لا تتقولوا على الله
لا تتقولوا على الله
مع التطور التكنولوجي الهائل لا يمكن لأجيال اليوم أن تتخيل كيف كنا نعيش قبل عصر الهاتف المتحرك أو وسائل التواصل الحديثة، ولا يمكنها استيعاب أن جيلنا كان يتلقى الرسائل المكتوبة التي قد يستغرق وصولها أشهراً عبر البريد بين أنحاء العالم، ورغم كل هذا التطور فإن الأخبار تفتقر إلى الدقة، وتبقى رهن وسيلة الإعلام وحياديتها، فتخضع للمبالغة تارة أو لإهمال جزء من الحقيقة تارة أخرى، أو الحقيقة كلها في بعض الأحيان، والمفارقة أن ترى من يقتنع بعدم دقة أخبار اليوم ومع ذلك لا يقبل بأي حال التشكيك بأخبار أحداث حصلت منذ 1400 عام، سجلها من سمع بها بعد ما لا يقل عن مئتي عام من حدوثها، وقد سمعها بدوره من أحد أصحاب المغازي وهو يرويها في جلسة ما، وقد لا يعنينا الأمر لو أن أضراره تقف عند التصديق بخبر ما من عدمه، لكن يعنينا إذا علمنا أن هذا الأمر هو ما بني عليه ديننا، بكل ما يحمل ذلك من تحريف وتشويه للإسلام، انعكس وينعكس على حياتنا اليومية وعلاقتنا مع الآخر، ويطال سلامتنا وسلامته في كثير من الأحوال.
فنحن كأمة إسلامية، تتبع الرسول محمد بن عبد الله (ص) في شعائرها، نؤمن أن كتابنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه هو التنزيل الحكيم، بكل ما جاء بين دفتيه، وهو كتاب كامل غير منقوص، لا يحتاج إلى تتمة، وتكفل الله تعالى بحفظه كما سمعه محمد من جبريل بصيغته الصوتية (الذكر) وكما نطقه (ص) أمام أصحابه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر 9)، ورغم وجود المشككين دائماً إلا أن أحداً لم يظهر نسخة مختلفة عما بين أيدينا، مع ملاحظة أن المصحف دوّن غير معجم ولا منقط.
والله تعالى إذ ختم الرسالات السماوية بالرسالة المحمدية أعلن إكمال الدين وإتمام النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} فالإسلام ابتدأ مع نوح واكتمل مع محمد، كدين عالمي يمكن لرحمته استيعاب أهل الأرض، قوامه الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر، ودعامته العمل الصالح، وأدى الرسول الأعظم مهمته في بلاغه للناس، وطبق الرسالة كتفاعل أول لها مع المجتمع، فوضع حجر الأساس لتحرير الرق وبايع النساء، وأسس دولة مدنية فيها كل أطياف ذاك المجتمع، واجتهد في التشريع ضمن حدود الله وفق الظروف الزمانية والمكانية السائدة حوله، من مقامه كرسول وولي أمر، ونفذ التشريع من مقامه كنبي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال 70)، ومارس حياته كإنسان عادي يأكل ويشرب ويتزوج {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم 1)، ولم يدع غير ذلك حتى أنه لقي استهجان أعدائه {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} (الفرقان 7).
والرسول الأعظم كان بشر مثلنا إنما يوحى إليه {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف 110)، وما يوحى إليه هو التنزيل الحكيم ليس إلا، وأطروحة صاحب الوحيين هي تزوير أوصلنا لكوارث لا نعرف الخروج منها، اعتمد فيها الشافعي على قوله تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى *إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم 3- 4) وعممه ليشمل كل ما نطق الرسول، والسؤال الذي يطرح نفسه على كل مقتنع بهذه الأطروحة هو: هل بإمكاننا القول “قال رسول الله: إنا أعطيناك الكوثر”؟ أو هل بإمكاننا القول “قال تعالى: الجنة تحت أقدام الأمهات”؟ والأنكى من ذلك ما يسمى “الحديث القدسي”، فإذا كان قول الله تعالى لماذا لا نجده بين دفتي المصحف؟ ولماذا نجد عدة صيغ وعنعنات لكل حديث؟
قد يقول قائل وماذا عن طاعة الرسول؟ نقول أمامكم التنزيل فانظروا به لعلكم تميزون الطاعة المتصلة بطاعة الله لتكون طاعة للرسالة التي بلّغها{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(آل عمران 132) ضمن خط ناظم هو {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة 99) وبين طاعة منفردة للرسول وردت مرة واحدة في موضع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور 56) وطاعة ثالثة منفصلة عن طاعة الله، بصفته (ص) ولي أمر، أي طاعة للقانون الذي شرّعه تنقطع بوفاته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء 59) فأنت تطيع مديرك بما يحمله منصبه لا شخصه، فلا تتقولوا على الله وعلى رسوله وتلبسوا الحق بالباطل سواء إن كنتم تعلمون أم لا تعلمون.