الفصل الثالث: الجهاد والقتال | القتال

2 – القتال

القتال مصدر الفعل الرباعي (قَاتَل) على وزن (فَاعَل) ومثله جادل وخاصم وشارك وبايع، الألف فيه ليست من أحرف الزيادة كما يزعم البعض. وإن كانت نتائج إسقاطها – تطبيقياً – ضئيلة الأثر إلى حد ما في الجهاد والجدال، فإن أثر إسقاطها عظيم وخطير في القتال، إذ بدونها يتحول القتال إلى قتل، فـ (قاتِل) جمعها قتلة من فعل قَتَلَ، و (مقاتل) جمعها مقاتلون من فعل قاتَل. وهذا غير ذاك كما سنرى في الصفحات التالية:

والقتال مفردة قرآنية وردت مشتقاتها وتصريفاتها في واحد وسبعين موضعاً في التنزيل الحكيم، أولها في قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة 190، وآخرها في قوله تعالى {..عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} المزمل 20.

والقتال موقف تصادمي يتميز بالعنف بين طرفين، بين فرد وفرد أو بين مجموعة ومجموعة، فإن هو اقتصر على طرف واحد لم يعد قتالاً. كما في قول ابن آدم لأخيه {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ} المائدة 28، حيث نفهم أنه يرفض أن يكون طرفاً في قتال، فتحول الموقف التصادمي في عبارته إلى قتل من طرف واحد، وهذه الحالة نراها في كثير من الأعمال الانتحارية في العراق وغيرها، حيث يريد طرف القتال، وطرف آخر أعزل أصلاً لا يريد القتال ولا يريد أن يُقتل. فهذه عمليات قتل جماعي مع سبق الإصرار والترصد.

ولعل أبلغ وصف للقتال في التنزيل الحكيم ورد في قوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم..} البقرة 216. يقول الإمام الرازي في تفسير هذه الآية:

“الكره بضم الكاف هو الكراهية بدليل قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} البقرة 216، وبفتح الكاف هو الإكراه على سبيل المجاز كما في قوله تعالى {حملته أمه كَرهاً ووضعته كَرهاً} أهـ. (انظر التفسير الكبير ج6 ص24).

أما عندنا فالقتال من أشد التكاليف ثقلاً على النفس البشرية، فهو كُرهٌ باعتبار مافيه من مشقة وقتل، وهو كَرهٌ باعتباره آخر الحلول في تسوية النزاعات لا يُلجأ إليه إلا اضطراراً، تماماً كالكي عند العرب في قولهم “آخر الطب الكي¨ حين تفشل جميع العلاجات الأخرى. وأما قولنا إن القتال تكليف، فبدلالة قوله تعالى {كتب} الذي يذكرنا بقوله تعالى {كتب عليكم الصيام} البقرة 183، وقوله تعالى {كتب عليكم القصاص} البقرة 178، والتكليف لا يكون إلا للقادرين من العقلاء شأن جميع التكاليف الأخرى. لكن المفسرين والفقهاء اختلفوا – كعادتهم – في فهمه تطبيقياً. ويقول الإمام الرازي:

“واختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم: إنها تقتضي وجوب القتال على الكل. فقد روي عن ابن مكحول أنه كان يحلف بالله عند البيت الحرام أن الغزو واجب. ونقل عن ابن عمر وعطاء: أن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على النبي (ص) وأصحابه في ذلك الوقت فقط. فإن قيل: ظاهر الآية هل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان، لأن قوله تعالى {عليكم} أي على كل واحد من آحادكم كما في قوله {كتب عليكم القصاص} و {كتب عليكم الصيام}. وحجة عطاء أن قوله {كتب} يقتضي الإيجاب، ويكفي العمل به مرة واحدة، وقوله {عليكم} يقتضي تخصيص هذه الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت، إلا أننا قلنا: إن قوله {كتب عليكم القصاص} و {كتب عليكم الصيام} حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك بدلالة منفصلة وهي الإجماع، وتلك الدلالة مفقودة ههنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلي¨ (انظر التفسير الكبير ج2 ص 23).

ويقول الإمام الطبرسي بإيجاز شديد ما قاله الرازي، مستهلاً ذلك بقوله: “هذه الآية بيان لكون الجهاد مصلحة لمن أمر به، قال تعالى {كتب عليكم القتال} أي فرض عليكم الجهاد في سبيل الله¨ أهـ (انظر مجمع البيان للطبرسي ج1 ص 310) ومختتماً ذلك بقوله “وقال عطاء أن ذلك كان واجباً على الصحابة ولم يجب على غيرهم وقوله شاذ عن الإجماع¨ (انظر المرجع نفسه ص 311).

إن أول ما نلاحظه في الفقرات المقتبسة السالفة هو الخلط بين القتال والغزو كما عند مكحول(7). وبين القتال والجهاد كما عند الرازي والطبرسي. وإذا كان ليس عجيباً أن نسمي القتال جهاداً أصغر كما سماه النبي (ص) فإن العجب والاستنكار أن نسمي القتال في سبيل الله غزواً.

وإذا جاز السكوت عن الخلط بين الجهاد والقتال – للسبب الذي ذكرناه – عند الأدباء والشعراء والخطباء، فلا يجوز السكوت عنه عند الفقهاء والعلماء. أما الخلط بين الغزو والقتال فلا يجوز السكوت عنه عند هؤلاء ولاعند أولئك. وكذلك تم الخلط بين آيات الأحكام (الرسالة) وبين آيات القصص المحمدي والتي تدخل في النبوة كأحداث الغزوات.

ثمة فرق بين الجهاد والقتال أشرنا إليه في مطلع حديثنا عن الجهاد، هو أن الجهاد الأكبر يشمل عشرات مجالات الحياة كالسعي في طلب الرزق وتحصيل العلم ومعاناة آلام الحيض والولادة عند النساء والوقوف في وجه المغريات والصمود أمام التهديدات، وفي هذه المجالات جميعاً يخلو الجهاد من العنف والاصطدام المسلح، تماسكاً بالأيدي ورشقاً بالحجارة وضرباً بالسيف وقصفاً بالقنابل. أما القتال فلا يكون إلا بين طرفين متقاتلين لتسوية نزاع لم تنفع في تسويته كل الوسائل الأخرى، إما على الصعيد الفردي مثاله خبر موسى في قوله تعالى {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوّهِ} القصص 15. أو على الصعيد الجماعي ومثاله معارك بدر وأحد وخيبر والطائف والأحزاب، وهذه كلها أحداث تاريخية كأحداث موسى ونوح وغيرهم. وتدخل ضمن آيات القصص القرآني لاضمن آيات الرسالة.

وإن ثاني ما نلاحظه عند الرازي قوله: “إن قوله تعالى {كتب عليكم القصاص} {كتب عليكم الصيام} حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك بدلالة منفصلة وهي الإجماع، وتلك الدلالة مفقودة هاهنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلي¨. وعند الطبرسي قوله “وأجمع المفسرون – إلا عطاء – على أن هذه الآية دالة على وجوب الجهاد وفرضه، غير أنه فرض على الكفاية، وقال عطاء إن ذلك كان واجباً على الصحابة ولم يجب على غيرهم، وقوله هذا شاذ على الإجماع¨ أهـ (انظر مجمع البيان ج1 ص 311) وهنا نلاحظ تماماً الفرق بين {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} حيث هي آية عامة صحيحة سابقاً ولاحقاً وتنطبق على كل أهل الأرض، بينما آية السيف رقم 5 من سورة التوبة حيث يوجد فيها (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) فهي تعرض لحدث تاريخي في حينه، فالقتال عام والقتل خاص.

إن الرازي والطبرسي حران في أن يختلفا مع ابن عمر وعطاء في تحديد المقصود بكلمة (عليكم) في آية البقرة 216، وفي الحكم بأن القتال واجب على البعض لا على الكل، وحران في أن يتفقا مع مكحول في أن الغزو واجب وفي أن الجهاد فرض. فكلاهما ينطلق – في جانب – من القول بالترادف الذي يتحول معه الفتح إلى حرب والجهاد إلى قتال والقتال إلى غزو، وينطلق – في جانب آخر – من القول بالنسخ الذي يشرع ويبيح الاحتكام للسيف كطريقة وحيدة للدعوة إلى الهدى، ويعطل العمل بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن. وينطلق – في جانب ثالث – من ذات الأسباب التوسعية التصفوية التي انطلق منها فقهاء سلاطين الاستبداد في ابتداع مصطلحات فقهية جديدة، كالجهاد الابتدائي، وفي إضفاء معان اصطلاحية على القديم منها يخرج فيها اللفظ – في كثير من الأحيان – عن معناه القرآني في التنزيل الحكيم.

لكننا نقف طويلاً عند أمر هام وخطير ورد في تفسير آية البقرة 216 لدى الإمامين هو: الإجماع. والإجماع عندنا وهمٌ طوباوي لامحل له في الواقع المعاش كالغول والعنقاء والخل الوفي، وحلم رومانسي لاوجود له إلا في خيال الفلاسفة المثاليين أمثال أفلاطون والفارابي، تماماً كالديموقراطية عند مثقفي السياسة في بلدان العالم الثالث التي اعتبروها إحدى وسائل الإقصاء، وكحاكمية الله عند الإسلام السياسي الذي يقابله “ياعمال العالم اتحدوا¨ عند الشيوعية السياسية. ومع ذلك فقد جعله علماء الأصول مصدراً من مصادر التشريع، إذ يكفي عندهم أن تجمع الأمة – أو علماء الأمة – على أمر أو على حكم أو على تفسير آية أو على تحديد مقصد من المقاصد الإلهية، ليصبح هذا الإجماع مصدراً تشريعياً يلزم الموجودين ويلزم كل من سيوجد فيما بعد باتباعه والعمل به.

وإذا كنا لانعجب من الإمام الرازي وهو يضع الإجماع في مرتبة التنزيل الحكيم كناظم من نواظم السلوك الإنساني في جميع مجالات الحياة بما فيها المجال العقائدي، فإننا نعجب من الإمام الطبرسي – أحد كبار علماء الإمامية في القرن السادس الهجري – وهو يفعل ذلك.

ثمة دائماً – إن نحن تأملنا الواقع القائم بالأمس واليوم مايجرح الإجماع، وثمة دائماً مايكسره حتى لايعود إجماعاً. فالقول بالترادف أو إنكاره – مثلاً – يقسم الأمة إلى قسمين يمتنع معهما الإجماع، ومثال ذلك واضح في الفقرتين المقتبستين آنفاً عن الرازي والطبرسي، فالموضوع واحد هو القتال، ومع ذلك يتحدث الرازي عن الغزو والطبرسي عن الجهاد.

والقول بالمجاز أو إنكاره – شأنه شأن الترادف – يشطر الأمة إلى شطرين يتحول الإجماع معهما إلى كذبة كبيرة، وأشهر أمثلته الخلاف في تفسير قوله تعالى {يد الله فوق أيديهم} الفتح 10 والاختلاف في رؤية النبي (ص) لربه ليلة الإسراء والمعراج.

والطائفية والمذهبية ساطوران يقطعان الأمة إلى عشرات الأجزاء ليصبح معها الحديث عن الإجماع مهزلة وضحكة. وأمثلة ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، منها الخلاف حول غسل الرجلين أو مسحهما في الوضوء، ومنها الإسرار بالبسملة أو الجهر بها وعقد اليدين أو إسبالهما في الصلاة، ومنها تفسير الشجرة الملعونة في قوله تعالى {وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة} الإسراء 60، بأنها شجرة بني أمية (أنظر مجمع البيان للطبرسي ج3 ص 424 والتفسير الكبير للرازي ج20 ص 189).

والواقع أن لفظ الإجماع حين يرد لدى أحد علمائنا الأفاضل لا يعني الإجماع المطلق عند الأمة، بقدر مايعني إجماع جماعة بعينهم من طائفة بعينها أو من مذهب بعينه، أما ماتقوله الجماعات الأخرى في الطوائف والمذاهب الأخرى فهو “شاذ عن الإجماع¨، تماماً مثلما وصف الإمام الطبرسي تفسير عطاء لآية البقرة 216.

يبقى أن نبين أن إجماع الأمة – حتى لو كان إجماعاً فعلياً لاشذوذ يخدشه وحقيقياً لاأحد يعارضه – لايصلح أن يحتكم إليه في إثبات الصواب، ولا في إقرار الحق، وإلا فإن يهود اليوم مجمعون جميعاً على اغتصاب الأرض في فلسطين وقتل أهلها فهل هذا صواب؟

ويبقى أن نوضح أن إجماع فئة حاكمة من الأمة – قلّت هذه الفئة أم كثرت – على أمر من الأمور أو على حكم من الأحكام، إن صح في وقته فهو لايصح في جميع الأوقات والأزمنة إلى أن تقوم الساعة، أي أن الإجماع على حكم ما، ولو حصل في زمان معين فهو لايأخذ الطابع الأبدي، فإجماع الأئمة على أمر من الأمور في القرن الثاني لايلزمنا بشيء إطلاقاً تجاه هذا الإجماع. فعند الفقهاء السنة لها طابع أبدي، والإجماع له طابع أبدي أيضاً، وهذا تحنيط كامل لعقول الأمة، فلاحول ولا قوة إلا بالله. وخير مثال على هذا ما حدث على أيدي فقهاء المعتزلة أيام المأمون والمعتصم ثم ما حدث على أيدي فقهاء السنة والجماعة أيام المتوكل.

القتال عندنا – كما أشرنا سابقاً – كُرهٌ وكَرهٌ وتكليف، أما الكُره فيعني النفور التكويني والكراهية الفطرية. هذا المعنى أخذناه من قوله تعالى {كتب}، فالقتال المكتوب هنا يماثل تماماً الحيض المكتوب على بنات آدم في الحديث النبوي، أي أن كراهية القتال داخلة في جِبِلّة الإنسان ومتساوقة مع غريزة حب البقاء. وأما الكَره فيعني الجبر والاضطرار كما في قوله تعالى {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} النساء 19. وهذا المعنى لا يجوز استبعاده حين نفسر آية البقرة 216 لأن الكَره (بفتح الكاف) إحدى القراءات المأثورة التي أعتمدها السّلَمي (انظر تفسير الرازي ج6 ص 24) ولاندري لماذا استبعدها الطبرسي في مجمع البيان. وأما أنه تكليف فلأنه كالصيام في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} البقرة 183، وكالقصاص في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} البقرة 178.

ضمن هذا التعريف للقتال يسقط قول ابن عمر وعطاء من أن الآية توجب القتال على النبي وأصحابه في وقتهم فقط، بدلالة أن الكُره التكويني والكراهية الفطرية للقتال كانا حاضرين قبلهم حسب قوله تعالى على لسان نبي بني إسرائيل لقومه {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} البقرة 246، ومازالا حاضرين معهم حسب آية البقرة 216 التي نحن بصددها وسيبقيان حاضرين بعدهم حتى قيام الساعة.

ويسقط القول بأن التكليف بالقتال من فروض الكفايات بدلالة قوله تعالى {عليكم} التي لا تمنع وجوب القتال على جميع من سيأتي بعد النبي (ص) واصحابه. ولو أن قوله تعالى {كتب عليكم القتال} من فروض الكفايات كما زعموا لانسحب ذلك على الإنفاق في الآية 215 وهذا لايقول به عاقل. أما قول الإمامين المفسرين الرازي والطبرسي “والإجماع منعقد اليوم على أنه من فروض الكفايات¨ فهذا ليس فقط هراء لانقرّه ولانقبل به في ضوء تعريف الإجماع الذي أوضحناه آنفاً، بل هو افتراء مع سبق الإصرار على التاريخ من جانب وعلى الله ورسوله من جانب آخر.

