الفصل الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يقول تعالى:

  • {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران 104.
  • {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..} آل عمران 110.
  • {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ..} آل عمران 114 (المقصود بالآية هم أهل الكتاب).
  • {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ..} التوبة 67.
  • {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ..} التوبة 71.
  • {الّذِينَ إِنْ مَكّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} الحج41.
  • {يَابُنَيّ أَقِمْ الصّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} لقمان 17.
  • {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلّ لَهُمْ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الأعراف 157 (المقصود هو المكتوب في التوراة والإنجيل).

تلك هي الآيات من التنزيل الحكيم التي ورد فيها الأمر بالمعروف – تحديداً – والنهي عن المنكر – تحديداً – مقترناً أحدهما بالآخر. نقول هذا لأن الأمر بالمعروف منفرداً ورد عدداً من المرات، إحداها قوله تعالى {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} البقرة 241، ولأن النهي عن المنكر منفرداً ورد في عدد من المرات، إحداها قوله تعالى {..إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} العنكبوت 45.

والأمر والنهي ثنائية تتألف من ضدين، نجد مثلها كثيراً في التنزيل الحكيم نذكر منها: الليل والنهار، السماء والأرض، الأعمى والبصير، الشفع والوتر، البعيد والقريب، الدنيا والآخرة، الجنة والنار، العلم والجهالة، الأول والآخر، الموت والخلود، الثواب والعقاب، وغيرها. والأمر والنهي ثنائية من بين أربع ثنائيات تشكل المعيار القرآني الناظم للسلوك الإنساني، هي:

  1. الحلال والحرام.
  2. الأمر والنهي.
  3. السماح والمنع.
  4. الحسن والقبيح.

ولعل من أفدح وأخطر ما انزلق إليه علماؤنا الأفاضل، ويصرون على سحب الأمة معهم إليه، هو أنهم يخلطون خلطاً عجيباً بين هذه النواظم الأربعة، فالحلال عندهم هو المستحسن والمسموح والمأمور به، والحرام عندهم هو المستقبح والممنوع والمنهي عنه. ويخلطون خلطاً أعجب بين هذه النواظم من جانب وبين المعروف والمنكر من جانب ثانٍ، فالمعروف عندهم هو الحلال المستحسن والمسموح والمأمور به، والمنكر عندهم هو الحرام المستقبح والممنوع والمنهي عنه.

من هنا لابد، قبل أن ندخل في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أن نعَرّف الأمر والنهي، والمعروف والمنكر.

1 – الأمر: أصل صحيح في اللسان له عدد من المعاني، بفتح الهمز وسكون الميم، أولها، طلب القيام بفعل أو قول يصدر من متكلم إلى مخاطب، الطالب فيه آمر يتمتع بفوقية أو بخصوصية ما والمطلوب منه مأمور، كما في قوله تعالى {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا..} هود 87، وفي قوله تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل..} النساء 58. ومنه اشتقت الأفعال (أمر، يأمر، مر)، ومنه أيضاً سمي الآمر أميراً على وزن فعيل لغلبة وكثرة إصداره للأوامر. ثانيها: الحال والشأن، كما في قوله تعالى {ليس لك من الأمر شيء..} آل عمران 128 وقوله تعالى {..فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} آل عمران 159. أما بكسر الهمزة وسكون الميم، فالأمر هو القول أو الفعل الشنيع المنكر كما في قوله تعالى {قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً} الكهف 71. والأمارة هي العلامة، أما الإمارة فهي مكان وزمان ممارسة الأمير لعمله كأمير.

والهمزة والميم والراء (أ م ر) مفردة قرآنية وردت مشتقاتها في 248 موضعاً من التنزيل الحكيم، إن نحن تأملناها في مواضعها نلاحظ فيها أن للطلب جانبين: جانباً إيجابياً هو الأمر في مجال افعل، وجانباً سلبياً في مجال لا تفعل، وهذا ما قصدناه بقولنا إن الأمر والنهي ثنائية تتألف من ضدين تنظم السلوك الإنساني الواعي. ونلاحظ فيها ارتباطاً جدلياً بثنائية أخرى هي (الطاعة والمعصية)، إذ بدون أمر أو نهي لا توجد طاعة ولا معصية. ونلاحظ أخيراً أن الأمر والنهي عند الطرف المخاطب المأمور مسألة اختيارية، إن شاء أطاع المطلوب منه فنفذه وإن شاء عصى على المطلوب منه فامتنع عن تنفيذه، وهذا بالضبط ما فعله آدم وزوجه حين عصيا أول نهي إلهي مشخص صدر لإنسان عاقل في قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} البقرة 35، وما فعل إبليس حين رفض تنفيذ أول أمر إلهي في قوله تعالى {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف 50. ونلاحظ أن أهمية الأمر يتغير عندما يتغير الآمر. فالله يأمر والناس تأمر ولكن هناك فرق بين أوامر الله وأوامر الناس.

2 – النهي: النون والهاء والياء (ن هـ ي) أصل صحيح في اللسان يدل على غاية وبلوغ، ومنه قولنا: أنهيت إليه الخبر أبلغته إياه، ونهاية كل شيء غايته ومنتهاه وآخره، والنّهى العقل لأنه ينهى عن قبيح القول والفعل. والنهي: طلب الامتناع عن قول أو فعل. وردت مشتقاته في ستة وخمسين موضعاً في التنزيل الحكيم، تحمل أحد المعاني التي شرحناها.

وكما أن الأمر عند المأمور مسألة طوعية اختيارية إن شاء أطاعه وإن شاء عصاه، كذلك النهي عند المنهيّ مسألة طوعية اختيارية إن شاء امتنع عما ينهى عنه وإن شاء لم يمتنع. بدليل قوله تعالى {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك..} الأعراف 12. وهذا يعني أن الطلب، أمراً كان أم نهياً لا يمكن أن يصدر إلا عن عاقل، ولا يمكن أن يصدر إلا إلى عاقل حُر. فثمة في كل أمر ونهي طرفان عاقلان بالضرورة: قائل يأمر أو ينهى دون إكراه وسامع ينتهي إليه القول فيأتمر به أو ينتهي عنه طاعة، أو لا يأتمر به ولا يمتنع عنه معصية، لكنه في الحالتين حر في اختياره غير مكره.

من هنا قلنا في موضع آخر ونحن نبحث في آدم، أول إنسان عاقل من البشر، وإن اللغة بدأت بين متكلم ومخاطب، وإن أول صيغة كلامية في اللغة بدأت بالأمر والنهي {وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} البقرة 35. ومن هنا نقول إن آدم عرف ربه بالمعصية لا بالطاعة، وعبّر عن حرية اختياره بالرفض لا بالقبول، وتجلت إرادته الإنسانية الواعية بعصيان نهي ربه له عن الاقتراب من الشجرة، عصياناً طوعياً اختاره آدم لنفسه دون إكراه.

لكن حرية الاختيار هذه عند الإنسان ليست حرية مفلوشة وطلقة لا يحدها حد. هذا الاستدراك الهام يأتي نتيجة لعدد من التساؤلات تنشأ من تأمل الآيات:

1 – هل تجسدت معصية آدم لربه، بحسب آية البقرة 35، في الأمر (أسكن) أم في النهي (لا تقربا)؟

2 – لماذا جاء طلب السجود إلى الملائكة بالقول، بينما جاء هذا الطلب نفسه إلى إبليس بالأمر، حسب قوله تعالى {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف 50.

3 – وهل ثمة فرق بين القول والأمر وفرق بين الملائكة والجن؟

الجواب على السؤال الأول، هو أن معصية آدم لم تتجسد في الأمر (أسكن)، فهو لم يرفض السكنى في الجنة، بل أطاع الأمر وسكن بدليل أنه وجد الشجرة، لكنه عصى ربه في أول نهي إلهي بدأت به الحياة الإنسانية الإرادية، كانت قبله كل الأشياء مباحة ولاوجود لمنهيات تحدها.

أما الجواب عن السؤالين الثاني والثالث، فهو أن ثمة فرقاً بين القول والأمر، وفرقاً بين الجن والملائكة، نتج عنهما اختلاف في أسلوب طلب السجود لآدم. فالقول الإلهي حكم مبرم قهري بدليل قوله تعالى لنوح {..إحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} هود 40، أي إلا من صدر حكم مبرم بحقه. والقول الإلهي كحكم قهري مبرم لا يتغير ولا يتبدل بدليل قوله تعالى {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} ق 29. والقول الإلهي، كحكم قهري مبرم لا يتبدل، حقيقة واقعية مرئية ملموسة مسموعة بدليل قوله تعالى {وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق يوم يقول كن فيكون قوله الحق} الأنعام 73. والقول الإلهي، باعتباره حكماً قهرياً مبرماً لا يتغير ولا يتبدل تحول إلى حق مرئي ملموس، لا خيار فيه، أي لا محل فيه للطاعة أو المعصية. بعبارة أخرى: القول الإلهي لا يمكن عصيانه، أما الأمر فيمكن أن يطاع ويمكن أن يعصى، وهذا هو أهم فرق بين القول الإلهي والأمر. لذا جاءت كل آيات الرسالة بأمر ونهي وليست بقول، ولايوجد صيغة: قال الله: صلوا، أو قال الله صوموا، فتصبح بهذا الصلاة والصوم قوانين موضوعية لاخيار فيها.

نأتي الآن إلى الفرق بين الجن والملائكة. فالملائكة مخلوقات ذات طاقة يمكن أن تكون (موجية} (جاعل الملائكة أولي أجنحة) في أصل تكوينها على الطاعة ولامحل عندها للرفض أو للعصيان، بدليل قوله تعالى {عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون مايؤمرون} التحريم 6، ولهذا فالأوامر الإلهية بالنسبة إليها أقوال لاخيار لها فيها ولاتملك لها رفضاً أو عصياناً.

أما الجن فمخلوقات عاقلة لاندري طبيعتها لها إرادة، كالإنسان تماماً، أي أنها قادرة بحكم تكوينها على المعصية مثلما هي قادرة على الطاعة، وقادرة على الإيمان مثلما هي قادرة على الكفر بدليل قولهم يصفون أنفسهم {وأنّا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} الجن 14. وبدليل عصيان إبليس أمر ربه في السجود لآدم. وهذا هو معنى عبارة (كان من الجن) في الآية التي تشرح سبب فسوق إبليس وخروجه عن الطاعة. أما من زعم من المفسرين أن إبليس كان من أعيان الملائكة، وأن الجن سموا جناً لاستتارهم وكذلك الملائكة ولهذا فهم داخلون في الجن، وأنه كان من خزنة الجنة يصوغ لأهلها الحلي منذ خلق (أنظر تفسير الرازي ج21 ص116) فهو هراء عوام جرى دسه في تراثنا الذي يصر علماؤنا الأفاضل على تقديسه لتكريس الجانب الخرافي في العقل العربي الإسلامي.

في ضوء هذا الفرق التكويني بين الجن والملائكة، نفهم لماذا جاء طلب السجود إلى الملائكة بالقول (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا) بينما جاء إلى إبليس بالأمر (ففسق عن أمر ربه).

يبقى قبل الانتقال إلى تعريف “المعروف والمنكر¨ أن نتوقف عند ما أشرنا إليه من خلط خطير بين النهي والحرام، ثمة عدد من الشواهد تمنع الخلط بينهما:

1 – اختلاف الألفاظ بمنع الخلط، فالنهي شيء والحرام شيء آخر. حتى إن تساهلنا مُغَلّبين المضمون على الشكل، نجد أن في الحرام نهياً، لكننا لانجد في النهي تحريماً على الإطلاق.

2 – التحريم شمولي أبدي لارجعة عنه ولا إضافة عليه إلا برسالة جديدة. فتحريم التدخين فقط يحتاج إلى رسالة ورسول.

3 – التحريم من خصوصيات الله تعالى حصراً، ولايحق لمخلوق كائناً من كان أن يدّعيه. أما قولهم: حرام محمد حرام إلى يوم القيامة، وحلال محمد حلال إلى يوم القيامة، فافتراء على النبي (ص) لايفلح من قاله، فلا يوجد عند محمد (ص) خارج التنزيل إلا النهي.

أما النهي، فالله ينهى، والنبي ينهى، والمخلوق ينهى، بدليل قوله تعالى {أرأيت الذي ينهى * عبداً إذا صلى} العلق 9 – 10.

4 – التراتبية التاريخية تمنع الخلط، فقد شرحنا كيف بدأت اللغة بالأمر والنهي، وكيف بدأ التكليف بهما عند أول إنسان عاقل هو آدم، بكلمة (أسكن) وكلمة (ولاتقربا)، ثم اتسع هذا النهي مع التطور الإنساني حتى عصر إبراهيم، لنجد أنفسنا لأول مرة امام نهي تحول إلى تحريم مكاني وذلك في قوله تعالى {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} إبراهيم 37. وبقي الأمر بالسكن عند آدم متمثلاً بكلمة (أسكن) على ماهو عليه عند إبراهيم متمثلاً بكلمة (إني أسكنت)، وأما نهي تحول إلى تحريم زماني وذلك في قوله تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} التوبة 36. ثم يستمر هذا التحريم المكاني والزماني في التوسع حتى يشمل الأفعال من أكل وشرب وغيرهما وذلك في عصر إسرائيل (يعقوب) بقوله تعالى {كُلّ الطّعَامِ كَانَ حِلّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلّا مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزّلَ التّوْرَاةُ..} آل عمران 93(1).

فإذا حلّ عصر موسى، جاءه الفرقان على شكل نواهٍ عشرة هي الوصايا، لكن هذه النواهي تتحول إلى محرمات عند خاتم النبيين محمد (ص)، بدلالة قوله تعالى {قل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم} الأنعام 151. وقل مثل ذلك في الربا الذي كان من النواهي عند بني إسرائيل {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه..} النساء 161، ثم أصبح من المحرمات في التنزيل الحكيم {وأحل الله البيع وحرم الربا} البقرة 275. ومع انتهاء عصر الرسل والرسالات وختمها بالرسالة المحمدية أقفل باب التحريم نهائياً إلى أن يرث الله الأرض وماعليها، لكن باب النهي والمنع بقي مفتوحاً، فالطبيب ينهى مرضاه عن التدخين، والدولة تصدر قراراتها بمنع التدخين في الأماكن العامة وتترك لسلطاتها التنفيذية مسؤولية تطبيق تلك القرارات، والإنسان – لاعتبارات شخصية خاصة به – يستحسن أموراً وأشياء ويستقبح أموراً وأشياء ممارساً بذلك حريته الفردية دون أن ينكر على الآخرين حقهم في استحسان مايحبون واستقباح مايكرهون.

