خصائص السنة النبوية

فإذا فهمنا أن السنة النبوية المحمدية هي تقييد المطلق وإطلاق المقيد في حقل الحلال، وأن هذا التقييد والإطلاق يمثل الوجه التنظيمي لحركة النمو والتطور في المجتمع، ضمن إطار عام يحدد حقل الحرام وحقل الحلال. فهمنا الدور النبوي للنبي العربي (ص)، وفهمنا أن لسنته جملة خصائص، هي أنها:

  1. قرارات نابعة من الظرف الموضوعي المعاش في المجتمع العربي في العصر النبوي.
  2. اجتهاد في تقييد الحلال لا يحتاج إلى وحي.
  3. اجتهاد تقييدي للحلال المطلق، يمكن إعادة إطلاقه مرة أخرى مع تغير الظروف الموضوعية.
  4. اجتهاد في حقل الحلال يخضع للخطأ والصواب، من حيث أنه ليس وحياً، ومن حيث أن الخطأ فيه قابل للتصحيح.
  5. قرارات الاجتهاد في حقل الحلال، بغض النظر عن مصدرها نبوياً كان أو غير نبوي، لا تعتبر شرعاً إسلامياً، وإنما هي قانون مدني يخضع للظروف الاجتماعية، أي أن النبي (ص) في حياته مارس القانون المدني لتنظيم المجتمع في حقل الحلال، ومارسه في بناء الدولة العربية والمجتمع العربي في القرن السابع. لذا فلا يأخذ الطابع الأبدي أبداً حتى وإن صح مائة بالمائة وتواتر مائة بالمائة.

ونضرب مثالاً عن قرار اجتهادي اتخذه النبي في تقييد الحلال المطلق، ثم أطلقه من قيوده مرة ثانية فيما بعد، وهذا المثال هو زيارة النساء للقبور.

كانت النساء عندما يموت لهن ميت، يمزقن جيوبهن وثيابهن ويحثن التراب على رؤوسهن، تعبيراً عن مكانة الميت والحزن عليه. وكانت نساء العرب تزور مقابر الموتى، إحياء لذكراهم، ويمارسن شق الجيوب وحثو التراب. فجاء النبي (ص) ليمنع النساء من زيارة القبور وشق الجيوب. والنظرة الدقيقة المتأملة توضح لنا أنه (ص) لم يحرم الحزن على الميت ولا إحياء ذكراه.

فزيارة المقابر أو عدم زيارتها كلاهما في حقل الحلال لكنه نهى عن عادات اجتماعية جاهلية كانت العرب تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من حقل الحلال المطلق، ولم يعد لها مكان في ضوء التشريع الموحى. إلا أنه (ص) بعد أن ترسخت المفاهيم الإنسانية والإيمانية في قلوب معظم الناس، عاد إلى إطلاق ما كان قد قيده أول مرة، فسمح للنساء بزيارة المقابر. لكن المشكلة الكبرى جاءت من فهم السادة الفقهاء لهذا التقييد والإطلاق، حين اعتبروه تحريماً لحلال، وتحليلاً لحرام واعتبروه شرعاً، وهذه هي علة العلل في الفقه الإسلامي التاريخي.

فالنبي لم يقم بأكثر من تطبيق تنظيم مدني داخل حقل حلال بالأصل، وجد أنه الأنسب والأصلح ضمن الظروف الموضوعية السائدة. ولا أحد يدري من أين استند الفقهاء على أمثال هذه القرارات التنظيمية ليبرهنوا على وجود ناسخ ومنسوخ في الحديث النبوي، ثم ليقفزوا بعدها إلى القول بوجود ناسخ ومنسوخ في كتاب الله وآياته بكل استخفاف وعدم مسؤولية.

بينما بمفهوم السنة النبوية الحقيقي فإن الناسخ والمنسوخ في حقل الحلال هو مهمة البرلمانات في كل دول العالم، فهي التي تشرع ثم تلغي أو تعدل وهذا ما فعله النبي. أي أن الاستفتاءات والبرلمانات هي المفهوم المعاصر للسنة النبوية.

ونقف عند مثال آخر هو الوصية والإرث، وهما الحالتان الوحيدتان اللتان اعتمدهما الله سبحانه في تنزيله الحكيم لانتقال الملكية عبر الأجيال. ورغم أنه تعالى يفضل الوصية على الإرث، فقال في الوصية {كتب عليكم}، وقال في الإرث {يوصيكم} فجعل التكليف أقوى وأوضح. ورغم أنه تعالى قدَّم الوصية على الإرث، وجعل قوانين الإرث احتياطية في حال غياب الوصية بقوله {من بعد وصية يوصى بها أو دين}. رغم هذا كله فكلاهما حلال.

ولكونهما كذلك، فإن للإنسان أن يختار إحداهما أو أن يجمع بينهما، فالجمع بين حلالين حلال. أي أن للإنسان أن يوصي بكل تركته فلا يترك محلاً للإرث، أو أن يغفل الوصية، فتتوزع تركته بموجب القوانين الإلهية للإرث. وله أن يوصي بربع أو ثلث أو نصف تركته، تاركاً الباقي للتوزيع على الورثة. وهذا كله حلال واضح من نصوص الآيات لا يختلف في وضوح حلاله اثنان. هنا جاء النبي (ص) في حديثه إن صح، ليقرر أن للوصية الثلث والثلث كثير.

ثم تابعه في قراره هذا الإمام علي كرم الله وجهه في قوله إن صح: “لأن أوصي بالخمس أحب إلي من الربع، والربع أحب إلي من الثلث لقوله: (ص) الثلث كثير”. والنبي (ص) والإمام علي لم يحرما حلالاً أو يحللا حراماً في قرارهما هذا، من زاوية أنه قرار تنظيمي ليس له صفة المطلقية والشمول، وأنه قابل للإطلاق بعد التقييد وللخطأ والصواب، لكن المشكلة مرة أخرى تأتي من زعم الفقهاء أن حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد (ص) حرام إلى يوم القيامة، وتأتي من اعتبارهم أن القرارات النبوية التنظيمية لها قوة التنزيل الحكيم الشامل المطلق الباقي.

