السنة النبوية وتاريخيتها

تمهيد:

قلنا إن التنزيل الحكيم كينونة في ذاته. وإنه سيرورة وصيرورة بالنسبة للناس، من أول لحظة سمعوه فيها، وبدؤوا في تفاعلهم معه حسب سيرورتهم وصيرورتهم التاريخية في القرن السابع الميلادي، في شبه الجزيرة العربية. وكان ثمة دور للنبي العربي (ص) كرسول في هذا كله، حدده تعالى بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل 44.

ولابد من شرح هذا الدور، لنصل إلى رؤية صحيحة ودقيقة للسنة النبوية، لاسيما وأن هذه الآية بالذات هي العمود الفقري الذي يستند إليه الكثيرون اليوم في القول بوجوب تقديم الخبر (وهو عندهم الحديث النبوي والسنة) على القرآن متى وقع التعارض بينهما. وفي القول بأن السنة ناسخة وحاكمة وقاضية على القرآن، وفي القول بأن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن (والقرآن عندهم هو التنزيل الحكيم كله).

فإذا تأملنا الآية، رأيناها تشتمل على عدد من العناصر، هي: الإنزال، الذكر، التنزيل، التبيان، التفكر.

الإنزال:

هو تحويل الصيغة الإلهية للنص المخزن في اللوح المحفوظ أو الإمام المبين – التي هي بالأصل ليست عربية ولا تركية ولا صينية- من صيغة غير قابلة للإدراك الإنساني إلى صيغة ملفوظة منطوقة مسموعة قابلة للإدراك الإنساني، وهذا هو الذكر.

الذكر:

لقد وصف سبحانه القرآن بأنه عربي، في قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يوسف 2. ووصف الأحكام في التنزيل الحكيم بأنها عربية واضحة في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} الرعد 37. لكنه تعالى لم يقل أبداً، ولم يشر إلى أن الذكر عربي. ولو قال هذا لحصل التباس كبير جداً، أو لو كان الذكر هو القرآن وهو الكتاب كما يزعم أصحاب الترادف، لوجب ألا يحوي إلا الألفاظ العربية حصراً، بينما تجدنا في التنزيل الحكيم كذكر أمام ألفاظ لاهي بالعربية ولا هي باليونانية ولا هي بالهندية، ونعني بها: ألف لام ميم وياء سين وألف لام راء وغيرها من فواتح السور. فهذه الألفاظ أصوات إنسانية نجدها تدخل في كل لغات وألسنة العالم. بدليل أن النبي (ص) نفسه، لم يحدد لها معنى واضحاً في اللسان العربي، وأن العرب لم يعرفوها في لسانهم قبل البعثة المحمدية، ومازال مقول القول فيها غيبياً عند جميع المفسرين القدامى والمحدثين منذ البعثة وحتى الآن.

التنزيل:

هو النقلة الموضوعية التي حملت الذكر الملفوظ المنطوق من الله إلى النبي عن طريق جبريل. فالله سبحانه أنزل الذكر بصيغته المنطوقة، ليبين النبي للناس كرسول ما تم نقله إليه تنزيلاً. فما هو هذا البيان أو التبيان أو التبيين أو الإبانة المطلوبة من النبي، والتي تحدد دوره كنبي أولاً، وكرسول ثانياً، هذا الدور التبليغي الذي يوضحه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} المائدة 67؟

التبيان:

يقول تعالى في الآية {لتبين للناس}، فأخذ البعض هذا القول على ظاهره. وفهموا أن الذكر مفتقر إلى بيان، والمفتقر إلى البيان مجمل يلزم البيان لتفصيله، ومن هنا فالبيان النبوي المفصِّل مقدم عندهم على الذكر المجمل. وفهموا أن القياس في التشريع حجة، لأن القياس في أصله رجوع إلى البيان النبوي المفصِّل. واسترسل البعض في هذا وتابع، حتى وصل إلى القول بأن البيان النبوي، إضافة إلى كونه تفصيلاً لمجمل، فهو تخصيص لعام وتقييد لمطلق. ثم تابع بعدهم من وصل إلى القول بحاكمية الخبر النبوي على النص القرآني ونسخه له، انتهاء بأخطر نتيجة يصل إليها عقل مؤمن، هي أن القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن، تعالى الله عما يصفون(1).

ونحن نقول إن ما قاد إلى هذا كله هو التبيان والبيان. فالأمر بالتبيين الوارد في آية النحل أمرٌ بالإظهار والإبانة وعدم الكتمان. وهذا أوضح من أن ينكره أحد بدلالة قوله تعالى:

  • {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ..} البقرة 159.
  • {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ..} آل عمران 187.
  • {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ} المائدة 15.
  • {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} البقرة 187.

وننظر في اللسان العربي فنجد هذا المعنى أوضح مرة أخرى من أن يتجاهله ذو لب. فالبينة، هي الدليل الظاهر المنظور، ومنه جاءت الآيات البينات أي الظاهرات الباديات للعيان. نعود لننظر في قوله تعالى:

  • {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} التوبة 114.
  • {خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرحمن 3،4.

فالتبيّن عند إبراهيم هو الظهور. فهو عندما تأمل وأعمل عقله وظهر له أن أباه عدو لله تبرأ منه. والله علّم الإنسان إبانة أفكاره والتعبير والإعراب عنها للآخرين ليتحقق التعارف والتواصل بين الجماعات والأفراد الذي أشار إليه تعالى في آيات أخرى. فأية سنة نبوية محمدية هذه، التي يحتاج إليها الإنسان في طوكيو والقاهرة وواشنطن وجبال هملايا، للتعبير عن أفكاره وبيانها وإظهارها؟

ثم نعود لننظر في قوله تعالى:

  • {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} القيامة 18،19.
  • {.. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ..} النحل 89.
  • {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ..} هود 1
  • {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} الأنعام 114.
  • {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} الإسراء 12.
  • {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} يوسف 111.
  • {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} الأنعام 126.

ونحن مع هذه الآيات، وغيرها كثير، أمام وصف محدد لا لبس فيه، يصف به تعالى تنزيله الحكيم بأنه مبين ظاهر للعيان، وواضح مكشوف أمام الأبصار والبصائر، ومفصل لكل شيء. ولا يسعنا أمامها إلا أن نسأل: ما الحاجة – إذا كان ذلك كذلك- إلى سنة نبوية تفصِّل المفصل، وتوضح الواضح، وترفع اللبس عن كتاب لاريب فيه؟

ونضرب هنا مثلاً، ولله المثل الأعلى، فعندما يزور رئيس دولة ما دولة أخرى، ويجتمع مع رئيسها، يصدر عنهما بيان مشترك عما تم بحثه وتم التوصل إليه في المحادثات، فيأخذ هذا البيان إنسان ويعلنه على الناس بالوسائط المعمول بها، دون أن تكون لهذا الإنسان علاقة بعباراته وصياغته، ولا بمعانيه ومضامينه، إذ تنحصر علاقته به بإعلانه وإذاعته على الناس، فالبيان غير المذاع والمعلن لا يكون بياناً أصلاً.