إننا نسأل في الجانب الأول الإمام الرازي والإمام الطبرسي – وكلاهما من أبناء القرن السادس الهجري -: متى انعقد هذا الإجماع؟ وأين؟ ونسألهما في الجانب الثاني: لقد جبل الله تعالى خلقه على كراهية القتال والنفور منه لما فيه من مشقة من جهة وقتل وتخريب من جهة ثانية، ثم أنزل تنزيله الحكيم يكلف المؤمنين منهم في كل زمان ومكان بالقتال اضطراراً بقوله سبحانه {كتب عليكم القتال وهو كره لكم}، ثم فصل لهم في محكم كتابه العزيز نواظم وشروط هذا القتال المكروه الإضطراري، ثم عزز هذا التكليف فأمرهم بالقتال بقوله تعالى: {قاتلوا} في عشرات الآيات، فأين هي الكفائية التي زعماها في تفسير آية البقرة 216 رغم العينية الواضحة في كل هذه الآيات؟ وكأننا بالإمام الرازي يحاول الإجابة على هذه التساؤلات وهو يتحدث عن “دلالة منفصلة هي الإجماع¨ (انظر التفسير الكبير للرازي ج 6 ص 23) فنعود إلى التساؤل: وهل يجوز للأمة أن تجمع على تحويل فرض عين وضعه سبحانه على المؤمنين به في كل زمان ومكان إلى فرض على الكفاية؟ وهل يجوز لغوياً أن نعتبر (واو الجماعة) في الأمر الإلهي {قاتلوا} تخص فقط وفقط كتائب المقاتلين المتفرغين المأجورين الذين أخذوا على عاتقهم نيابة عن الأمة القيام بأعمال القتال؟ أليس هذا تأسيساً لطبقة العسكرتاريا التي حكمت في عصور المماليك والأتابكة والإنكشارية ومازالت تحكم حتى يومنا هذا في بعض الدول. كل هذا الإلتباس حصل في عدم التفريق بين آيات الرسالة وبين القصص القرآني والتي تعتبر القصص المحمدي جزءاً منه، أي أن تفاصيل أحداث معارك الرسول (ص) في بدر وأحد وغيرها هي لحينها، ومنها آية السيف والتي تؤخذ منها العبر فقط ولايؤخذ منها آية أحكام فيما يسمى بالأحكام الشرعية، فاعرف هذا.

حين تحدث الله في تنزيله الحكيم عن الفتح بقوله تعالى {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا} الفتح 1، أردف في الآيتين 2 و3 معدداً أربعة أهداف لهذا الفتح هي: المغفرة، وإتمام النعمة، والهداية، والنصر. وحين تحدث عن خلق الإنسان من ذكر وأنثى وعن جعله شعوباً وقبائل في آية الحجرات 13، استطرد مبيناً أن القصد من هذا الخلق والجعل هو التعارف، وقل مثل ذلك في عشرات الأمور والتكاليف، كالإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج وطاعة الله ورسوله، التي تنتظم أهدافها ومقاصدها تحت عنوانين رئيسين هما الرحمة والتزكية. لكنه سبحانه حين تحدث عن القتال بقوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} البقرة 216، فقد اقتصر في الآية على التكليف بأمر اضطراري مكروه هو القتال، دون أي ذكر للهدف والغاية والقصد. والسؤال الآن: هل ثمة هدف لهذا القتال يبرر القيام به رغم كُرهه وكَرهه؛ والجواب: نعم، هناك أهداف بلا ريب نجدها في التنزيل الحكيم في ثلاثة مواضع: الأول، في قوله تعالى {إِلّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} التوبة 40. والثاني، في قوله تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} البقرة 251. والثالث، في قوله تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا} الحج 40.

هناك – إذن – ثلاثة أهداف للقتال بدلالة هذه الآيات الثلاث. الأول: لتكون كلمة الله هي العليا. والثاني: صون الأرض من أن تفسد. والثالث: حفظ بيوت الله التي تقام فيها الشعائر بكل أنواعها (الصلوات) من أن تهدم.

إن تفسير آية التوبة 40 – كما رأيناه في التفاسير التراثية – نموذج يمثل تأثير الطائفية والمذهبية على فكر الإنسان وسلوكه وفهمه للنصوص قرآنية كانت أم غير قرآنية. فالآية تدور حول ثلاثة محاور. أولها هجرة النبي (ص) مع صاحبه أبي بكر الصديق، ثانيها معركة بدر، ثالثها الهدف الإلهي الذي تحقق في هذين الموقفين التصادميين. ولقد شغل المحور الأول العديد من مفسري الطائفتين، فأفردوا له عشرات الصفحات حشدوا فيها ماشاءت لهم طائفيتهم أن يحشدوه من أدلة وشواهد على فضل أبي بكر عند مؤيديه وعلى فضل الإمام علي عند شيعته. مثال هؤلاء الفخر الرازي في تفسيره الكبير (ج16 ص 50 – 56) بينما اجتنب عدد آخر منهم الخوض في هذه التفاصيل الجانبية، ومثال هؤلاء الشيخ الطبرسي في مجمع البيان(8). إلا أنهم جميعاً اكتفوا في تفسير المحور الثاني والثالث بسطر أو بعض سطر. يقول الرازي في تفسيره (ج6 ص 56): ثم قال تعالى {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} والمعنى أنه جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة وكلمة الله هي العليا، وهي قوله لا إله إلا الله..¨ أهـ. ويقول الطبرسي في تفسيره (ج3 ص32): “قوله {وكلمة الله هي العليا} أي هي المرتفعة المنصورة بغير جعل جاعل وقيل أن كلمة الكفار هي كلمة الشرك وكلمة الله هي كلمة التوحيد وهي قوله لاإله إلا الله..” أهـ.

إن أقل مايقال في هذا التفسير لمعنى (كلمة الله) هو أنه بعيد كل البعد عن الذوق اللغوي لمعاني الألفاظ في اللسان العربي عموماً من جانب. وعن معانيها في التنزيل الحكيم خصوصاً من جانب آخر. وإلا فكيف نفهم معنى (كلمة الله) في قوله تعالى {إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} آل عمران 45. وقوله تعالى {كَذَلِكَ حَقّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الّذِينَ فَسَقُوا أَنّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يونس 33؟ هل نفهم أن الله يبشر مريم بلا إله إلا الله؟ وهل نفهم أن لا إله إلا الله حقت على الذين فسقوا؟

وهل هناك مفسر للتنزيل الحكيم لايعرف أن (كلمة الله) لفظ مفرد إن نحن جمعناه على كلام دل على آيات الله في الكتاب المسطور بدلالة قوله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} التوبة 6، وإن جمعناه على كلمات دل على الوجود وقوانينه في الكون المنشور بدلالة قوله تعالى {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لامبدل لكلماته وهو السميع العليم} الأنعام 115.

إن عبارة {لاإله إلا الله} من كلام الله تعالى في تنزيله الحكيم، قد يؤمن به المتلقي وقد لايؤمن، أما كلماته وأقواله فقوانين قاهرة حقية النفاذ آمن بها المتلقي أم لم يؤمن، بدليل قوله تعالى {ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} يونس 82. ولو كانت عبارة التوحيد قولاً أو كلمة لما وجدت على ظهر البسيطة مشركاً ولا كافراً.

في ضوء هذا كله يتضح لدينا أن (كلمة الله) التي جعل الله إعلاءها هدفاً للقتال هي مجموعة ميزات أعطاها الله للإنسان العاقل ومجموعة قوانين الوجود الموضوعي الحقيقي الصادق الذي لايغش أحداً ولايكذب على أحد والتي شرحها الله له ومن خلالها تنفذ كلمة الله العليا التي أعطاها للإنسان والجن وهي الحرية وعلى رأسها حرية الاختيار للعقيدة والدين وحرية الكلمة وحرية العمل والحرية نحو السعي إلى حياة أفضل. والأحرار بشكل طبيعي يقيمون العدالة والمساواة. فإن ثالوث الحرية والعدالة والمساواة لايستقيم بدون الحرية فلايوجد عدالة ومساواة بدون حرية وأحرار، ونفهم العدالة وهي العدالة في الأحكام {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وينتج عنها المساواة، وهي المساواة في الحقوق والواجبات بين كل الناس أمام الدولة والسلطة، ولايفهم منها المساواة في الدخل، فهذا مفهوم طوباوي وهي من شأنها أن تزيل كل حوافز الإنسان للعمل وتلغي التدافع بين الناس داخل المجتمع الذي يطرح هذا الطرح. وقد طرح الحزب الشيوعي مبدأ المساواة على أساس طبقي بإلغاء الحوافز والملكية فتوقف المجتمع عن النمو والازدهار. أي أن المستبد العادل شعار وهمي بحت، لذا فقد حدد القتال في سبيل الله هو محاربة الطغيان {الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} النساء 76 فالقتال في سبيل الله هو ضد الطغيان. أما غير ذلك فهو ليس في سبيل الله. ونلاحظ هذا أيضاً في قوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنْ الغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة 256، فنرى أن {لاإكراه} يقابله الإيمان بالله، والإكراه يقابله الإيمان بالطاغوت والطاغوت جاءت على وزن فاعول كقولنا حاسوب وساطور، فالحاسوب هو الذي يحسب ويكرر العملية الحسابية، وكذلك الساطور يقطع ولكن ليس بلمسة واحدة، أي أن الطغيان عملية مستمرة ومتنوعة. ونفهم أيضاً هدف الخلق وهو العبادية وليس العبودية بقوله تعالى {وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات 56 أي ليكونوا عباداً لي وليسوا عبيداً، يطيعونني بملء إرادتهم ويعصونني بملء إرادتهم. الذي نواجه فيه مشكلة لدى المفسرين والفقهاء تشبه كثيراً ماواجهناه لديهم في فهم الجهاد حين تحول حصراً على غزو، وفي فهم الدفع والتدافع حين تحول تحديداً إلى قتال. والمشكلة في آية الذاريات 56 تكمن في أمرين دارت حولهما تفاسير المفسرين وفقه الفقهاء. أولهما: تعريفهم للعبادة بأنها أداء للشعائر من صلاة وزكاة وصيام وحج ولاشيء غير ذلك. ثانيهما: الخلط بين العباد والعبيد وبين العبادية والعبودية، وتعريفهم للعبد بأنه الرق المملوك ولاشيء غير ذلك.

ولقد أفردنا في كتابنا الثالث “الإسلام والإيمان/ منظومة القيم) بحثاً مفصلاً فرقنا فيه بين العباد والعبيد وبين العبادية والعبودية. ملخصه: أن العباد جمع مفرده عابد، ومثله (عابدون) كما في قوله تعالى: {ولاأنتم عابدون ماأعبد) الكافرون 3، ومثله أيضاً (عابدين) كما في قوله تعالى {إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين} الأنبياء 106.

وأن العبيد جمع مفرده عبد هو الرق المملوك ونقيضه الحر. والفرق بين العابد والعبد هو أن الأول يملك حرية الاختيار ثم يفعل بعدها مايريد، والثاني ليس له أن يملك وليس له أن يريد.

وأن العبادة ليست في الطاعة فقط بل هي في المعصية أيضاً بدلالة قوله تعالى {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} الزخرف 81، أي أنا أول العصاة الرافضين لرحمانيته، وبدلالة أن فعل عبد (ع ب د) هو من الفاظ التضاد عند العرب.

وأن العبادة لا تكون في المساجد والكنائس والمعابد، بل تكون في الأسواق والمعامل والمدارس، وفي الجامعات والمشافي والملاعب الرياضية. فالمسجد ليس داراً للعبادة كما هو شائع ومشهور عند علمائنا الأفاضل بل هو ماوصفه سبحانه بقوله {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لاتلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة..} النور 36، 37. ونفهم أن المسجد بيت أذن الله ببنائه للذكر والتسبيح وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذه كلها شعائر لاعلاقة لها بالعبادة، فالصلاة – مثلاً شيء والعبادة شيء آخر بدلالة قوله تعالى {إنني أنا الله لاإله إلا أنا فاعبدني واقم الصلاة لذكري} طه 14، فإقامة الصلاة في الآية معطوف على العبادة بالواو، والعطف لا يكون إلا بين المتغايرات.

وبما أن أوامر التنزيل الحكيم ونواهيه جاءت بلا إكراه، وعدم الإكراه لا يكون إلا للأحرار (العباد) لا العبيد. فإن من يقبل بها طوعاً لاكرهاً، أثابه الله على ذلك، وأن الطاعة للقوانين تأتي ضمن عقد بين الدولة والناس هو الدستور أو النظام الأساسي. فكلمة الله هي السفلى عندما يساق الناس إلى المساجد والصلوات سوقاً، أو يمنعوا عنها كرهاً. وكذلك عندما تُحجّب النساء بالإكراه أو يُنزع عنهن الحجاب بالإكراه، فكلمة الله هي السفلى.

ولقد فهم الصحابة هذا الفرق بكل دقة. إذ يروى عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلاً لايفارق المسجد ويقوم آناء الليل وأطراف النهار متعبداً، فسأل: ومن أين يأكل؟ فقيل: له أخ يسعى في رزقه ورزق عياله. قال عمر: إن أخاه لأعبدُ منه. ومن هنا نفهم أن العبادية هي حرية الإختيار بين الطاعة والمعصية. وأن العبودية حالة غير مطلوبة أصلاً، ولا تكون إلا لغير الله. فهنا نفهم أن العبادية هي الكلمة التي سبقت لأهل الأرض من الإنس والجن معاً {وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي ليطيعونني بملء إرادتهم ويعصونني بملء إرادتهم، وبالتالي فهم ليسوا عبيداً بل عبادٌ، وأن الجهاد والقتال في سبيل حرية الاختيار عند الناس وعلى رأسها اختيار العقيدة هما جهاد وقتال في سبيل الله.

ننتقل الآن إلى الهدف الثاني من القتال في الآية 251، وهو صون الأرض من الفساد.

يقول الإمام الطبرسي في مجمع البيان: “قيل فيها ثلاثة أقوال. أحدها، لولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار لغلبوا وخربوا البلاد (عن ابن عباس ومجاهد) والثاني، معناه يدفع الله بالبَرّ عن الفاجر الهلاك (عن علي وقتادة وجماعة من المفسرين)(9) والثالث، أن في معنى قول الحسن “يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن لأن من يمتنع عن الإفساد خوفاً من السلطان أكثر ممن يمتنع عنه لأجل الوعد والوعيد في القرآن” أهـ (انظر مجمع البيان ج1 ص 357).

ويقول الإمام الرازي: “إعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع في قوله {ولولا دفع الله الناس بعضهم} وذكر المدفوع به في قوله: {ببعض} أما محل الدفع وموضوعه فغير مذكور في الآية. ويحتمل أن يكون الشرور في الدين أو الشرور في الدنيا أو مجموعهما معاً. وتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر أو إلى الفسق أو إليهما معاً¨ (انظر التفسير الكبير ج6 ص 161 وما بعدها).

