل مخيف، إذ ورد في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة أن عدد زيجات القاصرات في المملكة المغربية قد ارتفع من زهاء 18000 حالة سنة 2004 إلى أكثر من 35000 حالة سنة 2013، وجاء في نفس التقرير أن بعض تلك الزيجات مست صغيرات دون سن الحادية عشر. وقد صار واضحا وجليا لكل متأمل أن الظاهرة لن تتراجع ويحقق الاستثناء القانوني استثنائيته، ذاك الاستثناء القاعدة الذي يخول لقاضي الأسرة أن يأذن بالزواج لمن سنه دون 18 سنة بعد تبيان المصلحة والأسباب المبررة إلا إذا رسخ في الوعي الشعبي وعلق بأفهام العوام أن القرآن الكريم لم يجز البتة الزواج بصغيرة ولا الاستمتاع بطفلة لم تراهق البلوغ بعد بقدر ما هو راسخ اليوم عند السواد الأعظم أن القرآن الكريم قد أجاز الفعل وبنص صريح، ولن يتأتى ذلك إلا إذا لاح لنا فهم جديد متين ومتماسك يرد مقولة مشروعية زواج الصغائر بالقطع الذي لا يقبل جدالا ويفند الأدلة التي قامت عليها، فهم مفحم قاطع يجد معنى آخر أدق وأوسع وأليق بلفظ ” واللائي لم يحضن ” في قوله جلا وعلا {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[1] وبعد بزوغ هذا الفهم الجديد وبعد أن يجمع عليه مراجع الأمة والسادة العلماء والدعاة والوعاظ سلفيين كانوا أو حداثيين ويعملوا على تصحيح المعلومة المتجاوزة لدى العوام ولا شك أنه بتضافر جهود المؤسسات القيمة على الشأن الديني والمنظمات والجمعيات والشخصيات الفكرية الوازنة والمسموعة والمنابر الإعلامية وأهل الفنون وكل يسهم من مكانه وموقعه سيتغير لا محالة سلوك الآباء والأمهات والأولياء بتغير نظرتهم للموضوع من زاويته الدينية فتتعود الأسر على الإبقاء على فتياتهن سنتين أو ثلاث بعد البلوغ إلى أن تصلن السن القانوني المحدد في 18 سنة ، وحينها سيعكس العرف وتنقلب العادة وتصير خطبة طفلة منقصة ومسبة بعدما صار العبث بالطفولة سنة ومكرمة… وقد نجد كثيرا ممن يدعون إلى تزويج الصغيرة وكثيرا ممن يستجيبون ويقدمون على تزويج صغيراتهم إنما يفعلون ذلك مناكفة للأنظمة التي يرون أنها لا تحكم بما أنزل الله وأنها إنما قيدت المباح فقط مجاراة للقيم الغربية المنحلة فنجدهم يقولون يكفينا من القيم الكونية وحقوق الطفل إبقاؤنا على بناتنا دون شريك إلى أن يراهقن البلوغ مع العلم أنه من الجائز بل من المستحب أن نزوجهن وهن بنات ست سنين أو تسع… سيقول قائل وهل هذا الفهم متاح ؟ وإن كان فكيف غفل عنه العلماء والدارسون؟ أجيب: نعم هذا الفهم متاح وموجود ، أما كيف غفل عنه الدارسون و المتدبرون فذاك ما أعجب منه وما أحسب إلا أن مقولة ” ليس بالإمكان أفضل مما كان” قد أدت مهمتها بنجاح فتعطلت العقول وسادت النقول، وأعجب من ذلك وأغرب أن هذا الفهم المأمول والغائب عن الأفهام قد بلغ مؤسسات دينية رسمية ومستقلة ترى وتقول أن القرآن الكريم أجاز تزويج الصغيرة وبنص صريح غير أنهم مع تقييد المباح، فيُنظر إليهم من قبل المخالفين والمناكفين على أنهم يحرمون ما أحل الله وأن من يرى أن زواج الصغيرة غير مقبول اليوم هو غير مجبر على إتيانه وله أن يحجم عما لا تقبله نفسه وتمتعض منه ولكن ليدع من يشتهي صغيرة و يرى الفعل مقبولا يعمل بنص الآية.. ولو كان من بلغهم مقالي يسمعون من الأعراب اقتداء واتساء بالقدوة صلوات الله وسلامه عليه لقالوا ومعهم الحجة أن القرآن الكريم لم يجز زواج الصغيرة وأن فهم السلف الصالح قد نسخ بفهم أكمل وأتم وأن هذا من إعجاز وعظمة القرآن حيث أن الخالق الحكيم قد يسر للسلف فهما مناسبا للمرحلة أبقى به على عادة زواج الصغيرة لما كان ذلك مأتيا عند كل الأمم لحكم قد نعلم ظاهرا منها {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}[2]، ويسر الخالق الحكيم لنا نحن فهما يناسب العصر وقيم اليوم.. هذا ما أبلغته للقيمين ولم أجد أدنى اهتمام.. ولم يكن حال المناضلين أهل الحق والإنصاف أفضل من حال أهل الذكر والفكر حيث أبلغت الإضافة أو القراءة الجديدة لعدد من المنظمات والجمعيات الحقوقية وأخبرتهم ما كان من نخبة المنابر وغفلتهم وشططهم وأن ما ضمته مراسلتي يلزم المشرع صاحب المرجعية الإسلامية بتجريم زواج الصغيرة استنادا إلى النص القرآني ذاته الذي أباح به الجرم وأجازه وأن الإضافة إذا بلغت الفاعلين المؤثرين ستبلغ عبرهم العامة وتشيع الفكرة بين الناس وبالتالي ستصحح المفاهيم الموروثة والمغلوطة فيتغير السلوك، ولم يكن مطلوبا منهم سوى موافاة شركائهم المتنورين أهل الاختصاص بالرؤية الجديدة مبينة في صفحة واحدة لعلهم يأخذون بما فيها إن اطلعوا وعقلوا المضمون، وكان سيحصل الاطلاع لأن السادة العلماء ينزلون الناس منازلهم كما أمر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ورسالة من تنظيم تختلف عن رسائل العوام فهي تُراعى ويُنظر فيها ويُرد عليها، غير أني وجدت الحقوقيين بنفس المنهاج يشتغلون والمعيار واحد والدرب واحد فهم لا يرقبون من أمثالي النكرات سوى سرد مظالمهم في مراكز الاستماع إذا كانت لهم مظالم أما الإسهام الفكري والكشف العلمي فحكر على من يعرفون من الأعلام المسبوقة أسماؤهم بالصفات وحرفي الألف والدال .. للأسف الشديد هذا هو واقع الحال وبعد أن كانت العرب المستقبلة للقرآن والتي أسرها النظم وأبهرها البيان تقول ” خذ الحكمة لا يضرك من أي وعاء خرجت” صار يقال من ذا الذي قال عوض أن يقال ماذا قيل بغض النظر عن القائل أعلم مشهور هو أم نكرة مغمور…
إليكم القول الفصل في المسألة: أقوى دليل لدى من يقول بمشروعية زواج الصغيرة هو قول المولى عز وجل {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} كاد يجمع السلف الصالح على أن ” اللائي لم يحضن ” هن الصغائر اللواتي لم يراهقن البلوغ بعد ولم يسبق لهن أن حضن، أما المخالفون المحرمون لتزويج الصغيرة فيصرفون معنى” اللائي لم يحضن” إلى أنهن البالغات اللواتي يعانين من حالة انحباس الطمث أو الضهي كما تقول العرب وهي حالة معروفة حيث تصل الفتاة إلى سن العشرين و قد تتجاوزه بسنتين أو ثلاث وهي لا تعرف الحيض، وأما الفريق الثالث فله موقف وسط حيث الفعل عندهم جائز بنص الآية غير أنهم مع تقييد المباح، وقبل الخوض أسجل حقيقة علمية مفادها أنه من المستحيل أن يحصل الحمل عند صغيرة لم تراهق البلوغ بعد ولم يسبق لها أن حاضت، بل حتى بعد أن ترى الحيض من شبه المستحيل أن يحدث الحمل في أول سنتين لأن الحيضات لا تكون تبويضية، لنقف الآن عند لفظ “اللائي لم يحضن” قيل أن “اللائي لم يحضن ” هن الصغائر اللواتي لم يرين الحيض بعد، وقيل أن “اللائي لم يحضن” هن البالغات اللواتي تعشن حالة انحباس الطمث، وما فات الجميع هو أن هناك فئة أخرى من البالغات هي أحق بلفظ ” اللائي لم يحضن” من هن؟ أجيب: هن البالغات اللواتي كن كغيرهن من النساء يحضن ويطهرن ويحضن ويطهرن فترة من الزمن والأمور عندهن عادية وطبيعية وجاء عليهن يوم واضطربت الدورة وانقطع عنهن الحيض فهن إذا من “اللائي لم يحضن” أي لم يحضن في الوقت والأوان الذي كان من المفروض أن يحضن فيه لو كان الوضع طبيعيا، وفي هاته الحالة نحن أمام احتمالات ثلاث أولها هو أن الحمل قد وقع لأن من علامات الحمل اضطراب الدورة، والاحتمال الثاني هو بلوغ المعنية سن اليأس، أما الاحتمال الثالث فالعرض مرضي وقد يكون عضويا أو نفسيا.