يبقى أخيراً أن نقف عند قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} النساء 31، وتحديداً عند عبارة {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.

إن أول مايستوقفنا هو أداة الشرط (إن) التي يستهل بها سبحانه آية النساء 31. تماماً كقوله تعالى {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} الحجرات 6، وقوله تعالى {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} سبأ 50. هذه الأداة تشبه (إذا) من حيث الشكل القواعدي، فكلتاهما أداة شرط، لكنها تختلف عنها من حيث المضمون والدلالة والمعنى. فالله تعالى يقول {إذا جاء نصر الله والفتح} النصر 1، ويقول {وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} البقرة 11، والفرق بينهما هو أن الأداة (إن) لاتدخل إلا على الأفعال المشكوك في وقوعها، أي التي قد تقع وقد لاتقع. أما الأداة (إذا) فالأفعال بعدها حتمية الوقوع بلا ريب. فاجتناب الكبائر في آية النساء 31 شرط لتكفير السيئات، لكن هذا الاجتناب مرهون بالخيار الإنساني، قد يقع إن اختار الإنسان الطاعة وقد لايقع إن اختار المعصية، وهذا يؤكد ماذهبنا إليه في الصفحات السابقة.

وإن ثاني مايستوقفنا هو عبارة {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}، التي نفهم منها أن في المنهيات كبائر وصغائر. فإن نحن استعرضنا التنزيل الحكيم وجدناه يذكر لفظ الكبائر في ثلاثة مواضع، ويذكر الصغائر في موضع واحد من تلك الثلاثة تحت عنوان “اللمم¨:

  1. {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} النساء 31.
  2. {وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشورى 37.
  3. {الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلّا اللّمَمَ} النجم 32.

وكما فهمنا من آية النساء 31 أن في المنهيات كبائر وصغائر، كذلك نفهم من آيتي الشورى 37 والنجم 32 أن في الآثام والفواحش كبائر ولمماً. لولا أن للمفسرين، للمرة العاشرة بعد الألف، رأياً عجيباً آخر لاندري كيف سكت عنه عقلاء هذه الأمة على مدى أربعة عشر قرناً مضت.

يقول الفخر الرازي في تفسير آية النساء 31:

  1. “روي أنه (ص) قال: ماتعدون الكبائر؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: الإشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات. وعن عبد الله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها: استحلال آمّين البيت الحرام وشرب الخمر. وعن ابن مسعود أنه زاد فيها: القنوط من رحمة الله واليِأس من روح الله والأمن من مكر الله¨ أ هـ (أنظر ج10 ص62).
  2. ويقول ابن كثير في تفسيره للآية: “عن طاوس قال: قلت لابن عباس: ما السبع الكبائر؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب¨ أ هـ (وهذه السبعين هي التي صنفها الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتاب له مشهور).
  3. يروي ابن كثير عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس: كم الكبائر؟ سبع؟ قال: هن إلى السبعمائة أقرب.
  4. ويقول الفخر الرازي: “من الناس من قال: جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة. فمن عمل شيئاً منها فليستغفر الله، فإن الله تعالى لايخلد في النار من هذه الأمة إلا مرتداً عن الإسلام، أو جاحداً لفريضة، أو مكذباً بقدر¨ أ هـ.
  5. يقول ابن كثير: “شتم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الكبائر¨ أ هـ.

والتأمل في الفقرات الخمس يرسم لنا مستويات مختلفة من الكبائر ابتداء من التنزيل الحكيم إلى عصر التابعين والفقهاء.

1 – الكبائر في المستوى القرآني:

تنقسم الرسالات السماوية عموماً، والرسالة المحمدية خصوصاً، إلى قسمين: أوامر ونواهٍ. أوامر تنظم وتحكم الجانب الإيجابي من السلوك الإنساني في مجال (افعل)، ونواهٍ تنظم وتحكم الجانب السلبي من السلوك الإنساني في مجال (لاتفعل). وكما تنقسم النواهي في التنزيل الحكيم إلى كبائر وصغائر (لمم) حسبما شرحنا في فقرات سابقة، يأتي الشرك بالله على رأسها جميعاً. كذلك تنقسم الأوامر إلى كبائر وصغائر تبدأ بالإيمان بالله واحداً أحداً وتنتهي بإماطة الأذى عن طريق المارة، مروراً بالإيمان باليوم الآخر مترافقاً ذلك كله بعمل صالح ينفع الناس.

وكان من فضل الله على المؤمنين به المطيعين لأوامره أن حبب إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان (الحجرات 7)، أما الكفر فمعروف وهو اتخاذ موقف علني عدائي ضد أمر ما أو شخص ما كمعاداة الرسالة المحمدية واتخاذ موقف عدائي منها هو كفر بها. وأما الفسوق فهو مخالفة الأوامر والخروج عنها كما في قوله تعالى عن إبليس {ففسق عن أمر ربه} الكهف 50، وأما العصيان فهو عدم ترك الإنسان العاقل المكلف لما نُهي عنه وماكلف بتركه كما في قوله تعالى {وعصى آدم ربه فغوى} طه 121. وبالنسبة للملائكة هو عصيان الأوامر الإلهية {لايعصون الله ما أمرهم} لأن مفهوم الفسوق غير وارد إطلاقاً بالنسبة للملائكة.

إذن:

الكفر: موقف علني عدائي من أمر ما فهو كفر به. فالبخيل كافر بالنعمة {الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} النساء 37.

الفسوق: هو مخالفة أوامر رب العالمين {ففسق عن أمر ربه}.

العصيان بالنسبة للإنسان: هو فعلُ نواهي رب العالمين {وعصى آدم ربه فغوى}.

تماماً كما كان من رحمة الله بالعاصين لنواهيه أن أشار إلى وجود مجموعة جليلة القدر من هذه النواهي (أطلق عليها اسم الكبائر، من انتهى عنها وتجنبها كفّر الله سيئاته وأدخله مدخلاً كريما (النساء 31). هذه المجموعة وضعها التنزيل الحكيم خارج حيز الاجتهاد الإنساني فجعلها من المحرمات:

نواهي التنزيل الحكيم تقسم إلى قسمين:

آ – الكبائر الثابتة على مر الزمن وهي المحرمات.

ب – الصغائر وهي اللمم.

ولكن إن كان إحصاء النواهي والمحرمات في التنزيل الحكيم ممكناً، فإن إحصاء الكبائر مستحيل لسبب بسيط، هو أن هذه الكبائر قد تكون من المحرمات وقد لاتكون. بل للسائد الاجتماعي دور أساسي في جعلها كذلك. فالشرك بالله وأكل الربا ومعاقرة الخمر كانت على رأس الكبائر السائدة في المجتمع القرشي على مدى الثلاثة عشر عاماً الأولى من عمر البعثة المحمدية، ثم انضم إليها الفرار من الزحف في المجتمع المديني بعد نزول الإذن بالقتال ولم يكن قبلها من الكبائر. وهذا شاهد أول. ولقد شاع إتيان المنكرات علناً في قوم لوط وعلى رأسها اللواطة، الأمر الذي جعلها من أكبر الكبائر عندهم إلى حد احتاجوا معه إلى نبي رسول يعيدهم إلى السبيل الحق وتم تدميرهم، وهذا شاهد ثانٍ.

صحيح أن التنزيل الحكيم سلط الأضواء على عدد من النواهي. فكرر ذكرها في أكثر من موضع، لكنه لم يطلق عليها أبداً اسم “كبائر¨. ومن هنا نفهم لماذا وردت هذه اللفظة نكرة مضافة ولم تأت معرفة في المواضع الثلاثة من التنزيل الحكيم، لأن التعريف تخصيص والتخصيص تثبيت، والتثبيت فقط للمحرمات على أنها كبائر، حيث يمكن إطلاق مصطلح الكبائر على المتغيرات الخاضعة للضرورة الاجتماعية في وقت ما ومكان ما ولكن بدون إضافتها للمحرمات كما أسلفنا.

2 – الكبائر في المستوى النبوي:

لاشك في أن فهم النبي (ص) لمسألة الكبائر – شأنه في ذلك كجميع المسائل الأخرى – لايخرج أبداً عن المقصد الإلهي العام في التنزيل الحكيم. من هنا نراه في الحديث النبوي المنسوب إليه عند الرازي – إن صح – يعد قول الزور وقذف المحصنات الغافلات بين الكبائر. وهذا أمر طبيعي في مجتمع ناشئ كمجتمع المدينة المنورة الهدف منه تحصين علاقاته الاقتصادية والتجارية والقضائية، ويراد تمتين علاقاته الأسرية والعشائرية على أسس نظيفة بريئة من الأدران والشوائب. وأمر طبيعي أن لايتعرض فيه لذكر الظلم – مثلاً -، رغم أن الظلم بلا خلاف أفدح خطراً على المجتمع من قول الزور وقذف المحصنات مجتمعين. والسبب هو أن مجتمع المدينة المنورة في العصر النبوي لم يكن فيه حكام ظالمون ولا سلاطين مستبدون ولا أمراء وولاة غاصبون.

ولاشك في أن النبي (ص) – وهو يسأل أصحابه: ماتعدون الكبائر؟ – لم يفته القصد الإلهي من ورودها نكرة غير معرفة، ومعممة غير مخصصة ولامحددة ولا موصوفة ولا معرفة.

ولاشك أخيراً في أنه (ص) – وهو يعدد لأصحابه الكبائر – إنما كان يعدد مايعتبره كبائر في تلك اللحظة بعينها في ذلك المجتمع بعينه، دون أن ينفي ذلك أن يتغير التصنيف في لحظات أخرى أو في مجتمعات أخرى، بدليل ماورد في الخبر ذاته من أن ابن عمر “ذكرها وزاد فيها¨، ومن أن ابن مسعود “ذكرها وزاد فيها¨، ومن هنا – كي يستقيم ذلك كله – نرى أن سؤال النبي (ص) لأصحابه: ماتعدون الكبائر؟ سؤال غير صحيح، والصحيح أن يسألهم: ماتعدون في الكبائر؟ وأن الوهم فيه جاء من الرواة.

3 – الكبائر في المستوى الصحابي:

كانت الكبائر الثابتة في التنزيل الحكيم هي المحرمات – كما شرحنا آنفاً – جاء ضمنها عدد من النواهي، ثم صارت في الحديث النبوي تسعاً، ثم زاد فيها عبد الله بن عمر اثنتين وزاد فيها عبد الله بن مسعود ثلاثاً، ثم قفزت عند عبد الله بن عباس إلى السبعين برواية طاوس، وإلى السبعمائة برواية سعيد بن جبير، ثم لتصبح عنده “كل مانهى الله عنه¨ و”كل ماعُصي الله فيه¨(2).

ثمة سلسلة من التساؤلات يطرحها كل متأمل في الفقرات الخمس التي استقيناها من تفسيري الرازي وابن كثير آنفاً. أولها: هل كان عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود حاضرين حين طرح النبي (ص) سؤاله: ماتعدون الكبائر؟ فإن كانا كذلك فكيف جاز لهما أن يزيدا على ماقاله النبي (ص) كبائر لم يقلها؟

ثانيها: الفقرات 2، 3، 4، تروي أقوالاً لابن عباس في الكبائر لم يسندها الخبر إلى النبي (ص)، ومثل هذا كثير جداً في كتب الحديث. وكان يمكن ألا يقف عندها المتأمل طويلاً لولا أنها تحولت عند التابعين وتابعيهم فيما بعد – كما سنرى – إلى أصل تشريعي لا يجوز الخروج عنه أسس عليها الفقهاء الخمسة فقههم، رغم ماتطفح به كتب الأخبار من نقد الصحابة بعضهم بعضاً، نقداً يرتفع حيناً إلى حد التكذيب، ويصل حيناً إلى حد الطعن في النسب، ويبلغ حيناً حد الاتهام بالردة والكفر والنفاق.

ثالثها: انسلاخ الحديث والخبر، سواء أكان نبوياً أم صحابياً، عن إطار الزمن من جانب وعن سياق التراتبية التاريخية من جانب آخر، فالرواة يهمهم الحديث بعبارته، ولايهمهم – إلا فيما ندر – متى قيل وأين وقبل ماذا وبعد ماذا. فنحن أمام ثلاث آيات من التنزيل الحكيم ورد فيها ذكر الكبائر، إحداها مكية هي آية الشورى 37 واثنتنا مدنيتان. والرازي في تفسيره يذكر حديث النبي (ص) عن الكبائر في سياق تفسير آية النساء 31 المدنية. والسؤال الآن: هل ظل الصحابة، وخلفهم كل من آمن بالرسالة المحمدية، سنوات لايعرفون شيئاً عن الكبائر التي وردت في آية الشورى المكية حتى نزول آية النساء بعد الهجرة؟

رابعها: قول ابن عباس: الكبائر كل مانهى الله عنه وكل ماعُصي الله فيه. وهذا قول عجيب يصدر – إن صح – عن حبر الأمة وترجمان القرآن وإمام الفقه؟؟ وكأنه لم يسمع بالآيات الثلاث التي ذكرت فيها الكبائر، وأعلن فيها تعالى بكل وضوح أن ثمة كبائر وصغائر ولمماً. أو كأنه سمع بها ولم يفهمها، أو أنه فهم مافيها من رحمة وتيسير واختار أن يكون ملكياً أكثر من الملك وغالى في التشدد.

خامسها: قول ابن عباس: هي إلى السبعمائة أقرب. وهذا قول أعجب من سابقه، وأشبه بالهذر والهراء من أي شيء آخر. فقارئ الآيات الثلاث في التنزيل الحكيم يفهم بلا خلاف أن الكبائر هي بعض النواهي وهي بعض الآثام والفواحش. وإذا كان هذا البعض يساوي سبعمائة عن ابن عباس فكم عدد كل النواهي والآثام والفواحش عنده؟

لقد كان يمكن أن تعتبر هذه “السبعمائة¨ عند ابن عباس عدداً يقصد به التكثير، تماماً كما في قوله تعالى {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة..} البقرة 96، وقوله تعالى {..إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} التوبة 80.