ثم يمضي الرازي مفصلاً بإسهاب خمسة احتمالات لمعنى الآية، من بينها ثلاثة وردت عند الطبرسي وسماها أقوالاً هي الأول والثاني والرابع:

  • الاحتمال الأول: دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب بعض.
  • الاحتمال الثاني: دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب بعض.
  • الاحتمال الثالث: دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج والفتن بسبب بعض.
  • الاحتمال الرابع: دفع الله بالمؤمنين الأبرار عن الكفار الفجار.
  • الاحتمال الخامس: أن يكون الدفع محمولاً على الكل.

ما يهمنا منها قريباً من فهمنا للآية هو الاحتمال الثالث. يقول الرازي: “واعلم أن الدافعين في هذا الاحتمال هم الأنبياء ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم. وتقريره أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه مالم يخبز هذا لذاك ولايطحن هذا لذاك ولاينسج هذا لذاك ولا يبني هذا لذاك لاتتم مصلحة الإنسان. ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد. إلا أن هذا الاجتماع يسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولاً والمقاتلة ثانياً، ولابد في الحكمة الإلهية من شريعة بين الخلق تكون قاطعة للخصومات والمنازعات. واعلم أنه لابد في تنفيذ الشريعة من الملك، ولهذا قال (ص): “الإسلام أمير، والسلطان حارس. فمن لاأمير له منهزم، ومالا حارس له ضائع¨ ولهذا يدفع الله عن المسلمين أنواع الشرور والفتن في الدنيا بسبب شرائع الأنبياء وبسبب نصب الملوك وتقويتهم، ومن قال بهذا القول قال في تفسير عبارة (لفسدت الأرض) أي لغلب على أهلها القتل والمعاصي¨ أهـ. (أنظر التفسير الكبير ج6 ص 162).

إن المتأمل في آية البقرة 251 يجد نفسه أمام محورين: الأول يجسده قوله تعالى {دفع الناس بعضهم ببعض} والثاني يجسده قوله تعالى {لفسدت الأرض}، تربط بينهما علاقة امتناع لوجود يجسدها حرف (لولا) تقرر أن وجود الدفع يمنع وجود الفساد.

أما المحور الأول فيصف فيه تعالى التدافع بين الناس في المجموعات الإنسانية بأنه تدافع فطري أوجده سبحانه في طبيعة الإنسان كمخلوق اجتماعي بدلالة أنه نسبه في الآية لنفسه بقوله {ولولا دفع الله الناس} والناس هنا اسم الجنس. وإنما فهمنا من الدفع في الآية بأنه تدافع من قوله تعالى {بعضهم ببعض}، لأن الدفع أصل الفعل فيه ثلاثي متعدٍ (د ف ع) يحتاج إلى فاعل ومفعول به، أما التدافع فأصل الفعل فيه رباعي لازم طرفاه فاعلان ومفعول بهما في الوقت ذاته، الطرف الأول (بعضهم) والطرف الثاني (ببعض). ولقد لاحظ الرازي أن محل التدافع وموضوعه غير مذكور في الآية، لكنه وهو يعتبر التدافع الفطري دفعاً، والدفع قتالاً، فقد أضاع الخيط الذي يقوده إلى فهم الآية. لأن القتال موقف تصادمي مشخص على وجه الحقيقة يحكمه العنف ويحتكم فيه للسلاح، ولا يكون إلا في ساحات المعارك. وقد يقع – على الأغلب – ضحايا من قتلى أو جرحى، أما التدافع فشيء آخر تماماً نجده في المشافي والمستوصفات وعيادات الأطباء بين الصحة والمرض وبين غريزة البقاء وعوامل الفناء، ونجده في الأسواق والمتاجر بين البائع والمشتري متمثلاً بالمساومة على الأسعار، وتجده في الملاعب الرياضية بمختلف أنواعها بين المتبارين المتنافسين على الكؤوس والجوائز، ونجده في قاعات المحاكم ومجالس القضاء بين المتخاصمين والمتنازعين حيث السلاح هناك أدلة وبراهين وليس سيوفاً ومسدسات، وتجده في معاهد البحث العلمي والجامعات بالتنافس ومن شركات الإنتاج لمختلف السلع بالتنافس والدعاية، ونجده على أعلى مستوى في السياسات الداخلية في التدافع بين الأحزاب، وفي المستوى الدولي في التدافع بين الدول على الأسواق، وما مؤسسة التجارة العالمية إلا لتنظيم هذا التدافع. نعم، قد يتحول التدافع إلى قتال بين متحاربين في حالات وظروف خاصة تجتمع فيها شروط سنفصلها لاحقاً، ومعظم الحروب بين الدول وقعت من أجل هذا التدافع وهو تناقض المصالح الذي لم يمكن حله سلمياً، وما الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلا لتنظيم هذا التدافع كي لايصل إلى مرحلة الحرب. لكن القتال – إن وقع بعد اكتمال شروطه – يؤدي إلى دمار الأرض وخرابها وليس إلى فسادها فقط حسب منطوق آية البقرة 216، الأمر الذي يؤكد ماذهبنا إليه من أن الله يتحدث في الآية عن التدافع كما شرحناه وليس عن القتال كما وهم المفسرون. من هنا نفهم أن قوله تعالى {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} الحج 38، لا يعني مطلقاً أن الله يقف في وجه أعداء الذين آمنوا ويحمل السيف في المعارك دفاعاً عن المؤمنين به، بل يعني أنه معهم – مجازاً دون تشخيص ولا تجسيد لهذه المعية ضمن حيز مكاني بعينه – في خندق واحد دعماً وتأييداً ونصرة.

وأما المحور الثاني في قوله تعالى {لفسدت الأرض} فيصف ماكانت ستؤول إليه الحال لولا التدافع بين الناس في مختلف مجالات الحياة المادية ومصالحها الدنيوية. والعبارة في هذا المحور مجازية، إذ الأرض بذاتها على الحقيقة لاتفسد، قد تتفسخ تربتها وقد تتصحر، وقد تجف ينابيعها أو تثور براكينها لكنها لاتفسد. والمقصود بالأرض في العبارة الكون بوجوده المادي كله والعالم بأكمله بدلالة قوله تعالى في خاتمة الآية {ولكن الله ذو فضل على العالمين}. في ضوء هذا كله يصبح معنى آية البقرة 216: لولا تدافع الناس في مجالات الحياة، الذي أوجده سبحانه تكوينياً عند خلقه لفسدت المصالح المادية لأهل الأرض في الكون، واختلت بذلك وجوه التعارف والتعايش والتنافس بين المجموعات الإنسانية. ونرى هذا بشكل واضح كيف فسد المجتمع والإقتصاد السوفياتي عندما ألغى التدافع على المنافع المادية بإلغاء الملكية الخاصة والتنافس. وهكذا نفهم أن التدافع عندما يصل إلى مرحلة القتال فهو لا يكون إلا بين الدول، لذا فإن الحروب التي تحصل نتيجة اتدافع هي بين دول وبين حكومات وشعوب، لابين أفراد أوأمم أو قوميات، وفي حالة الاضطهاد القومي، فالقتال يحصل من أجل الحرية ظاهراً لامن أجل المصلحة، علماً بأن المصلحة هي الكامنة وراء الحرب دائماً، والعدالة والمساواة أيضاً فيها مصلحة لكل الشعوب.

نأتي الآن إلى الهدف الثالث والأخير من القتال كما ورد في آية الحج 40، وهو حفظ بيوت ذكر الله من أن تهدم. وإذا كان الهدف الثاني السابق المذكور في آية البقرة 251 يتحدث عن أهمية دور التدافع بين الناس في كل مجالات الحياة – الذي قد يصل أحياناً إلى حد التصادم والتقاتل في الحفاظ على المصالح الدنوية المادية لأهل الكون من أن تفسد، فإن آية الحج 40 تتحدث عن أهمية هذا الدور ذاته في الحفاظ على بيوت ذكر الله بمختلف أشكالها من الهدم، وبالتالي في الحفاظ على المصالح الأخروية الروحية من أن تتعرض للأذى.

ولنتصور أن المسلمين المؤمنين أتباع الرسالة المحمدية صاروا أقوى قوة في العالم ونشروا الدعوة بالقوة كما حصل سابقاً ابتداء من العهد الأموي بحيث أصبحت كل الملل والأديان أقليات في العالم، فسوف يتم هدم كل دور العبادة الأخرى من مسيحية ويهودية وبوذية وهندوسية..إلخ. وكذلك الحال بالنسبة للمسيحيين وبقية الملل. ونلاحظ أن النظام الشيوعي في الصين – مع أنه دولة ملحدة علناً – لم يهدم دور العبادة البوذية في التيبت، ليس احتراماً لها بقدر ما هو خوف وحساب غضب بقية شعوب العالم ودولها، وهنا نفهم قوله تعالى {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس 99، أي أن دعوة الناس إلى الإيمان واعتناق الرسالة المحمدية لا يمكن أن يكون بالإكراه ولا يجوز أن يكون كذلك، وإنما سنة الله بأن يكون هناك مؤمنون (أتباع محمد (ص) ونصارى ويهود ومجوس وبوذيون وهندوس .. إلخ، أما الإسلام فيقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر ورأسه التوحيد فقط.

ولاشك في أن هناك خيوطاً تربط بين الأهداف الثلاثة بعضها مع بعض، حتى لكأنها وحدة واحدة يكمل كل منها الآخر. ففي الهدف الأول تحدثت آية التوبة 40 عن أن الغاية من كل موقف تصادمي قتالي إذا كان في سبيل الله فهو إعلاء لكلمة الله في الحرية والعدل والمساواة وكلها في سبيل عبادية الناس لله، لاعبودية الناس لله ولا لغيره. ثم جاءت آية البقرة 251 لتبين أن المواقف التصادمية للمصالح المادية في الكون قد لاتصل إلى المستوى القتالي بل تبقى في حيز التدافع بين الناس، ولتقرر أن هذا التدافع فطري مقبول على ألا يؤدي إلى فساد مسيرة الحياة بمختلف مجالاتها المادية. ثم تلتها آية الحج 40 لتكفل حرية العقيدة ولتمنع هدم بيوت ذكر الله سواء بإحراقها وتخريبها في حال التصادم القتالي أو بالصد عنها ومنع أهلها من عمارتها في حال التصادم التدافعي. ولكن في التدافع إن حصل قتال، فهو ليس في سبيل الله. وقد يكون مشروعاً حفاظاً على المصالح. وكما قلت هو قتال بين الشعوب والدول عماده الأساسي الجيوش والحرب العالمية الأولى والثانية هي خير مثال على بلوغ التدافع حد الحروب العالمية مما أدى إلى تغيير الخارطة السياسية للعالم، ولاعلاقة لأية عقيدة أو دين لهذه الحروب، أي أن مفهوم الحرب على أساس أممي غير وارد، وإن حصل فهو غير ناجح. فالشيوعية طرحت النضال والثورة الأممية واعتبرت الطبقة العاملة أمة فأهدرت الأنفس وفشلت في الشعار وفي التطبيق حيث ألغت التدافع الداخلي بين أفراد الشعب الواحد.

ثمة أمر في غاية الأهمية تجدر الإشارة إليه. هو أنه كما لا يجوز عموماً قراءة آيات التنزيل الحكيم مقطوعة عن سباقها وعن سياقها، كذلك لا يجوز خصوصاً قراءة آيات القتال بعيداً عن أهدافه التي شرحناها وعن شروطه التي سنشرحها لاحقاً. ولعل أوضح مثال على مانقول هو في الآيات التالية من سورة الحج:

  • {إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنْ الّذِينَ آمَنُوا إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ} الحج 38.
  • {أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} الحج 39.
  • {الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ إِلّا أَنْ يَقُولُوا رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ} الحج 40.
  • {الّذِينَ إِنْ مَكّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} الحج 41.

آ – يصعب كثيراً – إن لم نقل يستحيل – فهم عبارة {إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنْ الّذِينَ آمَنُوا} في الآية 38، بعيداً عن عبارة {وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ} في الآية 40، لتمييز الفرق بين الدفع والتدافع.

ب – ويصعب كثيراً – إن لم نقل لا يمكن – فهم عبارة {وأن الله على نصرهم لقدير} في الآية 39، مسلوخة عن عبارة {ولينصرن الله من ينصره} في الآية 41.

ج – ويتعذر كثيراً ملاحظة عمومية عبارة (أقاموا الصلاة) ومكانها عند أهل الأرض بمختلف مللهم في الآية 41، مقطوعة عن (الصوامع والبيع والصلوات والمساجد) المذكورة في الآية 40. أي إذا مكن الله الناس في الأرض، فإشارة هذا التمكين هي إطلاقهم حرية العقيدة والشعائر الدينية بمختلف أنواعها.

د – كما يصعب أخيراً الاهتداء إلى معنى التدافع في عبارة {ولولا دفع الله الناس} في الآية 40، معزولة عن عبارة {بعضهم ببعض} في الآية نفسها.

هـ – المقصود بكلمة (مساجد) في الآية 40، هو الأماكن المخصصة للصلاة عند المؤمنين أتباع محمد (ص)، بدلالة ذكر أماكن الصلاة عند الملل الأخرى. وهذا غير معنى المساجد في قوله تعالى {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} الجن 18، الذي نفهمه على عموميته بدلالة قوله تعالى {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض} الحج 18.

إننا ونحن نوصي قارئ التنزيل الحكيم ابتغاء فهمه بأن لايغفل عن السباق والسياق، وبأن ينتبه إلى لواحق الفعل لكي يفهم المعنى فقولنا (فرض له) غير قوله: (فرض عليه)، وبأن يلاحظ أن معنى اللفظ الواحد يختلف من عبارة إلى أخرى. فالذكر – مثلاً – يعني التنزيل الحكيم في قوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} الحجر 9، لكنه يعني علو الشأن ورفعة الصيت في قوله تعالى {ورفعنا لك ذكرك} الشرح 4. والسماء – مثلاً – تعني كل ماعلانا في قوله تعالى {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} الرعد 2، لكنها تعني المطر في قوله تعالى {وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} الأنعام 6. إننا ونحن نفعل ذلك كله، إنما ننظر إلى المزالق التي قاد الأمة إليها مفسرون وفقهاء أهملوا ماكان عليهم الالتزام به، وتركوا ماكان عليهم التقيد به، فجاء تفسيرهم وفقههم مطابقاً لمناخ الاستبداد لترسيخ ثقافة القطيع والدونية أمام التراث وأهله والتي هي من أسوأ أنواع العبودية، ومخالفاً لآيات القتال تخصيصاً.

شروط القتال وأسبابه الموجبة:

قلنا أن للقتال أهدافاً ثلاثة شرحناها وأشرنا إلى الخيوط التي تربط واحدها بالآخر. لكن للقتال قبل هذه الأهداف شروطاً وأسباباً موجبة لا يجوز أن يجري إلا في حال وجود واكتمال أحدها. أما الأسباب فنجدها في الآيات التالية:

  • وقوع الظلم: طبقاً لقوله تعالى {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} الحج 39.
  • وقوع الإخراج من الديار: طبقاً لقوله تعالى {الذين أخرجوا من ديارهم بغير الحق} الحج 40.
  • وقوع اعتداء خارجي أو داخلي على الأنفس أو الأموال أو الأعراض أو الحريات بكل أنواعها (حرية العمل والكسب والتجارة والتنقل/ حرية التعبير/ حرية العقيدة/ حرية الشعائر الدينية) طبقاً لقوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل مااعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} البقرة 194.

