لا بد وأنت تقرأ في التنزيل الحكيم، من أن تمر بآيات ورد فيها ذكر: الأب والأم، والوالد والوالدة، والأبوين والوالدين، والابن والابنة، والأخ والأخت.
ولا بد لفهم ذلك كله، من التفريق بين الأب والوالد، والأم والوالدة، والأبوين والوالدين، والولد والابن. ونبدأ أولاً بالمعاجم اللغوية.
1 – ولد: الواو واللام والدال أصل صحيح، وهو دليل النجل والنسل، ثم يقاس عليه غيره. والوالد للواحد وللجميع، ويقال للواحد ولد أيضاً وللأنثى وليدة جمعها ولائد، وتولد الشيء عن الشيء حصل عنه (ابن فارس ج6، ص143).
2 – أم: الهمزة والميم أصل واحد تتفرع منه أربع أبواب هي: الأصل والمرجع والجماعة والدين، وهذه الأربعة متقاربة. وبعد ذلك أصول ثلاثة هي المقامة والحين والقصد. قال الخليل الأم للواحد والجمع أمهات، وربما قالوا أم وأمات. وفلانة تؤم فلاناً أي تغذوه وتربيه. قال الخليل كل شيء يضم إليه ما سواه مما يليه فإن العرب تسمي ذلك الشيء أماً، ومن ذلك أم الرأس وهو الدماغ.
قال الخليل كل مدينة هي أم ما حولها من القرى، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها أم مثوى وللرجل أبو مثوى. وأم النجوم السماء، وأم كلبة الحمى، وأم كفات الأرض، وأم الكف اليد. ومن الدين جاء معنى الأمة {.. إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} الزخرف 23. ومن الاجتماع والاتباع جاء معنى الإمام والإمامة {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يكن من المشركين} النحل 120. ومن الحين أي الفترة الزمنية جاء قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله ..} يوسف 45.
وبمعنى القصد جاءت في قوله تعالى: {.. ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم..} المائدة 2. أي يقصدونه. والأم: الرئيس. يقال هي أمهم.
3 – أب: الهمزة والباء في المضاعف أصلان، أحدهما المرعى، والآخر القصد والتهيؤ. فأما الأول فقوله تعالى: {وفاكهة وأبا} عبس 31. قال أبو زيد الأنصاري لم أسمع للأب ذكراً إلا في القرآن. قال الزجاج الأب جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية.
أما الأصل الثاني فقال الخليل وابن دريد الأب مصدر أبَّ فلان إلى سيفه، إذ رد يده إليه ليستله. والأبُّ في قول ابن دريد النزاع إلى الوطن، والأبُّ التهيؤ إلى المسير. وقال الخليل وحده أبَّ هذا الشيء إذا تهيأ واستقامت طريقته. والأبُّ القصد. يقال أببت أبه، وأممت أمه. (ابن فارس ج1، ص7).
ونلاحظ في هذا كله أمراً هاماً جداً، هو أن الأم من فعل أم، والأب من فعل أب، لا علاقة لهما البتة بفعل ولد. ونفهم أن الوالد والوالدة هما المعنيات بفعل الولادة، وأن الأبوين شيء والوالدين شيء آخر.
فإذا استعرضنا آيات التنزيل التي وردت فيها هذه المصطلحات، وجدنا أن هذه غير تلك، ووجدنا التنزيل يتوسع في تعريفها وتحديد معانيها بدقة.
سنقوم هنا بقراءة معاصرة لهذه المصطلحات، كما وردت في التنزيل الحكيم، انطلاقاً من أننا شهداء القرن العشرين، شاهدون على معارف الطب والوراثة والحمل والجنين التي أرستها الحضارة الإنسانية، منوهين إلى أنها قراءة ليست مطلقة، بل مرهونة بزمانها ومكانها.
الوالد هو صاحب الحيوان المنوي الذي بدونه لا يتوالد جنين. والوالدة هي صاحبة البويضة التي بدونها لا يتولد الجنين. إذ يقوم تولد الجنين على اجتماع حيوان منوي وبويضة في الرحم، بدون أحدهما لا يتولد شيء. وفي هذا نقرأ قوله تعالى:
- {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ..} آل عمران 47.
انظر هنا إلى دهشة مريم، بعد أن بشرها الله بكلمة منه اسمه المسيح، فهي تعرف حيناً أن الوضع يأتي بعد الحمل وأن الحمل يحتاج إلى لقاح وأن اللقاح يلزمه بشر يمسها. وهي تستغرب أن تحمل.
ونقرأ قوله تعالى:
- {قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً، إن هذا لشيء عجيب} هود 72.