ناسين أن التحليل والتحريم محصور بالله وحده، وأن التقييد الأبدي للحلال المطلق يدخل حتماً في باب تحريم الحلال، وهذه صلاحية لم يمنحها تعالى لأحد بما فيهم الرسل.

ثمة نقطة لطيفة نقف عندها، هي أن السادة الفقهاء بزعمهم هذا يسيئون إلى النبي (ص) وسنته من حيث لا يشعرون. فالرسالة المحمدية جاءت لوضع الإصر والأغلال عن الناس ولتيسير العسير من أمورهم، وليس لزيادة قيودهم وشل حركتهم الاجتماعية. فالدولة تطمح من خلال التطور التشريعي في المجتمع إلى تقليص تدخلها في حياة الأفراد وقراراتهم، على عكس الفقهاء الذين يسعون باتجاه التدخل في كل شاردة وواردة منذ قرون وقرون، مستندين بهذا إلى السنن النبوية كما يفهمونها تارة، وإلى كونهم ورثة الأنبياء تارة أخرى.

إننا نقرأ قوله تعالى {وعلى الذين هادوا حرَّمنا كل ذي ظفر..} إلى قوله تعالى {ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} الأنعام 146. ونستنتج من هذه الآية أن التوسع في التحريم عقوبة، فعندما عاقب الله الذين هادوا توسع عليهم في دائرة التحريم، وهذا مالم يفهمه السادة الفقهاء.

إن علة العلل في الفقه الإسلامي التاريخي هي أنه جعل تقييد المطلق (الحلال) مطلقاً إذا ورد من النبي (ص) ثم من الصحابة، فنشأ لديه شيء اسمه مطلق المطلق، رغم أنه ليس في الدنيا شيء بهذا الاسم، فكان أن جعله ذلك وهماً غير متناسب مع الحياة، وجعله مسطحاً لاوجود فيه لبعد الصيرورة، وحوَّله إلى طرح لا يمكن تطبيقه وممارسته إلا بالإكراه الداخلي والخارجي، أي أنه ضد الفطرة الإنسانية، لأنه يجعل من تفاصيل الثقافة العربية في القرن السابع، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، شرعاً إسلامياً. وتحول الحرام فيه إلى أساس للحياة بدلاً من الحلال، وغدا الفكر العربي الإسلامي فكراً تحريمياً تحليلياً، سيطرت عليه ذهنية تحريمية ما زالت سائدة حتى يومنا هذا.

فإذا سمع الإنسان العربي المسلم عن الإنترنت فإن أول سؤال يتبادر إلى ذهنه هو: هل الإنترنت حرام أم حلال؟ قبل أن يسأل كيف تصنع الإنترنت، وقد سئل هذا السؤال مئات الآلاف من المرات في القرن العشرين حتى يومنا هذا.

العصمة عند رسول الله (ص)

هنا لابد من الوقوف أمام مفهوم العصمة عند الرسول (ص). فالعصمة كما نراها عنده تنحصر في أمرين اثنين:

  1. كان الرسول (ص) معصوماً في تبليغ الذكر الحكيم الموحى إليه بالنص والمحتوى، كما وصله من ربه لفظاً ونطقاً، وكان معصوماً من تأثير الناس عليه في تبليغ الرسالة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة 67.
  2. كان معصوماً من الوقوع في الحرام، ومن تجاوز حدود الله.

أي أنه أعلن وبلَّغ الناس رسالة ربه إليه بما فيها من تحليل وتحريم وأمر ونهي دون زيادة أو نقصان، وأنه لم يرتكب المحرم في حياته ولم يجتهد فيه، وكان تصرفه اجتهاداً ضمن حدود حقل الحلال المطلق، لأن الحلال لا يمكن ممارسته في أي مجتمع إلا مقيداً، مع ملاحظة أن هذه القيود ليست مطلقة، بل تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتتغير بتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتتفاوت بتفاوت وعي المجتمع لذاته ولمؤسساته، وهذا أهم جانب.

فالمحرمات الإلهية تكفي لخلق ضمير إسلامي عند الناس، لكنها لا تكفي لتنظيم دولة ومجتمع في كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا بالضبط ما فعله النبي (ص)، حين قام بالتنظيم تقييداً وإطلاقاً. وعملية التقييد والإطلاق في الحلال هذه، عملية جدلية تاريخية إنسانية، يقوم بها الإنسان أو المؤسسة التشريعية، ومن هنا فهي عرضة للخطأ والصواب.

هنا نفهم لماذا جاءت الطاعة للرسول من مقام الرسالة، ولم تأت للنبي من مقام النبوة، ونفهم لماذا لا نجد في التنزيل الحكيم عبارة “أطيعوا النبي”. كما نفهم أيضاً أن الله سبحانه أعطاه الحق بوضع تشريعات إضافية لبناء دولة ومجتمع ولكن بدون وحي، لأن هذه التشريعات الإضافية في تقييد الحلال المطلق وإطلاق المقيد تحمل الطابع النسبي الزماني والمكاني، ولهذا السبب بالذات أمر النبي بعدم تدوين أحاديثه لأنها تاريخية غير أبدية، وكان يقول القول ثم يغيره، بتغير الظروف والشروط الموضوعية.

مما يدفعنا إلى القول بأن كل أهل الأرض يتبعون السنة النبوية ضمن هذا المفهوم في برلماناتهم، بالتصويت والاستفتاء وتعديل القوانين. أي أن الدولة الإسلامية دولة مدنية ضمن حدود الله، تقوم على المثل العليا التي وردت في التنزيل الحكيم، والتي يجب أن تدخل من خلال النظام التربوي في ضمائر أفرادها.

لقد شرحنا في غير هذا المكان الفرق بين جاء وأتى، وقلنا بأن الإتيان يكون من نفس الدائرة، أما المجيء فيكون من دائرة أخرى، وشاهدنا على هذا قول إبراهيم لأبيه {قال يا أبت قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني} مريم 43. أي قد جاءني علم موحى من غير دائرتي، ليس موجوداً منه في دائرتك فاتبعني. ونضيف هنا أمراً آخر، هو أن الإتيان في التنزيل الحكيم يدل على فعل وليس على قول.