يلحظ المتأمل في هذه الأسباب الثلاثة أن أولها وأهمها هو الظلم، فما هو الظلم؟

الظلم: بمعناه اللغوي العام هو وضع الشيء في غير محله، فهو بهذا خلاف العدل والإنصاف كما في قوله تعالى {وما الله يريد ظلماً للعالمين} آل عمران 108. والظلم: الغبن وإنقاص الحق كما في قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} الكهف 33.

والظلم: العدوان على حدود الله، بدلالة قوله تعالى {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} البقرة 299. والظلم: العصيان والخروج على أوامر الله، بدلالة قوله تعالى {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} الأعراف 165.

والظلم – أخيراً – يشترك في معناه مع عدد من المفردات الأخرى كالبغي والطغيان والاستكبار، بدلالة عشرات الآيات في التنزيل الحكيم لاتخفى على قارئه. وهذا هو الظلم الذي أشار إليه تعالى في آية الحج 39، كشرط وسبب، إن وقع وجب الجهاد ثم القتال على المظلوم سواء قاتله الظالم أم لم يقاتله والبداية دائماً سلمية، إلى أن يتحقق الهدف الذي رسمه تعالى للجهاد وللقتال إن كان في سبيل الله والمتمثل بقوله تعالى {لتكون كلمة الله هي العليا} فيسقط الظلم وتعلو كلمة الله في الحرية والعدل والمساواة ورفع الإكراه عن كل الناس بغض النظر عن قناعاتهم وعقائدهم ومللهم، ولاعلاقة لفتح البلاد بهذا لامن قريب ولا من بعيد. وبغض النظر أن الظالم من أتباع الرسالة المحمدية أم من غيرهم. وصدق من قال: “خير للناس من أن تعيش في ظل حاكم كافر عادل، من أن تعيش في ظل حاكم مؤمن مستبد ظالم لأن كفره على نفسه وعدله للعباد!! ولكن ثقافتنا الموروثة تقول (إن كان الحاكم ظالماً فعليه الوزر وعليك الصبر وإن كان عادلاً فله الأجر وعليك الشكر) وتقول أيضاً (سلطان تخافه الرعية خير للرعية من سلطان يخافها) وفي الدول غير الإسلامية نرى أن السلطان يخاف من الرعية إذا خالف القانون وفرق المساواة بين المواطنين.

سيصيح بنا المستنكرون من فقهاء استعمال العنف على أساس أن غير المؤمنين كفار ومشركون: فإن الشرك ظلم بدلالة قوله تعالى على لسان لقمان {يابني لاتشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} لقمان 13، والكفر بآيات الله الواضحات ظلم بدليل قوله تعالى {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} الإسراء 59. فلماذا لا يجوز عندك الابتداء بقتال المشركين والكفار لنشر الدعوة إلى التوحيد؟

ونجيب هؤلاء بكل هدوء:

أولاً، الشرك بالله كما في آية لقمان 1، والكفر بآيات الله إنكاراً وتغطية وجحوداً كما في آية الإسراء 59، ظلم للنفس وليس للغير، بدلالة قول آدم وزوجه {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} الأعراف 23. أما الظلم الذي اشترطه تعالى لوجوب القتال في آية الحج 39، فهو ظلم وقع من ظالم على آخرين بأن حرمهم من الحرية وعلى رأسها حرية اختيار العقيدة التي يشاء.

ثانياً، الإيمان بالله أو الكفر به موقفان ترك سبحانه للإنسان الواعي حرية اختيار أحدهما بملء إرادته ومشيئته، بدلالة قوله تعالى {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} الكهف 29. ويؤكد فهمنا هذا قول الله تعالى لنبيه الكريم {واصبر على مايقولون واهجرهم هجراً جميلا * وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا} المزمل 10 و11. فإن نحن أبحنا قتال الناس لحملهم على الإيمان سقطت كلمة الله العليا في آية الكهف 29 التي تضمن للإنسان حرية العقيدة بوضوح لاخلاف فيه.

ثالثاً، لقد نهى تعالى نبيه الكريم عن إكراه الناس على الإيمان في قوله تعالى {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس 99، أي ممنوع تماماً نشر الإيمان (الإسلام حسب قول الفقهاء) بالقوة، فكيف يجوز في ضوء هذا الاستنكار الإلهي للإكراه أن تحتكم للسيف في الدعوة إلى سبيل الله مسقطين بذلك قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل 125.

رابعاً، لقد نهى سبحانه عباده المؤمنين – إذا هم ضربوا في سبيل الله – عن اعتماد معيار الكفر والإيمان في التعامل مع الخلق، سواء أكان هذا الضرب قتالاً أم سعياً للرزق أم طلباً للعلم، وذلك في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولاتقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً} النساء 94. فكيف نبيح في ضوء هذا النهي الإلهي أن نقاتل المسالمين من الناس فنقتلهم بحجة أنهم كفار يرفضون الهدى؟ ونحن نعلم تماماً طبقاً للثقافة الموروثة من التراث بأن معظم المسلمين المؤمنين لايقومون بذلك لا لأنهم لا يريدون، بل لأنهم لايستطيعون ذلك، ولو استطاعوا لفعلوا ذلك بالقوة على أساس أنه جهاد في سبيل الله على ضوء تعريف علمائنا الأفاضل.

إن وقوع الظلم لايبيح للمظلوم قتال الظالم فقط طبقاً لآية الحج 39 بل يعفيه أيضاً من الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن بدلالة قوله تعالى {لايحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليما} النساء 148. ولايعتبره معتدياً في حال رد الظلم، الذي ورد في عدة مواضع من التنزيل الحكيم منها قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لايحب المعتدين} البقرة 190، فيقول سبحانه {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} البقرة 193.

فإذا تأملنا السياق في آيات البقرة 190 – 193 وجدناها تنهى عن قتال من لايقاتل، وتنهى عن قتال المنتهي المتوقف عن القتال، وتنهى عن البدء بالعدوان وعن الاستمرار في الاعتداء، وتعلن أن الله لايحب المعتدين، لكنها تختم ذلك كله في نهاية الآية 193 بعبارة (فلا عدوان إلا على الظالمين) ونفهم بدلالة أداة الحصر (إلا) أن جميع ماسبق من نواهٍ، بما في ذلك من نهي عن الابتداء بالقتال، مستثنى في حال وقوع ظلم ووجود ظالمين، وأن قتال الظالم ليس عدواناً بعد استنفاد كل الوسائل السلمية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والنبي (ص) بدأ بقتال الظالمين بعد 13 عاماً من الظلم وتحمل الأذى والظلم كان عدم ترك حرية الاختيار للناس بسماعه، وكان وجهاء مكة يفتنون الناس عن الدين الجديد (التعذيب). أي هناك ظالم يقمع ويعذب ويقتل، وضحايا تُقتل وتُعذب لمدة كافية من الصبر على ذلك لرد الأذى، حتى وصل الأمر إلى الإخراج من الديار والهجرة (الهروب).

لقد ذهبت قلة من الفقهاء إلى إنكار واستنكار القتال، ناظرين إلى آيات النهي عن الاعتداء والعدوان ومنزهين الله ورسوله عن أن يرضيا للخلق ديناً يبيح العدوان، وذهبت كثرة منهم إلى القول به وإقراره في مجال الدعوة إلى الإسلام ونشره، ناظرين إلى قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} التوبة 5 (المشهورة عند القائلين بالنسخ باسم آية السيف)(10). علماً بأن هذه الآية نص تاريخي يتبع القصص المحمدي. لكنهم جميعاً لم يفرقوا بين الجهاد والقتال، ولا بين الفتح والغزو، فكانت النتيجة أنهم حولوا النبي (ص) من مقاتل هدفه إعلاء كلمة الله العليا في العدل والحرية والمساواة إلى غازٍ يهاجم المسالمين في عقر دارهم دون إنذار مسبق كلما أمكنته الظروف من ذلك حسب قول الإمام الشوكاني في كتاب “السيل الجرار¨. وكانت النتيجة أن الغازي الذي يغير على الآمنين لينهب أموالهم ويأسر نساءهم وأطفالهم تحول إلى بطل يستحق المدح. مثال ذلك قولهم عن هارون الرشيد مفاخرين: كان يحج عاماً ويغزو عاماً. علماً بأن جهاد النبي (ص) وقتاله يختلف تماماً {أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا}. ونرى أن الثورة الأمريكية جاءت رداً على الظلم البريطاني، وكذلك الثورة الفرنسية والثورة البلشفية، وسوف نقارن في مكان آخر من هذا الكتاب بين الثورات الكبرى في العالم وبين الدعوة المحمدية من حيث تأسيس الدولة واستعمال العنف.

لقد كان بإمكاننا أن نوفر على أنفسنا المشقة، وعلى غيرنا الوقت الضائع في البحث عن جواب سؤال يقول: متى ولماذا بدأ القول بالنسخ والترادف، ومتى ولماذا بدأ تحريف كلام الله عن مواضعه بابتداع معانٍ اصطلاحية للألفاظ بديلة عن معانيها الأصلية، ومتى ولماذا تحول الأب إلى والد والوالد إلى أب، وتحول الشهيد إلى قتيل في ساحة المعركة والقتيل إلى شهيد، وتحول الجهاد إلى قتال والقتال إلى جهاد، وتحول القتال إلى غزو وقتل والغزو والقتل إلى قتال، وتحول الدفاع عن النفس والمال والأهل إلى قتال في سبيل الله والقتال في سبيل الله إلى دفاع وغزو وفتوحات.

وكان بإمكاننا – بعد أن ثبت لدينا تاريخياً أن ذلك كله حصل منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً على يد فقهاء التخريجات في قصور الاستبداد – أن نتمثل بقوله تعالى {تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ولاتسئلون عما كانوا يعملون} البقرة 134، لولا أن علماءنا الأفاضل – أحفاد فقهاء الاستبداد الأوائل – يصرون انطلاقاً من قدسية التراث وعصمة أهله – على حمل الأمة على الالتزام بحرفيته باعتباره من مراجع التشريع عندهم، ولايقل في المرتبة عن التنزيل الحكيم وصحيح السنة، تحت طائلة الحكم على المخالفين بالخروج عن الملة وبالحرمان من الجنة، وبالقتل حيناً وبالنفي حيناً وبمصادرة الأموال وطلاق الزوجات أحياناً أخرى، مدعومين بجنود فراعينهم لتنفيذ ذلك كله إذ ليس أثقل على أي فرعون مستبد من كلمة الله العليا في الحرية لكل الناس والعدالة لكل الناس والمساواة بين أهل الأرض، الأمر الذي أرعب كثيرين على مر العصور ومنعهم من قول كلمة الحق للفراعين فأصبحوا هامانات التسلط والوصاية.

من هنا كان لابد من قراءة معاصرة لكتاب الله تعالى ولكتب الحديث النبوي ولكتب التاريخ والأخبار، بعيداً في الأول عن افتراءات المفسرين وشطحاتهم وإسرائيلياتهم المدسوسة، وبعيداً في الثاني والثالث عن التعصب المتطرف للمذهب والطائفة وعن تسمية الأشياء بغير أسمائها وتوظيفها في أغراض سلطوية على غير ماينبغي.

ومن هنا كان لابد من التفريق – نظرياً – بين الأب والوالد لنصل – عملياً – إلى حل صحيح لمشكلة ميراث الجد والجدة. ومن التمييز بين الإسلام والإيمان لنصل إلى رؤية صحيحة لعلاقة أتباع الرسالة المحمدية بأتباع الرسالات والملل الأخرى. ومن التفريق بين الأولاد والأبناء لنصل إلى فهم أفضل لمسألة التبني. ومن التمييز بين محمد الرجل ومحمد النبي ومحمد الرسول لنتبين موضع الأسوة التي أمرنا بها تعالى. ومن التفريق بين العباد والعبيد لنتمكن من تحديد مواضع التسيير ومواضع التخيير التي تحكم السلوك الإنساني الواعي، ولنعرف في أيها هو مسير مجبور وفي أيها هو مخيّر حر، تمهيداً لتعريف كلمة الله العليا في الحرية.

ومن هنا – أخيراً – كان لابد من إعادة قراءة دقيقة ومتأنية لمفهوم الشهادة والشهيد كما ورد في التنزيل الحكيم بعيداً عن تفسير المفسرين وفقه الفقهاء، وكان لابد من عودة واعية لأحكام القتال في الإسلام أهدافاً وأسباباً وشروطاً، كما رسمها سبحانه في محكم كتابه العزيز، لنستطيع بالتالي أن نحدد موقفنا الصحيح كمؤمنين من حركات وتنظيمات مسلحة تنشر الموت والدمار في الشوارع والأسواق وفي المدارس والجامعات وفي المساجد والكنائس والمعابد تارة تحت شعار مقاومة الاحتلال. وتارة تحت عنوان الصحوة الإسلامية، وتارات تحت راية الجهاد في سبيل الله، وتارة تحت حاكمية الله، وتارة تحت شعار تطبيق الشريعة.

لقد رأينا كيف أسهم تفسير المفسرين وفقه الفقهاء منذ العصر الراشدي في رسم عقيدة قتالية لدى الأفراد والجماعات. تجسدت لدى الأفراد بالموت في أرض المعركة طلباً للشهادة – بمعناها الاصطلاحي – ونيل الجنة، ولدى الجماعات – أي الجيوش – بغزو المشركين والكفار في عقر دارهم ولو لم يصدر عنهم عدوان. وتمحورت هذه العقيدة القتالية في اتجاه واحد أعرج هو الظلم الواقع من الاحتلال الخارجي، أما ظلم الاحتلال الداخلي، ونعني به ظلم سلاطين القمع وأمراء الاستبداد، فلم نسمع أحداً من علمائنا الأفاضل، لافي الماضي البعيد ولا في الماضي القريب ولا في الحاضر المعاش، دعا الأمة المظلومة إلى القتال رفعاً للظلم وإعلاء لكلمة الله العليا في الحرية والعدل والمساواة وقد سبقتنا في هذا أمم لاعلاقة لها بالرسالة المحمدية. والتاريخ يحدثنا عن مثالين يؤكدان صحة مانقول. الأول عن العز بن عبد السلام (677 – 760 هـ) الذي كان يدعو الله على منبر الجامع الأموي الكبير بدمشق لأمراء المماليك وعلى رأسهم السلطان الأشرف، ويدعو الناس إلى طاعتهم، في الوقت الذي كان فيه هؤلاء وجنودهم يبيعون الأسلحة والمؤن للقوات الصليبية الغازية ويطلقون يد مشايخهم في التحكم بأمور الخلق ومصائرهم، نذكر منهم الملك الظاهر بيبرس وشيخه خضر العدوي¨. لقد عرف التاريخ الإمام العز بن عبد السلام بقتاله على رأس عامة الشعب في دفع عدوان الصليبيين وظلمهم، لكنه لم يسجل له سطراً واحداً في التصدي لطغيان المماليك وجورهم. والثاني عن صدام حسين في العراق، فقد حكم الرجل وأبناؤه وأنصاره العراق على مدى أكثر من ربع قرن، مارسوا خلالها أبشع أنواع الظلم والجور، إذ شاع على أيديهم القتل الفردي والجماعي دون محاكمة، والقتل ظلماً، ونهب الأموال العامة بغير حق، وفشا على أيديهم التمييز العرقي ببطشهم بالأكراد والتمييز الطائفي بقتل وتشريد وتهجير الشيعة والأكراد والتمييز ظلماً، ومع ذلك لم يتذكر علماء العراق ومشايخه قول الله تعالى {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} إلا حين داست أحذية الغزاة الأمريكان والبريطانيين رقاب الناس في بغداد والبصرة والموصل وكركوك. وكانوا قبل ذلك يسبحون بحمد الطاغية ويدعون له على المنابر بطول العمر، تماماً كما فعل العز بن عبد السلام مع طغاة المماليك في دمشق، مستندين إلى حديث نبوي مشهور عندهم ينسبونه إلى حذيفة بن اليمان أن النبي (ص) قال له: “إسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك¨، وعلى قاعدة فقهية مشهورة عندهم قررها الهامانات وجنودهم تقول: “الطاعة لذي الشوكة¨ أو “الطاعة لذي الغلبة¨ وبهذا أعطوا الشرعية لحكم العسكرتاريا المملوكية ومابعدها وللإنقلابات العسكرية عندما يصدر البلاغ رقم واحد.