وانظر هنا إلى دهشة امرأة إبراهيم، واستغرابها من الولادة وليس من الحمل، فهي متزوجة وعندها من يمسها، لكن زوجها شيخ، وهي ذاتها عجوز عقيم (الذاريات 29). فلا هي أبقى لها العقم والعجز بويضات، ولا زوجها أبقت له الشيخوخة حيوانات منوية، فمن أين تأتي الولادة والتوليد؟
هناك إذن لقاح وهناك إذن تولد للجنين من عنصرين مذكر ومؤنث، تأتي بعدها مرحلة سماها التنزيل مرحلة الحمل، وذلك في قوله تعالى:
- {فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً} مريم 22.
- {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ..} الرعد 8.
- {.. وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} فصلت 47.
- {.. فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً ..} الأعراف 189.
تأتي بعد ذلك عملية خروج الجنين من الرحم، التي أطلق عليها التنزيل الحكيم اسم الوضع، وذلك في قوله تعالى:
- {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ..} آل عمران 36.
- {.. وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ..} الطلاق 4.
- {.. وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ..} الطلاق 6.
- {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها ..} الحج 2.
فالمولود يخرج إلى النور نتيجة لقاح وحمل ووضع، والوالدة هنا هي صاحبة البويضة وهي الأم التي حملته ووضعته، ولهذا قال التنزيل إن المسيح كان براً بوالدته، أي أن البويضة الأنثوية كانت من مريم، وهي التي حملته ووضعته في آيات أخرى. ونخلص إلى أن للوالد مرحلة واحدة لا يتعداها هي مرحلة الالقاح، أما الوالدة فهي صاحبة البويضة يليها بعد اللقاح الحمل والوضع فتصبح أماً، {.. وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ..} النجم 32، {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ..} النحل 78. فإذا تلازم البويضة والحمل والوضع في أنثى واحدة فهي والدة وأم حاملة للجنين وواضعة، وهذا واضح في قوله تعالى:
- {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً..} العنكبوت 8.
- {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين ..} لقمان 14.
أي يولد المولود (الوضع) والذكر والده، والأنثى والدته وأمه الحاملة للجنين والتي وضعته، والمولد ولدهما.
هنا نلاحظ أن التنزيل الحكيم يطلق مصطلح الأم على التي تحمل الجنين، لأنها تغذية من دمها وترعاه في بطنها أثناء الحمل، ولهذا فهي أم ووالدة اجتمعت فيها الصفتان بقوله تعالى:
- {.. يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق ..} الزمر 6.
أما الولادة بمعنى الوضع وخروج المولود إلى النور من الرحم، فقد جاءت في قوله تعالى:
- {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} مريم 15.
- {ووالد وما ولد} البلد 3.
- {.. واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ..} لقمان 33.
المولود بعد الولادة مباشرة، يسميه التنزيل الحكيم وليداً، كما في قوله تعالى: {قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين} الشعراء 18. ولما كانت الأنثى أماً تحمل وتضع، ووالدة تولد البيوضة، ويخرج وليدها من فرجها، فقد قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ..} النحل 78.
ولما كان خروج الوليد من فرج أمه، والتي هي في غالب الأحيان والدته، خصوصية مقصورة عليها حصراً، ولا تنسحب على أية امرأة أخرى، فقد استنكر سبحانه الظاهرة التي كانت فاشية في الجاهلية، كأن يقول أحدهم لزوجته: أنت علي كظهر أمي. واعتبر ذلك منكراً وزوراً في قوله تعالى:
- {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللاتي ولدنهم، وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً ..} المجادلة 2.
- {.. وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ..} الأحزاب 4.
ولما كان للوالد مهمة واحدة هي الالقاح، فالوالد هو الملقح، بغض النظر عن طريقة الالقاح، سواء بالنكاح أو بغيره، وبغض النظر عن شرعية النكاح (زواج) وعدم شرعية (زنا). أما الأب فله وضع آخر تماماً غير الوالد. فإذا رعى الذكر الوالدُ الأمَّ والد فقط.
من هنا نفهم أن اليتيم ليس يتيم الوالدين، بل يتيم الأب أو الأم أو الأبوين معاً. فالأب من القصد والعناية والتربية، والأم من التغذية والحنو (تؤم جنينها)
قبل الوضع وبعده.
ونفتح التنزيل الحكيم لنقرأ قوله تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا} نوح 27. لنجد أن الولادة في الآية جاءت بمعنى التربية والتشكيل الايديولوجي والعقائدي في المجتمع، وأن فعل “يلدوا” لا يعني مطلقاً الولادة من حمل ووضع وأمومة، لأن الإنسان لا يولد كافراً فاجراً ولا يولد مؤمناً تقياً، كما يتوهم البعض، بل يخرج من بطن أمه صفحة بيضاء نقية بدليل قوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً..} النحل 78.