والتنزيل الحكيم ودور النبي كرسول في بيانه بإظهاره وعدم كتمانه، وفي إعلانه وإذاعته على الناس لا يخرج أبداً عما ذكرنا. فالنبي ليست له أية علاقة بالصياغة اللفظية للتنزيل الحكيم كذكر (الإنزال) بل تنزَّل عليه مصاغاً جاهزاً (التنزيل)، كما لا علاقة له بمضمون ما تنزل عليه من أوامر ونواه. وهذا يسقط قول من يقول بأن الوحي كان مجرد أفكار أوحاها الله إلى النبي، فقام هو بصياغتها في قالبها الملفوظ المنطوق. فلو كان هذا صحيحاً، لكان يعني أن النبي مدرك بشكل كامل لكل معلومة وردت في التنزيل بكل جزئياتها، حتى تمكن من صياغتها، ولأصبحت كينونة النبي بذلك مع كينونته سبحانه، تعالى الله عما يصفون.

التفكر:

نحن إذن أمام نص إلهي موحى، صاغه الله تعالى بشكله المنطوق، فتنزلت هذه الصياغة على النبي، وتحددت مهمته كرسول في إعلانها للناس ببيانها وعدم إخفائها كلياً أو جزئياً وفي تبليغها لهم بلاغاً مبيناً، أي معلناً مذاعاً بشكل واضح وصريح دون زيادة أو نقصان وبيان الشعائر وتبليغ أحكام الرسالة، في ضوء أن صائغ هذا الذكر، وهو الله سبحانه، تعهد بشرحه وتوضيحه أولاً، في قوله تعالى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فجاء مشروحاً واضحاً، كما تعهد بحفظه، في قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر 9.

وقد رأينا هذا الحفظ حقاً وصدقاً في صدور الحفظة، حين كانت الكتابة قليلة، ثم في صدور الكتب بعد انتشار الكتابة والطباعة، والآن في صدور أشرطة التسجيل وأقراص الكومبيوتر وذاكراته. وقد قام النبي العربي (ص) بمهمته كنبي، وبمهمته كرسول على أكمل وأتم وجه.

أما من فهم قوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} النجم 3،4. بأن ذلك يشمل كل ما نطق به النبي في حياته، وأن الوحي وحيان قرآن وسنة، فهذا عندنا محل حذر وتحفظ. إذ لو صدق قولهم لوجب حتماً أن يدخل الحديث النبوي في الحفظ الإلهي، ولوجب حتماً أن يخلو من الإشكال والاختلاف الكثير، ولوجب حتماً أن تكون روايته باللفظ لا بالمعنى، ولوصلنا ملفوظاً منطوقاً كما لفظه النبي ونطقه، تماماً كما وصلنا الذكر بلفظ ونطق الرسول (ص) منذ خمسة عشر قرناً، فالكتاب الوحيد الذي ينطبق عليه وصف: قال الله، نطق رسول الله، هو الذكر الحكيم.

وهذا الوصف لا ينطبق على كتب الحديث ولا حتى على المتواتر منه. ثمة نقطة أخيرة نقف عندها قبل أن نتابع، هي أنه لو كان الأمر كما يقولون: كتاب مجمل، وسنة مفصِّلة، وقياس يرجع في أصله إلى التفصيل في السنة، فلن يبقى أي معنى للتفكر والتدبر والتأمل والتعقل عند الناس، ولن يبقى أي معنى لقوله تعالى {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تتفكرون} البقرة 219.

وما آتاكم الرسول فخذوه:

سيسألني سائل: ما معنى قوله تعالى {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. أقول: أولاً هذا جزء من آية الحشر 7 التي تتحدث عن الفيء ومصارفه، يقول تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. ثانياً: يقول تعالى {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} والإيتاء هو الإعطاء كما في قوله تعالى {وآتوا اليتامى أموالهم} وفي قوله {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}. وهو الإحضار كما في قوله تعالى {آتنا غداءنا} وفي قوله {آتوني زبر الحديد}. وهو الفعل كما في قوله تعالى {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم}. وكلها تصب في مدار الآية أي في الفيء ومصارفه. ولذلك نرى أن خصوصية السياق لا تسمح لنا بإطلاقه وتعميمه وسحبه على كل ما ورد في كتب الحديث. إلا أننا من جانب آخر لا ننكر أن طاعة الرسول في أمور كالشعائر واجبة كطاعة الله تماماً، لأنها تأتي مقترنة بها كما في قوله تعالى {وأطيعوا الله والرسول} وأن طاعته في حياته واجبة في كل الأمور.

من هذا الجانب، جانب طاعة الرسول الواجبة، أقول إن للرسول عموماً مهمة أساسية أوكلها إليه الله سبحانه، هي تبليغ الرسالة الموحاة إليه بأوامرها ونواهيها إلى الناس، بعد أن يقنعهم بصدق نبوته متسلحاً بما اصطفاه به ربه من آيات بينات. ونلاحظ أن جميع الرسل قبل النبي العربي (ص)، كانت آياتهم خارج الرسالات الموحاة إليهم. فإبراهيم كانت آيته النار وجعلها الله برداً وسلاماً، وموسى كانت له تسع آيات عددها سبحانه في التنزيل الحكيم، وعيسى كانت آيته أنه ولد من أم دون أب، وأنه أحيا الموتى وشفى المرضى بإذن الله. فكان الناس بعد أن يصدقوا نبوة النبي بمشاهدتهم لآياته، يطيعونه فيأخذون ما آتاهم وينتهون عما نهاهم عن أخذه، صلوات الله عليهم أجمعين.

أما النبي العربي (ص) فكانت آية نبوته لأمر يريده الله، داخلة في ثنايا الوحي الذي كلف بنقله وإعلانه وتبليغه للناس. أي أن التنزيل الحكيم الموحى يضم بين دفتيه آيات النبوة ورسالة الرسول العربي محمد بن عبد الله (ص).

من هنا فقد كانت مهمة النبي محمد (ص)، هي تبليغ الناس الآيات الكونية، وأخبار الخلق الأول التي تبرهن على أنه نبي، في ضوء ما يعرفه عنه قومه من صدق وأمية، وهذا يفسر لنا إلى حد ما غياب الجانب التشريعي من أوامر ونواه من الآيات المكية وظهورها واضحة في الآيات المدنية، وإن وجدت فهي أخلاقية إنسانية المحتوى. تمهيداً بعد تصديق الناس لنبوته، أن يبدأ دور الرسول في تبليغ الرسالة، وهذا كله نفهمه تماماً حين نفرق بين النبوة والرسالة، فالنبوة تحتمل التصديق والتكذيب، أما الرسالة فتحتمل الطاعة والمعصية.

مضامين الرسالة

والرسالة تحتوي ثلاثة أنواع من التعليمات هي:

  1. الشعائر (شعائر الإيمان: إقامة الصلاة / إيتاء الزكاة / صوم رمضان/ إلخ).
  2. الأخلاق.
  3. التشريع (الشريعة وهي آيات الأحكام).

1- الشعائر:

أما شعائر الإيمان فقد تعلمناها من الرسول فعلياً لا قولياً، كما في قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} النور 56. فقد ذكر سبحانه طاعة الرسول بعد ذكر الصلاة والزكاة، وهذا يستلزم بالضرورة طاعة الرسول في الصلاة والزكاة حصراً ولا يعني الطاعة المطلقة في كل شيء. علماً أن عناصر الصلاة موجودة في التنزيل الحكيم من ركوع وسجود وقيام وقعود، وأوقاتها محددة من الفجر ودلوك الشمس (الظهر) والغروب وزلفاً من الليل (العشاء) والعصر. وهذه السنة وصلتنا بالتواتر الفعلي لا القولي، ولا فضل فيها للفقهاء والمحدثين، إذ لم يأت على المؤمنين حين من الدهر توقفت فيه الصلاة ونسيها الناس، ثم جاء فقيه أو محدث ليذكرهم بها. وقل مثل ذلك في الصوم والحج.