ولكي لايأتي بحثنا هذا بحثاً تاريخياً مسلوخاً عن الحاضر المعاش في عصرنا الراهن، نقتطف فيما يلي ثلاث فقرات بقلم كتاب معاصرين، ثم نحاول تحليلها وقراءة مابين سطورها لإلقاء بعض الضوء على ماذهبنا إليه في الصفحات السابقة.

1 – يقول الشيخ محمود شلتوت(11) على ص 540 من تفسير الأجزاء العشرة الأولى من التنزيل الحكيم: “إن سبب القتال ينحصر في: رد العدوان، وحماية الدعوة، وحرية الدين، وتطهير الأرض من الطغيان والمظالم¨ أهـ.

إن مايعتبره الشيخ في فقرته سبباً للقتال هو – في حقيقة الأمر – هدف وغاية. ولقد أشرنا في صفحات سابقة إلى أن للقتال سبباًُ ذكرته آية الحج 39 هو الظلم، وهدفاً ذكرته آية التوبة 40 هو إعلاء كلمة الله في الحرية والعدل والمساواة. والخلط المقصود بين الأسباب والأهداف في مسألة القتال، ومثله الخلط المتعمد بين الأسباب والمناسبات في مسألة النزول، له متواليات ونتائج تخرج بالمسألتين عن المقاصد الإلهية التي رسمها لهما تعالى في تنزيله الحكيم. فكما أن تسمية مناسبات النزول أسباباً تحول النص التاريخي في التنزيل الحكيم وخاصة القصص المحمدي إلى أحكام شرعية مع أنه يدخل في النبوة، لافي الرسالة. كذلك تسمية الأهداف الأربعة للقتال أسباباً يحول الكون إلى ساحة معارك دائمة ويخرج بالقتال عن كونه ظرفاً عارضاً، فيسقط بذلك هدف التعارف والتعايش المنصوص عنه في آية الحجرات 13.

والشيخ في فقرته لايقتصر على تسمية الأشياء بغير أسمائها بل يوجز التعاريف إيجازاً مخلاً بحيث يجعلها قابلة للتأويل على أكثر من وجه واحد. فقوله: (رد العدوان) يعني به: التصدي لقتال الغزاة القادمين من الخارج. وهذا النوع من القتال لايحتاج إلى إذن من الله تعالى ولا إلى وحي سماوي لأنه غريزة فطرية لدى البشر والحيوانات والنباتات. إذ ليس في الدنيا جحر ولا وكر ولا عش ولا عرين يتعرض للعدوان إلا ويتصدى صاحبه للدفاع عنه. وقوله: (حماية الدعوة) يعني به: حماية الدعوة الإسلامية ورجالها وعلمائها. بدليل أن دعوات التنصير والتهويد غير مشمولة بهذه الحماية عند الشيخ إن لم نقل إن العدوان عليها بالمنع والتضييق مباح ومطلوب عنده. أما قوله: (حرية الدين) فيعني به: حرية الدين الإسلامي خصوصاً وليس حرية العقيدة عموماً. أي أن الأقباط(12) واليهود والبوذيين وغيرهم غير مشمولين بحرية الأديان. وأما قوله: (تطهير الأرض من الطغيان والمظالم) فيعني به: تطهير الكون من الشرك والكفر. أما صور الظلم الأخرى التي كانت تمارسها علناً حكومة عبد الناصر البوليسية من مداهمة البيوت ومصادرة الأموال واعتقال المعارضين وتعذيبهم في المعتقلات وملاحقة أبنائهم وبناتهم وإخوتهم وأخواتهم وأخوالهم وأعمامهم وأصهارهم بلا ذنب ولا جريرة، فلا يمكن أن تخطر للشيخ على بال.

2 – يقول سيد قطب(13) بكتابه “معالم على الطريق¨ تحت عنوان (الجهاد في سبيل الله) بعد أن يتحدث عن المهزومين روحياً وعقلياً الذين يزعمون أن الإسلام لايجاهد إلا للدفاع ويحسبون أنهم يسدون جميلاً إلى هذا الدين بتفريغه من منهجه في إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً:

“إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته. ولكن الإسلام ليس مجرد عقيدة. إن الإسلام – كما قلنا – إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على حاكمية البشر للبشر والإنسان للإنسان، ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً بالفعل في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم. ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم أو أن يختاروا أن يكونوا عبيداً وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده، وذلك بتلقي الشرائع منه وحده ثم ليعتنق كل فرد – في ظل هذا النظام العام – ماشاء أن يعتنقه من عقيدة..¨ أهـ. (معالم على الطريق ص71).

إن أول مايلفت نظر المتأمل في هذه العبارات هو تسمية الأشياء بغير أسمائها. ولقد وجدنا مثل ذلك عند شيخ الأزهر في فقرته السالفة، لابل إننا نجده سمة عامة عند جميع علمائنا الأفاضل سواء في خطبهم على المنابر أو في مجالسهم التعليمية أو في كتبهم ومقالاتهم المنشورة، منطلقين من القول بالترادف الذي يصبح معه الكذب افتراءً والافتراء إفكاً، ويتحول معه الجهاد إلى قتال والقتال إلى غزو. وإن جاز هذا في خطاب العواطف فهو لا يجوز قطعاً في خطاب العقول. ونحن إذ نتشدد في هذه النقطة، نقطة الانطلاق من الترادف في تسمية الأشياء بغير أسمائها، فإننا نفعل ذلك ناظرين إلى ماينتج عنها من نتائج ومايتولد منها من انحرافات. ولعل خير مثال يوضح قولنا هو مافعله معاوية بن أبي سفيان حين سمى الخزينة العامة للدولة (بيت مال الله) بدلاً من اسمها القديم الذي شاع في عصر عمر وعلي (بيت مال المسلمين) ثم مافعله أبو ذر الغفاري حين ثار معترضاً على هذه التسمية الجديدة التي لاتتعارض في ظاهرها مع التسمية القديمة لكنها ستؤدي في باطنها – فيما بعد – إلى استيلاء معاوية على المال العام.

ماذا تعني عبارة (الإسلام ليس مجرد عقيدة)؟ الإسلام يبنى على مُسَلّمَة الإيمان بالله واليوم الآخر وعلى وحدانية ألوهيته وربوبيته، يستقر في القلب فيكون اعتقاداً ثم تصدقه الجوارح وينعكس سلوكاً واعياً في القيم والشرائع والشعائر، ولم يخطئ أبداً من تكلم في مسألة التوحيد تحت عنوان العقائد. وإذا كان ذلك كذلك – وهو كذلك بلا ريب – فلماذا تعمّد الكاتب صياغة عبارته على هذا النحو؟ ولماذا قرر أن الإسلام نظام إلهي وليس مجرد عقيدة؟ والجواب: لأنه يريد أن يخلص بعد عباراته هذه إلى أمرين: الأول، حاكمية الله كما يراها ويفهمها (وقد شرحها تفصيلاً في موضع آخر من كتابه بنفس طريقته هذه) والثاني، أن الإسلام “يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على حاكمية البشر للبشر والتي لابد من إزالتها بالقوة¨.

هذه العبارة الأخيرة بالذات هي أخطر وأهم العبارات في الفقرة المقتطفة، لكونها تمثل انعطافاً حاداً في نظرة البعض إلى مسألة القتال في الإسلام، من جهة أولى. وتؤسس – ربما لأول مرة في تاريخ الإسلام السياسي – لمشروعية الخروج على الحاكم ووجوبها من جهة ثانية لأسباب لاعلاقة لها إطلاقاً بالحرية والعدالة والمساواة، إنما قبل أن نسترسل في الوقوف عندها بالتحليل اللازم سنستعرض الفقرة الثالثة، ثم نعود إلى ماكنا فيه.

3 – في حوار مع الوكالة الفرنسية للأنباء نشرته الوكالة في شهر آب (أغسطس) من عام 1997 يقول الدكتور أيمن الظواهري: “إن أي تهاون مع النظام الحاكم محرم شرعاً، لأن المرتد في الشريعة لايصالح ولا يهادن ولا يقر في ردته، والحاكم إذا ارتد عن الشريعة وجب على كل المسلمين القيام عليه وخلعه، وهذا واجب عيني على كل من يستطيعه من المسلمين. إن عقد الهدنة جائز مع الكفار وليس مع المرتدين وهذا النظام مرتد. ولن يتوقف الصراع العسكري وجميع أوجه المقاومة الأخرى الدعوية والفكرية والإعلامية بين المجاهدين والنظام إلا يوم أن يتخلى النظام عن الحكم للمسلمين” أهـ.

ليس غريباً ولاجديداً هذا التوجه السافر المباشر نحو المطالبة بالحكم الموجود في الفقرتين 2و3، فلقد رأيناه في أيام عثمان بن عفان، ورأيناه، في معركة الجمل ثم في معركة صفين أيام علي بن أبي طالب، ورأيناه في ثورة الموالي التي نقلت الحكم من الأمويين إلى العباسيين، ثم رأيناه بأوضح صوره عارياً دون مساحيق تجميل بين محمد الأمين وعبد الله المأمون ابني هارون الرشيد، ولم يغب هذا التوجه عن مسرح الأحداث على مدى القرون حتى اليوم. الغريب والجديد هو شرعنة وتجويز قتال الحاكم على أساس أنه مرتد وعلى أساس أنه لايحكم بما أنزل الله، أي شعار الردة وحاكمية الله، حتى ولو كان هذا الحاكم منتخباً من قبل الشعب، أي بغض النظر عن نوع نظام الحكم، ملكياً أم جمهورياً، وبغض النظر عن التقدم الاقتصادي وانتشار الأمن والرفاهية بين الناس. ولقد كان الفقهاء قبلها يحرمون قتال ولي الأمر حتى ولو كان ظالماً تحت شعار “اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك واخذ مالك¨، ولو كان مستبداً تحت عنوان “الطاعة لذي الشوكة¨.

كلا الكاتبين يدعو إلى قتال الحاكم المرتد الظالم الخارج عن حاكمية الله، لكن هذه الدعوة لاتسعى إطلاقاً من حيث الهدف إلى إعلاء كلمة الله في الحرية والعدل والمساواة لكل الناس، بل إلى الاستيلاء على الحكم، وهذا غير ذاك.

إننا نتفق مع الكاتبين ونؤمن بأن الإسلام نظام إلهي متكامل بتطبيق وفهم إنساني نسبي تاريخي ينظم أنشطة معتنقيه في مختلف مجالات الحياة ومن بينها القتال، وقوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل مااعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} البقرة 194، وقوله تعالى {ولاتزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لايحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} فاطر 18، هما بندان من هذا النظام المتكامل. فما بال الكاتبين يتجاهلان نظرياً هذه المثلية في القتال لرفع الظلم. ويدعوان عملياً إلى اغتيال رجال الأمن وإلى تدمير المؤسسات العامة وإلى تفجير الأسواق بمن فيها وخاصة عندما يجري القتل من طرف واحد على أنه قتال؟.

يبدأ سيد قطب في الفقرة الثانية بالقول “لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته¨ ثم يتابع قائلاً “ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم أو أن يختاروا أن يكونوا عبيداً¨. والمتأمل في القسم الأول من العبارة يجد نفسه أمام نموذج عجيب من نماذج الغموض يحتمل التأويل على أكثر من وجه، ماذا يعني بالإسلام؟ إن كان يعني تلك العروة الوثقى التي أوحاها سبحانه لرسوله الكريم (ص) إن استمسك بها الإنسان العاقل فاز ونجا، فإن الـ {لاإكراه في الدين} ليس قصداً من مقاصده، بل هو عموده الفقري الذي عليه تنبني كل أوامره ونواهيه، حتى كل هذه الأوامر والنواهي يقبلها الإنسان طوعاً، وبدونه لاتصح دينونة ولايستقيم ثواب ولا عقاب.

أما إن كان يعني الإسلام التاريخي في كتب الفقه والتراث – وهذا هو الأرجح عندنا بدلالة المعنى العام للعبارة – فقد افترى كذباً على التاريخ الحافل بشتى أنواع صور القمع والإكراه العقائدي، أشهرها ما حدث من مجازر ومخازٍ على يد المعتزلة أيام المأمون، ثم ما حدث بعدها من مجازر ومخازٍ على يد أهل السنة والجماعة أيام المتوكل وبعده.

إذا كان فقهاء السلطان منذ القرن الأول الهجري قد أسسوا لعقيدة قتالية تقوم على التوسع الاستعماري تحت اسم نشر الدعوة وعلى الغزو طلباً للغنائم تحت عنوان الجهاد وعلى الأهداف السلطوية والسياسية تحت شعار القتال في سبيل الله، فإن فقهاء الصحوة الإسلامية – كما يسمون أنفسهم – في الجماعات المسلحة الثورية أمثال: الجماعة الإسلامية والجهاد والقاعدة وغيرها من تنظيمات تفرعت عن جماعة الإخوان المسلمين، أسسوا – ويؤسسون – لعقيدة قتالية جديدة فيها كل مساوئ العقيدة القتالية الأولى القديمة مضافاً إليها مساوئ ماينتج عن السعي لقلب نظام الحكم في الداخل والاستيلاء عليه عبر تجويزهم للعنف قتلاً وتدميراً وتخريباً، وذلك من أجل أهداف تفوح منها رائحة الاستبداد والإقصاء.

فإذا انتهى المتأمل من ملاحظة ذلك كله في القسم الأول من عبارة سيد قطب في كتابه، الذي يحاول فيها إيهامنا زوراً بأن الإسلام التاريخي كفل حرية الفرد في اختيار عقيدته، وانتقل إلى القسم الثاني من العبارة فوجئ بأن الكاتب يشطب فيه مازعمه من حرية في القسم الأول، ويقرر فيه بكل صفاقة أن الإسلام يكفل للناس حرية العقيدة إنما ليس لهم أن يختاروا.