أي أن هناك أولاداً بالولادة، وأولاداً بالتربية، فالتربية هي التي تجعل منهم كفاراً فجاراً، أو تجعل منهم مؤمنين صالحين. والمربون في هذه الحالة هم الآباء وليس الوالدين. فإذا قام الوالدان بالتربية المادية والمعنوية، بالرعاية والانفاق، أصبحا أبوين. وإذا قام غير الوالدين بهذه التربية والرعاية كانا أبوين أيضاً. ومن هنا نجد للآبائية معنيين في التنزيل الحكيم.
الأبوان هما اللذان يقدمان الرعاية والانفاق والتنشئة للوليد بعد الولادة، فإن كان وليدهم فهما والده أيضاً. وهنا يتضح معنى الأب الذي يقوم بالتربية والانفاق والقصد على تنشئة الوليد، فإن كان والده، فهو أبوه أيضاً. أما إن كان ليس بوالده فهو أبوه فقط. وكذلك الأم التي تقوم على التربية والرعاية، فإن كانت والدته، فهي أمه ووالدته، أما إن كانت ليست بوالدته فهي أمه فقط.
ومن هنا نرى إمكانية أن يكون للإنسان أكثر من أم، أم والدة، وأم مربية، وقد تجتمع أمومة الولادة وأمومة التربية في امرأة واحدة. ولهذا نجد تحريم النكاح في التنزيل شمل الأم ولم يخص الوالدة. وذلك في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم ..} النساء 23.
وهذا طبيعي ينسجم مع باقي آيات التنزيل التي تعتبر المرضعة أماً، وتعدها من المحارم مع أنها ليست والدة، ذلك في قوله تعالى: {.. وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ..} النساء 23. ونقرأ قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم..} الأحزاب 6. ونفهم من الآية أمرين: الأول أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين وليس والدات المؤمنين، الثاني أن كونهن كذلك أدخلهن في محارم النكاح في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم ..}.
وهكذا نرى الفرق جلياً واضحاً بين الوالد والأب، والوالدة والأم، والوالدين والأبوين، فمن الناحية البيولوجية لا بد للوليد من والد ووالدة، ومن ناحية التربية والحماية والرعاية والتنشئة لا بد له من أب وأم.
وإذا كان التنزيل قد ميز وفرق بدقة بين الوالد والأب في المصطلح والمعنى، فحصر الأول بالإلقاح والثاني بالإنفاق والرعاية والتربية، فهو قد وحد في مصطلح الأم بين جميع وجوه الأمومة، البيولوجية في الرحم والمولود جنين والتربية والعقائدية بعد الوضع. ونقرأ قوله تعالى:
- {إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى} طه 38.
- {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله، فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ..} طه 40.
ونفهم أن أم موسى، كانت والدةً وأماً بالولادة، وبقيت أماً بالكفالة والرضاعة والتنشئة.
ولعل خير مثال على الفصل والتفريق بين الوالدين والأبوين، هو ما نعرفه اليوم بالتبني، وللتبني مصطلح خاص يطلقه التنزيل الحكيم عليه هو اتخاذ الولد. وإذا كنا قد اقتصرنا حتى الآن، في الحديث عن الوالدية والآبائية، على زاوية الأب والأم، والأبوين والوالدين، فإن هذا ينقلنا إلى الحديث من زاوية الولد. ونبدأ بقوله تعالى:
- {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ..} يوسف 21.
- {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون} القصص 9.
ومن المعلوم أن المصري وامرأة لم يكونا والدي يوسف، وأنهما أرادا أبوة التربية والتنشئة باتخاذه ولداً.
تماماً مثل فرعون وامرأته، لم يكونا والدي موسى، وأرادا أن يصبحا أبويه باتخاذه ولداً.
ونعود إلى التنزيل الحكيم لنجد أن الله سبحانه نفى عن نفسه الصفتين معاً، صفة الوالدية وصفة الأبوية، فهو ليس بوالد، وليس بأب.
أ- نفي الوالدية، وقد ورد في قوله تعالى:
- {ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون} الصافات 151، 152.
- {الله الصمد * لم يلد ولم يولد} الاخلاص 2، 3.
- {.. إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد ..} النساء 171.
- {بديع السموات والأرض، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ..} الأنعام 101.
ب- نفي الأبوية (التبني) وقد ورد في قوله تعالى:
- {ما كان لله أن يتخذ من ولد، سبحانه ..} مريم 35.
- {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ..} المؤمنون 91.