لولا أن الألف في البقرة 96 ليست (999›1) والسبعون في التوبة 80 ليست (69›1) أي أنها ليست أعداداً حقيقية لها قيمة حسابية عددية، بل المقصود منها التكثير على سبيل المجاز، وهذا غير قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة..} النور 2، وغير قوله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين متتاليين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} المجادلة 58. وغير قوله تعالى {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} البقرة 196، فالمئة في النور2، والستون في المجادلة 58، والعشرة في البقرة 196، أعداد حقيقية لها قيمة حسابية لا يجوز أن تزيد ولا أن تنقص، ومع ذلك إن كان يقصد بها الكثرة فهي بالواقع ليست كثيرة. والثابت منها على مر الزمان واختلاف المكان هو محرمات التنزيل الحكيم فقط.

4 – الكبائر في مستوى التابعين وتابعيهم:

من المفيد ونحن نتحدث عن الصحابة أن ننتبه إلى أنهم مجموعة من الناس يتباين أفرادها بعضهم عن بعض في الطباع والمشارب والقدرات الفكرية رغم مايجمعهم ويوحدهم في الجانب العقائدي من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإيمان باليوم الآخر وبالعمل الصالح وتصديقهم بالرسالة المحمدية، فمنهم الشجاع المقدام والجبان المتردد، وفيهم الكريم المعطاء والبخيل الممسك، وبينهم الأريب الداهية والساذج الطيب القلب. لكل منهم أسلوبه الخاص المتميز في رؤية الأشياء، ولكل منهم موقفه الخاص المتميز من الأحداث والوقائع. وهذا ما أشار إليه النبي (ص) في حديث – إن صح – رواه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.

كانوا إذا اشتد بهم الخلاف لايتورعون عن نقد بعضهم بعضاً، نقداً يصل إلى حد السخرية الصريحة والشتم العلني. يروي العسقلاني في ترجمته لأبي هريرة من كتاب “الإصابة¨:

– قال أبو هريرة: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله (ص) والله الموعد، إني كنت امرأً مسكيناً أصحب رسول الله (ص) على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق والأنصار يشغلهم القيام على أموالهم. أ هـ (ج4 ص 207).

– قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث بشيء ما سمعته. فقال: يا أمّه، شغلتك عنها المكحلة والمرآة، وما كان يشغلني عنها شيء. أ هـ (المرجع نفسه ص 208).

ومن حديث الإفك عند البخاري في صحيحه وعند ابن هشام في سيرته وعند الطبري في تاريخه نقتطف الفقرة التالية واللفظ فيها لعائشة عند الطبري:

“قالت: وقام رسول الله (ص) في الناس يخطبهم وأنا لاأعلم بذلك ثم قال: أيها الناس مابال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن بغير الحق. والله ماعلمت منهن إلا خيراً. ويقولون ذلك لرجل والله ماعلمت منه إلا خيراً، ومادخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي، فلما قال رسول الله (ص) تلك المقالة، قام أُسيد بن حُضير الأوسي أخو بني عبد الأشهل فقال: يارسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك فوالله إنهم لأهلٌ أن تُضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة – سيد الخزرج – فقال: كذبت لعمر الله لاتُضربُ أعناقهم، أما والله ماقلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ماقلت هذا. قالت: وتشاور الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر..¨ أ هـ (أنظر تاريخ الرسل والملوك للطبري ج2 ص614، 615).

ومن خبر مقتل عثمان عند الطبري في تاريخه، ومن ترجمة جبلة بن عمرو الساعدي عند العسقلاني في الإصابة، نقتطف المعلومة التالية:

– “مر عثمان بن عفان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره، فقال جبلة: يانعثل(3) والله لأقتلنك ولأحملنك على فلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار..¨ أ هـ (أنظر تاريخ الرسل والملوك ج4 ص 365).

– “وروى ابن شبة في أخبار المدينة عن طريق عبد الرحمن بن أزهر أنهم لما أرادوا دفن عثمان انتهوا به إلى البقيع فمنعهم جبلة بن عمرو الساعدي من دفنه فانطلقوا إلى حش كوكب فدفنوه فيه. قال ابن السكن: جبلة بن عمرو الساعدي شهد أحداً. أ هـ ¨ (أنظر الإصابة ج1 ص 223).

ذلك غيض من فيض عرضناه كأمثلة يطفح التراث بأشباهها عن شجار الصحابة وسب وشتم بعضهم بعضاً على مرأى ومسمع النبي (ص). أما إذا احتدم بينهم الاختلاف حول إمارة أو خلافة سلت السيوف وأشرعت الرماح وتساقطت الرؤوس كالمطر في المواسم. ونكتفي حول هذه النقطة بالإشارة إلى حربين مازالت الأمة تعيش عقابيلهما حتى اليوم هما الجمل وصفين، وقعتا في عام واحد هو عام 36 هـ وبينهما سبعة شهور. فالقتال في حرب الجمل وقع في يوم خميس من جمادى الآخرة، واستمر يوماً واحدا وبعض يوم (أنظر تاريخ الرسل والملوك للطبري ج4 ص 514) سقط خلاله خمسة عشر ألف قتيل، عشرة من أهل البصرة وخمسة من أهل الكوفة عدا الجرحى والمصابين، بينهم سبعون شيخاً كلهم قد قرأ القرآن (المرجع نفسه ص 539)، وكان جيش علي عشرين ألفاً وجيش عائشة ثلاثين ألفاً (المرجع نفسه ص505). أما القتال في حرب صفين فوقع في ذي الحجة، إلا أنه لم يكن قتالاً بين جيشين كما في معركة الجمل، بل غلب عليه طابع المبارزات الفردية، التي استمرت إلى جانب المفاوضات بين الجانبين المتقاتلين شهراً كاملاً هو شهر ذي الحجة، وانتهت كما هو مشهور بالدعوة للاحتكام والتحكيم. الغريب أننا لم نجد أحداً من أهل الأخبار والتواريخ حدد رقماً لعدد القتلى في صفين، كما فعل الطبري في قتلى الجمل، كل ماوجدناه هو عدد جيش علي الذي قدره الطبري بأربعة وعشرين ألف مقاتل (أنظر تاريخ الطبري ج4 ص 565)، وإشارات إلى أن جيش الشام كان أكثر من ذلك، وفقرات تبين بوضوح أن القتال على مدى شهر كامل لم يخرج من المبارزات الفردية أو المواقفات بين مجموعات صغيرة. يقول الطبري (ص 574 من تاريخ): “..فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج في جماعة، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة، فيقتتلون في خيلهما ورجالهما ثم ينصرفان. وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشام لما يتخوفون أن يكون في ذلك من الاستئصال والهلاك، فكان علي يخرج مرة الأشتر ومرة حجر بن عدي ومرة شعث بن ربعي ومرة خالد بن العمر ومرة زياد بن النضر الحارثي ومرة زياد بن خصفة التيمي ومرة سعيد بن قيس ومرة معقل بن قيس الرياحي ومرة قيس بن سعد، وكان أكثر القوم خروجاً إليهم الأشتر. وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد المخزومي وأبا الأعور السلي ومرة حبيب بن مسلمة الفهري ومرة ابن ذي الكلاع الحميري ومرة عبيد الله بن عمر بن الخطاب ومرة شرحبيل بن السمط الكندي ومرة حمزة بن مالك الهمذاني، فاقتتلوا من ذي الحجة كلها وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين أوله وآخره، فلما انقضى ذو الحجة تداعى الناس إلى أن يكف بعضهم عن بعض في محرم لعل الله أن يجري صلحاً أو اجتماعاً¨ أ هـ.

وسواء عرفنا عدد قتلى صفين أم لم نعرف، وصح عدد قتلى الجمل أم لم يصح، فقد كانت الحربان مخيفتين بكل المعايير والمقاييس، وأبشع من أن تنفع فيهما عمليات تجميل. ففي المعيار السكاني سقط عدد من القتلى لو أننا حسبناه بمعيار اليوم لكان أكبر من قتلى هيروشيما وناكازاكي مجتمعين، وإذا قارناه بعدد من سقط من القتلى في جميع ماجرى من معارك في العصر النبوي الذي لم يتجاوز بضع مئات من الجانبين، فهمنا أن النبي (ص) في كل معاركه، كان يقصد استيعاب المعارضين واستمالة الخصوم، أما في معركة الجمل فكان كل طرف ينوي تصفية الآخر واستئصاله نهائياً. وهكذا ظهر الفكر الاستئصالي في الإسلام السياسي، وبذور هذا الفكر الاستئصالي بدأت يوم توفي النبي (ص) في سقيفة بني ساعدة عندما تم استئصال الأنصار سياسياً بشكل كامل، وظل إلى يومنا هذا. وفي المعيار العقائدي انشطرت الأمة في حرب الجمل إلى طائفتين ثم تكرس هذا الانشطار وتجذر في حرب صفين، لابل إننا نرى أن هذا الانقسام الطائفي كان ثاني أسباب حرب صفين، التي أنتجت ثاني عصيان غير فردي لإرادة الحاكم، وثاني خروج جماهيري على أوامر الأمير، أما العصيان الأول والخروج الأول فكان على عثمان بن عفان، وأما السبب الأول في الحربين فهو الخلاف على الإمارة (خلاف سياسي بحت).

يقول الطبري في تاريخه ص 508 ومابعدها تحت عنوان “خبر موقعة الجمل¨: “…فلما تواقفوا خرج علي على فرسه فدعا الزبير، فتواقفا، فقال علي: ماجاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ولا أولى به منا. قال علي للزبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته؟ سلّط الله اليوم على أشدنا مايكره، أما بايعتني؟ قال الزبير: بايعتك وفي عنقي اللج. أ هـ.

ويقول على ص 573 في تاريخه: “.. ثم إن علياً دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمذاني وشبت بن ربعي التميمي فقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة وإلى الجماعة وانظروا مارأيه – وهذا في أول ذي الحجة – فأتوه ودخلوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمروا وقال: يامعاوية، إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك. وإني أنشدك الله أن تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها. فقطع معاوية عليه الكلام وقال: هلا أوصيت صاحبك بهذا (أنجيب دعوته لنا إلى الطاعة والجماعة) ونطل دم عثمان؟ لاوالله لاأفعل ذلك ابداً، فبادر شبت بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه وقال: يامعاوية، إني قد فهمت ماوردت به على ابن محصن، وإنا والله لايخفى علينا مانغزو وماتطلب، إنك لم تجد شيئاً تستقوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا أن تقول: قتل إمامكم مظلوماً فنحن نطالب بدمه..¨ أ هـ.

إننا نفرق بين الحرب والقتال، ونميز بين القتال والجهاد، ولهذا نقول: إن حرباً ضروساً اندلعت يوم السقيفة لم يجر فيها قتال، لكنها بالمقابل لم تنته باستلام أبي بكر للحكم واستئصال الأنصار سياسياً، بل بقيت نارها تحت رماد نفضته معركة الجمل، ومرة أخرى لم تنته الحرب بانتهاء الجمل وانقسام الأمة إلى طائفتين، بل عادت لتلتهب في صفين، وليولد بسببها فرع جديد ثالث هو الخوارج، ثم لتنقسم الأمة إلى سفيانية ومروانية وزبيرية وطالبية وعباسية، لكل قسم أئمته وفقهاؤه ولكل طائفة تراثها وثقافتها ومعتقدها، كل منهم يزعم أنه الفرقة الناجية وأنه في الجنة وجميع من عداه في النار. وتبقى حرب السقيفة حية في وجدان الناس تنتفض عن جمرها الرماد بين الآونة والأخرى في معركة هنا أو في مذبحة هناك. وحتى هذا اليوم فإن الإسلام السياسي يقوم على أساس الاستئصال وتصفية الآخر، وذهنية الاستئصال والتصفية دخلت في ثقافتنا عند كل من يمارس العمل السياسي ويشاركنا في هذه الثقافة السياسية الشيوعيون. لذا فلا يستغرب القارئ مقارنتنا بين الإسلام السياسي والشيوعية السياسية فكلاهما وجهان لعملة واحدة.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – إن صح – أن رسول الله (ص) قال: ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يزود الرجل إبل الرجل عن إبله. قالوا: يانبي الله أتعرفنا؟ قال: نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون علي غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يارب هؤلاء من أصحابي. فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ماأحدثوا بعدك؟ أ هـ.

لقد أطلنا الكلام – عامدين – في تفاصيل بعض ماكان يجري بين الصحابة في العصر النبوي وبعده من نقد لاذع وسب وشتم وتكفير لابد معه من القتال بالسيف، وكل منهم يعتبر أنه المقبول على الحوض في حديث مسلم وأن جميع الباقين هم من المردودين المضروبة وجوههم عنه، حتى كأنهم المقصودون بقوله تعالى {وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون} الروم 32، وبقوله تعالى {فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} المؤمنون 53. لنخلص إلى القول: برغم كل ماجرى – سواء ذكرنا أم لم نذكر – فقد كان الصحابة جميعاً أصحاب عقل ورأي وموقف، بغض النظر عن صحة هذا الموقف أو عن خطأ ذلك الرأي، أما التابعون وتابعوهم فلا عقل ولا رأي ولا موقف، ومع غياب العقل وتغييبه تسود الأوهام وتسيطر الخرافات، ومن هنا نجد أنفسنا اليوم في كتب السيرة النبوية أمام أخبار ملفقة موضوعة عن معجزات خرافية منسوبة للنبي (ص) تبدأ بغمامة فوق رأسه تسير معه أنى سار، وبخاتم نبوة بين كتفيه كالتفاحة يعرفه به كل من رآه، وتنتهي بعراجين نخل تتحول بيد النبي (ص) إلى سيوف، وبعيون مقلوعة وأذرع مقطوعة وأكتاف مخلوعة تعود ببصقة واحدة مباركة من النبي (ص) كما كانت وأحسن.

ومع غياب الآراء ومصادرتها والمواقف وقمعها، وولادة أجيال من التابعين رضعوا الدونية مع الجبرية والذل مع التصوف، يسود التواكل ويسيطر التقليد الأعمى ويندحر التفكر والتدبر في كتاب الله تعالى أمام عبارات مثل “قال زيد¨ و”روي عن عمرو¨. ومن هنا وجد أهل المسانيد وأصحاب الصحاح أنفسهم أمام مئات ألوف الأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص) التي لا يمكن عقلاً أن تصح كلها(4)، لأن معظمها – إن لم يكن كلها – وضعت في عصر التابعين أي في عصر الأمويين. فإن صحت فلا يمكن عقلاً أن تكون سنة واجبة الإتباع، لأن فيها مالا يتضمن حكماً شرعياً من جانب، ولأننا مأمورون بطاعة الرسول حصراً والتأسي به من جانب ثان، ولأن الالتزام بتطبيقها أمر عسير جداً يخرج عن قوله تعالى {..يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر} البقرة 185.