لقد كان يمكن لنا ولغيرنا أن نسير وراء الكاتبين وغيرهما من قادة الجماعات المسلحة لو أنهم دعوا في الداخل والخارج إلى قتال في سبيل إعلاء كلمة الله في الحرية والعدل والمساواة لكل الناس بغض النظر عن الدين والملة، لكنهم يدعون إلى قلب نظام الحكم والاستيلاء عليه. وكان يمكن لنا ولغيرنا أن ننخرط في صفوفهم ونشاركهم مسيرتهم لو أننا رأينا على ارض الواقع أنهم صادقون فيما يدعون إليه بنشراتهم الإعلامية. لكننا رأيناهم يمارسون الاغتيالات بدم بارد ليس فقط ضد الحكام وجنودهم بل ضد بعضهم البعض. مثال ذلك قيام أسامة صديق أيوب – أحد أعضاء تنظيم الجهاد الإسلامي الذي يرأسه أيمن الظواهري – بقتل حسام البطوجي – زعيم الجناح العسكري في تنظيم الجهاد بمنطقة بني سويف – تقطيعاً بالسيوف لخلاف حول إمارة الجماعة، ورأيناهم يمارسون الابتزاز والبلطجة وجمع الأتاوات من الميسورين – مثل كل المافيات في أنحاء العالم – بحجة أنهم مجاهدون ولهم نصيب فرضه الله تعالى في أموال الناس لابد للناس من أدائه شاؤوا أم أبوا ولابد لهم من تحصيله بالشكل الذي يرونه مناسباً. وكذلك نجد مئات الأغنياء في بلدان مختلفة مازالوا مخدوعين ويدفعون لهؤلاء الناس على أساس أنه إنفاق في سبيل الله، ولايساعدون من يطالب بالحرية لكل الناس في العقيدة والملة والضمير والتعبير.

إن سياسة الاغتيالات جزء من عقيدة قتالية اعتمدها الثوار الإسلاميون – كما يسمون أنفسهم – لاعلاقة لها بالقتال في سبيل الله من قريب ولا من بعيد بل هي قتل من طرف واحد، يتساوى فيها قتلة القيصر في روما مع قتلة الحسين في كربلاء، والنقراشي باشا في مصر وجون كينيدي في أمريكا.

وكان يمكن لنا – أخيراً – أن ننصرهم بكل الوسائل في الوصول إلى الحكم، لولا أن لنا تجربة مشهورة النتائج في مجموعة إسلامية مسلحة في أفغانستان معروفة باسم “طالبان¨، والمؤمن – كما يقول النبي (ص) – لايلدغ من جحر مرتين.

أما طرحهم شعار حاكمية الله والذي مازال يطرح حتى الآن، فهو شعار ضبابي المقصود منه عندما يطرح هو السلطة. فكما أنهم لايستطيعون طرح شعار سلطة الله عند الكلام عن الحكم والدولة لأنه في العالم يوجد دول كثيرة وكلها لها سلطات، ونحن نعلم أن السلطات في دول العالم ليست سلطات الله فهي إما سلطات ديكتاتورية أو سلطات منتخبة فيها تناوب للسلطة أو سلطات ملكية دستورية فيها دستور أو نظام أساسي. وبما أن طرح حاكمية الله هو طرح سياسي عام للوصول للسلطة، وإن الدين، أي دين، عندما يصل إلى السلطة لايقبل الآخر لأنه يملك الحقيقة، ولأنه يتحدث باسم الله، والمفتي هو الموَقّع عن الله (حسب قول ابن قيم الجوزية) أو هو قائم مقام عن الرسول حسب قول الشاطبي، والآخر لايملك الحقيقة وهو في موقع السلطة يحدد من هو الآخر، وبالتالي لا يمكن أن يكون إلا استبدادياً متسلطاً وديكتاتورياً. وفي هذا الطرح يتساوى طرح الإسلام السياسي في الشمولية مع طرح الماركسية السياسية في الشمولية. وكلما كان الطرح شمولياً كان أكثر استبدادية، وضاقت فسحة الحرية والاختيار لدى الناس.

إننا نفهم حاكمية الله من الناحية السياسية هو عدم مشاركة أحد سلطة الله في أمور اختص هو بها سبحانه وهي:

  1. الله {لايشرك في حكمه أحداً} الكهف 26. فكل من لايشرك في حكمه أحداً تعدى على الله في حاكميته.
  2. {لايُسأل عما يفعل وهم يُسألون} الأنبياء 29. الله وحده لايخضع للمساءلة. فالسلطة التي لاتخضع للمساءلة فقد تعدّت على الله في حاكميته.
  3. {فعّالٌ لما يريد} هود 107. إن الله وحده مطلق اليد والصلاحية ويفعل مايشاء. فكل من اعتبر نفسه مطلق اليد والصلاحية فقد تعدى على الله في حاكميته.
  4. {ما علمت لكم من إله غيري} القصص 38. كل من يعتدي على الألوهية وهو طلب الطاعة غير المشروطة فقد تعدى على الله في ألوهيته.
  5. {أنا ربكم الأعلى} النازعات 24. الله هو رب العالمين وهو مالك الملك. فكل من يتصرف على أساس أن البلاد والعباد ملكه الخاص {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} الزخرف 51، فقد تعدى على الله في ربوبيته.

فنحن كمسلمين مؤمنين، علينا أن لانسمح لأي سلطة بأن تتعدى على حاكمية الله من هذا المنطلق، أي لاتأخذ صفات هي لله فقط. وكثير من دول العالم لاتتعدى على حاكمية الله. ومعظم سكان هذه الدول ليسوا من أتباع الرسالة المحمدية.

إن مهمة الدولة والسلطة هي الحياة الدنيا حصراً، وليس من مهمة الدولة سوق الناس إلى الجنة بالعصا أو منعهم عن النار بالقوة. وبما أن مهمتها الحياة الدنيا فقط فهي يجب أن تكون مهتمة بالصحة والتعليم والطرق والاقتصاد ورفاهية الناس والقضاء والأمن والدفاع، وهذه الأمور تحتاج إلى برامج واقعية عملية معتمدة على العلم ونجاحها أو فشلها غير قائم على شعار حاكمية الله.

ثم إن السبب التاريخي لظهور الحركات الإسلامية السياسية ثم السياسية المسلحة هو أن السلطة الدينية منذ الأمويين بشكل عام، ومنذ المتوكل بشكل خاص، خضعت بشكل كامل للسلطة السياسية. وبما أن السلطة على مدى قرون مستبدة، فلم يطرح السادة الفقهاء شعار الحرية إطلاقاً، وفي مفهومهم أن الحر هو ضد الرق فقط، واستهتروا بحياة الناس بحيث أصبحت الحياة والحرية ليست من القيم العليا والقيم المقدسة في وعينا الجمعي. والآن المسلمون – وخاصة العرب – يعيشون حالة الطوارئ طوعاً لاكرهاً. وبما أن ذلك كذلك فقد طرحت الحركة الثورية الإسلامية استلام السلطة السياسية. وبما أن السلطة الدينية التقليدية تخضع للسلطة السياسية فكان لزاماً عليهم دمج السلطة الدينية والسلطة السياسية في سلطة واحدة وهذا مارأيناه في طالبان أفغانستان في العالم السني، أي دمج فرعون وهامان في واحد. وبما أن السلطة بيدها المال فقد انضم إليهما قارون أو مايسمى البنوك الإسلامية ومستشاريها من السادة العلماء الأفاضل (الهامانات). وفي العالم الشيعي الذي نراه في إيران حيث اتحد فرعون وهامان وقارون في مؤسسة واحدة.

حصل هذا عوضاً من أن ينبري المفكرون لتأسيس نظرية معاصرة للدولة بعد سقوط الخلافة. ومازلنا في مرحلة إرهاصات تشكيل هذه النظرية المعاصرة.

كما أن طرح سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق¨ أن المجتمع الحالي هو مجتمع جاهلي “فنحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام، كل ماحولنا جاهلية} (انظر “معالم في الطريق¨ ص 21). وكما طرح في نفس الكتاب أن النبي (ص) في بداية دعوته دعا إلى التوحيد فقط أي (لاإله إلا الله) وأن المجتمع كان مجتمعاً جاهلياً، ولم يدعهم النبي (ص) إلى مكارم الأخلاق كما لم يدعهم إلى توحيد العرب وتأسيس دولة قومية، ولم يدعهم إلى ثورة الفقراء على الأغنياء، ولكن عن طريق طرح التوحيد تمت كل هذه الأمور ومن هنا طرح أن المجتمع الحالي هو مجتمع جاهلي وهذا ماأدى إلى استعمال العنف، وأنه يجب أن تتبع خطوات النبي (ص) كما فعلها، وقد ورد هذا في الفقرات التالية من كتابه “معالم في الطريق¨(14):

  1. “وربما قيل: أنه كان باستطاعة محمد (ص) وهو الصادق الأمين الذي حكّمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاماً قبل الرسالة. والذي هو الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً، إنه كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات. وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة، الرومان في الشمال والفرس في الجنوب، وإعلاء راية العربية والعروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل ارجاء الجزيرة¨. (ص 27 – 28).
  2. “وربما قيل بأن محمداً (ص) كان خليقاً – بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة. وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة، وبعد استجماع السلطان في يديه، والمجد فوق مفرقيه – أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث بها، في تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبّدهم لسلطانه البشري¨ (ص28).
  3. “وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد (ص) أن يرفعها راية اجتماعية، وأن يثيرها حرباً على طبقة الأشراف. وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع. ورد أموال الأغنياء على الفقراء!¨ (ص 29).
  4. “وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد (ص) أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس.

وربما قيل : أنه (ص) – كان واجداً وقتها – كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة – نفوساً طيبة يؤذيها هذا الدنس، وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهر¨ (ص 32 – 33).

ولم ينتبه سيد قطب إلى مايلي:

  1. عدم وجود دولة في شبه جزيرة العرب إبان الدعوة المحمدية، فلا يوجد سجون أو شرطة أو أجهزة أمن أو جيش. ولو أن النبي (ص) بُعث في بلاد كالروم وفارس فيها سجون وجيوش لوضعوه في السجن من اليوم الأول، علماً بأنه الآن لايوجد في العالم مكان لايوجد فيه سلطة دولة وسلطة أمن. وقد بُعث عيسى بن مريم في أقوى دولة في العالم آنذاك فابتعد عن الدولة والسلطة.
  2. وجود مستوى أخلاقي رفيع عند العرب، فالاغتيالات غير واردة، وكانوا يقرون بأنه الصادق الأمين مع عدائهم له، وفقط بعد 13 سنة فكروا باغتياله واحتاروا كيف ينفذون هذا الاغتيال، علماً بأن اغتيال إنسان اليوم من قبل أجهزة الأمن هو كأكل قطعة حلوى.
  3. أن النبي (ص) من أم القرى وفيها الكعبة التي طهرها إبراهيم (ع)، والحج بدأ من إبراهيم (ع)، وكان للعرب أصنام في الكعبة فكان لكل قبيلة صنم. وعندما طرح توحيد الآلهة في إله واحد ورمي بقية الآلهة نتج عن هذا الطرح الديني – وهو التوحيد – طرح سياسي بحت، وهو توحيد العرب في سلطة مركزية، أي دعوة التوحيد، وإن كانت دعوة دينية جديدة على العرب سبقت الخطوة السياسية بـ 12 عاماً وجاءت في مكانها {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ص 5. وحصل هذا في مكة وماحولها، ولا يمكن أن يحدث في مكان آخر. فدعوة التوحيد بقيت والرسالة بقيت ولكن الدولة التي أسسها النبي محمد (ص) ماتت. فهذه الشروط الآن غير موجودة البتة في أي مكان حيث قال تعالى: {الله يعلم حيث يجعل رسالته} الأنعام 124.

أما الذي ورثناه فعلاً من الناحية السياسية هو الاستبداد السياسي والديني وإن الدعوة التي يمكن أن تنجح هي إعلاء كلمة الله في الحرية والعدل والمساواة لكل أهل الأرض. وهذا الطرح صالح في كل بلاد العالم، في شبه جزيرة العرب وفي أي بلد آخر. ومع الأسف مازال الإسلام السياسي ذا طبيعة إقصائية منذ وفاة النبي (ص) حتى يومنا هذا. وقد استعارت الماركسية السياسية هذه الطبيعة الإقصائية منه في القرن الماضي.

كان الأحرى بسيد قطب لو أراد أن يطرح شعار التوحيد (لاإله إلا الله) أن يدعو إلى تحطيم الأصنام. فالعرب كانت تؤمن بالله الواحد {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} ولكن كانت تشاركه في عبادة الأصنام. وكان للقبائل المختلفة أصنام مختلفة مثل اللات والعزى ومناة وهبل، وهؤلاء ليسوا أحياء بل هم رموز لاتتكلم ولكن لها سدنة تتكلم باسمها. أي أن الأصنام لاتتكلم مع الناس مباشرة. والأصنام المعاصرة هي أئمة التراث حيث تم تحويلهم من قبل العلماء الأفاضل إلى أصنام معبودة يأخذون منها أحكام الله ورسوله (ص) وهؤلاء أموات لايستطيعون الكلام وبالتالي هم يتحدثون عنهم وهم وسيلتهم لتحويل الشعوب إلى قطعان وهم سيف مسلط على رؤوس الناس، حتى أن كل مجموعة من الناس لها صنمها (المذاهب – الطرق الصوفية – الحركات الإسلامية).

لقد آن لنا أن نبدأ بتحطيم الأصنام وإرجاعها إلى أصلها البشري، والنبي (ص) لم يدعُ إلى تحطيم الأصنام والتوحيد إلا عندما قدم فكراً بديلاً في الموقف من الكون والحياة والإنسان. ونرى الآن أن تتم مقاربة فهم التنزيل الحكيم ضمن نظم معرفية معاصرة، فالمعرفة أسيرة أدواتها.

ولو بعث الله موسى (ع) في الأحياء لقالت له الأحبار (ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).

ولو بعث الله عيسى (ع) في الأحياء لصلبه رهبان النصارى مرة ثانية لأنهم يريدونه مصلوباً.

ولو بعث الله محمداً (ص) في الأحياء لحكم عليه السادة العلماء الأفاضل بالردة وإنكار السنة، ولنفذوا حكم الردة بإعدامه بدون استتابة لأنهم يريدونه ميتاً.

بعد أن تحدثنا في الصفحات السابقة عن أسباب القتال وأهدافه كما رسمها التنزيل الحكيم، ننتقل الآن لنتحدث عن مفسداته. فكما أن للصدقات – مثلاً – مفسدات تبطل ثوابها، أشار إليها سبحانه بقوله {يا أيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} البقرة 264، كذلك للقتال مفسدات تمنعه من تحقيق أهدافه سواء كان في سبيل الله، أو جرّاء التدافع (للدفاع عن النفس – الوطن – المصالح ومنها السيطرة على بلاد أخرى) أو الفرار من المعركة / التشرذم والتفرق/ قتال من اعتزل القتال وعرض السلام/ الإسراف والإفحاش في رد العدوان/ اعتبار الكفر بوحدانية الله سبباً يوجب القتال.