- {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ..} الإسراء 111.
- {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون} الأنبياء 26.
- {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء ..} الزمر.
وهكذا نرى أن النفي المزدوج للوالدية والأبوية عن الله سبحانه وتعالى واضحة تماماً في التنزيل الحكيم.
لنستعرض التنزيل الحكيم لنرى كيف ورد الأب بمعنى الوالد، وكيف ورد بمعنى الراعي المربي. أما في الأب الوالد، فنقرأ قوله تعالى:
- {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً ..} يوسف 4.
ومع أن يعقوب والد يوسف وأبوه، فقد استعمل مصطلح الأب، للدلالة على أن يوسف دخل دائرة الوعي في الدنيا وهو في كنف والده يعقوب وتحت رعايته، ودليل وعيه أنه يقص على أبيه ووالده ما رآه في الرؤيا.
- {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ..} يوسف 8.
إخوة يوسف هنا واعون مدركون، ويشعرون بالغيرة والحسد من حب أبيهم ووالدهم ليوسف وأخيه.
فإذا ما تابعنا سورة يوسف كلها، وجدنا الآيات تتحدث عن يعقوب الأب وعن الأبوين، ولم نجدها تذكر الوالد أو الوالدين (انظر الآيات 9، 11، 16، 59، 61، 63، 65، 68، 80، 81، 93، 94، 97، 100).
وننقل إلى إبراهيم، ونقرأ قوله تعالى:
- {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء} إبراهيم 39.
- {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء} إبراهيم 40.
- {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} إبراهيم 41.
ونلاحظ أن مصطلح الأب يرافق إبراهيم في جميع الآيات التي تتحدث عن إبراهيم، عدا هذه الآية بعينها، التي ورد فيها استغفار إبراهيم لوالديه. وأنه كان شيخاً كبيراً، وأباً ووالداً لإسماعيل وإسحق. مما نستبعد معه أن يكون والداه حيين. نقول هذا ونحن نتذكر قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياها فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم} التوبة 114.
ونلاحظ أن براءة إبراهيم من أبيه في التوبة 114، لا علاقة لها بوالدي إبراهيم في إبراهيم 41، بقدر ما تتعلق بقوله تعالى: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} الشعراء 86. وبقوله تعالى: {.. إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ..} الممتحنة 4. فمن هو أبو إبراهيم، الذي لا علاقة له البتة بوالدي إبراهيم؟ إنه آزر، الذي عناه سبحانه في قوله:
- {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة، إني آراك وقومك في ضلال مبين} الأنعام 74.
- {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} الأنبياء 51-45.
ونقف عند قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ..} ونتذكر إلى جانب ذلك قوله تعال: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت ..} ونلاحظ أنه سبحانه قد سمى الأب عند إبراهيم، ولم يسمه عند يوسف. فلماذا؟
ونقف عند قول إبراهيم لأبيه آزر: إني أراك وقومك .. ولم يقل إني أراك وقومي .. فلماذا؟
هذا كله يدلنا على أن آزر ليس والد إبراهيم، بل هو أبوه بالتربية والرعاية وربما بالعقيدة. ويدلنا على أن ثمة عدداً من الآباء المربين في محيط إبراهيم خص منهم سبحانه وتعالى آزر بالذكر فسماه. ويقودنا إلى استنتاج أن لآزر علاقة وثيقة بالمعابد والتماثيل، إما في نحتها وصنعها، أو في خدمتها كهامان، أي كرجل دين في المعابد.
وهذا يفسر لنا سبب قرب إبراهيم من هذه الأصنام ومن المعابد، وحريته في الدخول إليها متى شاء، باعتباره تحت إشراف آزر التربوي. كما يفسر لنا حرص إبراهيم على هداية أبيه الروحي بدافع المحبة والبر والعرفان بالجميل. ومن هنا نجد في حواراتهما مصطلح الأب، ولا نجد أبداً مصطلح الوالد.
واستفاق إبراهيم من غفوة السير في ركاب أبيه وقوم أبيه، بعد أن آتاه الله رشده، فكانت ردة فعله عنيفة، ونقرأ قوله تعالى:
- {وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم * إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون * أئفكاً آلهةً دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم} الصافات 83-89.
ونفهم من الآيات أن إبراهيم جاء إلى آزر بقلب يملؤه الشك والغيظ، ليسأل أبيه وقوم أبيه مستنكراً: ماذا تعبدون؟
أما فهمه السيوطي في الدر المنثور، من أن إبراهيم جاء إلى الله بقلب لا تشوبه شائبة شك أو كفر، فليس عندنا بشيء. فقد فات السيوطي أمور، منها أن كلمة “سليم” من الأضداد، ومنها أن فعل جاء ليست مثل أتى في قوله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم} الشعراء 88-89 (1).
