النهضة وما آلت إليه
لم يخطر في بال رجالات النهضة العربية الذين حملوا لواءها منذ قرنين أنها ستبقى حلماً على يافطات المؤتمرات والمنتديات، وأن ما حققوه في حينه سيراوح مكانه إن لم يتقهقر متراجعاً أمام سطوة الاستبداد بمختلف أشكاله، وكل الأهداف التي نادوا بها ما زالت أهدافاً في يومنا هذا، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت أن ما أنجزوه قد تبدد، فلا نحن رواد في جامعاتنا، وتكاد نسبة القراءة والترجمة والتأليف تلامس أدنى المستويات، ولا نحن رواد في صناعاتنا واقتصادنا، ولم تتحقق أي من الإصلاحات التي طمحوا إليها، ناهيك عن أن الاستعمار أصبح شماعة نعلق عليها كل مآلاتنا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سنبقى نجتر في شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع؟ وما هو الطريق إلى النهضة على أرض الواقع؟
قد يكون من الإجحاف أن نضع اللوم كله على إرثنا الثقافي، لكنه للأسف يحمل جل المسؤولية، فنحن كشعوب عربية، بما يحمله هذا الانتماء إلى الأرض، لم نع الحرية كقيمة، إذ تكبلنا أمور لا حصر لها منذ ألف ومئتي عام حتى الآن، وثقافة العبودية لا يمكنها أن تنهض، فقد ترسخت في أذهاننا ثقافة الحرام والممنوع، وتشكل العقل العربي على أساس أن كل ما حوله ممنوع إلا الاستثناء، وبالتالي ظل مقيداً، وظل الحجاب والموسيقى وإطلاق اللحية أو حلقها أهم بالنسبة للمسلم من سؤال الحرية، ولم يعنه من ثم إن فرضت حالة الطوارئ في بلده أم رفعت، فهو يعيش حالة طوارئ أبدية تجعله ينوس في قوائم الممنوع، وتجعل منه لقمة سائغة في فم المستبد سواء كان خارجياً أم داخلياً، ناهيك عن أن تفوق النقل على العقل جعل هذا العقل يحتاج لمثال يحتذي به، وينطبق ذلك على المسلم والملحد، والقومي والماركسي، فلا مكان للإبداع ولا للعلم.
وفي موضوع المرأة وتمكينها ما زالت مجتمعاتنا في طور مناقشة مرور المرأة أمام الرجل إن كان سيبطل صلاته مثل الكلب والحمار أم أن هذا الحديث غير صحيحٍ.
أما في الاختلاف فلا يقبل العربي (بشكل عام) الآخر، والفكر الأحادي هو السائد، فإذا كنا من أتباع محمد، فنحن الأفضل والدين عند الله الإسلام، والإسلام بني على خمس من لم يؤدها هو في الدرك الأسفل من النار، ومقابل هذه الأحادية اتخذ أتباع عيسى في المنطقة العربية الموقف ذاته، فأصبحوا أحاديين هم أيضاً، وإذا كان هدف أنصار النهضة العربية إيجاد هوية مشتركة، فقد فقدت الهوية بين أقلية وأكثرية، وانتماءات قومية وطائفية، ولم يتبلور مفهوم المواطنة واختفت حدود الحقوق والواجبات لصالح الفساد.
فعن أي نهضة نتحدث؟
قد يبدو للبعض أن الإسلام هو المشكلة، لكن هذا غير صحيح فلا هو المشكلة ولا هو الحل، لكن الموروث الإسلامي يحتاج إلى تمحيص لإعادة بناء الفكر وفق قواعد صحيحة، والله سبحانه لم يطلب العبودية من الناس، حتى لنفسه، فنحن عباد ولسنا عبيد إلا في يوم الحساب، ولنا أن نطيع ونعصي بمطلق إرادتنا، وسبيل الله التي ندعي ركوبها ليل نهار هي طريق الحرية لنا ولغيرنا، ولا حدود لهذه الحرية إلا القيم الأخلاقية أولاً، والقوانين ثانياً، والإسلام الذي لن يقبل الله غيره ديناً هو الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر مع العمل الصالح، وعلاقتنا مع الناس جميعاً قوامها قبول الاختلاف الذي سنه الله لنا في هذه الدنيا {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118) ووفق قاعدة أساسية هي احترام حرية المعتقد، أما السلطة في أي دولة فمسؤولة عن تسيير الشأن العام في الدنيا، ولا شأن لها بعلاقتك مع الخالق، فشأن الآخرة للأفراد كل بنفسه، وليست مهمة الدولة إرسال الناس للجنة أو النار، وعلى رأي هارون الرشيد “أسعد الناس من كان له بيت يؤويه وعيش يرضيه ولا يعرفنا ولا نعرفه”، أي لا تتدخل الدولة في الحياة الخاصة لمواطنيها.
والتنزيل الحكيم خاطب الناس جميعاً وفق قاعدة أساسية أن الذكر والأنثى متساويان في الواجب والأجر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13) فحري بنا بعد أربعة عشر قرن أن نرفع ظلم المرأة عن عاتق الإسلام، وبشكل عام علينا وعي أن ما طبق في القرن الثامن الميلادي ليس دين، وأن مركز الإسلام هو التنزيل الحكيم لا حياة محمد (ص) وأصحابه، وأن الأئمة والفقهاء اجتهدوا مشكورين لعصرهم وآن الأوان كي نريحهم ونثق بقدرتنا على المضي قدماً دونهم.
قد يبدو الطريق إلى النهضة شاقاً، لكن علينا أن نخطو، ولنبدأ بالتغيير علينا الانفتاح على العلم، واضعين عن كاهلنا أحمالاً تتصدرها عقدة الذنب، ويثقلها موروث يجرنا إلى الخلف، ولنضع نصب أعيننا أن من لا يعلم لا يطلب، وكلما زادت معرفتنا بالموجودات حولنا زاد قضاؤنا فيها، وإن لم يكن لنا قضاء في ما حولنا سنبقى نلوك في سؤال النهضة دون أن نجرؤ على النهوض.