الآن يمكننا فهم قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. فهو يتكلم عن الإجراءات التي أتى بها النبي من دائرته الإنسانية كولي للأمر، ولو كانت وحياً لقال ” وما جاءكم به الرسول فخذوه “. ولو أن (أتاكم) تعني الوحي، لتم دمج الذات المحمدية بالذات الإلهية، تعالى الله عما يصفون، أو لكان التنزيل الحكيم من تأليف محمد، أو في أحسن الأحوال من صياغته. والقول بأحد هذه العبارات كافٍ لنسف العقيدة الإسلامية من جذورها. فالتنزيل الحكيم وحي جاء من خارج دائرة الذات المحمدية مصوغاً منطوقاً.

هذا يوضح لنا أن عبارة {ما آتاكم الرسول فخذوه} تعني مجموعة التشريعات الإضافية التي قام بها النبي لبناء دولته العربية النسبية، وليس لبناء المطلق. وهذا ما يحتاجه كل مجتمع في كل العصور والدهور. أما في قوله {وما نهاكم عنه فانتهوا}، فنلاحظ الإشارة إلى أن للنبي (ص) أن يأمر وينهى، ولكن ليس له أن يحلل من عنده ويحرم، والفرق كبير جداً بين النهي والتحريم. فالحلال والحرام توقيفي من الله حصراً، أما الأمر والنهي فيشترك فيه الله والناس. فالله يحلل ويحرم ويأمر وينهى، أما الإنسان فيأمر وينهى فقط. وعلى هذا الأساس نعرِّف السنة النبوية:

1 – الطاعة المتصلة لله والرسول:

وهي طاعة واجبة في حياة الرسول وبعد مماته في مجال الشعائر والمحرمات. فالشعائر كما أداها الرسول وصلتنا بالتواتر العملي ولا فضل في ذلك لمحدِّث ولا لفقيه. أما المحرمات فهي مفصلة في كتاب الله. والرسول معصوم عن ارتكابها، إضافة إلى معصوميته في مجال الإبلاغ والتبليغ. والمحرمات فطرية يفهمها الإنسان العادي بفطرته لأنها تدخل في الضمير الإنساني، ولا يوجد فيها إصر وأغلال.

2 – الطاعة المنفصلة:

وهي طاعة واجبة في حياة الرسول فقط. فقد كان الرسول يأمر وينهى في حقل الحلال تقييداً حيناً وإطلاقاً حيناً آخر، ويضع أسس بناء المجتمع ضمن شروط الزمان والمكان، وهو في هذه مجتهد غير معصوم، وقراراته تحمل الطابع النسبي المحلي التاريخي. لذا جاءت الطاعة المنفصلة للرسول مع طاعة أولي الأمر.

3 – النبوة تعليم وإخبار:

فالنبي لا يعلم الغيب، بدليل قوله تعالى: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} الأعراف 188. وهذا أمر واضح في النص لا لبس فيه ولا مجال لأي تأويل أو تخريجة لغوية. لكن المحزن أن يكابر البعض فيه فينسبون إلى الرسول وإلى غيره علم مالم يعلم. فرب قائل يقول بأن النبي كان يعلم الغيب بعد أن أطلعه الله عليه، كما في قوله تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} الجن 26-28. نقول لهذا القائل:

أولاً، إن صح ما تقول، لقام تناقض بين آية الأعراف وآية الجن لا يمكن تسويته وإزالته.

ثانياً، إن كلمة “رسول ” لا تعني النبي العربي محمداً (ص)، أينما جاءت من التنزيل الحكيم. ألم تسمع قوله تعالى على لسان جبريل لمريم: {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا} مريم 19، وقوله تعالى: {الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا} فاطر 1. وقوله تعالى {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس} الحج 75.

فإذا فهمنا هذا، فهمنا أن الرسول المقصود في آية الجن هو جبريل. فالله تعالى اصطفى جبريل رسولاً إلى النبي، وأطلعه على الرسالة، التي مازالت حتى تلك اللحظة غيباً، ليقوم بإبلاغها للنبي، بعد أن سلَّحه بالقوة والطاعة والأمانة لأداء مهمته على الوجه الأكمل كما في قوله تعالى {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين* مطاع ثم أمين} التكوير 19-21.

وفهمنا أيضاً الفرق بين الإبلاغ والبلاغ. فمهمة رسل الله من الملائكة هي إبلاغ الأنبياء رسالات ربهم، وهو ما نصت عليه صراحة آية الجن 28. أما مهمة الرسول الخاتم فهي البلاغ المبين. وهذا يفسر قوله: (ص) في حجة الوداع إن صح ” ألا هل بلغت اللهم فاشهد” (البخاري 102) ولم يقل (أبلغت). إذ لو كان الإبلاغ من مهماته، لما جاز لأحد أن يتلقى رسالة الله إلا عن طريقه حصراً.

أحاديث الغيبيات

من هنا نقرر جازمين أن كل أحاديث الغيبيات (وهي أحاديث تعليم وإخبار وليست أحاديث أحكام) المنسوبة إلى النبي (ص) فيها ما يريب، سواء ما يحكي منها عن غيب ملكوت الله في السماوات العلى، وما يحكي منها عن غيب المستقبل من الزمن وما سيحدث فيه من أحداث. فالقسم الأول يطفح بالقصص التوراتي وبالإسرائيليات، والقسم الثاني يطفح بالاتجاهات المذهبية والطائفية التي سادت المجتمع العربي الإسلامي منذ أن توفي النبي (ص) حتى أواخر العصر العباسي، وما زالت عقابيلها مؤثرة إلى يومنا هذا.

ومن المفيد استعراض بعض الأمثلة من هذه الأحاديث، التي يبرز فيها التناقض وتغيب فيها المصداقية.