إن فهمنا السالف لسورة الصافات 83-89، يفسر لنا مشكلتين لم يستطع السيوطي أن يحلهما في دره المنثور، وأخذهما بعض المستشرقين ذريعة لنسب الخطأ إلى التنزيل الحكيم:
1 – لم يفرق المفسرون بين الأب والوالد في التنزيل، فذهبوا إلى أن آزر، هو والد إبراهيم وأبوه. وهب علماء الأنساب العرب يهوداً ومسلمين، ينكرون هذا ويؤكدون أن والد إبراهيم رجل آخر اسمه تارح، وكان ابن عباس على رأس النسابين المسلمين الذين قالوا بذلك. وتم طمس ما قاله ابن عباس حرصاً على عدم تغليط المفسرين، وكانت فرصة للمستشرقين أن يتكئوا على هذا الغلط في التفسير، ليزعموا أنه غلط في التنزيل نفسه.
2 – كيف يسمح إبراهيم لنفسه أن يستغفر لوالده آزر، بعد أن وضح له خطأ استغفاره له أول مرة، وتبرأ منه؟
لقد ظهر هذا التناقض الكبير، حين لم يميز المفسرون كما ميز التنزيل بين الأب والوالد، ونحن نرى هنا أنه لا يوجد تناقض بتاتاً لأن إبراهيم تبرأ من أبيه آزر واستغفر لوالديه. ولأن أبا إبراهيم آزر شخص ووالد إبراهيم شخص آخر، ولا يضيرنا في شيء أن يكون اسمه تارح كما قال ابن عباس، أو غير ذلك.
ونختم حديثنا عن الأب الوالد في التنزيل الحكيم، لننتقل إلى الأب المربي، حيث ورد مصطلح الأب بهذا المعنى في العديد من الآيات لعل أبرزها قوله تعالى:
- {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم ..} الحج 78.
- {يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ..} الأعراف 27.
- {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} البقرة 170.
- {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا إنما أرسلتم به كافرون} الزخرف 24.
لقد ورد مصطلح الأب في الآية الأولى، بمعنى المربي العقائدي بشكل لا لبس فيه. إذ يوجد في العالم اليوم أكثر من مليار مسلم مؤمن منهم الهنود والعرب والترك والأوروبيون والأفارقة، والمسلمون غير المؤمنين أكثر من ذلك، ولا يمكن أن يكون إبراهيم والد هؤلاء جميعاً، ومن هنا نفهم أن إبراهيم أبو المسلمين وليس والدهم.
وكذلك في الآية الثانية، فآدم ليس والد الآدميين، وأبناء آدم ليسوا أولاده لا بالولادة ولا بالتبني، بل هو أبوهم الذي بدأ به الوجود الإنساني العاقل، تماماً كما نقول بأن مندلييف أبو الكيمياء، ولا نقول والدها، ونقول أبو الشعب ولا نقول والده، ونقول عن زوجات الرسول أمهات المؤمنين وليس والدته. لأن مصطلح الوالد والوالدة مصطلح بيولوجي فيه نكاح، أو فيه لقاح، أو فيه الاثنان معاً.
وننتقل إلى الآيتين الثالثة والرابعة، بعد أن رأينا أن مصطلح الأم والأب أعم من مصطلح الوالدة والوالد، وأصبحنا نفهم بشكل أدق قوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه} عبس 34، 35.
ونلاحظ أن مصطلح الأب بمعنى المربي والمكون الفكري والعقائدي للفرد في المجتمع، قد ورد بصيغة الجمع في العديد من آيات التنزيل الحكيم (آباء)
- كما نلاحظ أن مصطلح الآباء ورد في التنزيل للدلالة على التكوين الفكري والعقائدي للفرد، إضافة إلى أنه ورد في بعض الآيات بمعنى الأب (بالولادة أو التبني) وبمعنى الجد وجد الجد، حين ينحصر الحديث بشخص معين، كقوله تعالى: {.. ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ..} النور 31. فالآباء هنا تشمل الأب الوالد والأب الذي تبنى وربى، ولهذا قال: {آبائهن} ولم يقل (والديهن).
والآباء لا تعني الذكور حصراً، فلدينا الوالد والوالدة وهما الوالدان، فإذا تابعنا صعوداً فلدينا الجد والجدة والأجداد، وإذا اتجهنا نزولاً، فلدينا الأولاد (البنين)
والأحفاد، كما في قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ..} النحل 72.