لنلتفت الآن إلى نظم الآية، يقول الحق المبين جل وعلا {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرً} وأسأل أهل الذكر وأصحاب الصنعة، أما كان الأولى لو كان لفظ ” اللائي لم يحضن ” يقتصر على الصغائر فقط أن يأتي اللفظ القرآني كالتالي {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} يجيب العاقل المبصر بعد أن كان يقصر لفظ ” اللائي لم يحضن ” على الصغائر فقط ويسلم أن اللفظ يشمل الفئات الثلاث، الصغائر وحالات انحباس الطمث والفئة المستجدة من البالغات اللواتي لا يعرف ما هن فيقول: بلى إذ اللفظ الذي ذكرت أنسب لأن عدة الصغيرة ستكون قطعا وبلا شك كعدة اليائسات لأنه من المستحيل أن يحدث الحمل عند صغيرة، وقد جاء اللفظ القرآني كما هو حتى يتسنى للدارس المستنبط للأحكام ويتاح له أن يلحق اللواتي لا يعرف ما هن باللائي يئسن من المحيض إذا تبين أنهن قد بلغن سن اليأس أو أن اضطراب دورتهن مجرد عرض مرضي وتكون العدة ثلاثة أشهر ، أما إذا تبين أن الحمل قد وقع كان أجلهن أن يضعن حملهن، أجيب القائل النبيه لنخطو خطوة أخرى نحو الفهم التام السليم:
أولا، من البلاغة والفصاحة والبيان أن تذكر الصغيرة بلفظ الصغيرة الدارج بين العرب وأن ترد حالة انحباس الطمث بلفظ ” الضهي” الذي تعرفه العرب {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[3]، أما الفئة الثالثة التي ذكرت فلا يعرف ما هن والعلامة المشتركة بينهن والدالة على الحمل أو اليأس أو المرض هي انقطاع الحيض ولذلك جاء لفظ ” اللائي لم يحضن” ليشملهن جميعهن..
ثانيا، إذا أخذنا بالفهم المردود للفظ ” اللائي لم يحضن ” جاز لنا إدراج الرضيعات ضمن اللفظ فهن إناث وممن لم يحضن وأسأل أصحاب الصنعة عن أسلوب الاحتراس وإصابة المقدار هاهنا، سيقول مختص إن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم وقد عقد عليه الصلاة والسلام على أمنا عائشة وهي بنت ست سنين ودخل بها وهي بنت تسع وذاك أدني ما يكون.. أجيب: كلا، ذاك استنتاج ليس له أساس ولم يثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه دعا إلى تزويج الصغيرة، وإن صح القول صح على غراره قول من يقول أن على الرجل أن يتزوج أول زيجاته في سن الخامسة والعشرين ومن امرأة في سن الأربعين والدليل زواج رسولنا الكريم من أمنا خديجة رضي الله عنها..
ثالثا، لننسف المقولة من الأساس ، كيف؟ سلم العاقلون وساغوا أن لفظ “اللائي لم يحضن” يشمل الصغائر عندما احتاجوا إلى أن يشمل اللفظ حالات انحباس الطمث وعندما كانت الفئة الثالثة المستجدة الأحق باللفظ غائبة عن الأفهام، أما بحضورها يتبين لكل من له نصيب من اللغة وحظ من منطقها أن اللفظ لا ينطبق أساسا لا على الصغائر ولا على حالات انحباس الطمث، بل إن “اللائي لم يحضن” هن فقط البالغات اللواتي عرفن الحيض وحضن وطهرن فترة من الزمن تقصر وتطول وينتظر منهن الحيض غير أنهن لم يحضن، أما الصغائر وحالات انحباس الطمث فاللفظ الدقيق المناسب لهن هو ” اللائي لم يحضن بعدُ” حيث أنه باعتبار الوضع الطبيعي والعادي يكون معنى اللفظ الصغائر اللواتي لا ينتظر منهن أن يحضن ولم يسبق لهن أن حضن أي لم يحضن بعد، أما إذا أخذنا اللفظ باعتبار الوضع المرضي والاستثنائي كان المعنى حالات انحباس الطمث أي اللواتي ينتظر منهن الحيض غير أنهن لم يحضن بعد … أعتقد أن الأمر قد اكتمل واتضح وزال اللبس وإن قال قائل إن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه قد عقد على أمنا عائشة وهي بنت ست سنين سلمنا جدلا بصحة ما يقول وأن سنها رضوان الله عليها عند زواجها كان حقا كما يزعمون و سألناه إن كان ذلك قبل نزول الآية أم بعد أن نزلت والجواب أن ذلك كان في مكة والآية إنما نزلت بعد الهجرة إلى المدينة، والقول المراد بصريح العبارة هو أن الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه فهم من الآية عند نزولها أنها تحريم لزواج الصغيرة بعد أن كان يرى جواز ذلك متأثرا ببيئته شأنه في ذلك شأن كل الخلق {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا}[4] وفهم صحابته الكرام أنها تبين عدة الصغيرة لأنهم كانوا مستعدين لذلك الفهم ولم يكونوا يرون بأسا في الزواج من الصغيرة لأن الزواج منها يومئذ عندهم مأتي ومقبول ومألوف وسؤالهم أصلا كان عن عدة الصغيرة لا عن إباحة زواج الصغيرة أو تحريمه … قد يقول قائل: كيف يفهم الرسول الأكرم نهيا أو أمرا في كتاب الله يصلح به حال الأمة ويكتمه عن صحابته وعنا ؟ أجيب: يقول الحق جل وعل {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك َلِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[5] ورسولنا الأكرم خير من يفهم عن ربه استعدادا واجتهادا ويُفهم من الآية أنه ليس من وظيفته عليه الصلاة والسلام ولا من واجبه جمع القرآن ولا تفسيره وتبيان ما فيه بل فقط تبليغه تلاوة وإن كان صلوات الله وسلامه عليه يقدم بين الفينة والأخرى لصحبه الكرام حين تحضر المناسبة ويوجب الظرف بعض النقاط واللمحات التي إن صُيرت قواعد في التعامل مع كلام الله بصُرنا ووقفنا على كثير من خبايا القرآن ومكنوناته وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه الأمانة وأدى الرسالة ونصح الأمة وبلغنا عنه أنه قال ” إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”[6] وعوض أن نوغل فيه برفق و نبقيه متينا جعلناه مشينا ووقفنا على بابه متأبطين كل ما أجمع عليه الرعيل الأول رضوان الله عليهم مخدوعين بوهم الإجماع فكبلت العقول بالأفهام الأولية للنصوص القرآنية وكأن السلف الصالح قد استخرج كل ما بالقرآن وكأن القرآن المبين الذي وصفه سيد الخلق والمرسلين بأنه لا تنقضي عجائبه و أنه لا تشبع منه العلماء وأنه لا تتشعب معه الآراء قد استنفذ كل أغراضه وصار نصا تاريخيا يتعبد بتلاوته فحسب فكانت الغمة وتخلفت الأمة وصارت ذيلا بعد أن قادت الركب الحضاري لقرون..
قد يقول قائل أنه لا يفهم ما أقول ويفهم قول المولى عز وجل {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[7] واضح، ربنا يقول لتبين للناس ما نزل إليهم، لتبين القرآن للناس، أقول نعم، بين لنا رسولنا الأكرم صلوات الله وسلامه عليه القرآن في مستويين من مستويات البيان الثلاثة، فأما الأول فقد بلغه صلوات الله وسلامه عليه تلاوة {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[8]، وأما الثاني فهو بيان النموذج و المنوال حتى نعمل به بعد استخلاص القاعدة ونفهم به ومن خلاله فيتحقق الوجه الثالث لتبيين القرآن وتفسيره، التفاصيل وتفاصيل التفاصيل هي للمتلقي المستنبط، وذاك ما كان عليه صحابة رسول الله، عن ابن عباس قال ” ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن منهن يسألونك عن الشهر الحرام ويسألونك عن المحيض وشبهه، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم “[9] وقد تكون قلت ونذرت أسئلة الصحابة للرسول صلوات الله وسلامه عليه لما سمعوا قوله ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم “[10] فتخوفوا أن يهلكوا كما هلك الأولون فكانوا يسمعون القرآن ويفهمون ما شاء لهم العليم الحكيم فهمه ورسولنا الأكرم صلوات الله وسلامه عليه يرى ويسمع ويراقب ما يُفهم وما يُفوت ولا هو صلوات الله وسلامه عليه أقر أفهامهم وشهد لهم بكمال الفهم وتمام الاستنباط ولا هو صلوات الله وسلامه عليه راجعهم أو دارسهم القرآن اللهم إلا إذا دعت الحاجة وأوجب الظرف ومثال ذلك ما كان حين نزل قول المولى عز وجل {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[11] عن عبد الله بن مسعود قال {لمّا نزلت “الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ” شَقّ ذلك على المسلمين وقالوا أيّنا لم يظلم نفسه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ليس كما تَظُنّون إنَّما هو كما قال لقمان لابنه ” إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ “} صحح الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه الفهم الخاطئ وقدم قاعدة ذهبية أغفلناها حين فهمنا قول المولى القدير {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}[12] ولو التمسناه في قوله تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[13] لعلمنا أنه وحده من يقاتل من لا بأس عليه أن يجهر بالسوء من القول إذا أعجزه القتال حتى لا يكون ممن قال فيهم المولى القدير {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}[14] والخلاصة أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد بين لنا ما نزل إلينا تلاوة وأعاننا على الفهم السليم في بعض المواقف لنتخذ من المثال النموذج قاعدة وترك لنا المجال عريضا فسيحا للفهم والاستنباط..
[1]سورة الطلاق، الآية 4