  1. روى مسلم في صحيحه حديثاً برقم 222 قال: قال رسول الله (ص): يقول الله عز وجل: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك. قال يقول: أَخرِج بعث النار (أي ميز أهل النار من غيرهم). قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. قال فاشتد ذلك عليهم. قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة. فحمدنا الله وكبرنا، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة. إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الحمار. أهـ.
  2. وروى مسلم في صحيحه حديثاً برقم 2737 قال: قال محمد (ص) اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء. وفي رواية: وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء.
  3. وروى الإمام الشهرستاني في الملل والنحل عن النبي (ص) أنه قال: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، والباقون هلكى. قيل ومن الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة. قيل وما السنة والجماعة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي.

ونبدأ أولاً بالإشارة إلى ما في هذه الأحاديث من تناقضات، من حيث المحتوى، وما فيها من متناقضات مع التنزيل الحكيم، وما فيها من متناقضات مع العلم.

  1. ينص الحديث الأول على أن الله ينادي على آدم عقب نفخة الصور ليفرز أهل النار عن غيرهم، وهذا محال عقلاً. فالحساب لم يتم، وكتب الأعمال لم توزع على أصحابها، ولم يتفحص الناس كتبهم، ولم يذهل الكافرون لدقة الإحصاء في هذه الكتب، ولم يدركهم الندم فيتمنوا لو كانوا تراباً.
  2. فإذا تجاوزنا ذلك كله، وجدنا أنفسنا أمام مشكلة أدهى، هي تكليف آدم بفرز أهل النار!! ونتساءل: ولماذا آدم بالذات؟ وهل لآدم عند الله من الصفات والمواصفات ما يجعله أهلاً للقيام بمثل هذه المهمة الدقيقة الثقيلة؟ ونفتح كتاب الله لنجده يصف آدم بقوله {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} طه 115. فكيف يضع تعالى مصير عباده بين يدي نسّاء ضعيف سبق له أن عصى أوامر ربه في أمر الشجرة؟
  3. يقول الحديث الأول أن الصحابة حين سمعوا ذلك من نبيهم (ص) اشتد ذلك عليهم، فطمأنهم النبي قائلاً (أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل). وهذا يناقض ما ورد قبله من عبارة: {من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعين).
  4. ثمة سؤال واضح ومحدد، وجهه السامعون للنبي يقول: أينا ذلك الرجل؟ يجيب عليه النبي قائلاً: أبشروا!! وهذا جواب غريب، إن اعتبرناه جواباً على الإطلاق، الأغرب منه اقتناع السائلين به.
  5. ونبقى عند سؤال (أينا ذلك الرجل؟). ونتساءل باستغراب: لماذا افترضوه رجلاً؟ ونزداد استغراباً ونحن نجد النبي في جوابه يجعل كل أهل الجنة من الرجال. ونتساءل مرة أخرى: فأين خديجة وعائشة وفاطمة، وأين عاتكة وسمية وأسماء، وأين حفصة ومريم وامرأة فرعون؟ هل ثمة عاقل في الدنيا يقبل هذه النتيجة المذهلة؟؟
  6. الحديث الأول بمجمله ينطلق من أن النبي (ص) يعلم غيب المستقبل، وما سيجري فيه من أحداث، فهو يروي لأصحابه حواراً سيجري يوم النفخ في الصور بين آدم وربه، يؤمر فيه آدم أن يستثني كيفما اتفق من كل ألف رجلاً، ليشكل منهم حملة اسمها “بعث النار”. سبحان الله عما يصفون. ويروي لأصحابه في الحديث الثاني والثالث، ما سيكون عليه أهل الجنة من أن أكثرهم فقراء، وما سيكون عليه أهل النار من أن أكثرهم نساء.
  7. يروي الحديث الثاني أن (أكثر) أو (عامة) أهل النار من النساء. والمعنى العام للحديث يذهب بنا إلى القول بأن هذه الأكثرية يجب ألا تقل عن 6ر66%، أي أن مع كل رجل يدخل النار امرأتان.

نعود الآن إلى الحديث الأول، وإلى قاعدة (واحد في الجنة + 999 في النار). محاولين تطبيق الحديثين الأول والثاني على سكان العالم الحاليين عام 2000 والبالغ عددهم ستة مليارات نسمة، بينهم مليار واحد من أتباع الرسالة المحمدية:

آ- مجموع الداخلين إلى النار بحسب الحديث الأول = 5994 مليون إنسان.

ب- مجموع الداخلين إلى الجنة بحسب الحديث الأول = 6 مليون إنسان.

ج- عدد النساء في النار بحسب الحديث الثاني = 3996 مليون امرأة.

د- عدد الرجال في النار بحسب الحديث الثاني = 1998 مليون رجل.

ونحن نرى اليوم استناداً للإحصائيات أن سكان أهل الأرض 50% منهم إناث و 50 % منهم ذكور، مع فروقات بسيطة بين بلد وآخر، تكمل بالمحصلة ما ذكرناه. أي: 3000 مليون رجل + 3000 مليون امرأة. ولا ننسى أن الإحصائيات والأرقام علم، وأن الدليل العلمي دليل قطعي، بينما الأحاديث النبوية الثلاثة السالفة أدلة ظنية.

فإذا افترضنا أن أهل الجنة في الحديث الأول كلهم رجال، أضفناهم إلى عدد الرجال في الحديث الثاني من أهل النار، لوجب أن ينتج لدينا عدد الرجال من سكان العالم اليوم أي 3000 مليون تقريباً، لكننا نجده بدلالة الحديثين: 6 +1998= 2004 مليون وهذا رقم يرفضه العلم وترفضه الإحصائيات، وعلينا أن نبشر النساء في العالم منذ الآن من جميع الملل والأديان بما فيهن أتباع الرسالة المحمدية بأنهن في النار بحسب الأحاديث أعلاه. ونحن على يقين بأن علماء الحديث لم يقاطعوا بين هذه الأحاديث الثلاثة وإنما جل اهتمامهم كان منصباً في السند فقط.