أما بالنسبة لـ الأب + الأم = الأبوين، فإذا انتهينا صعوداً فهم الآباء، وإذا اتجهنا نزولاً فهم الأبناء، لذا قال “يا بني آدم” وقال “أبويكما” وقال “آباءكم”. وهكذا نفهم من التنزيل الحكيم عندما ذكر الآباء والأبناء في الإرث فهذا يعني أن الإرث يشمل الولد وولد الولد نزولاً والأبوين والجدين ذكوراً وإناثاً صعوداً.
ونفهم أن الآباء لا تعني الذكور حصراً، بل تشمل الذكور والإناث حين يكون الحديث في المجال التربوي العقائدي الثقافي. ونمضي لنستعرض بعض آيات التنزيل التي ورد فيها مصطلح الآباء بهذا المعنى:
- {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ..} المائدة 104.
- {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ..} يونس 78.
- {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آُارهم مهتدون} الزخرف 22.
- {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} الزخرف 23.
ونلاحظ هذا التتالي في المصطلحات التالية:
لنرى العلاقة واضحة كاملة بين الآبائية والأمة (السلوك والثقافة) واتباع هذه السلوك وهذه الثقافة كما تركها الآباء هداية واقتداء. ونزداد فهماً لهذه النقطة إذا قرأنا الآيات التالية: المؤمنون 24، 68، 83، الأعراف 70، 71، 173، الأنعام 91، 148، الشعراء 26، 75، 76، الدخان 8، 36، هود 62، 87، 109، الصافات 16، 17، 126، الفرقان 18، الزخرف 29، 40، الأنبياء 54، سبأ 43، الواقعة 47، 48. فهذه الآيات كلها جاءت بمعنى السلوك والثقافة والعقيدة والاتباع والاقتداء لا بالمعنى البيولوجي.
وننتقل لنقرأ قوله تعالى:
- {.. إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة كافرون * واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء..} يوسف 37، 38.
- {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ..} التوبة 23.
لنجد أننا أمام معنى مزدوج للآباء، مزيج من الأب الوالد فالجد فجد الجد، والأب المربي عقيدة وثقافة. فيوسف يذكر في الآية آباءه، والده يعقوب وعمه اسحق وجده إبراهيم، لكنه يبدأ العد معكوساً من جده إلى أبيه، لأن الملة (العقيدة والدين) ملة جده إبراهيم بالأساس. مما يجعلنا نفهم أن آبائية العقيدة والثقافة أهم من نسب الدم والبيولوجيا إن لم تكن مثلها.
وننتقل الآن في ضوء ما ذكرناه سابقاً إلى قوله تعالى:
- {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وكان الله بكل شيء عليما} الأحزاب 40.
لقد اعتبر أصحاب “أسباب النزول” أن الآية نزلت في زيد بن حارثة، الذي كان يلقب بزيد بن محمد، فصار معنى الآية في زعمهم، إن محمداً ليس أباً لأحد.
ولكن ما علاقة أن يكون محمد (ص) أباً لزيد أو غيره بكونه رسول الله؟ وما علاقة أن يكون أباً للقاسم بكونه خاتم النبيين؟ بمعنى آخر، إذا قلنا إن فلاناً ليس أبا سعيد، لكنه وزير وأستاذ في الجامعة، فما علاقة هذا بذاك؟
ثمة عدم ترابط بين بداية الآية ونهايتها في ضوء ما تذهب إليه بعض التفاسير، وسيبقى قائماً ما لم نفهم أن الأبوة في الآية تعني الجانب العقائدي، تماماً كما في قوله تعالى: {.. ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل ..} الحج 78. فإبراهيم أبو المسلمين وآدم أبو الإنسان.
إذا فهمنا الأبوة في الآية بهذا المعنى، صار الربط واضحاً بين أبوة محمد الروحية العقائدية في مطلع الآية، وبين رسالته ونبوته في خاتمتها. وفهمنا أن محمداً (ص) لم يتبن أحداً في رسالته ونبوته، وليس ثمة من يحق له أن يقول إن محمداً (ص) علمه أسرار الرسالة والنبوة وأعطاه الحق والقيومية بشرح هذه الرسالة والنبوة للناس من بعده.
إن فهمنا الصحيح للآية على الوجه الذي شرحناه، يؤكد ما طرحناه في بحث الشاهد والشهيد، من أنه بعد انتهاء عهد النبوة بدأ عهد الشهادة. فالشهداء بديلو (ورثة) الأنبياء إلى أن تقوم الساعة ولكن بدون وحي. أي أن جدل الشهيد الشاهد، والشاهد الشهيد، والشاهد الشاهد، والشهيد الشهيد، هو المجال الوحيد الموجود أمامنا لفهم الرسالة والنبوة، وأنه لا وصية لأحد ولا عصمة لأحد، ولا قهر لأحد تحت باب الإجماع، فعهد النبيين والصديقين انتهى، ونحن الآن في عهد الشهداء والصالحين، والاجتهاد هو الحل الوحيد أمام الناس الأحياء شهداء عصرهم شاهدي المعلومات التي توصلت إليها الإنسانية حتى عصرهم، ولا نرى حلاً آخر. إذ كل حل آخر لا بد أن تدخل فيه ظاهرة الهامانية والوصاية.