ولما كانت هذه الشعائر من أركان الإيمان، وكان الإيمان من خصائص الرسالة المحمدية، وكان من يقيمها يثبت انتسابه إلى المؤمنين بالرسالة المحمدية، فإن للرسول دوراً فيها. ومن هنا نرى أن طاعة الرسول واجبة في الشعائر، كجزء ثابت من الرسالة على مر الأيام. ونرى أن حديثه (ص) إن صح: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} (صحيح بخاري 2499، صحيح مسلم 3242)، وأن حديثه (ص) إن صح: {كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار} (النسائي 1560)، يصبان في حقل الشعائر حتماً. لأن البدع والإبداع في هذا الحقل ضلالة ورد. والإحداث في الحديث الأول يتضمن الإضافة والإنقاص، والابتداع في الحديث الثاني يتضمن أيضاً الإضافة والإنقاص، ومن هنا نجده (ص) يحكم بالفَلاح على الأعرابي الذي التزم بعدم زيادة شيء على ما شرحه النبي من التكاليف في الخبر المشهور.

فإن قال قائل: فماذا ترى في حديث النبي: {من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً} (صحيح مسلم 1691). أليست الزيادة، حسنة كانت أم سيئة، بدعة والبدعة ضلالة؟. أقول: النبي (ص) هنا يتحدث عن السنن في الإسلام والزيادة فيها، وليس في الشعائر (أركان الإيمان) والزيادة فيها. وأركان الإسلام تختلف عن أركان الإيمان، فأركان الإسلام ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. يقول تعالى:

  • {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} الزلزلة 7،8.
  • {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِين} فصلت 33.
  • {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} غافر 40.
  • {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران 134.
  • {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الأنفال 2.
  • {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} البقرة 158

فباب الزيادة في الإيمان، والإبداع في العمل الصالح، مفتوح إلى يوم القيامة، تماماً كما أن باب الزيادة في الكفر والعمل السيء مفتوح إلى يوم القيامة. فكلما تطورت المجتمعات واختلفت شروط الزمان والمكان، تطورت أشكال العمل الصالح وأنماطه، وولدت احتمالات لم تكن موجودة من قبل، إضافة إلى الاحتمالات الموجودة القائمة. والباقيات الصالحات هي كل عمل ينفع الناس، والاستزادة منها تطوعاً أمر مشكور عند الله تعالى، يعلمه فيثيب صاحبه.

فنحن نصلي كما رأيناه (ص) يصلي، ونحج كما رأيناه (ص) يحج، ونزكي كما رأيناه (ص) يزكي، ونطيعه في كل ذلك طاعة متصلة في حياته وبعد مماته طاعة غير مؤقتة، كطاعتنا لله الحي الباقي، بعيداً عن العنت والتزمت والإصر والأغلال، وبعيداً عن تعقيدات تعد بالمئات عن نواقض الوضوء ومفسدات الصيام ومبطلات الصلاة، هذه التعقيدات التي تملأ بنودها مئات الصفحات.

2 – الأخلاق:

أما الفرع الثاني من فروع الرسالة فهو الأخلاق. وهو منظومة القيم والمثل العليا، التي خضعت للتراكم التاريخي ابتداء من نوح وانتهاء بمحمد (ص)، والتي تأتي الوصايا على رأسها. ونلاحظ أن تسعة من أصل اثني عشر تحريماً في التنزيل الحكيم جاءت في هذا الفرع من فروع الرسالة الثلاثة، الذي يضم الفرقان كوصايا وكصراط مستقيم إضافة إلى المثل والقيم العليا الأخلاقية الأخرى.

وتبدأ هذه الآيات في سورة الأنعام بقوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. ونشعر ونحن أمام هذا الاستهلال، بأن الله تعالى يتوجه بالخطاب إلى كل من آمن بالله من أهل الأرض بغض النظر عن ملته، ويعدد لهم ما حرم عليهم في كل هذه الملل والرسالات، وهذه المحرمات هي:

1 – الشرك بالله: يقول تعالى:

  • {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. الأنعام 151
  • {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}. النساء 116.
  • {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}. النور 55.

2- بر الوالدين: يقول تعالى:

  • {وبالوالدين إحساناً}. الأنعام 151.
  • {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}. العنكبوت 8.
  • {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. البقرة 83.
  • {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. الإسراء 23.

3- قتل الأولاد: ويقول تعالى:

  • {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. الأنعام 151.
  • {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}. الإسراء 31.

4- الفواحش (الزنا واللواط والسحاق): يقول تعالى:

  • {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}. الأنعام 151.
  • {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا}. النساء 32.
  • {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ}. العنكبوت 28،29.
  • {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} النساء 15.
  • {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}. الأعراف 33.

5- قتل النفس بغير الحق: يقول تعالى:

  • {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}. الأنعام 151، الإسراء 33.
  • {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً}. المائدة 32.
  • {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما}. الفرقان 68.

6-البر باليتيم وعدم أخذ ماله: يقول تعالى:

  • {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الأنعام 152/ الإسراء 34.
  • {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} الضحى 9.
  • {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} النساء 2.
  • {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} النساء 10.

7- الوفاء بالكيل والميزان: يقول تعالى:

  • {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}. الأنعام 151.
  • {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}. الرحمن 9.
  • {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم}. الأعراف 85.
  • {ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}. المطففين 1،2،3.

8- العدل في القول والفعل ولو على الأقارب: يقول تعالى:

  • {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. الأنعام 152.
  • {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى}. المائدة8
  • {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى}. النحل 90.

9- الوفاء بعهد الله خصوصاً وبالعهود والمواثيق عموماً: يقول تعالى:

  • {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}. الأنعام 152.
  • {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}. النحل 91.
  • {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}. التوبة 7.
  • {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً}. الفتح 10.
  • {إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة}. آل عمران 77.(2)

10- نكاح المحارم: يقول تعالى:

  • {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت..}. النساء 23،24.

11- الربا: يقول تعالى:

  • {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا}. البقرة 275.
  • {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}. البقرة 276.
  • {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}. البقرة 278،279.
  • {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة}. آل عمران 130.
  • {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل}. النساء 161.

12- أكل الميتة والدم ولحم الخنزير: يقول تعالى:

  • {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. المائدة 3. نلاحظ في هذه الآية أنه أضاف إلى محرمات الأطعمة الذبح على النصب والاستقسام بالأزلام.
  • {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}. الأنعام 145.
  • {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. النحل 115.
  • {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}. البقرة 173.

ونقف عند المحرم 11، أي الربا. فلقد قلنا إن الربا المحرم هو ربا الصدقات، لأن أصحاب الصدقات يأخذون المال كصدقة لا ترد، أو كقرض حسن دون فائدة لمدة مفتوحة للسداد، وهو ما نطلق عليه القرض الاستهلاكي الذي يعطى لمستحقي الصدقات، إما بدون مقابل أو بدون فائدة. {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}. البقرة 280. أما قروض غير أصحاب الصدقات (وهو ما نطلق عليه القرض الاستثماري الذي يعطى لغير مستحقي الصدقات من زراعيين وصناعيين وتجاريين) من أول الحصول عليها حتى سدادها، فلا يجوز أن يتجاوز مجمل فوائدها الضعف {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة}آل عمران 130.