قلنا إن النهي أحد محورين – ثانيهما الأمر – تدور حولهما الرسالات السماوية، وإن الكبائر في التنزيل الحكيم جزء من النواهي وهي المحرمات. وتحدثنا عن الفروقات بين النهي والتحريم أولها أن النهي ظرفي وأن الإنسان يجتهد في طاعته وفي معصيته، أما التحريم فهو شمولي وأبدي، وثانيها أن الكبائر يمكن أن تزيد أو تنقص حسب السائد الاجتماعي (مثال: إذا انتشرت مخالفة قوانين السير وكثرت الحوادث فيمكن اعتبار مخالفة قانون السير من الكبائر وتطبيق أقصى العقوبات ماعدا الإعدام، حتى تستقيم الأمور). أما المحرمات فلا تزيد ولا تنقص ولاتخضع لمتغيرات الزمان والمكان، فقتل النفس بغير حق ونكاح الأم أو الأخت – مثلاً حرام في القرن السابع والقرن العشرين والقرن الأربعين، وحرام في مكة ولندن ودمشق أياً كان السائد الاجتماعي فيها، ولقد أحصينا المحرمات في التنزيل الحكيم فوجدناها كالتالي:

1. الشرك بالله

2. عقوق الوالدين

3. قتل الأولاد خوفاً من الفقر

4. الاقتراب من الفواحش (زنا / لواط / سحاق)

5. قتل النفس بغير حق

6. أكل مال اليتيم

7. التطفيف في الكيل والميزان

8. التزوير في الشهادة ظلماً

9. النكث بالعهد، وهذا يختلف تماماً عن اليمين الذي أحل الله لنا كفارته، فقسم الطبيب هو عهد الله للالتزام تجاه المرضى ولا يمكن تكفيره بصوم ثلاثة أيام أو إطعام عشرة مساكين، وهناك في ثقافتنا التباس بين العهد واليمين.

هذه البنود التسعة هي الصراط المستقيم وهي الفرقان (الوصايا العشر) واتباعها جملة هي الوصية الأولى عند موسى بدلالة قوله: (اتبع تعاليم الرب إلهك) وبدلالة الآية 153 من سورة الأنعام. وكانت عند موسى من المنهيات فارتفعت الدرجة عند محمد (ص) فانتقلت إلى المحرمات.

10. نكاح المحرمات (أم / أخت / بنت .. وغيرها)

11. أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الدم السائل.

12. أكل الربا وكان عند موسى من المنهيات.

13. ارتكاب الإثم والبغي بغير الحق.

14. أن يقول الإنسان على الله مالا يعلم.

البنود الأحد عشر الأولى أعلاه واضحة ومحددة بشكل لاتحتاج معه إلى تفصيل، أما البندان الأخيران فمن المفيد الوقوف عندهما بالتأمل بعد أن لاحظنا ندرة الواقفين عندهما.آ – إن عبارة “بغير الحق¨ في البند 14، تخبرنا عن وجود إثم بغير حق وبغي بغير حق، وتشير بالقرينة في المقابل إلى وجود إثم بحق وبغي بحق، بعد أن قسمت آيتا الشورى 37 والنجم 32 الآثام إلى قسمين: كبائر ولمم، فما هو الإثم بحق وماهو البغي بحق؟

الإثم أصل صحيح في اللسان، ومفردة قرآنية وردت مشتقاتها في 48 موضعاً من التنزيل الحكيم، لاتخرج فيها عن أحد معنيين: الأول التخلف والتقصير كقولهم: أثمت الناقة أي تخلفت تقصيراَ عن باقي الركب. والثاني: التحرج كما في قوله تعالى {..فمن اضطر غير باغ ولاعاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} البقرة 173. والآثم هو الذي يفعل مايتحرج المرء من فعله. ونحن نرى أن المعنى الأول هو الإثم بحق وأن المعنى الثاني هو الإثم بغير حق. فالفارس الذي يتخلف في السباق عن أقرانه، والطالب الذي يقصر في دراسته فيأتي ترتيبه الثالث أو الرابع في الامتحان آثمان بحق. أما الذي يكتم الشهادة حين وجوب إعلانها فهو آثم بغير حق بدلالة قوله تعالى {وَلَا تَكْتُمُوا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} البقرة 283. من هنا نرى أن الخمر قد تكون إثماً بحق إن هي استخدمت للتخدير في العمليات الجراحية، كما كان يحصل قبل اكتشاف الكلوروفورم، وهنا نفهم ماهي منافع الخمر (السكر) للناس (فيهما إثم كبير ومنافع للناس) وقد تصبح إثما بغير حق إن شربها المرء حتى سكر وغطت على عقله حتى لايعلم مايقول أما دون حد السكر فشاربها ليس بشارب خمر أصلاً فهي ليست إثماً بالأصل. وقل مثل ذلك في الغيبة وفي التجسس. فالغيبة إثم بحق إن جاءت وصفاً لطالب عمل أو زواج وإثم بغير حق إن كانت انتقاصاً أو سخرية. والتجسس إثم بحق إن كان على الأعداء والمخربين وإثم بغير حق إن كان غير ذلك.

أما البغي فأصل صحيح في اللسان، ومفردة قرآنية وردت مشتقاتها في 96 موضعاً من التنزيل الحكيم، لايخرج فيها عن أحد معنيين: الأول، طلب الشيء سعياً لحيازته كما في قوله تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء 114، ومنه: بغت المرأة بغاء: أي خرجت في طلب الرجال (أساس البلاغة للزمخشري ص 27). والثاني: الخروج عن حد العدل إلى الظلم وعن حد اللين إلى الغلظة وعن حد الجفاء إلى القطيعة، كما في قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} الشورى 27، أي لخرجوا عن حد الإصلاح إلى الفساد. وفي قوله تعالى {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ} النحل 90. ومن هنا فنحن نرى في الاستقسام بالأزلام شكلاً من أشكال البغي بحق، إن هو اقتصر على القرعة في الألعاب الرياضية فهو بغي بحق، وإن احتكم إليه الفرد في أمور التجارة والزواج والسفر واحتكمت إليه الجماعة في أمور الحرب والسلم فهو بغي بغير حق، وكذلك السرقة فهي بغي بغير حق ودفع ثمن الحاجات هو بغي بحق. وهنا نفهم قول الرسول (ص) إن صح (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) وكل الأمور المشتبهات جاءت في النواهي الواردة في التنزيل الحكيم مثل الخمر والميسر والتجسس والغيبة.

ب – إن عبارة {وأن تقولوا على الله مالا تعلمون} الأعراف 33، موضوع التحريم في البند الرابع عشر، تشمل كل أنواع الفتاوى التي تصدر عن علمائنا الأفاضل لتقول هذا حلال وهذا حرام، ولتزيد عدد المحرمات حتى يبلغ المئات، مثالها الفتوى بتحريم التدخين وتحريم التبني وتحريم استئجار الرحم وتحريم الموسيقى والغناء وقس على ذلك والتخريجات في المعاملات التجارية مما أعطى تأسيس ما يسمى بالبنوك الإسلامية. والتي نرى فيها تطبيق الحيل الشرعية بامتياز، لأن هذه البنوك أسست على الحيل الشرعية، وغالباً مؤسسوها من المحتالين الشرعيين ولايوجد في التاريخ فقهاء (قانونيون) برعوا في التخريجات مثل السادة علمائنا الأفاضل.

هذا التحريم – كما نراه – نزل نهياً في أول الأمر بقوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} النحل 116، ثم جعل سبحانه هذا النهي تحريماً لأهميته وعظيم خطره.

والسؤال الآن: هل توسعت دائرة الكبائر على يد التابعين وتابعيهم؟ والجواب: نعم بكل تأكيد، مع فارق بسيط خطير هو أهداف هذا التوسيع ومآربه، التي لم تكن جلية واضحة في أغلب الأحيان لا في العصر النبوي ولا في عصر أصحابه.

كان الهدف الأول تكريس العصبية العشائرية التي انبثقت في سقيفة بني ساعدة من رحم خلاف على الإمارة بين الأنصار والمهاجرين، وبين الخزرج والأوس في الأنصار، وبين الطالبيين ممثلين بالإمام علي وزوجته وأولادهما من جانب، والهاشميين ممثلين بالعباس وأولاده وبالزبير وأولاده من جانب ثان، وبالأمويين ممثلين بأبي سفيان وأولاده من جانب ثالث، مع تشكيلة من العاصيين والمنافيين والعبشميين احتلت مكانة ثانوية في الخلاف على الإمارة من جانب رابع. وإذا كان أبو بكر وعمر قد استطاعا يوم السقيفة طمر نار الخلاف تحت الرماد ب، “فلتة¨ هي إلى المعجزة أقرب، إلا أن الجمر المطمور عاد إلى الاشتعال في الجمل وصفين. وكل هذا حصل بعد وفاة الرسول. فهو لا علاقة له إطلاقاً بكل القرارات والتصرفات السياسية التي حصلت ولتبرير أي تصرف سياسي لطرف على آخر وضعت الأحاديث النبوية زوراً وبهتاناً على النبي (ص).

في هذا الجو المشحون المضطرب ولد وشاع مصطلح غريب هو مصطلح “آل البيت¨، مصطلح قدر له أن يترك أكبر بصمة في صفحات التاريخ الإسلامي منذ ولادته إلى اليوم.

والآل والأهل، مفردتان قرآنيتان وردت أولاهما في خمسة وعشرين موضعاً من التنزيل الحكيم، ووردت مشتقات الثانية في 128 موضعاً منه، لاتخرجان في هذه المواضع جميعاً عن معنى الأصحاب والأتباع، ولابد لهما لهذا من مضاف إليه تعرفان به: آل فرعون، آل لوط، آل داوود، آل يعقوب، آل إبراهيم، آل موسى، آل هارون، أهل الكتاب، أهل الإنجيل، أهل القرى، أهل المدينة، أهل مدين، أهل الذكر، أهل البيت.

والعجيب أن معنى مصطلح “آل البيت¨ عند التابعين وتابعيهم لا علاقة له مطلقاً بمعناه الذي شرحناه آنفاً في التنزيل الحكيم، ففي تفسير قوله تعالى {إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا} الأحزاب 33. يقول الإمام الطبرسي في مجمع البيان ص 356: “والبيت التعريف فيه للعهد والمراد به بيت النبوة والرسالة، والعرب تسمي الأنساب بيوتاً فقالوا بيوتات العرب يريدون أنسابها.

وقيل البيت بيت الله الحرام وأهله هم المتقون على الإطلاق، وقيل البيت مسجد رسول الله (ص) وأهله من مكنهم رسول الله (ص) فيه ولم يخرجهم منه. وقد اتفقت الأمة بأجمعها على أن المراد بأهل البيت في الآية أهل بيت نبينا (ص) ثم اختلفوا، فقال عكرمة أراد أزواج النبي (ص) لأن أول الآية متوجه إليهن، وقال أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك ووائلة بن الأسقع وعائشة وأم سلمة أن الآية مختصة برسول الله (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام¨ أ هـ.

ونحن لن نقف عند قوله “وقد اتفقت الأمة بأجمعها¨ لما نعلمه علم اليقين من أن الأمة لم تتفق قط منذ أن لقي النبي (ص) وجه ربه إلى اليوم على أمر صغيراً كان أم كبيراً وخاصة في أمور الحكم والسياسة. ولن نقف عند حديث أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) – إن صح – أنه قال: نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة، فهو يتعارض مع مارواه أبو حمزة الثمالي في تفسيره عن شهر بن حوشب عن أم سلمة، الذي لاتعتبر فيه فاطمة من أهل البيت، ولن نقف عند معيار النسب في تحديد المعصومين الخمسة، لأن أمامنا خبراً رواه ابن عبد البر في ترجمة سلمان الفارسي من كتاب الاستيعاب عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن سلمان فقال: علم العلم الأول والآخر، بحر لاينزف، وهو منا أهل البيت. ولو كانت المسألة مسألة نسب لما قالها الإمام علي، ولو كانت كذلك لوجب اعتبار أبي لهب من أهل البيت، وهذا لايقول به عاقل. نحن لن نقف عند هذا كله، وسنكتفي بشاهدين من التنزيل الحكيم: الأول أن مصطلح آل البيت ومصطلح أهل البيت في كل مواضعه من التنزيل الحكيم لايشير مطلقاً إلى معيار النسب من قريب ولا من بعيد، ولكن يشير إلى الزوجة وقد ذكرت الزوجة في القرآن في هذا المعنى على أنها صاحبة ({يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)} عبس) وكذلك قوله تعالى {وَأَنّهُ تَعَالَى جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} الجن 3 وخصوصاً في الآية 34 من سورة الأحزاب حيث الحديث موجه إلى نساء النبي، والثاني قصة نوح (ع) وابنه في خبر الطوفان، حين يدعو نوح ربه قائلاً: {إن ابني من أهلي} هود 45 فيجيبه سبحانه: {إنه ليس من أهلك} هود 46. ولو كانت المسألة مسألة نسب لاغير لما قال تعالى ذلك. وقد حسم التنزيل الحكيم هذه المسألة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} الحديد 26. أي أن قلة من ذرية إبراهيم ونوح هم المهتدون وأكثرهم فاسق، أي أن النسب عند الله لايعني شيئاً.

نقول هذا ونحن نورد قوله تعالى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى} الشورى 23، فالله طلب منا أن نحفظ المودة إلى قرابة محمد (ص)، ولا أعتقد أن إنساناً من أتباع محمد (ص) لايكن الود والحب لأقرباء محمد (ص) ولكن بدون عصمة وبدون قدسية. أما آل محمد (ص) فهم كل أتباعه، أي كل من آمن بنبوته ورسالته، وكاتب هذه السطور منهم.

وكان الهدف الثاني تكريس الطائفية التي قسمت الأمة – ومازالت تقسمها – إلى قسمين، فلم يكتف التابعون بالكذب والتدليس على لسان الصحابة، كما فعل نافع مع ابن عمر وبرد مع سعيد بن المسيب وعكرمة مع ابن عباس، بل تعدوا ذلك إلى الكذب على لسان النبي (ص) بالوضع والإدراج.

