لنبدأ بأنفسنا
ينشغل الناس في عالمنا العربي بأمور حياتهم اليومية، ولا يكاد معظمهم يشعر بالمشكلة التي نعاني منها على صعيد العقل الجمعي، كمسلمين من كل الملل والطوائف، ولا يرى المسلمون المؤمنون بالرسالة المحمدية أي ضرورة لتصحيح ما رسخ في أذهانهم من أفكار نشأوا عليها، ويريحهم أن يستكينوا لاعتقادهم بأنهم “خير أمة أخرجت للناس” وأن ماضيهم التليد يشفع لهم بأن يخرجوا من ركب الحضارة، ويأبى أغلبهم الاعتراف بأن رؤيتهم للإسلام مغلوطة وأن هذه الرؤية تحتاج إلى تصحيح، وتبقى نظرية المؤامرة حاضرة لتحمل مسؤولية كل ما يجري باسم الإسلام، ويتنصل أي منهم من هذه المسؤولية.
ويطرح الكثيرون سؤالاً يتلخص بجدوى معرفة إن كان آدم قد سكن الأرض وحده أم معه أحد آخر، أو هل فرعون أسلم أم لم يسلم، فلا حاجة لنا لتدبر كتاب الله، وهناك من فسره منذ قرون وأعطانا الزبدة، وهو “بالتأكيد” أجدر منا، ونحن نعلم أن رسولنا جاء بمكارم الأخلاق ونقوم بما يمليه علينا ديننا من صلاة وصيام وزكاة وحج، فلماذا كل هذه التعقيدات؟ وإن احتاج أحدنا لفتوى ما لن تعييه السبل لإيجادها، ثم لماذا نحمل وزر تخلفنا إذا لم يأت الزعيم الذي يمكنه قيادتنا نحو النهضة؟
ولا غرابة في كل هذه الأسئلة، فالفردية التي اعتدناها تجعلنا لا نشعر بالكارثة إذا لم يمسسنا أذاها بشكل شخصي، وعندما ظهرت داعش وقبلها القاعدة كان الجواب الأسهل أنها لا تمثل الإسلام، أو الابتعاد إلى الجانب الآخر والاتجاه إلى الإلحاد مع التبرؤ من كل ما يمت للإسلام بصلة، مع أن الحل في متناول أيدينا ونحن مسؤولون أمام الله أولاً وأمام أنفسنا ثانياً عما آل إليه وضعنا، وكل ما علينا فعله هو إعادة النظر في أدبياتنا متحلين بالجرأة على مراجعتها.
فإذا امتلكنا هذه الجرأة وجدنا كتاب الله يمدنا بخطوط عريضة نستنير بها لنستحق الخلافة التي خلقنا لأجلها، ومن أهم هذه الخطوط أن سنة الله في الخلق هي الاختلاف، فلسنا الوحيدين على الأرض، والتعددية هي سر التطور والازدهار، فلا واحد إلا الله وكل ما عداه متعدد متبدل، والله تعالى وضع قانوناً أساسياً في التاريخ يمكننا أن نلحظ صحته في الماضي والحاضر، هو أن كل أحادية زائلة لا محالة، والازدهار والتطور هو لصالح التعددية، ورمز للمجتمع الأحادي بالقرية وللمجتمع المتعدد بالمدينة، بعيداً عن المعنى الجغرافي لهاتين المفردتين، فالقرية ذات لون واحد لا تقبل الاختلاف، ولا مكان فيها لرأي آخر سواء كان ملة أو مهنة أو لباس أو سلوك، بما تخلق هذه الأحادية من تحجر وعدائية، في حين تضم المدينة شتى أنواع الألوان على كل الأصعدة، وما يخلقه هذا التعدد من قبول الإنسان لأخيه الإنسان.