ولكن لماذا قال تعالى {أحل الله البيع وحرم الربا} البقرة 275. مع أن البيع حلال في الأصل ولم يكن حراماً قبل نزول الآية؟ ويتضح الجواب حين نربط تحريم الربا في البقرة 275 بمحقه في البقرة 276، ونفهم أن الربا المقصود تحريمه هو ربا الصدقات كما أسلفنا، وبالتالي فالبيع لأصحاب الصدقات حلال، لأن البيع عموماً فيه ربح (فضل قيمة)، والربا فيه فائدة (فضل قيمة) (3) أي:

  1. إعطاء أصحاب الصدقات قرضاً بفائدة مهما كان نوعها حرام {حرم الربا}.
  2. بيع أصحاب الصدقات بربح، هذا حلال {أحل البيع}.

أما العلاقة بين الربا والصدقات فقد نبهنا إليها سبحانه في سورة البقرة 276، مباشرة بعد تحليل البيع وتحريم الربا في البقرة 275، لنفهم أي بيع هو الحلال، وأي ربا هو الحرام. ولو لم تكن ثمة علاقة قادتنا إلى قول ما قلناه، لما بقي معنى لتحليل البيع عموماً لكل أهل الأرض، وهو حلال لم يسبق تحريمه بالأصل. ولو أنه سبحانه لم ينبه إلى حلالية البيع لأصحاب الصدقات والربح منهم، لالتبس الأمر، وتعرقلت عملية البيع والشراء في المجتمع، إذ سيترتب على كل بائع أن يفرز المشترين ليعرف أصحاب الصدقات من بينهم فيبيعهم بسعر الكلفة، وهذا مستحيل.

لكن هذا التنبيه منه تعالى رفع الالتباس، وأشار إلى أن الناس في ربح البيع الحلال سواء، بمن فيهم أصحاب الصدقات، وإلى أن على دافعي هذه الصدقات أداء صدقاتهم بشكل منفصل عن البيع، ويمكن أن تكون عينية أو نقدية، ولهذا فقد أفرد تعالى في مصارف الصدقات بنداً للعاملين عليها، أي أن هناك أفراداً ومؤسسات تقوم على جمع الصدقات وإنفاقها كالمياتم والجمعيات الخيرية ودور العجزة والمعوقين وغيرهم، وهذا بالفعل ما يقوم به معظم أهل الأرض بفطرتهم الإنسانية.

صدقة الإسلام وصدقة الإيمان:

ثمة أمر يجب الانتباه إليه وهو وجود نوعين من الصدقات: النوع الأول: صدقات الإسلام، أي تعطى لكل أهل الأرض بغض النظر عن تبعيتهم أو عدم تبعيتهم للرسالة المحمدية. والنوع الثاني: يعطى للمسلمين المؤمنين فقط أي أتباع الرسالة المحمدية.

ولكي نميز هذين النوعين من الصدقات نورد الآيتين التاليتين:

أ ـ {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} البقرة 177.

ب ـ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. التوبة 60.

إذا نظرنا إلى الآية 177 من سورة البقرة نرى أنه ذكر في الإنفاق ستة عناصر، هي:

1- ذوي القربى، 2- اليتامى، 3- المساكين، 4- ابن السبيل، 5- السائلين، 6- وفي الرقاب.

ثم ذكر بعد هذه العناصر الستة إيتاء الزكاة، ولما كانت الزكاة من أركان الإيمان وهي الحد الأدنى من الإنفاق، ولما كان الإنفاق من الإسلام، فقد ذكر إيتاء الزكاة بعد هذه العناصر، كما لو أن هذه العناصر لا علاقة لها بالزكاة. ونرى أن هذه العناصر الستة يمكن إنفاق المال عليهم دون السؤال عن تبعيتهم من المؤمنين أم من غير المؤمنين. وإذا أخذنا الآية 60 من سورة التوبة، فإننا نرى فيها ثمانية عناصر:

1-الفقراء، 2- المساكين، 3- العاملين عليها، 4- المؤلفة قلوبهم، 5- وفي الرقاب، 6- الغارمين، 7- في سبيل الله، 8- ابن السبيل.

ونرى أن هذه العناصر هم مستحقو زكاة الإيمان والتي لا تجوز إلا لأتباع الرسالة المحمدية (المؤمنون).

ونلاحظ أنه توجد ثلاثة عناصر مشتركة في زكاة الإيمان وإنفاق الإسلام هي:

1- ابن السبيل، 2- المساكين، 3- وفي الرقاب

وهناك ثلاثة عناصر موجودة في إنفاق الإسلام وغير موجودة في آية الصدقات وهي:

1- اليتامى، 2- ذوي القربى، 3- السائلين.

أي تدفع الأموال لهذه العناصر الستة دون السؤال عن تبعيتهم: هل هم من المؤمنين أو من غير المؤمنين.

أما العناصر الخمسة الموجودة في آية الصدقات (التوبة 60) فلا تدفع إلا لأتباع الرسالة المحمدية (المؤمنون) وهي:

1- الفقراء، 2- العاملين عليها، 3- المؤلفة قلوبهم، 4- الغارمين، 5- في سبيل الله.

ولهذا السبب قال في سورة البقرة 177 بعد ذكر عناصر الإنفاق {وآتى الزكاة}.

رخص التحريم:

وننتقل لنقف أمام تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير (المحرم رقم 12). لنجد أنه المحرم الوحيد الذي أعطانا سبحانه فيه فسحة ورخصة، فقال:

  • {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} البقرة 173.
  • {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} الأنعام 145.
  • {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} النحل 115.
  • {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} المائدة3.
  • {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} الأنعام 119.

ونلاحظ أن الرخصة تأتي دائماً مع التحريم في البقرة والأنعام والنحل. كما نفهم أن الدم المحرم هو الدم المسفوح حصراً، وأن المحرم من الخنزير هو لحمه فقط ويجوز الانتفاع بشعره وجلده وأنيابه. ومن هنا يسقط قول من يقول بأن للرسول أن يحلل من عنده وأن يحرم، مستنداً بزعمه على تحليله الطحال والكبد، بينما هما غير داخلين أساساً في تحريم الدم المسفوح.

وأما ما يذهب إليه البعض في تعميم وإطلاق مقولة “الضرورات تبيح المحظورات”، ويستشهدون على صحتها بقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم}، فهو عندنا محل تحفظ شديد لسببين:

الأول: أن المحظور ورد في التنزيل الحكيم في غير مجال التحريم والأمر والنهي. ولم يرد إلا مرة واحدة في قوله تعالى {وما كان عطاء ربك محظورا} الإسراء 20.

والثاني: أن الاضطرار في مجال الرخصة ورد خمس مرات في التنزيل الحكيم، لكنها كلها في حدود الطعام حصراً، وليس فيها ما يسمح بإطلاقها وتعميمها، وإعمالها في حقول المحرمات الأخرى. بمعنى آخر: هل يجوز إباحة شهادة الزور أو أكل ما اليتيم أو نكاح المحارم أو قتل النفس للمضطر في حال الاضطرار؟ الجواب إن ذلك لا يجوز قطعاً.