لننظر الآن في التعريفات التالية:
- الأم الواضعة – أي الحاضنة التي حملت الجنين في رحمها ووضعته – من المحارم بغض النظر عما إذا كانت هي صاحبة البويضة أم لا. (أي بغض النظر أهي أم أم لا).
- الأم المرضعة – من المحارم، رغم أنها ليست والدة.
- أم المؤمنين – من المحارم، رغم أنها ليست والدة.
- الأم المربية – في حالة كونها ليست الوالدة- متى تكون من المحارم، ومتى لا تكون.
- الأب الوالد ← صاحب الحيوان المنوي + القصد والرعاية أثناء الحمل. فإذا كان صاحب الحيوان المنوي فقط، فهو الوالد فقط، وليس الأب الوالد.
- الأب بالتبني – هو أب، فمتى يكون من المحارم ومتى لا يكون.
- الأب المربي- ليس من المحارم، فأستاذ الموسيقى أب لطلابه، وأستاذ الرياضة أب لتلاميذه، والزعيم السياسي البارز هو أب الشعب وليس والده، لكن هذا لا علاقة له بالمحارم والإرث.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: متى تكون الأم المربية من المحارم، ومتى يكون الأب المربي من المحارم؟
أي ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في الأم المربية حتى تدخل في محارم النكاح كالأم الوالدة، والأم المرضعة، وأم المؤمنين. والشروط التي يجب أن تتوفر في الأب المربي حتى يصبح في عداد محارم النكاح كالأب الوالد؟
ما هي شروط التبني (اتخاذ الولد)؟ وهي في التنزيل الحكيم ما يدل أو يشير إليها؟ وبخاصة بعد أن تبين لنا، من إعادة قراءة الآيات في الصفحات السالفة، أن للإنسان أكثر من أم (حاملة للجنين، مرضعة، أم المؤمنين) وكلهن من المحارم، وبعد أن رأينا كيف يفرق التنزيل بشكل لا لبس فيه بين الوالد والأب.
وحين يقرر التنزيل الحكيم وجود ولد مولود، وولد متخذ، ثم نقرأ قوله تعالى:
- {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين ..} النساء 11.
- {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ..} الحديد 20.
- {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ..} آل عمران 10.
نفهم حتماً أنه سبحانه يعني النوعين من الأولاد (بالولادة وبالاتخاذ) طالما أن اللفظ جاء عاماً مطلقاً لا تخصيص فيه.
وحين يقرر التنزيل الحكيم وجود أب والد، وأب مرب، وأب بالاتخاذ ثم نقرأ قوله تعالى:
- {.. ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ..} النساء 11.
- {.. فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ..} النساء 11.
نفهم حتماً أنه سبحانه يعني الأبوين بكل أنواعهما، وليس الأبوين الوالدين حصراً، وإلا لقال “والداه” و”والديه”.
ونفهم من قوله تعالى: {.. آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً..} النساء 11، يعني الأبوين والأجداد صعوداً، والأولاد والأحفاد نزولاً ذكوراً وإناثاً. أي أن الحفيد يرث من جده لأبيه أو أمه حتى ولو كان أبواه متوفيان. وكذلك الجد يرث من أحفاده بعد وفاة الأبوين.
هنا تتضح لنا المأساة بكل جوانبها، حين نرى أن الخلط بين الأبوين والوالدين، وعدم التفريق بينهما بدقة كما فرق التنزيل الحكيم، لا يقتصر على شكليات سطحية تتمثل في اسم والد إبراهيم، أهو آزر أم تارح، وفي اسم زيد، أهو ابن حارثة أم ابن محمد، بل يمتد أثرها لتنعكس خلطاً على: محارم النكاح – وإبداء الزينة – وأنصبة المواريث.
لنبدأ بالشروط التي يصبح بها الولد المتبنى (بالاتخاذ) كالوالد بالولادة ن حيث المحارم (نكاح وزينة) ومن حيث الإرث. ونقرأ قوله تعالى:
- {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} لقمان 14.
- {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين} الأحقاف 15.
- {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما} الإسراء 23.