1 – روى مسلم في صحيحه وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حيان في صحيحه وأبو داوود والبيهقي في سننهما وابن خزيمة في صحيحه عن جابر بن عبد الله خطبة النبي (ص) في حجة الوداع ورد فيها: “تركت فيكم مالن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله¨ أ هـ.

2 – وروى الطبراني في المعجم الكبير عن معاذ بن جبل خبراً طويلاً نسب فيه إلى النبي (ص) قوله: “إذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه¨ أ هـ.

3 – وروى الحاكم في مستدركه عن عكرمة عن ابن عباس خطبة النبي (ص) في حجة الوداع وفيها: “أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تصلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم¨ أ هـ.

4 – وروى الإمام أحمد في مسنده وابن حيان في صحيحه وابن ماجه في سنته (مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ) عن العرباضي بن سارية قال: قام فينا رسول الله (ص) ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. فقلنا: يارسول اله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً وسترون بعدي اختلافاً شديداً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. أ هـ.

5 – وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله (ص) في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي. أ هـ.

6 – روى الترمذي عن زيد بن ارقم قال: قال رسول الله (ص) إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. أ هـ.

7 – وذكر الإمام أحمد في مسنده (210) حَدّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللّهُ لَأُخْرِجَنّ الْيَهُودَ وَالنّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ

والمتأمل في هذه الروايات يجد نفسه أمام أمور أولها، هذا الاختلاف في ألفاظ خطبة النبي (ص) في حجة الوداع، مثاله (تركت فيكم / إني قد تركت فيكم / إني تارك فيكم) و(إن اعتصمتم به / إن تمسكتم به / إن أخذتم به) ونحن نفهم أن تختلف الألفاظ في أحاديث الآحاد باختلاف الرواة لكننا لانفهم أن يطال هذا الاختلاف خطبة سمعها ألوف الناس في عرفة. ثانيها، أن النبي (ص) وقف يوم عرفة يقرأ على الناس وصيته الأخيرة ولديه شعور بأنه لن يلقاهم بعد يومهم هذا – والبند الوحيد في وصيته – حسب حديث مسلم (1) والطبراني (2) – هو كتاب الله. فمن أين جاء الحاكم (3) بعبارة “وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) الذي يظهر الحشو بالإدراج فيها واضحاً؟ ومن أين جاء الإمام أحمد بعبارة “وسنة الخلفاء الراشدين المهديين¨ وهذا من علم غيب المستقبل؟ قد يقول قائل: لقد عرف النبي (ص) ذلك الغيب بالوحي. نقول فالسامعون لايعرفون عن الخلفاء الراشدين شيئاً، والنبي (ص) أعقل من أن يخاطب الناس بما لايعرفون بألفاظ معرفة بأل العهد وكأنهم يعرفونها. ومن أين جاء الترمذي (6) بعبارة “وعترتي أهل بيتي¨ فيقرن التمسك بهم بالتمسك بكتاب الله تعالى لابل هو أعظم، رابطاً الهدى بالنسب، في الوقت الذي يقول فيه سبحانه {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13، جاعلاً المعيار معيار عمل وتقوى وليس معيار نسب وقرابة من النبي. وأن الغالبية العظمى من ذرية إبراهيم ونوح هم من الفاسقين.

نلخص كيف تدرج الحديث مع الزمن كالتالي:

1 – كتاب الله.

2 – كتاب الله وسنتي › العشرة المبشرين بالجنة وكلهم من قريش ولايوجد فيهم أنصاري واحد.

3 – كتاب الله › سنتي › الخلفاء الراشدين المهديين.

4 – كتاب الله وعترتي أهل بيتي.

وكذلك راوي الحديث عن إخراج اليهود والنصارى من شبه جزيرة العرب لم يدرِ أن اليهود بقوا في اليمن حتى اليوم. أم أن اليمن ليست من شبه جزيرة العرب؟؟!

وهكذا حصلت أكبر عملية تزوير في التاريخ الإنساني ومثالاً على ذلك حديث العشرة المبشرين بالجنة وذكروا بالترتيب: أبو بكر – عمر – عثمان – علي والغريب أن هؤلاء العشرة كلهم من قريش ولايوجد أنصاري واحد ضمنهم، ويفهم أن تعيين العشرة المبشرين بالجنة جاء من الله فأصبح والحالة هذه إلهاً قبلياً. فكل مافعله الأنصار لم يستحقوا عليه ولا واحد، مع العلم أن الأنصار احتجوا على النبي (ص) عندما وزع الغنائم في معركة حنين ولم يعطهم شيئاً وأعطى حديثي العهد بالإسلام، ورد عليهم النبي (ص) بأن حصتهم من الغنائم أن سيبقى معهم في المدينة وأن حديث العشرة المبشرين بالجنة – إن صح0 وهو غير صحيح بالتأكيد منسوب إلى النبي (ص)، فلا أعلم حين سمع الأنصار هذا الحديث ماذا كانت ردة فعلهم وبأي وجه أو حجة سيواجههم بها النبي (ص). أم أن الأنصار وهذا الأغلب لم يسمعوا بهذا الحديث إلا بعد وفاة الرسول. وقس على ذلك في محتويات كتب الحديث التي يدعون أنها وحي ثانٍ وهذه المحتويات لاتستحق هذا اللقب لأن فيها إهانة كبيرة لكتاب الله. وخاصة الأحاديث التي لها علاقة بالحكم والسياسة وأحاديث العقوبات على ذنب تافه، أو الثواب على عمل تافه، أو ترديد كلمات معينة مرات عديدة.

بعد التابعين والتزوير ظهرت المذاهب الخمسة – مالك – أبو حنيفة – الشافعي – أحمد ابن حنبل – جعفر الصادق. وتم وضع أصول الفقه – الشافعي، وأصول العقيدة – أحمد بن حنبل) وقدم لنا الفقهاء بعد هذا ديناً اسمه دين الفقهاء يتصف بالمواصفات التالية:

1 – قدموا لنا إلهاً سادياً قبلياً مزاجياً متعطشاً للدماء يتلذذ بعذاب الناس ويهوى العيون المقلوعة والأيادي المقطوعة والبطون المبقورة والذي يعد على الناس عثراتهم وخاصة المؤمنين به. وإذا مر عليك أربعون يوماً بدون أن تصاب بهم أو غم أو أذى أو مرض، فعليك أن تعلم أنك بعُدتَ عن هذا الإله (اللهم أبقنا بعيدين عنه)، وهذه هي نفس مواصفات يهوه إله بني إسرائيل الذي وصفوه في كتبهم بإله القتل والحرق والتدمير، ولا أعتقد أن الناس بحاجة إلى إله بهذه المواصفات. هذا الإله يختلف تماماً عن الله سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه في التنزيل الحكيم، حيث ذكر (الرحمن) 57 مرة و(غفور رحيم) 57 مرة، أما (شديد العقاب) فأقل من ذلك، وأما (الجبار) و(المتكبر) فذكرت مرة واحدة فقط، سبحانه وتعالى عما يصفون.

2 – هذا الإله دائماً غاضب يعاقب الناس وجاءت هذه الأطروحة من ثقافات منطقة الشرق الأوسط ماقبل البعثة النبوية حيث وصف المجتمع ماقبل البعثة بأنه جاهلي، افترض الكثير أن بداية التاريخ هو البعثة المحمدية، فلم ينظر التابعون تأثير الثقافات الموجودة ماقبل هذه البعثة مثل الثقافة الفرعونية والبابلية والآرامية والفينيقية والفارسية والبابلية حيث تعود هذه الثقافات إلى آلاف السنين قبل البعثة المحمدية. وحيث أن الشعوب لاتصاب بفقدان الذاكرة الجمعي، فقد دخلت هذه الثقافات في العقيدة الإسلامية من خلال الأحاديث النبوية مثل حديث المعراج وحديث عذاب القبر والشجاع الأقرع. هذه الأحاديث التي أعطت فكرة سيئة عن الإله. ومثل حديث (لايدخل أحد الجنة إلا برحمة الله) ولا يمكن لإنسان مهما فعل أن يدخل الجنة بعمله، بينما التنزيل الحكيم يقول {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} و{تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}. هذه الثقافات كانت تقوم على تعدد الآلهة، فلكل إله اختصاص، فهناك إله الخصب وإله المطر وإله الجفاف وإله الصحة وإله المرض وإله الشمس حيث كان الناس لاتستوعب كل هذه الثنائيات. وبما أن الإنسان عنده مشاكل بشكل دائم، فإذا مرض فهذا يعني أن إله المرض غاضب عليه، وإذا حصل جفاف فإله الخصب غاضب عليه. وهذا يعني أنه يومياً هناك إله غاضب (زعلان) فعندما تم توحيد الآلهة بإله واحد، وأسقطت هذه الثقافات على الإله الواحد تبين أنه غاضب دائماً فأصبح الإنسان المؤمن العادي يعتقد أنه إذا أصابه صداع فهذا يعني أنه أذنب بحق الله، وأن الله يعاقبه، لذا اقتنع الناس بأنه لايدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، لابعمله، ومع أن هذا يخالف التنزيل الحكيم عمودياً. أي أن الإله الذي قدمه لنا الفقهاء هو إله سادي مزاجي قبلي غاضب دائماً وخاصة على عباده المؤمنين، والناس عند إله التنزيل الحكيم عباد، وعند إله الفقهاء عبيد. وحاشى لله أن يكون كذلك..

3 – وبما أن الحاكم ظل الله في الأرض وينفذ حاكمية الله، فكان الحاكم مزاجي متسلط يحمل مواصفات هذا الإله وهذه الظاهرة ترسخت منذ بداية بني أمية إلى اليوم فهي قديمة متجذرة في ثقافتنا ونشأ الفقه في ظل هذه الثقافة.

أهم مواصفات الفقه والعقيدة التي نشأت بعد التابعين:

آ – فقه لايحمل أية صفة عالمية إطلاقاً. بل الصفة المحلية وهو نسخة معدلة قليلاً عن الفقه اليهودي.

ب – لايحترم الإرادة الإنسانية إطلاقاً. (مثل قتل المرتد)

ج – فقه ذكوري بحت. والمرأة ليست أكثر من شيء.

د – الأدلة الشرعية وأدلة الاستنباط بدائية سقط فيها العقل والإرادة الإنسانية.

هـ – ترسيخ الشعور بالدونية تجاه السلف الذي ترسخ وتجذّر حتى يومنا هذا وصار جزءاً لايتجزأ من ثقافتنا.

و – احتقار الحرية والحياة الإنسانية وترسيخ العبودية، وبما أن العبودية لاتكون إلا لغير الله، لأن الناس عباد الله في الدنيا وليسوا عبيده. فالحر هو ضد الرق فقط، واحترام الحرية والحياة ليست من القيم العليا في الثقافة الموروثة.

ز – أما العقيدة فقد حولها أحمد بن حنبل إلى عقيدة بدائية ساذجة لاتصمد أمام أي منطق وجوابها هو التكفير، فهو لم يفرق بين كلام الله وكلمات الله، وكان من نتاجها ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب.

ح – ترسيخ الشعور الدائم بالذنب عند الناس، فمهما فعلت فأنت مذنب، وعلى كل من يحب الحياة ويكره الموت أن يشعر بالذنب.

ط – ثم جاء الغزالي ليغلق باب الفلسفة والعقل تماماً حيث استقال العقل العربي تماماً وتحول الناس إلى قطيع وهم كذلك إلى اليوم – السادة العلماء الأفاضل – يحولون الناس إلى قطيع للحاكم ولكن هذا القطيع يسهل تحويله إلى قطيع بدون عقل أيضاً يقتل نفسه والآخرين. أي أن العلماء الأفاضل (الوسطيين) يقومون بالمرحلة الأولى لغسيل الدماغ وهي ثقافة القطيع لتهيئة الشباب لدخول المرحلة الثانية وهي قتل النفس والآخرين، ولولا المرحلة الأولى لما كان هناك ثانية.

إننا نعي تماماً أن مانقوله لن يعجب الكثيرين من الطائفتين، لامن الذين اعتادوا الوصاية على دين الناس وعقولهم ومنعوهم من قراءة كتاب ربهم – اللهم إلا التجويد والحفظ عن ظهر قلب ونصبوا من أنفسهم حراساً على الجسور بين الله والعباد، لايمر عليها شيء إلا بإذنهم.

المعروف:

العين والراء والفاء (ع ر ف) أصل صحيح في السان ومفردة قرآنية وردت مشتقاتها في اثنين وسبعين موضعاً من التنزيل الحكيم، أولها في قوله تعالى {فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} البقرة 89. وآخرها في قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} المطففين 24. فمنه: المعروف، والعرف، والتعارف، والمعرفة، والعرافة.

فالمعروف: له معنيان، الأول المشهور والمعلوم كما في قوله تعالى {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} البقرة 228. والثاني: الإحسان والبر والصنيعة يسديها المرء لغيره كما في قوله تعالى {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً كان ذلك في الكتاب مسطورا} الأحزاب 6. وفي قوله تعالى {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} لقمان 15.

والعُرف: (بضم العين) وله عدة معان، الأول: نقيض النكر، والثاني: قمة الشيء وأعلاه، ومنه عرف الديك: لحمة مستطيلة في أعلى رأسه. والثالث: ماتواضع الناس عليه واشتهر في عاداتهم ومعاملاتهم. أما العَرف (بفتح العين) فهو الرائحة الطيبة المنتشرة، وقوله تعالى: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} محمد 6 أي جعلها معطارة فواحة. وأما العِرف (بكسر العين) لهو الصبر عند الزمخشري.

والتعارف: هو التواصل والتعايش بحيث يولد التقارب وداً معرفياً بين الإنسان وأخيه الإنسان أفراداً وجماعات. والتعارف هو الهدف الأسمى الذي أقام تعالى الوجود لأجله بدليل قوله سبحانه {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13.

المعرفة: هي العلاقة بين الوجود في الأعيان وصور الموجودات في الأذهان فهي بحث فلسفي بحت أي العلاقة بين الوجود الموضوعي والوعي الإنساني. أما العلم فهو مادخل معارف الإنسان فعلاً من العالم الخارجي موضوعياً أو اجتماعياً، لذا تجد في التنزيل الحكيم علم الله ولاتجد معرفة الله لأن الله يعلم كل شيء فعلاً ولايحتاج إلى نظرية في المعرفة. وفي العلم هناك ظاهر ومخفي فهناك معلومات تخفيها الدول عن الآخرين وكذلك الله لايحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء.