1 – يقول تعالى: {يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلّوهُمْ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الأنفال 15 – 16. والآيتان محكمتان، كباقي آيات الكتاب (كتاب الرسالة) التي تحتوي على أحكام تأمر بها أو تنهى عنها، تشيران إلى نهي الله تعالى لعباده المؤمنين عن الفرار من القتال إذا هم التقوا مع الكفار الزاحفين لقتالهم. وإنما سمى الفرار تولية للأدبار كناية من باب المجاز لأن الفرار قد يكون تراجعاً والوجه باتجاه الأعداء دون تولية للدبر. ويلاحظ المتأمل أن لفظ الكفار في الآية جاء على عمومه، فالكافر قد يكون مؤمناً بوحدانية الله لكنه يكون بدأ بالقتال، ففي الحروب، الطرف المعتدي هو الكافر حتى ولو كان مؤمناً مسلماً، والمعتدى عليه من غير ملة ومن غير بلد. فالجيوش النازية كانوا كفاراً بالنسبة للشعب الروسي. وجيش صدام كان كافراً بالنسبة للكويتيين. هنا نلاحظ كيف استعمل الطرف الآخر على أنه كافر في قوله تعالى {فَإِذا لَقِيتُمْ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَاءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} محمد 4 نلاحظ هنا كيف ذكر الطرف المقابل في الحرب على أنه كافر.

وفيما يتعلق بالقتال في سبيل الله فإن أي مساس بكلمة الله العليا في الحرية لكل الناس يليها العدل والمساواة هو مفسد للقتال إن كان فردياً أو جماعياً، وأي هدف غير هذا هو ليس في سبيل الله حتى ولو كان هدفاً نبيلاً، ونرى هذا في قوله تعالى {إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمْ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} التوبة 111، نلاحظ هنا أن القتال في سبيل الله جزاءه الجنة (ونلاحظ هنا أيضاً عدم ذكر الشهادة والشهيد) وهو مطلوب من أتباع الرسالة المحمدية وغير مطلوب من غيرهم، ونرى أن هذا يختلف تماماً عن القتال في سبيل الوطن حيث يقوم به كل سكان الوطن بغض النظر عن مللهم وعقائدهم وهم مايطلق عليه اسم الشعب. أما ماذهب إليه المفسرون نقلاً عن أهل أصحاب النزول كأبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك من أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر (انظر تفسير الرازي ج 15 ص111) فليس عندنا بشيء، بدلالة قوله تعالى: {إذا لقيتم} في الأنفال 17، فأداة الشرط هنا ظرف لما يستقبل من الزمن حتمي الحصول وهذا وحده كافٍ لنفي أن يكون الحكم مخصوصاً بأمر مضى. صحيح أن آية الأنفال 17 تتحدث عن وقعة بدر إلا أن الحكم في الايتين 15 و16 عام والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص المناسبة. وإلا فكيف نفهم قوله تعالى {يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ} الأنفال 45. التي لاتشير إلى صحابة ولا على كفار ولا إلى موقعة بعينها، خصوصاً وأن أصحاب كتب أسباب النزول لم يضعوا سبباً لنزول الآية.

هذا التفسير الركيك لآيتي الأنفال 15 و16، لايؤدي فقط إلى اختزال (الذين آمنوا) في بضع مئات من الصحابة واختزال (الذين كفروا) في حوالي ألف من مشركي قريش، بل يفتح الباب أمام استنتاجات مضحكة، منها أن هذا الحكم لايسري على قتالٍ طرفاه من الذين آمنوا وقد حدث هذا ومازال يحدث، وهذا محال.

2 – يقول تعالى {إِنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} الصف 4، ويقول سبحانه {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ} الأنفال 46. هاتان الآيتان تبينان فضل التكاتف والتعاضد ليس في مواضع القتال وحسب، بل في كل أمر آخر من أمور الحياة. فالآية الأولى تجعل من اصطفاف المقاتلين كاللبنات المتراصة في الجدران سبباً من أسباب محبة الله لهم، ونتذكر مع هذه الآية صورة صفوف المصلين في صلاة الجماعة، التي تمثل في حقيقتها مظهراً واضحاً من مظاهر التكاتف والتعاضد. هذه الدعوة إلى توحيد الصفوف يقابلها نهي عن التفرق ورد في قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا} آل عمران 103، فإذا انتقلنا من المعنى الحقيقي للوقوف صفا واحداً متراصاً في الصلاة وفي القتال إلى المعنى المجازي المقصود في توحيد الآراء واتفاقها وتوحيد الأهداف وسبل الوصول إليها، وجدنا أنفسنا أمام الآية الثانية التي تتحدث عن النقيض المقابل للتوافق وهو التنازع المؤدي ليس إلى الفشل والخسران فقط، بل إلى الهلاك والدمار أيضاً. وانظر معي إن شئت كيف أن فرعون لم يستطع أن يعلو في الأرض طغياناً واستبداداً إلا عندما جعل أهلها شيعاً {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً} القصص 4، أي جعلهم طوائف متفرقة.

لقد انهزم المؤمنون يوم أُحد والرسول (ص) معهم حين اختلفت أهدافهم وتباينت مواقفهم ولم يعودوا صفاً كالبنيان المرصوص، فانصرف بعضهم إلى جمع الأسلاب والغنائم تاركين مواقعهم وصفوفهم في القتال.

3 – يقول تعالى {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} النساء 90. لقد أشرنا في مطلع هذا البحث إلى أن القتال اسم، فعله رباعي هو قاتل، لا يكون إلا بين طرفين بدلالة ألف المشاركة الأصلية في الفعل. فإن اعتزل أحد الطرفين القتال عارضاً الصلح وداعياً إلى السلام سقطت ألف المشاركة ولم يعد القتال قتالاً بين طرفين بل تحول إلى قتل من طرف واحد وهذا مانهت عنه آية النساء 90، وماأشارت إليه آيات المائدة 27 – 31 في نبأ ما حدث بين ابني آدم التي شرحناها سابقاً. يبقى من المفيد أن نفرق بين اعتزال القتال والتخلف عنه. فالأول موقف إيجابي مقبول والثاني موقف سلبي مرفوض.

في ضوء هذا الفهم لاعتزال القتال وعرض السلام، يتضح لنا مدى فداحة الخطأ في عبارة أسامة بن لادن – زعيم تنظيم القاعدة – حين قال: “كل من ليس معنا هو ضدنا ومع أعدائنا¨. والطريف أن جورج دبليو بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ردد العبارة ذاتها زاعماً أن كل من لايحارب الإرهاب معه هو مع الإرهابيين.

إن هذا القول عند ابن لادن، وهذا الزعم عند الرئيس بوش، يتعارضان عمودياً مع آية النساء 90، من جانب أول، ومع العقل من جانب ثانٍ، ومع حرية الإنسان في اختيار مواقفه من جانب ثالث. لكن أكثر الناس لايعلمون.

4 – يقول تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة 190. ثم يقول {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ} البقرة 194. المعنى في آية البقرة 190 واضح لالبس فيه، فهي تأمر أتباع محمد (ص) بأن يقاتلوا من يقاتلهم ضمن المنهج والطريق الذي رسمه الله لهم، وألا يخرجوا عن حدود هذا السبيل الإلهي لأن الله لايحب من يخرج عليها ويتعداها. أما من اتكأ على هذه الآية من المفسرين والفقهاء في منع الإبتداء بالقتال، فقد:

آ – قَوّلَ الله مالم يقل، وحرف الكلم عن مواضعه.

ب – تجاهل قوله تعالى {فلا عدوان إلا على الظالمين} البقرة 193، الذي يشير بكل وضوح إلى وجوب البدء بقتال الظالم، ويؤكد عبارة (بأنهم ظلموا} في آية الحج 39، ولكن حتى يقاتل الظالم فيجب أن يكون هناك ظالم وظلم، فالعدوان ظلم والاستبداد ظلم. أي هناك قتال لرفع الطغيان وهناك قتال من أجل حفظ المصالح.

ج – قرأ آية الحج 39 {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} (تأكيداً لمذهبه في فهم آية البقرة 190) بفتح التاء في كلمة (يقاتلون) فجعل الفعل مبنياً للمجهول (وهذه قراءة عاصم عن حفص وقراءة أهل المدينة وفيهم ابن عباس وأهل البصرة) بدلاً من كسر التاء بحيث يبقى الفعل مبنياً للمعلوم (وهذه قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وأهل الكوفة وفيهم الإمام علي بن أبي طالب).

والسؤال – في حال الأخذ بالقراءة الأولى وترك الثانية – هو: هل يحتاج الذين يقاتلون (بفتح التاء) إلى أذن ليدافعوا عن أنفسهم؟ والجواب: كلا بكل تأكيد. لأن الدفاع عن النفس والمال والأرض والعرض فطرة أوجدها تعالى في جبلة مخلوقاته كلها بشراً وحيواناً ونباتاً لايحتاج إلى وحي سماوي يبيحه ويأذن به، شأنه في ذلك شأن النوم والأكل والشرب والتنفس والنكاح.

فإذا انتقلنا إلى آية البقرة 194، وجدناها تأمر بالمثلية في رد العدوان بدون إفحاش ولا إسراف. وإذا كان قوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} المائدة 45، يأمر بالمثلية في القتال بين الأفراد، فإن آية البقرة 194 تأمر بالمثلية في القتال بين الجماعات، والخروج عن هذه المثلية إفحاشاً وإسرافاً مفسد للقتال في سبيل الله أو في سبيل غير الله – كالوطن – والتدافع في المصالح، وهذا مانطلق عليه حديثاً الإفراط في استعمال القوة.

5 – يقول تعالى {يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ..} النساء 94. هذه الآية تنهى الذين آمنوا عن اعتبار الكفر الديني سبباً للقتال، إن نحن فهمنا الضرب في سبيل الله قتالاً، وأساساً معيارياً في العلاقات مع الآخرين، إن نحن فهمناه سعياً في الرزق وطلباً للعلم ودعوة إلى الهدى، وخصوصاً إذا طغت الأهداف المادية والمغانم الدنيوية على هذا الضرب في سبيل الله، بحيث يخرج عن أوامر الله ونواهيه وعن نهجه وطريقه فلا يعود ضرباً في سبيل الله. وينسجم هذا النهي عند المتأمل العاقل مع قوله تعالى {وقولوا للناس حسنا} البقرة 83، الذي يأمر بالتعامل بالحسنى، بكل لباقة ودماثة وأدب، مع جميع الناس أياً كانت مذاهبهم وطوائفهم ومللهم وعقائدهم. وفي هذا الصدد قال تعالى {لَا يَنْهَاكُمْ اللّهُ عَنْ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة 8، نلاحظ هنا كيف وضع الحالة الأولى حالة حرية العقيدة وعدم الإكراه والقتال من أجلها هو في سبيل الله. والحالة الثانية الديار وهي مصطلح الوطن الآن وفيها قتال التدافع، أو الهرب من الطغيان.

ولاتكتفي آية النساء 94 بهذا النهي الموجه للذين آمنوا، بل تمضي لتذكرهم بأنهم أنفسهم كانوا كفاراً من قبل، فشرح سبحانه صدورهم للإيمان برحمة منه وفضل، ولهذا لايليق بهم أن يقاتلوا الكفار بسبب كفرهم، أولاً لأنهم أحرار في اختيار عقائدهم، وثانياً لأن أبواب رحمة الله وفضله مشرعة لكل الخلق كافرهم ومنافقهم، وثالثاً لأن الله وحده أعلم بالمهتدين وأعلم بالكفرة الظالمين وأعلم بالمنافقين، وله وحده حق الحكم على كفر الكافر وإيمان المؤمن بالأمور التي تخصه وحده مثل الإيمان به واليوم الآخر وبالكتب والرسل والملائكة. أما فيما يخص الناس فهناك ظالم ومفسد وكاذب، وفي هذا يحاسب الناس بعضهم بعضاً.

هذه المفسدات الخمس للقتال كما شرحناها آنفاً ليست الشوائب الوحيدة التي إن خالطت إحداها القتال لم يعد قتالاً في سبيل الله، فالمفسدات أوسع كثيراً على الصعيد الأفقي وأعمق كثيراً على الصعيد الشاقولي. إذ كل مساس ببند من بنود كلمة الله العليا في الحرية والعدل والمساواة مفسدة للقتال في سبيل الله، وإبطال لثوابه الذي وعد الله المؤمنين المقاتلين به.

الاستنتاجات:

1 – الشهادة والشهيد لاعلاقة لهما بالقتل والقتال والموت. والشهيد لا يمكن أن يسمى شهيداً إلا وهو على قيد الحياة، وأن يقدم شهادة علنية. والشهداء مع الأنبياء والصديقين والصالحين (ونحن نعلم أن لقب النبي يكتسبه الإنسان بالوحي وهو حي، ولقب الصّديق يكتسبه الإنسان وهو حي، ولقب الصالح يكتسبه الإنسان وهو حي) وهم من يقوم بشهادة علنية ضد ظلم أو تزوير مثل سجناء الرأي، أو لتجربة اكتشاف علمي أو لنقل حدث إلى الناس (الصحافيين} (ومن يقبل أن يجرب على نفسه دواء قبل أن يقدمه للناس) سواء قتل أم لم يقتل. وتسمية قتلى الحروب شهداء ليست أكثر من مصطلح سلطوي بحت. والسلطة أو مؤسسة الموت عندما ترسل الناس إلى حتفهم فهي تعرف أنها لن تدفع لهم شيئاً، وفي حال موتهم لايستطيعون مطالبتها بشيء، فالأموات لايطالبون بشيء ولايحاسبون أحداً على قراراته ولماذا أرسلهم إلى حتفهم، وتعدهم بالحور العين والجنان وهذا من اختصاص الله وليس من اختصاصها. لذا اخترعت الشهادة والشهيد في القتال والقتل. واستهتروا بحياة الإنسان، لذا فإننا في وعينا الجمعي لانتأثر بعدد القتلى ولو كان كبيراً، ولو كان نتيجة خطأ في السياسات أو القيادة أو الأحكام. والشارع العربي يقولها بكل بلاهة أن الجيوش الأجنبية الكافرة لاتتحمل الخسائر الكبيرة في الأرواح، بدون أن نعرف أن مسؤولي هذه الدول سيخضعون للمساءلة من قبل شعوبهم لأنهم شعوب تقدس وتحترم الحياة التي وهبها الله لها وتعتقد أن حياة الإنسان تطول وتقصر، ومهمة الناس الحفاظ عليها وتأجيلها.

أما نحن فنقيم عرس الشهيد لقتلانا ونطلق الزغاريد والهتافات وهذا محض هراء ووهم، لأنه ليس أكثر من خدعة. فصاحب الجنة والنار هو الله، ونحن لانملك شيئاً، ولايوجد خدعة أكبر من إيهام الناس بأنهم إذا قُتلوا فسوف يذهبون إلى الجنة. لذا فإن الحياة في وعينا الجمعي لاقيمة لها كالحرية تماماً.

2 – إن الخطوة الأولى في القضاء على الإرهاب والاستبداد هو الفصل الكامل بين الشهادة والشهيد، وبين القتل والقتال والموت. وعلى واضعي مناهج التعليم في العالم الإسلامي، والعربي خاصة، أن ينتبهوا لهذه الناحية. وعلى خطباء المساجد وكليات الدعوة والشريعة أن ينتبهوا لهذه الناحية. وهذه الخطوة لإصلاح مناهج التعليم الأساسي ضربة قاصمة للإرهاب. وسوف يستمر تغذية الإرهاب بالشباب حتى تُتّخَذ هذه الخطوة.