والله تعالى إذ أثنى على المدنية في كتابه، جعل رسوله محمد (ص) يطبقها كأول تفاعل للرسالة مع المجتمع، فهجر مكة، بما تمثله من أحادية أبدية لله وحده، إلى يثرب وبدل اسمها إلى المدينة، وأقام فيها مجتمعاً يحوي أطيافاً مختلفة، من أتباعه وأتباع رسل غيره، مؤمنين وكافرين، أتقياء ومنافقين، ومهاجرين وأنصار من قبائل عدة، يتساوون في الحقوق والواجبات، وعلاقتهم مع الله شأن خاص بهم بناء على قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، وكابد الرسول الأمرين في تغيير العقل الجمعي لقومه، وأسس لفكر لم يتبلور إلا بعد قرون عدة، على يد من لا يتبعونه أصلاً، قوام هذا الفكر هو احترام خيارات الناس وعدم التدخل فيها من قبل الدولة، حيث كلما قل تدخل الدولة في حياة الأفراد كلما كانت كلمة الله هي العليا فيها، وكلما زاد تدخلها زاد حكم الطاغوت، ورغم أن هذه القفزة النوعية انتهت مع وفاته (ص) إلا أنها مثلت صورة للمجتمع الذي يريد الله منا الاقتداء به، بعيداً عن المسواك وطول اللحية مما ارتبط بظروف ذاك العصر.
واليوم إذ يصلي أحدنا على النبي عشرات المرات في اليوم الواحد، لا يخطر في باله أن هذه الصلاة هي صلة مع نبوته، بما جاءت به من نبوءات في العلم والتاريخ والاجتماع.
وقد يقول القارئ وما الحل إذا كان الأمر ليس بيدنا؟ أقول على كل فرد أن يبدأ بنفسه ويراجعها، لينزع عنها ما يشوبها من آبائية وطائفية وعنصرية، وليعلمها أن الله خلق الناس سواسية، وأن التدين يجب أن يكون ظاهرة فردية، وعلاقة الإنسان بالله شأن يخصه وحده، وعلاقته بالآخر تحكمها القيم الإنسانية والأخلاق، أما المجتمعات التي تقيم الناس من خلال ارتيادها للمساجد أو ارتداء الحجاب فهي مجتمعات منافقة، تخاف من أفرادها لا من الله.
وعندما يصل الأفراد إلى الإيمان بالتعددية تماماً، سيؤمنون بالضرورة أن الحرية قيمة عليا، وسيسعون ورائها لهم ولغيرهم، وبالتالي سيحق لهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يناسب مجتمعهم، وسيستحقون من ثم أن يكونوا “خير أمة أخرجت للناس”.
ينشغل الناس في عالمنا العربي بأمور حياتهم اليومية، ولا يكاد معظمهم يشعر بالمشكلة التي نعاني منها على صعيد العقل الجمعي، كمسلمين من كل الملل والطوائف، ولا يرى المسلمون المؤمنون بالرسالة المحمدية أي ضرورة لتصحيح ما رسخ في أذهانهم من أفكار نشأوا عليها، ويريحهم أن يستكينوا لاعتقادهم بأنهم “خير أمة أخرجت للناس” وأن ماضيهم التليد يشفع لهم بأن يخرجوا من ركب الحضارة، ويأبى أغلبهم الاعتراف بأن رؤيتهم للإسلام مغلوطة وأن هذه الرؤية تحتاج إلى تصحيح، وتبقى نظرية المؤامرة حاضرة لتحمل مسؤولية كل ما يجري باسم الإسلام، ويتنصل أي منهم من هذه المسؤولية.
ويطرح الكثيرون سؤالاً يتلخص بجدوى معرفة إن كان آدم قد سكن الأرض وحده أم معه أحد آخر، أو هل فرعون أسلم أم لم يسلم، فلا حاجة لنا لتدبر كتاب الله، وهناك من فسره منذ قرون وأعطانا الزبدة، وهو “بالتأكيد” أجدر منا، ونحن نعلم أن رسولنا جاء بمكارم الأخلاق ونقوم بما يمليه علينا ديننا من صلاة وصيام وزكاة وحج، فلماذا كل هذه التعقيدات؟ وإن احتاج أحدنا لفتوى ما لن تعييه السبل لإيجادها، ثم لماذا نحمل وزر تخلفنا إذا لم يأت الزعيم الذي يمكنه قيادتنا نحو النهضة؟
ولا غرابة في كل هذه الأسئلة، فالفردية التي اعتدناها تجعلنا لا نشعر بالكارثة إذا لم يمسسنا أذاها بشكل شخصي، وعندما ظهرت داعش وقبلها القاعدة كان الجواب الأسهل أنها لا تمثل الإسلام، أو الابتعاد إلى الجانب الآخر والاتجاه إلى الإلحاد مع التبرؤ من كل ما يمت للإسلام بصلة، مع أن الحل في متناول أيدينا ونحن مسؤولون أمام الله أولاً وأمام أنفسنا ثانياً عما آل إليه وضعنا، وكل ما علينا فعله هو إعادة النظر في أدبياتنا متحلين بالجرأة على مراجعتها.