العِرافة: هي المعرفة الكاذبة المزيفة. فكما أن بين السالكين في دروب التصوف قلة صادقة هم أصحاب الخوارق وغالبية كاذبة هم أصحاب المخاريق، كذلك بين السائرين في دروب المعرفة هناك قلة أصيلة هم العارفون وغالبية مزيفة هم العرافون.

المعرفة توق يملك على طالبها أمره كله، لايشغله وهو يغرف من ينابيعها طمع في ثروة أو جاه أو سلطان، أما العرافة فحرفة لعلها الأقدم في تاريخ الجماعات الإنسانية. فالعراف هو الشامان الساحر وهو الهامان الحكيم، وهو الكاهن الطبيب وهو السادن الحارس لقرابين الآلهة وأصنام المعبودات. ويخطئ من يتوهم أن حرفة العرافة اندثرت باندثار العصور الوثنية، وأن العرافين لم يعد لهم وجود بعد زوال الأنظمة القبلية، فالمتأمل في سراديب التكايا وأنفاق المزارات المقدسة وأروقة أضرحة أهل الله سيكتشف – دون عناء – أنهم لم يندثروا ولم يزولوا، بل تحولوا إلى هيئات ومؤسسات ونقابات تحت أسماء جديدة وعناوين مبتكرة.

المنكر:

النون والكاف والراء (ن ك ر) أصل صحيح في اللسان، ومفردة قرآنية وردت مشتقاتها في 37 موضعاً من التنزيل الحكيم، أولها في قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران 104 وآخرها في قوله تعالى {ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير} الملك 18. من مشتقاته: المنكر، النكير، النّكْر، النكرة، الإنكار.

أما المنكر فهو نقيض المعروف وتوأمه المقابل، وهو كل ماتحكم العقول الصحيحة بقبحه، وكل ماتواضع المجتمع على تركه في معاملاتهم وعاداتهم، ونجد هذا المعنى واضحاً بكل جلاء في قوله تعالى على لسان لوط لقومه {أَئِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} العنكبوت 29. وطبقاً للتنزيل الحكيم فإن المحرمات يجب أن تكون من المنكرات.

وأما النكير فله معانٍ لاينفصل أحدها عن الآخر، الأول، الصعوبة والتضييق كما في قولنا: حاصر الجيش المدينة وشدد عليها النكير. والثاني: الحصن المنيع كما في قوله تعالى: {مالكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير} الشورى 47. والثالث، العقوبة الرادعة والمآل القبيح كما في قوله تعالى {فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير} الحج 44.

وأما النّكر فهو الأمر الشديد الصعب تستقبحه النفوس وتنفر منه كما في قوله تعالى على لسان موسى للعبد الصالح بعد أن قتل الغلام {قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا} الكهف 74. ومنه النكراء للمؤنث كقولنا: نزلت بهم مصيبة نكراء، أي الشديدة الأذى. وهو المجهول لايعرف حاله.

وأما النكرة فهو العاري عن التعريف عند أهل النحو والصرف وهو الذي في قومه – كما يقولون -: لافي العير ولافي النفير. أي لاهو بالنابه المشهور في تجارة أو زراعة، ولاهو بالفارس صاحب النجدات إن دقت نواقيس الخطر.

وأما الإنكار فهو النفي والرفض والجحود. فإنكار النعمة جحود، وإنكار الذات غيرية وأثرة وهو سلوك محمود بدلالة قوله تعالى {..ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} الحشر 9.

كان لابد من هذه الإطالة، قبل أن نصل إلى التساؤل: فكيف نفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اليوم؟ وكيف – بالتالي نمارسه ونطبقه عملياً في وقتنا الحاضر؟ وكان لابد من الاستفاضة في تعريف: الأمر والنهي والمعروف والمنكر، فالتعاريف ترسم من أين تبدأ حدود الأشياء وأين تنتهي. وكان لابد من الاستطراد ونحن نعرّف النهي لنقف عند الدرجات الأربع: الحلال والحرام، والأمر والنهي، السماح والمنع، الحسن والقبيح، ثم لنشرح كيف اختار تعالى أن يسمي بعض النواهي كبائر، ثم كيف اختار أن يجعل هذه الكبائر محرمات. إلا أننا حرصنا – خلال ذلك كله – على إلقاء الضوء على عدد من الأسس والنواظم المستنبطة من آيات التنزيل الحكيم التي ترى وجوب التزامها ومراعاتها وعدم الخروج عليها ليأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متطابقاً ماأمكن مع آيات التنزيل الحكيم.

يقول تعالى {إنا كل شيء خلقناه بقدر} القمر 41، ثم يقول {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} يس 12. وهاتان الآيتان تضعاننا على الطريق الصحيح في قراءة هذا الكون بأشيائه قراءة صحيحة تبين لنا مقادير الأشياء ونهاياتها، وكذلك في السلوك الإنساني الواعي يوجد نهايات، هذه النهايات التي سماها التنزيل الحكيم حدوداً لا يجوز تعديها بدلالة قوله تعالى {..تلك حدود الله فلا تعتدوها} البقرة 229، ولا يجوز الاقتراب منها بدلالة قوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} البقرة 187، وقوله تعالى {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين}.

فإذا كانت حدود نهايات الطعام والشراب – مثلاً – هي الإسراف حسب قوله تعالى {..وكلوا واشربوا ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين} الأعراف 31، فهل هناك مقادير – للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجوز تجاوزها؟ وهل هناك حدود للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجوز تعديها ولا الاقتراب منها؟ والجواب: نعم يوجد.

1 – حتى نحدد حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نبدأ بمفهوم الإسراف. فكما أنه لا يجوز الإسراف في الطعام والشراب، كذلك لا يجوز الإسراف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لذا فسنحدد ماهو الإسراف وماهو الفرق بين الإسراف والتبذير.

قول في الإسراف والتبذير

السين والراء والفاء (س ر ف) – كما ورد في مقاييس اللغة لابن فارس – أصل واحد يدل على تعدي الحد، نقول: سرف الأمر، أي جاوز حدّه. ويقولون: السرَف هو الجهل، والسّرِف هو الجاهل، (أي كأنه خرج عن حد العلم والمعرفة وتعداه فوقع في الجهل).

لقد ورد اللفظ بمشتقاته وتصريفاته ثلاثاً وعشرين مرة في التنزيل الحكيم. يقول تعالى في بعضها:

{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} الزمر 53.

{ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} آل عمران 147.

{إن الله لايهدي من هو مسرف كذاب} غافر 28.

{إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون} الأعراف 81.

{وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين} الأعراف 31.

{وإن فرعون لعالٍ في الأرض وإنه لمن المسرفين} يونس 83.

{ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} الإسراء 33.

{وكذلك يخزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه} طه 127.

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} الفرقان 67.

{وإن المسرفين هم أصحاب النار} غافر 43.

الإسراف إذن ¯ تعد للحد (كيف)

وإذا كنا في مقالنا هذا، نخص بالتأمل دلالته على تعدي الحدود (الكيف)، فلأن الشائع من الأدبيات الإسلامية اليوم على أنه تجاوز القدر (الكم)، مما أدى إلى الخلط بين الإسراف والتبذير الذي ورد في آيتين من التنزيل الحكيم هما الإسراء 26، 27.

والمعنى الأساسي الذي استعمله التنزيل الحكيم للإسراف، ونقصد معنى التعدي والخروج على الحد. وإذا اختلف شيئان لاعتبار في أحدهما غير موجود في الآخر امتنع ترادفهما. فما هو هذا الحد الذي يتجاوزه المسرف ويتعداه لينطبق عليه اسم “مسرف¨ لايستحق هدى الله؟

لعل من المفيد قبل البدء أن نستمع لخبر رواه الفخر الرازي فيه رأي لمجاهد يوضح الفرق بين الإسراف والتبذير. يقول:

قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة، فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال: لو أن رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهماً في معصية الله كان من المسرفين. قيل لرجل أنفق نفقة في خير فأكثر: لاخير في السرف. فقال: لاسرف في الخير. (أ هـ } (أنظر ص 155 من المجلد 20 من التفسير الكبير للرازي).

الإسراف إذن لا يكون إلا في المعاصي ولا عبرة بالمقدار. وبما أن كتاب الله تعالى كتاب هداية للناس وللمتقين فرّق بين الحق والباطل في النبوة، وبين الحلال والحرام في الرسالة، فإن الحد الذي يتجاوزه المسرف ويتعداه هو الحد الفاصل بين الحلال والحرام. وانظر إلى لوط في آية الأعراف 81، وهو يصف قومه بأنهم يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ونحن نعلم أن اللواط حرام قلّ أو كثر، ومن هنا جاء حكمه عليهم في آخر الآية بأنهم قوم مسرفون.

وانظر إلى قوله تعالى في يونس 83 وهو يصف فرعون بالعلو في الأرض إشارة إلى الاستكبار والتجبر، وبأنه ظل يمارس هذا الاستعلاء حتى صار من صفاته، فخرج بذلك عن الحد الفاصل بين العبادية لله تعالى وهي حلال، وبين ادعاء الألوهية والربوبية وهي حرام، ومن هنا جاء حكم الله تعالى عليه في الآية بأنه من المسرفين.

أما آية الإسراء 33، فتبدأ بقوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، ثم تمضي لتشرح حكم الله تعالى في إنسانٍ قتل مظلوماً بغير حق، ولتوضح لنا عدداً من المسائل:

الأصل في القتل أنه حرام مطلقاً إلا بالحق.

لايحل القتل إلا لأسباب عارضة وبينات ثابتة.

لولي المقتول سلطان بقتل القاتل قصاصاً.

النهي عن الإسراف في القتل قصاصاً.

والظاهر من الآية – في المسألة الأولى – أنه لاسبب يحل معه القتل إلا قتل النفس بغير حق، أي قتلها مظلومة. ومع ذلك فقد اختلف الفقهاء حول أسباب أخرى، منها: هل يحل قتل تارك الصلاة؟ قال الشافعي: يحل، وقال أبو حنيفة: لايحل. هل فعل اللواط يوجب القتل؟ عند الشافعي يوجب، وعند أبي حنيفة لايوجب. هل إتيان البهيمة يوجب القتل؟ وهل الامتناع عن أداء الزكاة يوجب القتل؟ عند أكثر الفقهاء لايوجب، وعند البعض يوجب. ونحن نرى أن الآية صريحة في تحريم القتل مطلقاً إلا في حالة واحدة، هي ثبوت القتل ظلماً بالأدلة الدامغة والبينات الحقة. أما باقي الأسباب كترك الصلاة، ومنع الزكاة، واللواط، وإتيان البهائم، والقتل بالسحر، وغيرها .. وغيرها، فليس عندنا بشيء، بدلالة قوله تعالى {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} المائدة 32. وقوله تعالى مستنكراً {وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت} التكوير 8، 9.

أما المسألة الثانية، فتشير إلى وجوب ثبوت وقوع القتل ظلماً بالأدلة والبينات كالشهود العيان والبصمات وتقارير الطب الشرعي، الكافية لصدور حكم بالتجريم عن المحاكم المختصة.

وأما المسألة الثالثة فتحصر حق قتل القاتل بولي المقتول ظلماً، وهذا يضعنا أمام جملة أمور:

هل المقصود بالولي هنا والد القتيل وأخوه وعمه – مثلاً – أم المقصود الحاكم باعتباره من أولي الأمر؟

هذا السلطان الذي جعله الله تعالى لولي القتيل قريباً كان أم حاكماً، هو سلطان الحق في القصاص الذي أشار إليه بقوله {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف} المائدة 45. وبقوله {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} البقرة 178.

وهذا كله ضمن إطار عام ينظمه قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} الإسراء 15، الأنعام 164، فاطر 18، الزمر 7، النجم 38.

ثم تأتي المسألة الرابعة لتنهى ولي القتيل عن الإسراف في القتل وهو يطبق حكم الله تعالى على القاتل ظلماً بغير حق. ولما كان الإسراف كما أوضحنا هو الخروج من حقل الحلال إلى حقل الحرام، وتجاوز الحد الفاصل بينهما، فأين هو الحد في هذه الآية خصوصاً الذي ينهى تعالى عن تجاوزه إسرافاً؟

نقول إن هذه الآية – مع آيات أخرى في القصاص – جاءت لمعالجة مشاكل الثأر المتجذرة في المجتمعات القبلية والعشائرية، بما تشعله من حروب تمتد عقوداً من الزمن، ينسى معها الأحفاد وأبناء الأحفاد كيف بدأت الأمور، وهذا ما نقرؤه في تاريخ حرب البسوس مثلاً، أو في تاريخ حروب داحس والغبراء. كانوا إذا قتل منهم شريف، قتلوا من قبيلة القاتل عدداً من أشرافها وتركوا القاتل، وكان من الطبيعي، انسجاماً مع مبدأ {ولا تزر وازرة وزر أخرى} الذي أقرته صحف إبراهيم(5)، أن يأتي التشريع الجديد في الرسالة المحمدية ليبين عدم جواز قتل غير القاتل، أباً كان أم أخاً أم عماً أم ابن عم أم غير ذلك، وليوضح أن القتل بالحق للقاتل الظالم حصراً هو الحلال، وأن كل تجاوز إلى غيره وقوع في الحرام، وأن من يفعل ذلك صار مسرفاً. أما ما فهمه بعض فقهاء التراث من أن المقصود بالإسراف هنا هو عدم التمثيل بالجثة بعد القتل وتقطيع أعضائها فليس عندنا بشيء.

ومن الطبيعي أيضاً أن تأتي الآيات لتصف المسرفين المتجاوزين لحقل الحلال إلى حقل الحرام بالكذب، كما في غافر 28، ولتتوعدهم بالهلاك كما أهلكت أشباههم في قوله تعالى {ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين} الأنبياء 9. ثم لتحكم بأن أهل النار لا يمكن أن يكونوا إلا من المسرفين كما في قوله تعالى {وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار} غافر 43.