ومن هنا فقد وضع سبحانه هذه المحرمات ضمن أركان الإسلام في قوله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران 102. وقوله تعالى {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} يس 61.

الاضطرار والإكراه:

هنا يجب أن نميز بين الاضطرار والإكراه، فعلى الرغم من أن بينهما اشتراكاً في المعنى من جهة، إلا أن بينهما اختلافاً من جهة أخرى. أما الاضطرار فهو ظرف موضوعي يعيشه الإنسان يضطره إلى فعل شيء ما، كأن تنقطع السبل به أياماً فيضطر إلى أكل لحم الخنزير، لأنه أمام احتمال واحد إما أن يأكله أو يموت.

أما الإكراه، فيشترك مع الاضطرار في مسألة الاحتمال الواحد، ويختلف عنه بأن يكون المرء مكرهاً مرغماً على القيام بأمر محرم. كأن يهدده أحد بالقتل إن لم يشهد زوراً.

ويتلخص الاختلاف بين الاضطرار والإكراه، في أن الأول يأتي من الظروف الموضوعية المعاشة، أما الثاني فيأتي من الآخرين. ومن هنا نفهم قوله تعالى {لا إكراه في الدين}. ومن هنا أيضاً نفهم حديث النبي (ص) إن صح: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” (ابن ماجه 2033). ونرى أن الله سبحانه من منطلق عدالته رفع عن كل الناس في الأرض الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

وأن موقف الإنسان أمام الإكراه موقف شخصي يتبع مدى إيمانه وصموده، الأمر الذي يختلف من إنسان إلى آخر. ولعل الفرق في الموقف بين بلال وعمار بن ياسر حين استكرها على ترك الإيمان بالله ورسوله فصمد الأول ولم يستطع الثاني الصمود، خير مثال على ما نقول. ونرى أنه لا مقياس في هذه الحالة إلا قوله تعالى {بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره} القيامة 14،15.

الطيبات والخبائث:

قد يقول قائل: إن الله حرّم الخبائث، كما في قوله تعالى {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} الأعراف 157. وحرم الإثم والبغي كما في قوله تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} الأعراف 33. أقول: أما الخبائث فهي عين المحرمات والفواحش، بدلالة قوله تعالى {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث} الأنبياء 74. فالخبائث هي الشرك بالله ونكاح المحارم وربا الصدقات، وهي أيضاً الفواحش التي تشمل الزنا واللواط والسحاق.

لكننا يجب أن نقف عند قوله تعالى في آية الأعراف 33 {الإثم والبغي بغير الحق}. فنفهم أن هناك إثماً وبغياً بحق، بدليل وجود إثم وبغي بغير الحق. وإذا كان هناك محرم واحد بين المحرمات جميعاً لا يجوز خرقه وتجاوزه إلا بالحق، ألا وهو قتل النفس. وإذا جاز لنا في محرم آخر أن نعتبر الاضطرار حقاً نستطيع عنده تجاوز التحريم، فليس ثمة فواحش بحق أو بغير الحق أبداً. ومن هنا نجده تعالى يسمي الشرك إثماً عظيماً في قوله تعالى {ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً} النساء 48، وهذا هو الإثم بغير الحق المحرم.

أما الإثم بحق، وهو عندنا غير محرم، فمثاله الخمر. يقول تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} البقرة 219. ونفهم أن الخمر فيها إثم كبير، بدلالة آية الأعراف 33. فما فائدة أن يشير تعالى إلى أن فيها منافع للناس إلى جانب كونها إثم كبير؟ نقول: إنه تعالى يشير إلى “الإثم بحق” الذي لا جناح على من يرتكبه. فلو أن جندياً أصيب في ساحة المعركة بطلقات نارية حيث لا أجهزة تخدير ولا غرف عمليات، أيجوز أن نسقيه الكحول حتى يسكر فنستخرجها؟ نقول: بالتأكيد يجوز.

من باب الضرورة والاضطرار من جهة، ومن باب آخر وهو الأهم، هو أننا نعتمد على خاصية نافعة في الخمر أوجدها تعالى فيها بالحق، وأشار إليها في الآية. وهذا هو الإثم بالحق. ونحن نعلم أنه أتى على الإنسان حين من الدهر استعمل الخمر (المواد الكحولية) كمادة مخدرة في الطب والعمليات الجراحية وهذه منافع للناس. لذا جاء حكم الخمر نهياً {فهل أنتم منتهون} وليس تحريماً.

وكذلك الأمر مع كل مواد المخدرات، بغض النظر عن كيفية أخذها – بالفم أم بالحقن أم بالشم (هيرويين – كوكايين – حشيش.. إلخ) – فهذه كلها تندرج تحت بند الخمر بالإضافة إلى المشروبات الكحولية.

من هنا نفهم قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} النساء 31. وقوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة} النجم 32. فنرى أن كبائر النواهي وكبائر الإثم والفواحش هي المحرمات وعددها 12. أما ما يقوله البعض من أنها إلى السبعمائة أقرب فليس عندنا بشيء (4).

فالمحرمات كما نرى يجب أن تكون قليلة محدودة. لأنها تحمل صفة الشمول والأبدية والمطلقة. والرخص في بعضها يجب أن يكون أيضاً ضمن حدود ضيقة. والشمول في المحرمات يتضمن الزمان والمكان. فالحرام حرام في مكة ودمشق وطوكيو ودلهي، وهو حرام في جميع أقطار الأرض في القرن السابع الميلادي والقرن العاشر والقرن الأربعين إلى أن تقوم الساعة.

أما المطلق في المحرمات فيعني أن الاستثناءات معدومة فيها، وإن الرخص ضيقة الهامش حتى لتكاد تكون غير موجودة إلا في مجال واحد بعينه هو الأطعمة. ومن زاوية المطلقية والشمولية ننطلق لنقرر أن التحريم لله وحده، لا شريك له فيه، لأن خواص التحريم تحتاج لأن يكون صاحب التحريم كامل المعرفة في الغيب والشهادة لا يحد معرفته زمان ولا مكان وهذا موجود عند الله فقط وغير متوفر لا عند رسول الله ولا عند فقيه ولا عند إجماع أو برلمان.

ثمة من يزعم أن التصوير حرام، وأن الموسيقى حرام، وأن الغناء حرام، وأن نحت التماثيل حرام، فإذا قلنا له إن كل أهل الأرض عندهم كاميرات ويصورون ويتصورون، وأن الصور لازمة للعديد من المعاملات كالجوازات وشهادات السواقة، أجابنا ببرود: الضرورات تبيح المحظورات. وهذا عندنا هراء يجب الإقلاع عنه.

فالله سبحانه يقول: {ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} الأنعام 119. ونفهم بشكل لا يقبل اللبس أنه تعالى قد فصل لنا ما حرم علينا، ونحن نراه مفصلاً بالفعل فيما ذكرنا من آيات، ونفهم أن الحق بالتحريم محصور بالله وحده، لأنه وحده الباقي المطلق إلى يوم القيامة، ولو اجتمع كل الأنبياء والرسل ومعهم كل آلهم وأصحابهم على تحريم شيء لم يحرمه الله لما كان لهم ذلك. نقول هذا وأمامنا قوله تعالى {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً الله أذن لكم أم على الله تفترون} يونس 59. وقوله تعالى: {ولا تقولوا لما تفتري ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}. النحل 116، ونقول هذا ونحن ننطلق من أن للتحريم جانباً إلهياً وجانباً إنسانياً. ففي الجانب الإنساني يمكن لقاتل أن يقتل بغير الحق، ثم تسجل الجريمة ضد مجهول.

