رسالة رحمة لا رسالة إرهاب
بالأمس أقدم مسلحون على إطلاق النار على باص فيه زوار أقباط لأحد الأديرة في صعيد مصر، ولا نعلم كيف يمكن لإنسان الاقتناع أن الله راض عن مرتكبي هذه الجريمة، وبغض النظر عمن تبناها وعن نظريات المؤامرة التي تملأ الأدمغة، فمن الضرورة بمكان مراجعة الحيثيات التي دفعت المجرمين للإقدام على فعلتهم سيما وأنها ارتكبت باسم الإسلام، ضمن سلسلة يبدو أنها لن تتوقف طالما أن المناهل التي نهل منها هؤلاء ما زالت موجودة.
ويبدو واضحاً للعيان أننا نحتاج لامتلاك الجرأة على الاعتراف بأن ثقافتنا الموروثة تحمل في طياتها مسؤولية لا يستهان بها، تلك الثقافة التي لاتقبل الآخر المختلف، وتبيح قتله في أحيان كثيرة، إن لم تحض على ذلك، وما زالت أفكارها هذه تدرس في المعاهد وكليات العلوم الشرعية، وتنتشر على وسائل التواصل المتعددة، بخطب الأئمة والشيوخ، فتكفّر هذا وتذم ذاك.
فإذا عدنا للتنزيل الحكيم وجدنا أن الإسلام هو الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر، واقتران هذا الإيمان بالعمل الصالح، فمن حقق هذه الشروط قبل تحت مظلة الإسلام، بغض النظر عن ملته، ومن لم يحققها حسابه على الله يوم القيامة، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون 6)،وقتل النفس حرام حرمة مضاعفة، ومن قتلها كأنما قتل الناس جميعاً {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة 32)، وإذا كان هذا الكلام لبني إسرائيل فنحن حاملو رسالة الرحمة أولى به، ومن ألقى إلينا التحية علينا تحيته بأحسن منها، ومن استجار بنا أجرناه مهما كان دينه{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6)،أما القتال فله شروطه وأهمها ألا نكون المبادرين إليه، وآيات القتال في جلّها خاصة بعصر النبوة ولها ظروفها، وهي بالنسبة لنا تاريخ نأخذ منه العبر ولا يؤخذ منه تشريع.
والإسلام رسالة رحمة للعالمين، لا لإمة دون أخرى، ورسولنا الكريم (ص) تحلى بأخلاق عظيمة حري بنا أن نقتدي بها، وهو الذي عفا عن أعدائه الذين كادوا له وقاتلوه وطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واليوم تحدثنا الأخبار عن سيدة باكستانية مسيحية فقيرة سجنت لثماني سنوات بتهمة سب الرسول، وما زال متهموها يطالبون بإعدامها، فأي رحمة وأي إنسانية تتحلى بها أمة محمد؟ هذه الأمة التي غالباً ما تخلط الحابل بالنابل وتحلل وتحرم وتتقول على الله وترتكب من الموبقات ما لا يرضى عنه الله ولا رسوله.
ولا يقتصر التطرف على “المسلمين”، فمنذ أيام قتل مصلون في كنيس يهودي في أميركا من قبل مجرم عنصري، وقد ينطبق هنا علينا القول “لسنا الوحيدين لكننا الأشهر” ولا يكفي أن يكون هناك من هو عنصري لنقبل بعنصريتنا، بل علينا أن ندين هكذا أعمال، ومن يمثل الإسلام الحقيقي أولئك الذين جمعوا أموالاً لأهالي الضحايا بدوافع إنسانية، لا هؤلاء الذين قتلوا الأبرياء في مصر، ويفترض بنا أن ننشر رسالة التسامح والمحبة والخير لكل الناس كما هو ديننا الحق، وأن نترك معتقداتهم لتكون شأناً شخصياً يحاسبهم الله عليها، طالما أننا متفقون جميعاً كأهل الأرض على القيم الإنسانية الأخلاقية التي فطرنا الله عليها.
فإذا وصلنا إلى أن نترك لكل إنسان حريته فيما يخص علاقته مع الله، واقتنعنا بأن مهمة فصل الناس ما بين الجنة والنار هي من اختصاص الله تعالى وحده {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، وأنشأنا أبناءنا على اتباع الصراط المستقيم، والتفتنا لما فيه خير الإنسانية من علوم ومعارف فساهمنا في القضاء بما حولنا لنغير أقدارنا، وأعددنا ما نستطيع من قوة تجعل العالم يهابنا، حينها سنكون جديرين بحمل لواء الرسالة الخاتم التي جاء بها رسولنا، لتكون رحمة للناس جميعهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم، كي يعيشوا على هذه الأرض بسلام، يقبلون اختلافهم بعضهم عن بعض، وتميزهم التقوى، تحت شعار الوحدانية “لا إله إلا الله”، وكل ما عداه متعدد متغير متبدل.
خلاصة القول قد تكون أضحت متكررة مملة، لكن لا بد من تكرارها وهي: الإسلام بريء مما يلصق به، لكن الثقافة الموروثة ليست كذلك، ومهمتنا تنقيته من الملصقات كي لا تتكرر المآسي، فتقدم الضحايا باسم الله، وندين ونستنكر ونتبرأ دون أن نخطو إلى الأمام، ودونما تغيير يذكر.
أحر التعازي لأهالي الضحايا، أما هم فعند إله رحيم.