فإذا تأملنا قوله تعالى {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين} الأعراف 31. نجد أنه يخاطب الذكور والإناث في قوله {يا بني آدم} على اختلاف مللهم من مقام آدميتهم، وهذا هو الأسلوب الإلهي كرحمة للعالمين. فحيثما وجدت آية تبدأ بهذا المصطلح، أو بمصطلح مشابه مثل {يا أيها الناس} وغيره، فاعلم أن فيها حكماً مشتركاً بين الخلق بغض النظر عن ملتهم أو معتقدهم. وآية الأعراف هذه خير مثال لما نقول، فهي تتحدث عن اللباس والأكل والشرب، وتنهى عن الإسراف فيها جميعاً.

وحين نخلط بين الإسراف والتبذير، ناسين أن الإسراف تجاوز للحد الفاصل بين الحلال والحرام، يضيع علينا القصد الإلهي من الآية، ونتوهم أنه تعالى ينهانا عن البذخ في الملبس والمأكل والمشرب وعن الإكثار من كمياته. فالرجل الذي أنعم الله عليه برزق وفير، فاشترى من حلال ماله ثوباً نفيساً ذهب به إلى المسجد وتطيب بأغلى أنواع الطيب، وجلس حيث يجلس الناس، وشاركهم صلاتهم ثم عاد إلى منزله، ليس مسرفاً، ولا كذاباً، ولا من أصحاب النار. لأن الله تعالى يقول {وأما بنعمة ربك فحدث}، ولأنه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. والذي بسط له ربه أبواب الكسب الطيب، فاشترى الخرفان والدجاج، وأكل وأطعم أهله وأهدى جيرانه وذوي قرباه، فليس بمسرف، لأن من يأكل حتى التخمة قد يوصف بالنهم أو بالشره، قد نتهمه بأنه يسيء إلى جهازه الهضمي، ولا يراعي احتياجات بدنه كما ينبغي، وبأنه عبد لسلطان بطنه، وقد وصف الإسراف بالطغيان عند بني إسرائيل في رسالة موسى في قوله تعالى {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي} طه 81. ولأن الأمر الإلهي بأكل الطيبات من الرزق جاء مطلقاً لاحدود للكميات فيه، رغم وروده بصيغة التبعيض المقصود منها عدم الإكثار، يقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون} البقرة 171. وكأن الرسول تصوّر قائلاً يستفسر على سبيل التأكد عن حلالية كل أنواع الطعام مطلقاً، فتابع في الآية التالية مباشرة – بأمر ربه – يعدد المآكل التي حرمها تعالى تقييداً للمطلق في الآية السابقة، وليقول على لسان ربه {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} البقرة 171. ثم تأتي جملة من الآيات لترسم الحدود الفاصلة بين حلال الطعام وحرامه، ولتفصل في أنواعها. أبرزها قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع} المائدة 3. ونستنتج من هذا أن عشرات اللقم من طيبات ما رزقنا الله هي حلال، وأن لقمة واحدة من الأصناف المحرمة هي حرام وهي الإسراف. ولا عبرة هنا بالكم.

ونقف الآن أمام قوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} الزمر 53. فبعد أن يصف في آيات تنزيله الحكيم المسرفين بالكذابين والمجرمين والكافرين الصائرين إلى النار يفتح باب الرحمة والمغفرة أمام جميع عباده. فأمرهم حين التعرض لنزغ الشيطان ووساوسه التي ما سلم منها مخلوق بأن يستعيذوا بالله كما في قوله تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} الأعراف 200. وطلب منهم أن يستغفروه إذا ما وقعوا في الإسراف، كما في قوله تعالى {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} آل عمران 147. لأنه عليم بحال عباده وبما يتعرضون له، سميع لدعائهم واستغفارهم، غفور لذنوبهم إذا ما تابوا. ففي حديثه (ص) إن صح: (كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون). ولهذا يقول لهم تعالى في الآية {لاتقنطوا من رحمة الله}، فالمؤمن راجٍ دائماً لرحمة ربه، متأكد دائماً من أنها تسع كل شيء، موقن من أن الضال وحده هو الذي يقنط من رحمته تعالى، حسبما نص عليها تنزيله في قوله {ومن يقنط من رحمة الله إلا الضالون} الحجر 56. يقول علماء اللغة إن إبليس من الإبلاس. والإبلاس هو اليأس من رحمة الله. وهكذا نرى أن الهلاك أصاب المسرفين {وأهلكنا المسرفين} وأنه لا يمكن لأصحاب النار إلا أن يكونوا من المسرفين {وإن المسرفين هم أصحاب النار}.

خلصنا فيما سلف إلى أن الإسراف خروج عن حد الحلال والوقوع في الحرام، يستحق الخارج معه مانصت عليه آيات الإسراف كما رأينا. فما هو التبذير؟ وهل هو – كما يزعم كل من قابلتهم من علماء – أكبر من الإسراف؟ وهل هو من أقبح القبائح عند الله تعالى حسب رأي عدد من المفسرين؟

والباء والذال والراء، عند ابن فارس في المقاييس والزمخشري في أساس البلاغة، أصل صحيح واحد يعني التفريق. ومنه: بذر الحب في الأرض أي نثره، وبذرت الأرض أي أخرجت نباتها متفرقاً. أما عند الفخر الرازي فهو إنفاق المال مبعثراً كيفما اتفق. والطريف أن العوام في مصر والشام، في تعبيرهم عن معنى “البعثرة¨ بلغتهم المحكية، يستخدمون كلمة “بعزقة¨، ويزعم صاحب “المعجم المدرسي¨ أن “بعزق الشيء: فرقه وبدده فتبعزق أي: تبدد¨، لكننا لم نجد هذه اللفظة عند ابن فارس ولا عند الزمخشري.

ورد التبذير في التنزيل الحكيم مرتين في سياق واحد، بقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمساكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} الإسراء 26، 27.

ولقد أشرنا في بحث الإسراف إلى أن الإسراف هو تعدي الحد الفاصل بين الحلال والحرام، أما تجاوز المقدار في حقل الحلال دون تجاوز الحد الفاصل مع الحرام فهو التبذير، وإلى استحالة أن يكونا مترادفين حذو القذة بالقذة والنعل وبالنعل، لاختلاف الحقل الذي يعملان فيه، فالإسراف لايكون إلا في حقل الحرام، أما التبذير فلا يكون إلا في حقل الحلال.

لكن مرض القول بالترادف طال العديد من علماء اللغة في العديد من الألفاظ، تماماً كما طال العديد من المفسرين ومنهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير المعروف باسم “مفاتيح الغيب¨، الذي يعتبر التبذير إسرافاً ويقول في تفسير آيتي الإسراء: “عن عبد الله بن عمر قال: مر رسول الله (ص) بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أو في الوضوء سرف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار. وقد نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين¨ أ هـ.

لقد رأينا في آيات الإسراف أن أكل وشرب المحرمات، والخروج عن الحدود الدنيا في اللباس لإظهار الجيوب، يجعل صاحبه مسرفاً، فهل يجعل التبذير صاحبه كذلك؟ ولقد ورد التبذير بآية الإسراء 26، في سياق الصدقات وإتيان ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقه من هذه الصدقات، فهل إذا تصدق الرجل بكل ماله – مثلاً لذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل وللجمعيات الخيرية ودور رعاية الأيتام والعجزة يكون قد وقع في الحرام وتعدى حدود الحلال واستحق مصير المسرف كما تبينه الآيات؟ الجواب: كلا مطلقاً!! قد يقع في الحسرة والندم لتجاوزه المقدار في الصدقات، لكنه لايقع في الحرام. ولبيان ذلك وتوضيحه ننظر في الآيات التالية:

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يفتروا وكان بين ذلك قواما} الفرقان 67.

{ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا} الإسراء 29.

{قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا} الإسراء 100.

الإنفاق والإسراف بمعنى تجاوز الحد، والتقتير والاعتدال بين البسط والقبض هي المحاور التي تدور حولها آيتا الفرقان 67 والإسراء 29، ولك أن تضيف إليها إن شئت التوسع عشرات الآيات الأخرى التي تتحدث عن الإنفاق والبخل والتقتير.

أما الإنفاق فهو الصفة التي وصف بها تعالى المتقين من عباده، المؤمنين بالله واليوم الآخر، المهتدين بكتابه، والمفلحين في عملهم، في مطلع سورة البقرة بقوله {ومما رزقناهم ينفقون} قارناً الإنفاق بالإيمان بالغيب من جهة وبإقامة الصلاة من جهة أخرى. لماذا؟

لأن الإنسان بطبعه قتور بخيل (الإسراء 100)، يحب المال حباً جماً (الفجر 20)، جزوع إذا ضاق به الرزق ومنوع إذا كثر عليه الخير (المعارج 20) ومن هنا كان الإنفاق فيما نرى باباً من أبواب جهاد النفس التي طبعها الله تعالى على الإمساك.

والإنفاق – كتكليف – جزء من حقل الحلال، وإلا لما أمرنا الله تعالى به، مرتبط بقدرة الإنسان واستطاعته حسب قوله تعالى {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} البقرة 236. لكن له – مثل أي شيء آخر في الكون – حداً أعلى وحداً أدنى، نجدهما واضحين في آيتي الفرقان 67 والإسراء 29:

1 – الإنفاق؟ تجاوز الحد (الحرام)؟الإسراف.

2 – الإنفاق؟ توسيع دائرة الحرام أو تضييق دائرة الحلال؟ التقتير.

فمثلاً عدم الإنفاق على الموسيقى والرسم والنحت على أنه حرام هو تقتير.

3 – الإنفاق؟ الوقوف بين الحدين؟ القوام. وهو عدم الوقوع في الحرام وعدم تضييق دائرة الحلال.

ونلاحظ في آية الإسراء 29 خصوصية لا نلاحظها في آيات الإنفاق الأخرى، تحدد عقوبة من يتجاوز نزولاً حدود الإنفاق الدنيا، ومن يتجاوز صعوداً حدوده العليا:

4 – اليد المغلولة كناية عن (البخل)؟ ملوماً.

5 – اليد المبسوطة كل البسط كناية عن تجاوز المقدار (التبذير). محسوراً.

تلك هي عقوبة الممسك عن الإنفاق والمبذر فيه ضمن حقل الحلال، التي تختلف تمام الاختلاف عن عقوبة من يتعدى مسرفاً حدود الإنفاق بشكل يقع معه في الحرام، حسب ما شرحناه في بحث الإسراف.

ولقائل أن يسأل محتجاً: إن كان ذلك كذلك، فما معنى قوله تعالى {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} الإسراء 27. والجواب ببساطة:

نفهم معنى أن يعتبر تعالى المبذرين في آية الإسراء 27 إخواناً للشياطين، لتشابه السلوك بين المبذرين والشياطين في تجاوز المقدار والإنفاق كيفما اتفق، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخاً له، كقولهم “أخو الجود والكرم¨ و”أخو الجهالة¨ إذا كان مواظباً على هذه الأعمال. ومهمة الشيطان هي إغواء الناس حتى من خلال الحلال والمبالغة فيه. وبالتالي نجد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب ألا يقع في الإسراف، أي الوقع في المحرمات، وهذا هو الشرط الأول، أي لاقتل، ولازور، ولا كذب، ولاسرقة.. إلخ.

2 – الفظاظة والإكراه:

آ – الفظاظة:

من قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران 159، أي على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون لطيفاً في خطابه للآخرين وأن يكون ليناً رقيقاً بالناس، ولايكون غليظ القلب، فينفر الناس منه، وغليظ القلب هنا تعني الغبي البليد، حيث أن كلمة القلب أينما وردت في التنزيل الحكيم لاتعني إطلاقاً العضلة القلبية التي تضخ الدم، وإنما هي تعبر عن الدماغ بوصفه أنبل عضو في الجسم ولكونه موجوداً في صدر الإنسان وهو مقدمة الجمجمة خلف الجبين مباشرة بدليل قوله تعالى {فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} الحج 46.

ب – الإكراه:

أهم وأخطر منطقة محظورة حمراء يصل إليها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. فبوجود الإكراه لاصحة لإيمان ولااعتبار لكفر بدلالة قوله تعالى: {من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} النحل 106. والكاف والراء والهاء (ك ر هـ) أصل صحيح في اللسان ومفردة قرآنية وردت مشتقاتها في أربعين موضعاً من التنزيل الحكيم، أولها في قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} البقرة 216، وآخرها في قوله تعالى {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} الصف 9. والكره هو النفور والمشقة ومن هنا أخذت الحرب اسمها.

وبمعنى النفور جاء قوله تعالى على لسان نوح لقومه: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} هود 28. وبمعنى المشقة جاء قوله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً} الأحقاف 15.

أما الإكراه فهو الإجبار والإرغام، وإذا تأملنا آية هود 28 نتج لدينا معنى جديد للإكراه هو الإلزام على مضض. والإكراه مسألة ليست فقط لاوجود لها في التنزيل الحكيم ولا في السلوك النبوي ولاعند كل عاقل يؤمن بيوم الحساب، بل هي مسألة ورد النهي عنها في عشرات الآيات المحكمات بلفظ صريح واضح لايقبل التأويل، على رأسها قوله تعالى {لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} البقرة 256، وقوله تعالى {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس 99. وورد النهي عنها في عشرات الأحاديث النبوية – إن صحت – وعلى رأسها قول النبي (ص) كما رواه ابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه وابن حيان في صحيحه (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أ هـ (6).

فإن كانت عقود البيع والشراء في الأسواق التجارية باطلة مع الإكراه، وإذا كانت بيعة الأمير الحاكم باطلة مع الإجبار، وإن كانت عقود النكاح باطلة مع الإرغام والقسر، وإن كان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله باطلاً إن لم يصدر عن قناعة طوعية ورضى، فكيف يصح أمر بالمعروف مع العصا ونهى عن المنكر مع السوط؟

3 – نقف عند قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} آل عمران 104، وقوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} آل عمران 110، وقوله تعالى عن أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} آل عمران 114. ونلاحظ في الآيات الثلاث أمرين: الأول أن عمل الخير والدعوة له مرة يسبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران 104) ومرة يأتي بعده (آل عمران 114). الثاني أن الإيمان بالله مرة يسبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران 114) ومرة يأتي بعده (آل عمران 110).

آ – يدعون إلى الخير – يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (104).

ب – كنتم خير أمة – تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر – وتؤمنون بالله (110).

ج – يؤمنون بالله – يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – ويسارعون في الخيرات (114).