ننتقل إلى نقطة أخرى من منظور الحديث الأول الذي يحدد الداخلين إلى الجنة بستة ملايين رجل، لنقاطع هذه المعلومة مع الحديث الثالث، الذي يقسم الأمة المحمدية إلى 73 فرقة، واحدة منها فقط في الجنة. فإذا علمنا أن عدد أتباع الرسالة المحمدية بحسب أرقام الإحصائيات هو مليار إنسان تقريباً، نتج لدينا أن عدد أفراد الفرقة الناجية = 1000000000 ÷ 73 = 7ر13 مليون تقريباً.

وهذا يتناقض مع الملايين الستة التي حددها الحديث الأول، والتي إن صحت تفترض أن الفرقة الناجية ليست أهل السنة اليوم وليست أهل الشيعة، وأن علينا إن أردنا النجاة أن نبحث عن فرقة لا يزيد عدد أفرادها عن الستة ملايين، رغم أن هذا أيضاً لن يفيد في نجاتنا، لأن السقف الرقمي مغلق لا يقبل الزيادة.

وفي حديث آخر: عن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عن النبي (ص) قال: “لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهودياً أو نصرانياً” (صحيح مسلم 4970، أحمد 18666). إن واضع هذه الحديث ليس لديه أية فكرة عن توزع الأديان ونسبها في الكرة الأرضية وتوزع السكان، حيث أن المسلمين والنصارى واليهود لا يشكلون أكثر من نصف سكان العالم، فنسي الراوي وضع النصف الآخر، مما يبين أن الحديث موضوع.

هل يمكن أن تكون هذه الأحاديث صحيحة؟ وهل يمكن أن تكون وحياً إلهياً ثانياً، مقدماً على التنزيل الحكيم كوحي أول؟ يقولون صحيح مسلم وصحيح البخاري، ويقولون إنهما أصح الكتب بعد كتاب الله. ونقول نحن: هذه إحدى أكبر المغالطات التي ما زالت المؤسسات الدينية تُكره الناس على التسليم بها، تحت طائلة التكفير والنفي. فالصحة في كتاب الله صحة حقيقية لغوية واقعية، يؤيدها العلم، ويثبتها الكون المشهود.

أما الصحة في كتب الحديث فصحة مجازية اصطلاحية تواضع أهل المؤسسة الدينية أنفسهم على تسميتها أي أنها تحمل الطابع الذاتي، صحة نسبية إن ثبتت عند أحدهم نفاها الآخر. صحة تعتمد القائل بغض النظر عما قال. فإذا تجرأ أحد، كما نفعل نحن الآن، وأشار إلى تناقض أو خطأ في حديث آحاد، كشفه له العلم القطعي، اتهموه بالعمالة وبمحاولة القضاء على الإسلام عن طريق تهديم السنة النبوية بالطعن في الحديث، كوحي ثان يمثل السنة.

في الوقت الذي نرى فيه أنهم هم الهادمون الطاعنون المسيئون {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} البقرة 10،11. فحين يقولون إن الحديث النبوي كما هو في كتب الحديث بين أيدينا وحي، ويثبت بعد ذلك بالبرهان وجود خطأ أو تناقض في أحد هذه الأحاديث، وما أكثرها، فهم يبذرون بذور القضاء على الحديث النبوي كله، صحيحه ومتناقضه، وبالتالي يقضون على النبوة. أما نحن فتعليقنا على هذه الأحاديث “كذب الرواة وصدق الله ورسوله”.

إن علينا، بعد أن تم توظيف الأحاديث الإخبارية في تحديد عقيدة المؤمنين عوضاً عن التنزيل الحكيم، أن نقف من هذه الأحاديث موقفاً جدياً، وأن نعيد النظر فيها، ونعرض ما تعلق منها بالأحكام على كتاب الله، نستبعد ما يتعارض معه ونبقي على ما بقي للاستئناس. حيث سيتم استبعاد كل أحاديث الرقاق والغيبيات والإخبار عن المستقبل وفضائل الأمكنة والرجال.

حكمة الرسول

يبقى علينا أن نشير إلى مجموعة أحاديث نبوية، ندعوها أحاديث الحكمة، تقع تحت قوله تعالى في مثل الآيات التالية:

  • {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} النساء113.
  • {يؤتِى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} البقرة 269.
  • {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} الأحزاب 34.
  • {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر الله} لقمان 12.

فالحكمة تعاليم عامة أخلاقية تجري بها ألسن الحكماء ولا تحتاج لزوماً إلى وحي، ولا إلى نبوة ولا إلى رسالة. فلقمان لم يكن نبياً. وهذا معنى قوله تعالى {يؤتى الحكمة من يشاء}. وهناك أمثلة في التنزيل الحكيم أشار فيها تعالى إلى الحقل الذي تتموضع فيه الحكمة، كما في قوله {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ} الإسراء 36-39. لذا فإن تفسير الشافعي للحكمة بأنها السنة ليس له أي أساس في التنزيل الحكيم.

قلنا إن الحكمة تعاليم عامة أخلاقية، وهذا يعني أنها مقبولة إنسانياً عند جميع الناس، وهذه أبرز صفات أحاديث الحكمة، كقوله: (ص):

  • “لا ضرر ولا ضرار.” (ابن ماجة 2331)
  • “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.” (الترمذي 2442)
  • “إبدأ بنفسك ثم بأخيك.”
  • “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو فليصمت.” (البخاري 5559).
  • “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.” (البخاري 12).
  • “المسلم من سلم الناس من يده ولسانه.” (البخاري 9).

والمتأمل في هذه الأحاديث وأمثالها يرى أنها تعاليم أخلاقية لكل أهل الأرض، إنما لا يمكن أن نبني عليها أحكاماً شرعية أو عقائدية. وهذه هي الصفة الثانية من صفات أحاديث الحكمة.

وقلنا إن الحكمة قد تأتي وحياً، لكن الوحي ليس لازماً لها فهي تجري على ألسن الحكماء في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، حتى بعد انقطاع الوحي السماوي عن الأرض وأهلها. ومن هنا نفهم قوله: (ص) إن صح: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها) (الترمذي 2611)، وفي رواية هو أحق بها. وهذا الحديث يؤكد بشكل قطعي أن الحكمة ليست وحياً.