3 – لايوجد في التنزيل الحكيم ناسخ ومنسوخ، فكل آيات القتال التي وردت لتغطية أحداث مثل غزوة بدر وأحد والخندق وتبوك وفتح مكة وخيبر عبارة عن قصص محمدي تدخل في النبوة لافي الرسالة ولاتؤخذ منها أحكام وإنما هي عِبَرٌ شأنها شأن قصص موسى وعيسى ويوسف وبقية الأنبياء والرسل {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} يوسف 111، ونرى أيضاً في بداية عرض معركة بدر قوله تعالى {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ} آل عمران 13. لاحظ قوله {إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَار} يعني أن أحداث حروب الرسول (ص) تدخل كلها في القصص لا في الأحكام هي لاستنتاج العبر فقط أي أن آيات القتال في سورة التوبة وغيرها هي للعبرة وليست للأحكام وتدخل ضمن القصص المحمدي. ولاحاجة لنا للناسخ والمنسوخ للتوفيق بين الآية {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} النحل 125، وبين آية السيف في سورة التوبة، الآية 5 {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وسوف يأتي شرح آيات سورة التوبة وغيرها من حروب الرسول في كتاب منفصل.

4 – للجهاد أنواع منه الجهاد في سبيل الله، وهناك أمور أخرى في التنزيل الحكيم في سبيل الله وهي الإنفاق في سبيل الله، والضرب في سبيل الله، وسبيل الله هو حسب منهجه لامن أجله. أما الجهاد في سبيل الله فهو لتكون كلمة الله هي العليا، والقتال هو أحد اشكال الجهاد، وإذا كان في سبيل الله فهو من أجل الحرية أولاً لكل الناس وعلى رأسها حرية العقيدة وحرية الضمير وحرية الشعائر وحرية التعبير لأن الأحرار هم الذين يقيمون العدالة والمساواة، ولاينتظرون حتى تُقدم لهم على طبق من ذهب.

5 – يمكن أن يكون القتال مشروعاً وليس في سبيل الله وهو عندما يكون القتال أحد أشكال التدافع بين المصالح، عندما يبلغ هذا التدافع مرحلة لا يمكن حلها سلمياً، أو لا يريد أحد الأطراف حلها سلمياً فيصبح القتال أحد أشكال الحلول السياسية ومعظم حروب العالم كانت جراء هذا التدافع حتى اليوم وغداً وبعد غد. وهو قتال جماعي بين جيوش.

6 – يمكن أن يكون القتال مشروعاً وحلالاً في حال الاحتلال الخارجي ولايحتاج إلى أذن من أحد لأنه حالة دفاع عن الوطن والنفس. ولكنه أيضاً ليس في سبيل الله.

7 – إن الدفاع عن المصالح العامة للشعب في أية دولة، والدفاع عن أراضي الوطن من العدوان الخارجي هو العقيدة القتالية للجيوش، أي أن حروب الجيوش بكاملها ليست في سبيل الله إلا إذا انطلقت لتحرير أناس تحت العبودية لينالوا حرية الاختيار، وهذه حالات إن حصلت فهي نادرة. لذا فإن الجيوش تتشكل من مواطني البلد بغض النظر عن مللهم وعقائدهم.

8 – إن الجهاد في سبيل الله سلمياً يتبعه القتال في سبيل الله إذا لزم في حالات الضرورة القصوى هو الجهاد والقتال في سبيل حرية الاختيار للناس جميعاً وعلى رأسها حرية العقيدة وحرية الضمير والتعبير وحرية إقامة الشعائر الدينية لكل الملل والطوائف والأديان والعدالة والمساواة هو العقيدة القتالية للأفراد.

9 – إن شعار العبودية لله غير موجود أصلاً وغير مطلوب في التنزيل الحكيم. فالناس – كل الناس – المؤمن والكافر والمسلم والمجرم والتقي والفاجر هم عباد الله في الدنيا، وعبيده يوم الحساب.

وإذا كانت العبودية موجودة فهي حكماً لغير الله، والعرب والمسلمون يسمعون صباح مساء يومياً كلمة العبودية ظانين أنها لله، والواقع أنهم أصبحوا عبيداً لغير الله حتى أصبحت العبودية هي الثقافة الشائعة في العقل الجمعي للعرب بالذات. فالجلاد الذي يستعبد الناس ويقتلهم أو يفجرهم هو البطل، ولايوجد شعب على الأرض تُذكر له العبودية يومياً إلا الشعوب العربية، لذا فإن حرية الاختيار عندهم أمر لايستحق الجهاد والقتال وخاصة إذا كان لكل الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وقناعاتهم، هذا الشعار ولّد الشعور بالدونية عند العرب والمسلمين وخاصة تجاه التراث وشخصياته، فلا يمكن لإنسان أن يكون قزماً أمام ابن عباس، وفي نفس الوقت عملاقاً أما الرئيس الأمريكي، فلا يمكن إلا أن يكون قزماً في الحالتين. نحن نشتم الغرب بألسنتنا، ولسان حالنا يقرّ له بالعبودية لأنه مالك ناصية كل شيء، حتى ألبستنا الداخلية تتوقف على إرادته.

وانطلاقاً من هذا المفهوم فإن كل الأنظمة العربية على اختلاف أنواعها أوعى من شعوبها، وهذا أمر يؤسف له، وإني أبشر كل الأنظمة العربية السياسية بطول السلامة وطول الإقامة، لأن ثقافتنا عصية تماماً على الثورة على المحتل الداخلي كائناً من كان، وإذا حصل فيبدأ القتل العشوائي والاغتيالات وتفجير الذات والآخرين، وهذه الطريقة فاشلة حتماً. وإن مايسمى الشارع العربي هو شارع فاشل ولايراهن إلا على الحصان الخاسر. وكل مانرجوه من الأنظمة العربية هو تحسين أدائها إما من ذاتها أو من ضغط خارجي. وكل هذا حصل نتيجة المقولات التي تقول: “إذا كان الحاكم عادلاً، فله الأجر وعليك الشكر، وإن كان ظالماً فله الوزر وعليك الصبر¨. والوعي الجمعي العربي يعاني من مرض مزمن هو عدم احترام حرية الناس، وعدم احترام الحياة الإنسانية. فكل إنسان يحب الحياة ويكره الموت عليه أن يشعر بالذنب (حسب أقوال الفقهاء).

10 – إن الحل الأمني لظاهرة العنف هو حل مؤقت كأنه أقراص مسكنات، ومرض العنف يحتاج إلى عملية جراحية، ولا يمكن استئصال هذا المرض إلا بإعادة نظر كاملة بالأسس التي بُني عليها الفقه الإسلامي والتي وضعها الفقهاء في القرنين الثاني والثالث الهجريين، علماً بأن احترام حرية الناس والحياة ليست من ضمن هذه الأسس. ولا يمكن أن يتم هذا العمل إلا بتبني نظم معرفية جديدة حيث المعرفة أسيرة أدواتها. ومانقوم به منذ أربعين عاماً هو وضع هذه الأسس الجديدة وتطبيقها. أما التخريجات مثل الإسلام الوسطي والتقريب بين المذاهب وغيرها فهو ليس أكثر من ترهات ومضيعة للوقت.

11 – إن من أهم الأسس التي يجب إعادة النظر فيها هو أنه تم طرح القتال والجهاد سابقاً على أساس أممي بين أمة الكفر وأمة الإسلام، أي قسموا العالم على اساس عقائدي نظرياً أي دار كفر ودار إسلام، وتحت هذا التقسيم الأممي الظاهري جرت الحروب والتي هي حروب مصالح وغنائم وسيطرة. وقامت النظرية الشيوعية بعملية مماثلة، إذ قسمت العالم بورجوازيين وكادحين واعتبرت كل واحد منها أمة، وشكلت الأممية الأولى والثانية، وقد أخطأت تماماً باعتبار الأغنياء أمة والفقراء أمة، هم طبقات وليسوا أمم. وقد كلفهم هذا التقسيم ملايين الضحايا والأموال. وإن أي حرب يخوضها الناس على أساس أممي وخاصة في عصرنا الحاضر لايوجد فيها لاغالب ولا مغلوب. الكل مغلوب. وإن خوض الحرب على أساس بين مؤمنين وكافرين أو مؤمنين ومسيحيين أو بوذيين ومؤمنين هي حروب مدمرة وكل من يظن من المؤمنين أن هذه الحروب هي جهاد في سبيل الله فهو واهم والضحايا هم أضاحي بشرية مجانية.

12 – إن شعار “حاكمية الله¨ هو شعار ضبابي عاطفي لايصلح لبناء دولة. لأن مهمة الدول هي الحياة الدنيا (طرق – صحة – تعليم) وعمل وازدهار اقتصادي وأمن. والآخرة هي اختصاص الإنسان الفرد.

13 – من الاستحالة فصل الدين عن المجتمع، وإنما يمكن فصل الدين عن السياسة. وعندما يدخل الدين – أي دين أو مذهب – في السياسة، فتظهر ثقافة إقصاء الآخر. والمبررات الدينية الفقهية لإقصاء الآخر كثيرة. وكذلك فإن القرارات السياسية تقوم كلياً على عالم الشهادة، بينما يوجد في الدين دائماً جانب غيبي مما قد يؤدي إلى كوارث.

14 – إن الديمقراطية التي توصل إليها الإنسان وهي مبدأ حرية الاختيار وصندوق الاقتراع وحرية التعبير والضمير والعمل ضمن عقد اجتماعي أو نظام أساسي بين الحاكم والمحكوم هو أقل الآليات سوءاً توصل إليها الجنس الإنساني لممارسة الشورى، لأن الشورى وردت في التنزيل الحكيم كمبدأ بدون شرح الآلية المتبعة لتطبيق هذا المبدأ، وأخطاؤها لاتبرر إلغاءها. والعرب المسلمون لم يبتدعوا أية آلية محترمة لتطبيق هذا المبدأ، ويمكن أن تكون الديمقراطية ذات شكل تاريخي في وجود ملكية أو جمهورية أو سلطنة، وهي تختلف تماماً عن ديكتاتورية الأكثرية. ويمكن إتباع مبدأ التدرج في التطبيق كما فعلت اليابان عام 1860 وليس من الضروري حرق المراحل.

15 – لقد كانت الشرعية السياسية منذ وفاة الرسول تقوم على الخلافة حتى ألغيت عام 1923، ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن بقي الاستبداد ولكنه فقد شرعيته، وكل مايجري الآن في الوطن العربي هي إرهاصات البحث عن شرعية سياسية جديدة غير الخلافة التي انتهت غير مأسوف عليها وبلا رجعة بإذنه تعالى.

16 – إن مايسمى بالصحوة الإسلامية ليس أكثر من خدعة، فمع ازدياد عدد المصلين والمحجبات والحجاج ازداد بشكل متوازٍ الفساد المالي والكذب والغش في المواصفات والإخلال بالمواعيد وعدم إتقان العمل. واعتبار الحجاب الشرعي من عناوين الصحوة الإسلامية يدل على أننا أمة مأزومة ومهزومة.

17 – إن تطبيق الشريعة الإسلامية على أساس كتب الفقه التراثية مثل كتاب “الأم¨ للشافعي وحاشية ابن عابدين وغيرها لا يمكن تنفيذه إلا بحكم مستبد دكتاتوري، لأنه كلما طبقت هذه الكتب على المجتمع كلما بَعُد المجتمع عن الفطرة الإنسانية. واكثر المجتمعات التي تعيش بشكل معاكس للفطرة الإنسانية هي المجتمعات التي يطبق عليها مايسمى أحكام الشريعة المدونة في كتب الفقه وما يسمى كتب الحديث.

18 – إن الإسلام بفروعه الثلاثة موجود عند كل أهل الأرض. فالقيم العليا الموجودة في وصايا سورة الأنعام هي قيم إنسانية عامة لكل أهل الأرض وهي أهم أركان الإسلام مع تحريم الربا ومحارم النكاح، ولا يمكن لأي إنسان أن يقف ضد هذه القيم تحت أي شعار علمانياً كان أم ليبرالياً وهذه القيم مطلوبة من كل الناس، وبشكل خاص من السياسيين أكثر من غيرهم.

أما فيما يتعلق بالشرائع فمعظم تشريعات برلمانات أهل الأرض ضمن حدود الله وهم يقلدون المنهج الإلهي بإصدار تشريعات حدودية، والشريعة الحدودية الحنيفية هي المسيطرة على معظم الدول المتقدمة في العالم ومعظمها ليست من أتباع الرسالة المحمدية.

وفيما يتعلق بالشعائر فهي مفصولة بشكل كامل عن السلطة، فلا يحق للسلطة إصدار أي قانون أو محاكمة أي إنسان بشيء يتعلق بالشعائر من صلاة وصوم وحج وزكاة، فكل ماينقصنا هو تنظيم العلاقة بين المواطن والسلطة ضمن عقد هو الدستور الذي يكفل حرية العقيدة والعبادة والتعبير والمحاسبة. والدولة مسؤولة عن الحياة الدنيا وكل ماينظمها حصراً. فأي حزب يريد أن يمارس السياسة فعلاً عليه أن يشطب كلمة إسلامي من التسمية، حتى ولو كان معظم أعضائه من التقاة، فالحزب يُحكم عليه من خلال برامجه الدنيوية البحتة ومن خلال قراراته السياسية التي لها علاقة بالواقع الموضوعي وعالم الشهادة حصراً. ويتم الحكم على قادته ضمن قانون القيم الأخلاقية والتي لاتعتبر الشعائر جزءاً منها.

19 – إن القتال أمر بغيض، وصدق الله العظيم عندما وصفه بأن كَرهٌ وكُرهٌ، فهو عمل كريه واضطراري، وكل أنواع القتال ماعدا الدفاع عن النفس يجب أن يكون لها مايبررها، لأن التاريخ يكتبه المنتصرون، واي طرف يبدأ بحرب فعليه أن ينتصر، وإلا فليلجأ إلى حلول أخرى غير القتال. واكثر أنواع الجهاد في سبيل الله فعالية عندما يكون المجاهد غير مسلح والظالم مسلحاً وبهذا يظهر الظلم لأنه يمارس عملية القتل لا القتال. فإن كنت جيشاً أو غير جيش وتريد أن تقاتل فعليك أن تنتصر وإلا فلا. وخير للإنسان أن ينهزم وهو معتدى عليه من أن ينهزم وهو البادئ المعتدي.

20 – لقد نشر رجال الدين الهامانات ثقافة القطيع بين الناس فهم يتحدثون للناس والناس تسمعهم بدون سؤال وبدون مناقشة مع إسقاط التدبير وغياب العقل، وهم يقومون ببداية غسيل الدماغ للناس ليقبلوا أي شيء على أنه دين. وعندما يشذ أحدهم عن هذا القطيع فينتقل إلى قطيع آخر هو أن يقتل نفسه والآخرين على أساس أنه دين بدون سؤال وبدون مناقشة وهو بهذا يقدم لحماً بشرياً مجانياً من لحمه ومن الآخرين، فالثقافة السائدة هي ثقافة القطيع تستكين أمام الشيخ أو أمام الملا أو أمام أمير الجماعة. وليس من الغريب أبداً أن يموت الإنسان ويقتل الآخرين دفاعاً عن جهله. أو لأمر يظنه جهاداً في سبيل الله، بينما هو في سبيل مصالح من دفعه إلى ذلك.

(1) تعليقات
  1. انى في شمال عيراق …. يمكن نسخ من كل كتاب بال pdf ارسالنى ……. شكرا للتعاون

اترك تعليقاً