والعجيب أن الأمرين لم يستوقفا مفسراً مثل الإمام الطبرسي في جامع البيان، بينما وقف الرازي في تفسيره الكبير عند الأمر الثاني فقط وقفة فلسفية حاول فيها أن يشرح وهو يفسر آية آل عمران 110، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العامل المؤثر في حصول هذه الخيرية، وأن الإيمان شرط لحصول هذا التأثير، ولهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان (انظر تفسير الرازي ج 8 ص 158). وهذا عندنا هراء فلسفي لايحتاجه قارئ التنزيل الحكيم ليفهم أن الأولوية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يكون المقصود مؤمناً بالله كما في الآيتين 104 و110، وأن الأولوية للإيمان بالله حين يكون الحديث عن مشركين يعبدون العزير والمسيح والأصنام والأحبار، وليفهم أن الآيات الثلاث تضع أمامه أربعة أمور يجمع بينها قاسم مشترك واحد هو وجوب خلوها من الإكراه هي:

  1. عمل الخير والدعوة إليه.
  2. الأمر بالمعروف.
  3. النهي عن المنكر.
  4. الإيمان بالله.

وليفهم أخيراً أن الأمر بالمعروف شيء والنهي عن المنكر شيء ثانٍ وعمل الخير والدعوة إليه شيء ثالث والإيمان بالله والدعوة إلى التوحيد شيء رابع، بدلالة واو العطف التي لاتعطف إلا المتغايرات.

4 – نقف عند قوله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ} التوبة 71، وقوله تعالى {التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ} التوبة 112. وقوله تعالى {الّذِينَ إِنْ مَكّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ} الحج 41.

ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام ثلاث آيات تعدد جملة أشياء متغايرة تفصل بينها واو العطف هي:

  1. الإيمان بالله.
  2. الأمر بالمعروف.
  3. النهي عن المنكر
  4. إقامة الصلاة
  5. إيتاء الزكاة
  6. طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه
  7. حفظ حدود الله

ومرة أخرى نلاحظ أن أداء الشعائر من صلاة وزكاة مرة يسبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في آية الحج 41 ومرة يأتي بعدهما كما في آية التوبة 71، لنفهم أن واو العطف تفيد التغاير لكنها لاتفيد الترتيب، ولنفهم أن بعض هذه الأشياء يمارس على الصعيد الفردي، كالإيمان بالله وإقامة الصلاة وطاعة الله ورسوله، وبعضها يمارس على صعيد الفرد والمجتمع، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيتاء الزكاة وحفظ حدود الله، التي إن مورست على الصعيد الاجتماعي احتاجت إلى تنظيم وإشراف ومراقبة، لكنها جميعاً خالية من الإكراه بعيدة عن القهر والإجبار والإرغام.

5 – كان لابد للهامانات من رجال الدين – من أجل إحكام فبضتهم على أعناق الناس في كل نواحي حياتهم العامة والخاصة – من ستار شرعي يخفون وراءه مزاعمهم في الوصاية على وجدان الناس وعقولهم، تارة تحت عنوان الحفاظ على الدين وتارة بحجة أنهم ورثة الأنبياء وتارة بأنهم أولياء الله(7)، تارة يحرفون الكلم عن مواضعه وتارة يحرفونه من بعض مواضعه، تماماً كما فعلوا حين قرؤوا قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} آل عمران 104، وحين قرؤوا قول النبي (ص) – إن صح – في حديث رواه مسلم في صحيحه وابن داود وابن ماجه في سننهما والإمام أحمد في مسنده، واللفظ لإبن داود، عن أبي سعيد الخدري قال: أخرج مروان المنبر في يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يامروان خالفت السنة، أخرجت المنبر يوم عيد ولم يكن يخرج فيه وبدأت الخطبة قبل الصلاة. فقال أبو سعيد: من هذا؟ قالوا: فلان بن فلان، فقال: أما هذا فقد قضى ماعليه. سمعت رسول الله (ص) يقول: من رأى منكراً استطاع أن يغيره فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. أ هـ.

أما الآية فهي عندهم صك تعيين إلهي سمّاهم الله تعالى بموجبه أوصياء على دينه، وحراساً على جسور العلاقة بينه وبين عباده، وتراجمة لأوامره ونواهيه، ومفسرين لآياته وأحكامه. زاعمين أن (من) في كلمة (منكم) هي للتبعيض، وأنه تعالى يأمر “بعض¨ هذه الأمة بتولي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم شخصياً هذا البعض المشار إليه في الآية. لكن “من¨ في هذه الآية بالذات للتبيين وليس للتبعيض، أي أنها كما في قولنا – مثلاً -: الأمير الفلاني جعل من بلاده دولة حضارية عظيمة. والمقصود أنه جعل بلاده كلها كذلك وليس بعضاً منها.

ثمة أمور تمنع أن تكون (من) للتبعيض. أولها، أن تخصيص البعض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني سقوط ذلك عن البعض الآخر وهذا محال، لتعارضه عمودياً مع قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} آل عمران 110، الثاني، أن اصطفاءهم دون باقي الخلق بهذا التكليف العظيم يعني تكريمهم وإعلاء مرتبتهم. ونحن نفهم أن يخص الله تعالى نبيه الكريم (ص) بالأمر بالمعروف وفقاًَ لقوله تعالى {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} الأعراف 199، بعد أن أثبت عملياً على مدى أربعين عاماً أمضاها بين قومه وعشيرته أنه صادق وأمين وآمرٌ بالمعروف وناهٍ عن المنكر، ونفهم أن هذا التكريم الإلهي للنبي الكريم (ص) جاء مطابقاً لمعيار قوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13، لكننا لانفهم مطلقاً كيف يكرم الله أفراداً يعينهم من الأمة ويصطفيهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل أن يولدوا؟ ولانفهم أبداً لماذا يكلفهم بهذه المهمة الخطيرة يتوارثونها أباً عن جد دون أن يثبتوا عملياً أهليتهم لها كما لو كانوا شعباً مختاراً آخر فضّله الله تكوينياً عن باقي الخلق؟

وأما الحديث النبوي فهو عندهم سنة نبوية واجبة الإتباع سواء اتفقت مع نصوص التنزيل الحكيم أم لم تتفق، انطلاقاً من قاعدة خطيرة أحدثوها وفرضوها على الناس بالقوة تقول: السنة ناسخة للقرآن فإن كان ذلك كذلك – بينما هو ليس كذلك قطعاً – بحديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود يحكي عن مخالفة مروان بن الحكم للسنة النبوية حين بدأ بالخطبة قبل الصلاة، فلماذا يأخذ علماؤنا الأفاضل اليوم بالسنة المروانية، ويصرون في كل مساجد العالم الإسلامي على جعل الخطبة قبل الصلاة، ويتركون السنة النبوية؟

وحديث الخدري عندهم حجة في البدء بالعنف والبطش أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبرون أن تغيير المنكر باللسان والقلب من صفات ذوي الإيمان الضعيف، وهذا يتعارض عمودياً مع التدرج من اليسر إلى العسر ومن الألطف إلى الأغلظ في قوله تعالى {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} النساء 34. والحديث عندهم حجة أيضاً في جعل العنف لتغيير المنكر سياسة عند الدولة على مستوى المجتمع، بينما هذا الحديث – إن صح – يحكم السلوك على مستوى الأفراد، فالنبي (ص) أعقل من أن يفتح باب تغيير المنكر عند الجماعة للأفراد وإلا تحول المجتمع إلى غابة تتنازع فيها الأيدي بالعنف والبطش بحجة تغيير المنكر.

6 – لقد وضع فقهاء السلاطين في العصرين الأموي والعباسي تفسيراً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على القهر والإكراه خلافاً لنصوص التنزيل الحكيم والسيرة النبوية النابعة أساساً من كتاب الله تعالى، واستطاعوا تصفية خصوم الدولة تحت هذا الشعار بالقتل تارة، كما في خبر خالد بن عبد الله القسري مع الجعد بن درهم، وبالنفي تارة، كما في خبر نفي عثمان بن عفان لأبي ذر الغفاري، وبالسجن تارة، كما في خبر سجن ابن تيمية في قلعة دمشق، وبالتخويف والترهيب، كما في خبر الإمام البخاري وهروبه من سمرقند.

ثم خلف بعدهم خلف من المقلدين اعتبروا ماقاله التابعون مقدساً، ورسخوا مافسره أئمتهم المعصومون، فأنشئت المحاكم للمارقين والزنادقة والخوارج وصدرت الأحكام وصودرت الأموال وسُبيت الأعراض بتهم صورية ملفقة مضحكة(8) أما التهمة الحقيقية النائمة خلف السطور فهي عصيان الفراعين ورفض الانصياع لوصاية الهامانات، ومازال علماؤنا الأفاضل إلى اليوم يحكمون بسيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتفننون في كمّ الأفواه وتعطيل العقول، إلا أن هذا السيف ذو حدين. فالجماعات المسلحة ذات الأهداف الانقلابية على الحكم في بلادها تضرب بالسيف ذاته، وتنطلق من المرجعية ذاتها، وتحاول أن تغير بالعنف ما يأتيه حكامها من منكرات حسبما تعتقد، فتارة تمارس القتل تحت شعار الردة، وتارة تحت شعار النهي عن المنكر. ثم تجاوزت حتى صارت تعتدي على الناس وشكلت عصابات مافيا جديدة تحت شعارات دينية.

7 – قد يسأل سائل: فكيف يجب – حسب رأيك – أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أقول: المسألة ليست مسألة رأي بقدر ماهي مسألة تكليف إلهي لم يحدد الله سبحانه آليات ممارسته بل تركها للأعراف السائدة من جانب وللذوق العام من جانب آخر، ضمن إطار التعارف والتعايش المشترك بين أفراد المجتمع، إلا أنه اشترط لممارسة هذا التكليف شروطاً أهمها البعد عن القمع والإكراه. فهناك من يسوق الناس بالعصا إلى الصلاة، وهناك من يرغم النساء بالعنف على لبس حجاب شرعي تتفاوت مواصفاته بين أفغانستان واليمن وسوريا والمملكة العربية السعودية. وهذا عندنا لا من الأمر بالمعروف ولا من النهي عن المنكر ولا من فعل الخيرات.

وبما أن العالم أصبح قرية صغيرة فنرى أن أحسن وسيلة توصل إليها الإنسان من خلال مسيرته التاريخية الطويلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى اليوم هي:

آ – حرية الكلمة والنشر وحرية الضمير والتعبير عن الرأي بدون خوف.

ب – منظمات المجتمع الأهلي مثل جمعية الحفاظ على البيئة وحماية المستهلك وجمعيات حقوق الإنسان وجمعيات الرفق بالحيوان، كلها تعتبر جمعيات طوعية لامجال فيها للإكراه. وينطبق هذا الكلام على النقابات المهنية.

ج – على المستوى السياسي، حيث توصلت إليه عدد لابأس به من الدول هو وجود المعارضة حيث الدولة هي المؤسسة القابلة للفساد لأن بيدها المال والسلطة والسلاح وتنفيذ القرارات الاقتصادية، فمهمة المعارضة هي النهي عن المنكر (وهو هنا الكشف وإظهار الفساد والأخطاء في تنفيذ البرامج والأخطاء في السياسات المتبعة) والأمر بالمعروف حيث يتم إصلاح هذا كله سلماً بدون إكراه، حيث الدولة في هذه المجتمعات دولة ضبط، لا دولة قمع.

د – في هذه المجتمعات يتنازل الإنسان عن جزء من حريته الفردية والاجتماعية للسلطة مقابل عقد اجتماعي بينه وبينها في طاعة القوانين النافذة. وهنا يجب أن نميز بين مفهوم القانون (الحدود) ومفهوم السلطة. فهناك حدود الله ولكن لا يوجد شيء اسمه سلطة الله. فالسلطة للناس يمنحونها لبعضهم ضمن عقد اجتماعي فقط. لذا فإن شعار حاكمية الله هو شعار وهمي طوباوي ولا يعني شيئاً ولا يولد إلا الإكراه والعنف.

هـ – بما أن الإسلام يتألف من ثلاث شعب: الشعائر والحدود والشرائع، لذا فعلى كل حزب سياسي أن يبتعد عن تسمية (إسلامي) لأن الإسلام دين حنيف، وعليه أن يقدم برنامجه مباشرة بدون شعار (الإسلام هو الحل) وحل مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بأيدي الناس أنفسهم، وإن إقامة الصلاة والحج وصوم رمضان لا علاقة لها بحل مشاكل الدولة والمجتمع، لذا فإن من يطرح شعار (حاكمية الله – الإسلام هو الحل) هو في ضلال مبين ولايخدع إلا نفسه أولاً ثم الناس. وإن المثل العليا هي مثل إنسانية وليست وقفاً على أتباع محمد (ص) وهي مع الإيمان بالله واليوم الآخر غير قابلة للتصويت عليها.

و – وبما أن المجتمعات العربية مازالت إلى اليوم مجتمعات قبلية وطائفية أو الاثنتين معاً، لذا فإن الأحزاب السياسية فيها إما قبلية عشائرية طائفية في البلد الواحد، أو طائفية في بلد آخر، أو عشائرية ضمن الطائفة الواحدة، لذا فإن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى السياسي في هذه المجتمعات – وإن أخذ شكل الأحزاب السياسية كواجهة – ولكنه ضمناً أو علناً هو طائفي أو عشائري أو الاثنين معاً حتى ولو أخذ الشكل الديني. فالإخوان المسلمون وتنظيم القاعدة وحماس هم وقفٌ على السنة، وحزب الله هو وقفٌ على الشيعة، وكلهم يغرفون من نفس القصعة حتى ولو أخذ الحزب الشكل العلماني كاسم فإنه يبقى بتشكيلة طائفية عشائرية لأنها كلها وريثة عصور الإقصاء السياسي الذي بدأ منذ وفاة الرسول (ص) وقبل أن يدفن، واستمرت حتى يومنا هذا. فالإسلام السياسي لا يستطيع أن يتعايش مع أحد، وسينتج لنا إما أمير المؤمنين أو المرشد الأعلى أو المرشد العام، وهذه الألقاب بحد ذاتها إقصائية.

لذا، وللحفاظ على الإسلام كدين عالمي صالح للصين وموناكو معاً، علينا أن نعزل السياسة عنه، أقول السياسة، ولا أقول المجتمع، لأن عزل الإسلام عن أي مجتمع ضرب من ضروب المستحيل.

اترك تعليقاً