فهل نجا هذا المجرم من جزاء ما فعل؟ الجواب: كلا بالتأكيد. فقتل النفس حرام، والتحريم جاء من عند الله، وهذا هو الجانب الإلهي في المحرمات. فالله تعالى له بالمرصاد ليحاسبه على فعلته، لقوله وهو أصدق القائلين {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} الزلزلة 7،8. والذي يأتي المحرمات والفواحش ثم ينجو من حساب المجتمع الإنساني لسبب أو لآخر، لن ينجو من حساب الله إلا إذا تاب وأصلح، وهذا يختلف تماماً عن مخالفة وخرق القوانين الوضعية خارج إطار المحرمات الإلهية.

فالذي يخالف إشارة المرور دون أن يراه أحد، ودون أن يتسبب في أذى أحد، ينجو تماماً بفعلته دون ذيول. ومن هنا نصل إلى ما نراه قاعدة أساسية هي أن المحرمات عينية حددها وفصّلها الله سبحانه ولا يقاس عليها لأنها مطلقة وشمولية وأبدية وهي مرتبطة ببنودها الأساسية بالضمير الإنساني.

2 – آيات التشريع والأحكام:

هو الفرع الثالث في الدين الإسلامي، الذي تتمحور حوله اجتهادات المجتهدين، وتتمثل فيه الرسالة المحمدية الخاتم التي تحدد حدود الله في حقل إفعل ولا تفعل، ويظهر فيه النسخ بين الرسالات والشرائع السماوية.

أما الاجتهاد، فلا يمكن أن يكون إلا في مجالات هذا الفرع الثالث، إذ لا محل أبداً للاجتهاد في فرع الشعائر (الفرع الأول)، لأن كل اجتهاد في هذا المجال يعتبر بدعة وضلالة، ولا محل أيضاً للاجتهاد في فرع الأخلاق والمثل العليا، فالكذب والغش والسعي بالنميمة والنفاق كلها مكروهة أخلاقياً ومحرمة أو منهي عنها تشريعياً. ولابد هنا من أن نلاحظ أن بعض آيات التشريع (إفعل ولا تفعل) تحمل في جوانبها جانباً أخلاقياً واضحاً كما في آيات نكاح المحارم وربا الصدقات.

أما حدودية الرسالة المحمدية، فلا يمكن أن تكون إلا حدودية لأنها الرسالة الخاتم، ولو جاءت حدية عينية مشخصة كالرسالات السماوية التي سبقتها لما جاز أن تكون خاتمة الرسالات. ولهذا نقول إن منكر الحدودية في الرسالة المحمدية منكر لخاتميتها التي أثبتها تعالى نصاً واضحاً بقوله: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين..} الأحزاب 40. ومنكر أيضاً لقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} البقرة 187. وقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تعتدوها} البقرة 229.

فالقول بحدودية الرسالة المحمدية يعني أن مجال تطبيقها هو الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، وأنها ترسم بين أدناها وأعلاها حقولاً تمثل مختلف نشاطات هذه الحياة الإنسانية في القتل والسرقة والإرث والزواج والطلاق والبيع والشراء والزنا واللباس والتعددية الزوجية. وهذه الحقول المرسومة التي تشبه ملاعب كرة القدم، هي مناط الاجتهاد والتصرف الإنساني، حيث يتحرك المجتهد بروح حنيفية بين الحدود الدنيا والحدود العليا بما يناسب ظرفه الزماني والمكاني.

وأما من ناحية النسخ، فالنسخ لا يكون إلا بين الشرائع السماوية. فقد جاءت الرسالة المحمدية لتبقي وتثبت بعض ما جاء قبلها في الرسالات، مثل القتل العمد بغير حق، حيث بقيت عقوبته في الرسالة المحمدية على ما كانت عليه في شريعة موسى. كما جاءت لتعدل تخفيفاً ورحمة بعضها الآخر، مثل عقوبة الزنا التي كانت هي الرجم في شريعة موسى، فأصبحت هي الجلد والتغريب في الشريعة المحمدية.

وأخيراً جاءت لتضيف أحكاماً لم تكن موجودة قبلها، كأحكام الإرث. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها..} البقرة 106. وقوله تعالى {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل..} النحل 101. منطلقين من أن الآية هي الرسالة السماوية وليست الجملة القرآنية كما يزعم البعض.

ومن هنا نرى أن تطور الإسلام عبر التاريخ من نوح حتى محمد (ص) لعب دوراً أساسياً في تشكيل الضمير الإنساني. لذا فنحن الآن نعيش مرحلة ما بعد تشكيل الضمير أو مرحلة ما بعد الرسالات، وهي مرحلة نضجت فيها الإنسانية أكثر من مرحلة استكمال الرسالات، وأصبحت تعتمد على نفسها في التشريع، كما نضج الضمير الإنساني متمثلاً في شكل حقوق الإنسان.

قول في “لا تقربوا ” و “اجتنبوا “

لقد أصر البعض على أن الاجتناب هو تحريم أو أكثر، ونرى أن صيغة “اجتنبوا” وصيغة “لا تقربوا” قد تكون للتحريم وقد تكون للنهي ولامجال للمزاودة فيهما فكيف استعمل التنزيل هذه المصطلحات؟ نبدأ بالمفهوم اللغوي:

الاقتراب

ـ قرب : القاف والراء والباء أصل صحيح يدل على خلاف البعد. كقوله تعالى {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} المعارج 7. ونقول: ما قربت هذا الأمر ولا أقربه إذا لم تأته ولم تلتبس به. ومن هذا الباب قراب السيف غمده، وقرابة الملك وزراؤه وجلساؤه، والقرب في الثوب خاصرته لقربها من الجنب. وقد ورد هذا الأصل بمشتقاته في 96 موضعاً من التنزيل الحكيم، وإذا رتلناها وجدناه لا يخرج عن معناه الأساسي، وهو:

1 ـ خلاف البعد، كما في قوله تعالى:

  • {وكلا منها حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} البقرة 35.
  • {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} آل عمران 167.

2 ـ ولتقريب شيء معلوم يظن أنه بعيد، كما في قوله تعالى:

  • {اقتربت الساعة وانشق القمر} القمر 1.
  • {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} البقرة 186.
  • {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} الأنبياء 97.

3 ـ لتقريب شيء غير معلوم لم يحصل بعد، كقوله تعالى:

  • {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} هود 64.
  • {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا} الجن 72.
  • {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً} الإسراء 51.

4 ـ للدلالة على قرابة النسب والصداقة، كقوله تعالى:

  • {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} الشورى 23.
  • {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} الأنعام 152.
  • {فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} الأنفال 41.

5 ـ للنهي عن فعل شيء بعيد عن متناول اليد، كقوله تعالى:

  • {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} الإسراء 34.
  • {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} الإسراء 32.
  • {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} النساء 43.

الاجتناب

ـ جنب: الجيم والنون والباء أصلان متقاربان. أحدهما الناحية وثانيهما البعد. أما الناحية فهي الجنْب والجَنَاب. والجار الجُنُب هو من جاورك من قوم آخرين، ليس من أهل الدار ولا من أهل النسب. وأما البعد فهو الجنابة، ومنه الجُنُب الذي يجامع أهله، فيبعد عما يقرب منه غيره كالصلاة. ولقد ورد هذان المعنيان في 33 موضعاً من التنزيل الحكيم، ولا تخرج جميعاً عن معنى الناحية والبعد.