فإذا امتلكنا هذه الجرأة وجدنا كتاب الله يمدنا بخطوط عريضة نستنير بها لنستحق الخلافة التي خلقنا لأجلها، ومن أهم هذه الخطوط أن سنة الله في الخلق هي الاختلاف، فلسنا الوحيدين على الأرض، والتعددية هي سر التطور والازدهار، فلا واحد إلا الله وكل ما عداه متعدد متبدل، والله تعالى وضع قانوناً أساسياً في التاريخ يمكننا أن نلحظ صحته في الماضي والحاضر، هو أن كل أحادية زائلة لا محالة، والازدهار والتطور هو لصالح التعددية، ورمز للمجتمع الأحادي بالقرية وللمجتمع المتعدد بالمدينة، بعيداً عن المعنى الجغرافي لهاتين المفردتين، فالقرية ذات لون واحد لا تقبل الاختلاف، ولا مكان فيها لرأي آخر سواء كان ملة أو مهنة أو لباس أو سلوك، بما تخلق هذه الأحادية من تحجر وعدائية، في حين تضم المدينة شتى أنواع الألوان على كل الأصعدة، وما يخلقه هذا التعدد من قبول الإنسان لأخيه الإنسان.
والله تعالى إذ أثنى على المدنية في كتابه، جعل رسوله محمد (ص) يطبقها كأول تفاعل للرسالة مع المجتمع، فهجر مكة، بما تمثله من أحادية أبدية لله وحده، إلى يثرب وبدل اسمها إلى المدينة، وأقام فيها مجتمعاً يحوي أطيافاً مختلفة، من أتباعه وأتباع رسل غيره، مؤمنين وكافرين، أتقياء ومنافقين، ومهاجرين وأنصار من قبائل عدة، يتساوون في الحقوق والواجبات، وعلاقتهم مع الله شأن خاص بهم بناء على قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، وكابد الرسول الأمرين في تغيير العقل الجمعي لقومه، وأسس لفكر لم يتبلور إلا بعد قرون عدة، على يد من لا يتبعونه أصلاً، قوام هذا الفكر هو احترام خيارات الناس وعدم التدخل فيها من قبل الدولة، حيث كلما قل تدخل الدولة في حياة الأفراد كلما كانت كلمة الله هي العليا فيها، وكلما زاد تدخلها زاد حكم الطاغوت، ورغم أن هذه القفزة النوعية انتهت مع وفاته (ص) إلا أنها مثلت صورة للمجتمع الذي يريد الله منا الاقتداء به، بعيداً عن المسواك وطول اللحية مما ارتبط بظروف ذاك العصر.
واليوم إذ يصلي أحدنا على النبي عشرات المرات في اليوم الواحد، لا يخطر في باله أن هذه الصلاة هي صلة مع نبوته، بما جاءت به من نبوءات في العلم والتاريخ والاجتماع.
وقد يقول القارئ وما الحل إذا كان الأمر ليس بيدنا؟ أقول على كل فرد أن يبدأ بنفسه ويراجعها، لينزع عنها ما يشوبها من آبائية وطائفية وعنصرية، وليعلمها أن الله خلق الناس سواسية، وأن التدين يجب أن يكون ظاهرة فردية، وعلاقة الإنسان بالله شأن يخصه وحده، وعلاقته بالآخر تحكمها القيم الإنسانية والأخلاق، أما المجتمعات التي تقيم الناس من خلال ارتيادها للمساجد أو ارتداء الحجاب فهي مجتمعات منافقة، تخاف من أفرادها لا من الله.
وعندما يصل الأفراد إلى الإيمان بالتعددية تماماً، سيؤمنون بالضرورة أن الحرية قيمة عليا، وسيسعون ورائها لهم ولغيرهم، وبالتالي سيحق لهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يناسب مجتمعهم، وسيستحقون من ثم أن يكونوا “خير أمة أخرجت للناس”.