لكننا نعود إلى تأكيد الصفة الثانية من صفات أحاديث الحكمة، وهي أنه لا يمكن إقامة أحكام شرعية أو عقائدية عليها. وينطبق هذا على قوله: (ص) إن صح: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو فليصمت). إذ لا يجوز أن نبني حكماً عقائدياً عليه، نصل به إلى تكفير المكثار المهذار وإخراجه من دائرة الإيمان بالله واليوم الآخر. فالحديث حكمة نبوية تشير إلى أن من بين صفات المؤمن، أنه يضبط لسانه، ويدقق في مرامي ألفاظه، فلا يقول إلا خيراً.

وعلى هذا يمكننا تصنيف الأحاديث النبوية (وليس السنة النبوية) كما يلي:

1 – أحاديث الشعائر. والطاعة فيها واجبة متصلة للرسول حياً وميتاً.

2 – أحاديث الإخبار بالغيب، وهي مرفوضة كلها. سواء منها الإخبار عما بملكوت الله أو الإخبار عن أحداث المستقبل، انطلاقاً من أن النبي لا يعلم الغيب، ومن أننا كمؤمنين نؤمن بالغيب إيمان تصديق إن شاهدناه ودخل دائرة معارفنا، أو إيمان تسليم إن لم نشاهده ولم يدخل دائرة معارفنا. وأن الغيبيات الواردة في كتاب الله كافية ووافية ويخرج منكرها من دائرة الإيمان.

3 – أحاديث الأحكام، وتشمل كل حديث نبوي يتضمن حكماً أو تشريعاً لا يتعارض مع آيات وأحكام التنزيل الحكيم ولا يقرب أو يتعدى حداً من حدود الله. هذه الأحاديث عندنا تحمل الطابع التاريخي التنظيمي المرحلي في طريقة تعامله (ص) مع مجتمعه وواقعه المعاش فعلاً. وهي للاستئناس فقط، متواترة كانت أم غير ذلك. مارس النبي فيها دوره كمجتهد في تقييد الحلال كمطلق، أو في إطلاقه من تقييده، حسبما تقتضيه الظروف الموضوعية. وبناء على هذا كله، فالقياس فيها وعليها غير ملزم لأحد ولا يخرج صاحبه من دائرة حبه للرسول (ص).

4 – الأحاديث القدسية، وهي الأحاديث التي تتضمن قولاً لله تعالى في أمر من الأمور الغيبية. كحديثه (ص) الذي رواه الطبراني والحاكم في المستدرك: “إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك. قال: فيرد عليه الله يقول: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً “. وفي رواية أخرى: ” فإذا صاح صاحت الديكة فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره”. وهذه الأحاديث مرفوضة عندنا لأمرين: الأول: أن النبي (ص) لا يعلم الغيب وقد فصّلنا القول في هذا فلا نعيد.

والثاني: أن القول المنسوب إلى الله تعالى في هذه الأحاديث، لا يخرج عن أحد شكلين: إما إنه تفصيل لا مبرر له لمجمل ورد في التنزيل الحكيم، لو شاء الله وكان ضرورياً لفصله في الآيات، وهذا مرفوض لقوله تعالى {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} الأنعام 114. وإما أنه زيادة على قوله تعالى في المفصّل من الذكر الحكيم، وهذا أيضاً مرفوض لدخوله في باب تقويل الله ما لم يقل. وهذا باب خطير جداً كما في قوله تعالى {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين} الحاقة 44،46.

والتقول على الله لا يكون بالقول السيء فقط. فحتى لو كان قولاً حسناً يليق بجلال الله وعظمته، فإنه يبقى تقولاً على الله، حاشا النبي (ص) أن يفكر فيه فما بالك بأن يمارسه.

5 – أحاديث حياة النبي الخاصة وصفاته كرجل وإنسان. وهي جملة أحاديث تصف مأكله (ص) وملبسه ومنامه، وتصف لون شعره وقامته وطريقته في المشي والقعود. وتصف ما يتصف به من صدق وأمانة وبشاشة وجه ورقّة لفظ ودماثة طبع وكرم وسماحة، ومن شجاعة وجرأة في قول الحق وكره الظلم، ومن حزم وبعد نظر في تصريف الأمور ومواجهة الشدائد. وهذا كله إن صلح للتغني بسيرته (ص)، وترقيق النفوس والأرواح باستذكار فضائله وخصاله، إلا أنه لا يصلح سنة تكون محل أسوة لأهل الأرض في كل زمان ومكان.

الأسوة الحسنة في الرسول (ص)

قد يسأل سائل: فما قولك في قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} الأحزاب 21. أليس الله يجعل من رسوله أسوة حسنة للمؤمنين؟ أقول: ونحن أيضاً نجعل الرسول أسوة لنا.. ولكن بماذا؟ أي ما هو المجال الحيوي والحقل الذي رسم لنا تعالى فيه أن نتأسّى بالرسول؟

لقد أقام سبحانه العقيدة الإسلامية على أساس هو التوحيد. فالتوحيد هو العمود الفقري للإسلام بعد الإيمان بالله واليوم الآخر. وهو الوصية الأولى من وصايا الفرقان. وهو الذي جاء لنوح واستمر مع كل الرسل والأنبياء إلى أن خُتمَ بالنبي العربي (ص). ونحن نجد أن الأسوة الحسنة وردت في التنزيل الحكيم في ثلاثة مواضع:

أ – {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الممتحنة 4.

ب – {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} الممتحنة 5،6.

ت – {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} الأحزاب 20-22.

والمتأمل في الآيات، يرى بوضوح لا يقبل اللبس أنه تعالى يجعل من إبراهيم وقومه أسوة لنا في موضوع بعينه هو التوحيد والتبرؤ من المشركين. ثم يرى أنه سبحانه يجعل من رسول الله أسوة لنا في الموضوع ذاته، والقاسم المشترك الحرفي في آيتي الممتحنة والأحزاب هو قوله تعالى {لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.