فأما في معنى الناحية، فكقوله تعالى:

  • {والذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} آل عمران 191.
  • {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً} الإسراء 68.
  • {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً} مريم 52.

وأما في معنى البعد، فكقوله تعالى:

  • {رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام} إبراهيم 35.
  • {وإن كنتم جنباً فاطهروا} المائدة 6.
  • {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} الحجرات 12.

لكن المتأمل المتذوق للإعجاز اللغوي في آيات التنزيل، يلاحظ امتزاج معنيي الناحية والبعد، حتى كأنهما بعد الامتزاج معنى ثالث لا هو بالأول مجرداً ولا هو بالثاني مجرداً، كما في قوله تعالى: {وقالت لأخته قصّيه فبصرت به عن جُنُبٍ وهم لا يشعرون} القصص 11.

ومن هنا نرى أن الاجتناب هو أمر بالابتعاد عن شيء قريب، وأمر بترك شيء في متناول اليد. ونرى أن الأمر بالاجتناب له علاقة وثيقة بظرف المخاطب المأمور ومحيطه. فالأم التي تسكن بعيداً عن مدرسة ابنها، في بيت يفصله عن المدرسة شوارع مليئة بالحفر، تأمره قائلة: اجتنب الوقوع في الحفر في طريقك وأنت ذاهب للمدرسة. أما التي تسكن بجنب المدرسة، ليس بينهما شوارع، فلا تأمره بهذا لأنه لا يوجد شيء يجتنبه. وإن فعلت استغرب الصبي أمرها ولم يفهم القصد.

وحين ننظر في حدود الله بالتنزيل الحكيم، نجدها تنقسم إلى قسمين. قسم لا يجوز تجاوزه وتعديه كما في قوله تعالى عن حدود الإرث: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً} النساء 14. وقوله عن حدود الطلاق {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} الطلاق 1. أما القسم الثاني فلا يجوز تعديه ولا الوقوف عليه ولا الاقتراب منه، كما في قوله تعالى عن حدود الصوم {تلك حدود الله فلا تقربوها} البقرة 187. وكما في قوله تعالى عن حدود الزنا {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} الإسراء 32.

فإذا استعرضنا بعض الآيات التي تأمر بالاجتناب وجدناها كما يلي:

  • {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} المائدة 90.
  • {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} الحج 30.
  • {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل 36.
  • {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} الحجرات 12.

وجدنا أن الاجتناب فيها يعني الابتعاد، هذا من ناحية، ويعني من ناحية ثانية أن المواضيع المأمور باجتنابها والبعد عنها، موجودة أمامنا وقريبة منا وفي متناول أيدينا، وهذا أول ما يفرق عندنا بين “اجتنبوا” و “لا تقربوا”.

يقول تعالى في المائدة 90، {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} والرجس هو الاختلاط في الأمور، ولا يمكن إلا أن يكون ذاتياً أي في الدماغ. فرجس الخمر هو السكر، ورجس الميسر هو القمار، والسكر والقمار يسببان العداوة والبغضاء بين الناس. ورجس الأنصاب هو الذبح عليها ورجس الأزلام هو الاستقسام بها. ونلاحظ أن الذبح على الأنصاب والاستقسام بالأزلام قد حرّمهما تعالى بقوله: {وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} المائدة 3. وأنهما لا يورثان العداوة والبغضاء بين الناس.

فرب إنسان يذبح ذبيحة لولي من الأولياء وهو لا يعادي أحداً. وقل مثل ذلك في الاستقسام بالأزلام، ولهذا نراه تعالى يستبعدهما في الآية التالية مباشرة بقوله {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} المائدة 91. ونفهم من هذا كله أن الله حرّم علينا الذبح على النصب والاستقسام بالأزلام وأمرنا بالابتعاد عن رجس الخمر بالسكر ورجس الميسر بالقمار، إضافة إلى الابتعاد عن رجس الأنصاب بالذبح عليها ورجس الأزلام بالاستقسام بها.

مما نرى معه بكل وضوح أن الاجتناب لا علاقة له بالتحريم، وأنه تعالى استعمله لوصف حال هذه الأمور الأربعة، وللإشارة إلى أنها قريبة منا وفي متناول أيدينا. فالمشروبات الروحية ليست بعيدة عن أنظار الناس وهي مطروحة في العديد من المحال العامة من مطاعم ومقاه ومطارات وفنادق، وكذلك الأمر بالنسبة للنرد والشطرنج والورق وإجراء قرعة المباريات الرياضية، والذبائح والتماثيل والمقابر ومقامات الأولياء منتشرة بكثرة حولهم، لكنها قطعاً ليست كالزنا الذي يترتب عليك أن تقصده في مظانه وتخطط له مسبقاً، ومن هنا جاء الأمر بعدم الاقتراب من الزنا وليس باجتنابه والابتعاد عنه، وهذا فيما نرى وجه آخر من وجوه الفرق بين “اجتنبوا” و “لا تقربوا”.

يبقى أخيراً أن نشير إلى أن الأمر بالاجتناب يشمل رجس الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، أي أننا مأمورون باجتناب السكر والقمار باعتبارهما منهي عنهما وباجتناب الذبح على الأنصاب والاستقسام بالأزلام باعتبارهما محرمين. أما القول بأن الرجس نجس وقذر وأن رجس الخمر هو الخمر ذاتها فليس عندنا بشيء.

ويقول تعالى في الحج 30، آمراً إيانا باجتناب رجس الأوثان وقول الزور. وما قلناه آنفاً في تعريف الاجتناب والرجس، نقوله هنا فلا نعيد. يبقى أن نقول إن الوثنية ظاهرة قديمة وحديثة، واسعة وعريضة، تنتشر تحت أسماء عديدة وتختفي خلف أقنعة وألوان متعددة. فعبادة ظواهر الطبيعة وثنية، وعبادة الكواكب وثنية، وعبادة أعضاء الذكورة والأنوثة وثنية، وعبادة النار وثنية، وعبادة المادة بمفهومها الحديث المعاصر وثنية، وعبادة الأرواح وثنية، وعبادة الأجداد والأسلاف وثنية، وعبادة الأصنام والتماثيل وثنية.

وإذا كانت بعض هذه الظواهر والأقنعة قد طواها الزمان أو كاد، إلا أن بعضها الآخر وُلد مع الأزمنة المعاصرة، إضافة إلى بعض القديم الذي ما زال يعيش معنا وبجانبنا في كثير من حقول حياتنا اليوم. ورجس الأوثان هو القاسم المشترك بين هذه الأشكال الوثنية جميعها، وهو الشرك بالله، والشرك بصفات الله، وهو الوهم بوجود واسطة تقربنا من الله زلفى أو تشفع لنا عنده.

هذا الرجس والوهم هو الذي أمرنا الله بالبعد عنه. أما القول بأن رجس الوثن هو الوثن ذاته وأننا مأمورون باجتناب عين الأوثان فليس عندنا بشيء، وإلا فكيف يمكن اجتناب ذات الشمس وهي وثن كان معبوداً عند قوم إبراهيم؟ وكيف يمكن اجتناب ذات البرق والرعد والبحر؟ أما القول باجتناب قول الزور، فنحن نفرق هنا بين شهادة الزور المحرمة في قوله تعالى {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} الأنعام 152، وقول الزور الوارد في الآية.