فإذا كانت الأسوة الحسنة برسول الله في آية الأحزاب هي ما يسمى بالسنة وكتب الحديث، فأين هو البخاري ومسلم عند إبراهيم لنتأسَّى به؟

ثمة وجه شبه واضح بين إبراهيم والرسول العربي (ص) ومن آمن بهما من جهة، وبين قومهما من جهة أخرى. فسبب تبرؤ إبراهيم ومن معه من قومهم كان شرك القوم بالله وعبادة الأصنام، وسبب العداوة والبغضاء بين الرسول (ص) وقومه كان شرك القوم بالله وعبادة الأصنام.

ومن هنا فالله سبحانه يرسم الأسوة الحسنة لكل من كان يرجو الله واليوم الآخر، أن يحذو حذو إبراهيم ومن معه، وحذو الرسول والمؤمنين في التبرؤ من المشركين ومعاداتهم وقتالهم انتصاراً للتوحيد. أي يحق للإنسان أن يعادي أهله وقومه من أجل التوحيد فقط، لا من أجل حجاب شرعي أو لحية أو لباس.

أما سحب الأسوة الحسنة وإسقاطها على اللحية والشارب واللباس والطعام والشراب، فهو عندنا ليس بشيء. إذ ليس من المعقول أن توقع هذه الأمور العداوة والبغضاء بين الناس، وتدفع بالبعض إلى التبرؤ من البعض الآخر وقتاله. وهذا يذكرنا بمسألة ما يسمى اليوم بالصحوة الإسلامية، التي إن لم تشمل تنقية التوحيد والمثل العليا وترسيخ مقولة {لا إكراه في الدين}، وإن اقتصرت على طبع المزيد من كتب نواقض الوضوء ومفسدات الصوم ومبطلات الصلاة وكتب الكبائر وعذاب القبر ومعاداة المجتمع من أجل ذلك، فلا هي بالصحوة، ولا هي بالإسلامية.

ونحن نرى أن عقيدة التوحيد تشوبها اليوم الشوائب. بعد أن تم تعميم مفهوم الأسوة الحسنة بالرسول، وصرفه عن مقصده الإلهي الأصلي، فصار أسوة بالنبي، وأسوة بالرجل الإنسان، وصارت الأحاديث النبوية تشريعاً أبدياً، وأصبحت أخبار الصحابة وأقوالهم وأفعالهم بحجة أنهم عدول، أساساً لقياس أبدي، ثم تحولت أصول الفقه التي أرساها الناس في عصرهم ولعصرهم، إلى أصول وأسس لكل العصور والدهور.

لاريب في أن للوضوء نواقض وللصوم مفسدات وللصلاة مبطلات. ولا ريب أيضاً في أن هناك كبائر وهناك لمم في المعاصي. ولكن الخطورة تكمن في جعل هذه الأمور هي الدين كله، وفي صرف الناس بحسن أو بسوء نية إلى الثانوي من الأمور، وشغلهم عن المقاصد الإلهية الأساسية من الوجود. من هذه المقاصد على سبيل المثال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات 13. وقوله تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} الملك 1،2.

والتعارف والتقوى والعمل من جملة أساسيات الأهداف الإلهية من الخلق. فالتعارف يتضمن التجمع والاجتماع وتبادل المنافع وبناء الأسر وتشكيل الدول، والتقوى تتضمن معرفة الله وخشيته والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه والعمل بما يرضيه، والعمل يتضمن كل ما ينفع الإنسان وأهله وينفع الآخرين، ويدخل فيه الإتقان وعدم الغش، وتدخل فيه بدون شك العبادات والشعائر من صلاة وصوم، ويدخل فيه بناء المعامل والمدارس والمساجد والمشافي. ومن السخف أن نوهم الناس بأن العمل الصالح هو في بناء المساجد حصراً، وفي الصلاة والصوم فقط، ولا صالح سواه.

يقول تعالى:

  • {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشورى 37.
  • {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} النساء 31.
  • {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} النجم 32.
  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} الحجرات 11.
  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الحجرات 12.

إن النظر في هذه الآيات يبين لنا بشكل دقيق وقاطع الفرق بين النهي والتحريم. فالله تعالى ينهانا عن التجسس والغيبة، وعن السخرية بالآخرين والتنابز بالألقاب والظن. ونلاحظ أنه سبحانه يسمي الظن إثماً، وأنه يستعمل في آيتي النساء والنجم والشورى مصطلح “كبائر”، كبائر الإثم والفواحش وكبائر ما تنهون عنه. ونفهم أن في المنهيات كبائر وصغائر (لمم)، أما المحرمات فليس فيها كبائر محرمات وصغائر محرمات. ونرى أن المحرمات هي كبائر المنهيات، أي: كبائر ما تنهون عنه = المحرمات.

فإذا عدنا إلى النظر في مثالين من هذه المنهيات هما التجسس والغيبة. وجدنا أن التجسس على الجيران والأصدقاء وتتبع عورات الآخرين أمر غير مقبول، وفيه ضرر يلحق بعلاقات الأفراد في المجتمع الواحد، ومن هنا فهو منهي عنه، وهو إثم بغير حق. أما التجسس على الأعداء خارج البلاد فهو أمر واجب فيه منافع. وهو إثم بحق، ولا يشمله النهي الإلهي.

وكذلك الغيبة، فذكر عيوب الآخرين ونواقصهم وسيئاتهم أمر غير مقبول حتى لو كانت هذه العيوب والنواقص حقيقة فعلية لما فيه من إضرار اجتماعية تؤدي إلى إشعال نار البغضاء والحقد بين أبناء المجتمع الواحد. والغيبة في هذه الحالة إثم بغير حق نهى عنه الله سبحانه. أما لو تصورنا رجلاً يسأل عن سيرة وسلوك رجل آخر. ينوي أن يصاهره أو أن يشاركه في تجارة، فالغيبة في هذه الحالة واجب، وهي إثم بحق لما فيها من منافع.

هنا نفهم بوضوح كيف أن المنهيات الإلهية تحمل صفة الاستمرار الظرفي والشمولي وفيها مثل عليا. وهذا يقودنا إلى مسألة الخمر التي اختلف الفقهاء حولها، ومازالوا مختلفين.

لقد ذهب البعض في الخمر إلى أن الشرب هو السكر، بينما هناك أحوال وظروف يحصل فيها الشرب ولا يحصل السكر. وذهب البعض إلى تحريم الشرب من باب سد الذرائع. وذهب البعض إلى أن النهي كالتحريم إن لم يكن أقوى منه. ونحن نرى أن الخمر من المنهيات وليس من المحرمات، وأن التحريم أقوى من النهي بدلالة التعاريف التي وضعناها آنفاً. ففي الخمر منافع. وحين يستعمل كمادة للتخدير في العمليات الجراحية فهو إثم بحق، أما حين يشرب للسكر فهو إثم بغير حق.

إن صاحب الحق الوحيد في التحريم والتحليل هو الله تعالى حصراً، لكنه سبحانه يأمر وينهى، ويمنع ويسمح، ويستحسن ويستقبح. أما الرسول فيأمر وينهى، ويمنع ويسمح، ويستحسن ويقبح، لكنه لا يحرم إلا ما حرم الله ولا يحل إلا ما أحل الله غير مستقل بالتحريم والتحليل عن كتاب الله. أما الحكام وولاة الأمر (البرلمانات) فيمنعون ويسمحون، ويستحسنون ويقبحون، ويأمرون وينهون، لكنهم لا يحرمون ولا يحللون.

أي أن هناك باختصار نواهي إلهية ونواهي إنسانية. وكما أن النواهي بنوعيها تختلف عن المحرمات في الوجوه التي عددناها، كذلك النواهي الإلهية تختلف عن النواهي الإنسانية من وجوه. فالنواهي الإلهية كما قلنا تحمل صفة الاستمرار الظرفي والشمولي، أما النواهي الإنسانية فهي ظرفية غير شمولية ولا تحمل صفة الاستمرارية، والنواهي الإلهية فيها مثل عليا، أما الإنسانية فلا تحمل صفة المثل العليا.

ومثال النواهي الإنسانية: إشارة المرور التي تنهى السائق عن تجاوز الضوء الأحمر. أما إذا كان هذا السائق يقود سيارة إسعاف أو سيارة إطفاء، يصبح من واجبه تجاوز الضوء الأحمر، وعدم الالتزام بالنهي عن تجاوزها. ومن هنا نرى تصحيح القول المشهور “الضرورات تبيح المحظورات” بحيث يصبح ” الضرورات تبيح المنهيات والممنوعات”.

لقد أشرنا فيما سلف إلى أننا نرى أن الكبائر هي المحرمات الإثني عشر، وقد عددناها، وأشرنا إلى الفرق بين النهي الإلهي والتحريم، هذا الفرق الذي ينبع أساساً من الفرق في الأهمية والأثر بين أمر وآخر وبين عمل وآخر. ومن هنا نفهم قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} النساء 31. وقوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} النجم 31،32. ونفهم أن ثمة كبائر وصغائر (سماها الله اللمم) في النواهي. وأن إتيان هذه ليس كإتيان تلك.

فالله سبحانه ينهى عن لمز النفس والتنابز بالألقاب (الحجرات 11)، وينهى أيضاً عن الفحشاء (النحل 90) لكنه يعود فيحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن (الأعراف 33)، وواضح أن هذا ليس ذاك. فالتنابز بالألقاب وعدم الإفساح في المجالس لا يساوي مطلقاً قتل النفس وأكل مال اليتامى.

لكنهم حين خلطوا أوامر الله ونواهيه بأوامر الرسول ونواهيه، وجعلوا منها عامة شاملة أبدية، في درجة واحدة مع المحرمات، ثم أضافوا إليها نواهي الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، وجدنا أنفسنا أمام حقل مترامي الأطراف هو حقل الحرام، انطبعت أبعاده في فكرنا من طول المعايشة والاعتياد، حتى رأينا ابن كثير والرازي في تفسيرهما لقول الله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ينسبان إلى ابن عباس قوله: هي إلى السبعمائة أقرب(5) ورأينا الحافظ الذهبي يصنف كتاباً في الكبائر، يجعل نواهي الرسول من المحرمات الأبدية، فيخلص إلى أن:

الشرك بالله يساوي اللعب بالنرد، وأن قتل النفس يساوي لبس الثوب الطويل، وأكل مال اليتامى يساوي وضع الشعر المستعار. وهذا كلام أقل ما يقال فيه أنه استخفاف بعقول الناس من جهة، وتطاول على الله سبحانه في تحريم ما لم يحرم من جهة أخرى.

فإذا وضعنا قائمة بالأفعال والأعمال اليومية التي يقوم بها أحدنا على مدى شهر كامل، من أكل وشرب ونوم ومشي وقعود وقيام وذهاب وعودة وجوع وشبع ومرض وتعب. ثم استخرجنا من هذه القائمة جدولاً بالأفعال والأعمال التي تستهدفها نواهي الله والرسول. فنأخذ مثلاً الأكل والشرب واللباس ونترك مثلاً القيام والقعود والذهاب والعودة. ونأخذ الكذب والغش والظن ونترك البيع والشراء وغسل الثياب والاستحمام وقص الشعر والأظافر.

ثم بعد ذلك كله نفرز المخالفات في هذه الأفعال والأعمال المستخرجة في الجدول إلى كبائر ولمم. مفترضين عقلاً أن اللم أكثر عدداً من الكبائر، ثم انظروا واحكموا بأنفسكم على مدى الدقة والصحة في كتاب الكبائر للحافظ الذهبي وعلى مداها في القول المنسوب لابن عباس، ثم اسألوا أنفسكم: أين هي سماحة الإسلام الحنيف ومصداقيتها في ضوء ذلك كله؟ وما هو هذا الدين السمح؟ وأين هو جوهر الرسالة المحمدية في وضع الإصر والأغلال عن الناس، ونحن أمام كتب وتفاسير تجعل من كل أعمال الإنسان وأفعاله محرمات وكبائر؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

(5) جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، هذا فيما رواه عنه طاووس والزهري. وفي رواية سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس: كم الكبائر.. أسبع هي؟ قال: إلى سبع مائة أقرب (كتاب الكبائر للحافظ الذهبي).

(2) تعليقات

اترك تعليقاً