فقد شاع قول الزور كظاهرة بين الناس في البيع والشراء والمعاملات في الأسواق، وفي مخاطبة الحكام ومدحهم، حتى صار مصطلح ” الله وكيلك” يتكرر على الأسماع في مختلف نواحي الحياة صباح مساء. ومن هنا نفهم أننا مأمورون باجتناب قول الزور ذاته، والابتعاد عما يحمله في داخل من رجس. وهذا ما عنيناه بقولنا إن اجتناب رجس الشيء لايعني اجتناب الشيء بذاته.

ويقول تعالى في النحل 36: {اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} ونفهم أنه سبحانه يأمرنا بعبادته هو، والابتعاد عن عبادة الطاغوت. وكأنه يقول اعبدوا الله واجتنبوا عبادة الطاغوت. تماماً كما فهمنا “واسأل أهل القرية”، حين قال {واسأل القرية} يوسف 82.

وننتقل أخيراً إلى قوله تعالى في الحجرات 12، حيث يأمرنا باجتناب الكثير من الظن، والظن هو عكس اليقين. وهو الحكم والرأي القائم على أدلة غير قطعية، كقولك: سمعت.. بلغني.. يقال.. وهل هناك ظاهرة أكثر شيوعاً من الظن في يومنا هذا. يقول تعالى {اجتنبوا} أي اتركوا وابتعدوا، والدليل على أن الاجتناب والبعد لا يعني التحريم، هو أنه سمى بعض الظن إثماً وليس كبائر الإثم.

من هذا كله نخلص إلى أن القائل بأن الاجتناب هو التحريم، أو هو أكبر من التحريم، فإنما يقول ذلك من باب المزاودة على الله، وقوله غير صحيح، فالاجتناب كما رأينا يستعمل مع التحريم كما في الأنصاب والأزلام، ويستعمل مع المنهي عنه كما في الخمر والميسر، ويستعمل مع الكبائر كقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}.

الأمر والنهي:

ثمة حقل آخر في التشريع يلي حقل التحريم ويأتي دونه، هو حقل النهي، وفيه النواهي التي نهى الله عنها في التنزيل الحكيم كقوله {ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً} الحجرات 12. فإذا عرَّفنا الحلال قلنا إنه الأصل في الوجود، أي أن حقل الحلال حقل مطلق، جاءت نصوص التحريم لتقتطع منه قسماً هو حقل الحرام. ولقد قلنا إن الحرام مطلق، لكنه مطلق عيني محدد، يمكن أن يمارسه كل فرد على حده ضمن المجتمع. ونضيف أن الحلال مطلق لكنه غير قابل للممارسة والتطبيق إلا بتقييده. ونضرب على هذا أمثلة:

  1. الانتقال من البيت إلى مقر العمل حلال، لكن ضمن حدود تقيده هي قوانين السير.
  2. شراء البضائع من لندن ونقلها إلى دمشق حلال، إنما ضمن حدود تقيده هي قوانين الاستيراد والجمارك.
  3. بناء بيت للسكن حلال، لكن ضمن قيود تحدده هي قوانين تنظيم المدن، وأنظمة البناء.
  4. دراسة الطب والهندسة حلال، ولكن ضمن قيود تنظمها قوانين تنظيم الجامعات وقواعد القبول في الكليات.

من هنا نفهم أن الحلال حقل مطلق، لكن الإنسان لا يمكنه أن يمارسه بشكله المطلق دون تقييد إلا إذا عاش وحيداً بدون مجتمع. إن أهم سمة من سمات تقييد المطلق هي أنه لا يحتاج إلى وحي. فقانون السير لا يحتاج إلى وحي، والسير في الطرقات حلال.

وإذا قال لنا النبي (ص) “أعطوا الطريق حقه” (البخاري 2499)، فهو إنما ينظم لنا جانباً من جوانب حقل الحلال، والتنظيم تقييد. وقانون ضابطة البناء أيضاً لا يحتاج إلى وحي، وبناء المساكن حلال. وإذا قال لنا النبي (ص) لا تتطاولوا في البنيان، فهو إنما يعطي رأياً في تنظيم المدن، وهذا بدوره لا يحتاج إلى وحي، بل لا يجوز أن يكون وحياً، وإلا توقفت عجلة التطور ومات الإبداع.

من هذه الزاوية قد نقبل قول من يقول بأن السنة النبوية تقيد المطلق وتخصص العام، حين يقع هذا التقييد والتخصيص في حقل الحلال. أما ما اعتدنا سماعه من أن الحديث النبوي مفصل لمجمل آيات التنزيل، شارح ومفسر لغامضها، مقيد لمطلقها، مخصص لعمومها، وأنه مقدم عليها يحكمها وينسخها، وأن حاجتها إليه أكبر من حاجته إليها، فهذا تطرف وغلو يدفعنا إلى أن نرى الأمور مقلوبة، سبحانه وتعالى عما يشركون.

بعد أن شرحنا تقييد المطلق، ننتقل لشرح إطلاق المقيد، فنقول: هو الانتقال بالمطلق المقيد من الأضيق إلى الأوسع، ومثاله السوق الأوربية المشتركة. فالتجارة والبيع والشراء حلال مطلق، جاءت قوانين الاستيراد والجمارك ومنع التهريب وحراسة الحدود لتقييد هذا المطلق بين الدول الأوربية. ثم جاءت بعد ذلك السوق المشتركة لتحرر هذا المطلق المقيد من بعض قيوده، فأقرت تبادل البضائع بدون جمارك بعيداً عن قوانين الاستيراد.

(1) لاحظ أن تعريف السنة كما نراه اليوم في كتب الفقه وكما نسمعه في المجالس والندوات الدينية لم ينشأ دفعةً واحدةً، بل تكامل تراكمياً عبر عشرات السنين في مراحل أشرنا إليها في فقرتنا هذه.

(2) هذه الوصايا التسع تشكل الصراط المستقيم، بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}. الأنعام 153. ونلاحظ في الآية أموراً هي:

  • أن اتباع الصراط المستقيم جاء بالمفرد {فاتبعوه، فتفرق بكم عن سبيله}.
  • إن الانحراف والخروج عن الصراط المستقيم جاء بصيغة الجمع {ولا تتبعوا السبل}.
  • أن فيه تقوى الإسلام {لعلكم تتقون}.
  • ونفهم أن اتباع الصراط المستقيم دفعة واحدة ممكن. وأن هناك كثيراً من الناس ملتزم به من المسلمين المؤمنين ومن المسلمين غير المؤمنين.

(3) فإذا أعطينا قرضاً لأحد أصحاب الصدقات قدره 100 درهم بفائدة سنوية 10%، فهذا يعني أنه سيسددها بعد سنة 110 دراهم وهذا حرام. أما إذا أعطيناه 100 درهم صدقة، فسيشتري بها خبزاً ولحماً وملابس، وسيربح بائع الخبز واللحم والملابس 10% مثلاً خلال دقائق قليلة، وهذا هو ربح البيع وهو حلال.

(4) أنظر أبي داوود ج3 ص 295: قال رجل يا رسول الله: ما الكبائر؟ قال هن تسع. قارن هذا القول مع محرمات سورة الأنعام {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} فترى أنها تسع.

اترك تعليقاً