ونلاحظ أن سبحانه ذكر الفصال في حالتين:
الأولى: حملته أمه وهناً على وهن ← وفصاله في عامين
الثانية: حملته أمه ووضعته كرهاً ← وحمله وفصاله ثلاثون شهراً
الفصال في الحالة الأولى في عامين بعد الولادة، والحمل وهناً على وهن فذكر حالة الضعف، أي أن كامل الحمل هنا تسعة أشهر.
والحمل والفصال بالحالة الثانية ثلاثون شهراً، وبما أن الفصال معرف بعامين، أي بأربعة وعشرين شهراً، تبقى للحمل ستة أشهر، وهي الحد الأدنى للفترة التي يتمها الجنين في رحم أمه، يصبح بعدها قابلاً لأن يولد ويستمر في الحياة. أي أن لدينا حداً أعلى للحمل في الحالة الأولى:
الحد الأعلى للحمل = 9 أشهر ← الفصال في عامين ← {وهناً على وهن}.
وهنا الوهن الأول هو فترة الحمل كحد أدنى، والوهن الثاني هو فترة الحمل كحد أعلى.
ولدينا حد أدنى للحمل في الحالة الثانية:
الحد الأدنى للحمل = 6 أشهر ← الفصال في عامين ← {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً}
إلا أن المطلوب بمن الإنسان في الحالتين أن يشكر لله وللوالدين. ونفهم من ورود مصطلح الوالدين هنا، أن الوليد تربى عندهما قبل الفصال وبعده، بدليل قوله في الحالة الأولى {أن اشكر لي ولوالديك} والأمر بالشكر هنا تكليف، والتكليف لا يكون إلا لواع عاقل، يعرف الشكر ويعرف الله ويعرف الوالدين. وبدليل قوله صراحة في الحالة الثانية {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} ففيها من الوضوح ما يغني عن الاسترسال. ثم تأتي آية الإسراء 23، لتؤكد أن المخاطب مكلف واع عاقل يعرف والديه اللذين قاما بتربيته قبل الفصال وبعده. لننتهي بعد هذا كله إلى القول بتطابق الوالدين مع الأبوين في الآيات الثلاث.
لننظر الآن في معنى الفصال. فالفصال من فصل، يعني الفصل بين شيئين، مرحلتين أو آيتين، كقوله تعالى: {آيات مفصلات} ومنه يوم الفصل، أي يوم القيامة، والقول الفصل، أي التنزيل الذي يفصل الحق من الباطل. ويعني أيضاً التمييز بين الأشياء وشرحها، كقوله تعالى: {.. ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء..} يوسف 111.
لقد غلب على فهمنا الفصال، بأنه الفطام عن الرضاعة التي تستمر عامين، وهذا صحيح من جانب واحد فقط. فثمة عشرات الملايين من الأمهات اليوم لا ترضع أولادها من أثدائها، ولا تستأجر له المرضعات، بل يرضعنه حليباً حيوانياً مصنعاً (نيدو، نستلة،..). والفصال بداية لمرحلة جديدة ونهاية لمرحلة سابقة لها عند كل أطفال أهل الأرض، سواء رضعوا من أمهاتهم أم لم يرضعوا.
هذه المرحلة الجديدة هي بداية تشكل الذاكرة عند الطفل مع بلوغه العامين، أما قبل ذلك فلا ذاكرة له البتة. ونقصد بالذاكرة هنا المعلومات التي يتم تخزينها ثم استرجاعها فيما بعد. إذ ليس ثمة إنسان يتذكر حدثاً حصل معه في سن ما قبل العامين. وكل الأحداث التي يسترجعها أطفال الدنيا في ذاكرتهم بعد أن يكبروا، هي أحداث حصلت لهم بعد سن العامين من العمر. وهذا يؤكد معنى قوله تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك} أن الوالدين دخلا ضمن دائرة وعي الولد، وأصبح يعرفهما كأبوين أيضاً.
والفصال من الناحية العلمية أيضاً يعني الفصل بين الذات والموضوع عند الطفل، أي أن الطفل ابتداء من سن العامين يميز نفسه عن بقية الأشياء (يفصل نفسه)، فيميز ذاته أنها شيء عن ذات أمه على أنها شيء آخر.
هنا يتبين لنا أن التبني (اتخاذ الولد) له علاقة وثيقة بالفصال. أي له علاقة بدائرة الوعي ومخزون المعلومات في الذاكرة لدى الولد المتبنى. فإذا تم التبني في سن العامين وما قبل، يكبر الولد وليس في دائرة وعيه وذاكرته إلا أبويه بالتبني، ويكون لهما نفس حكم الوالدين، حتى ولو لم يلداه، لأنهما الوحيدان ضمن دائرة وعيه، ولا فرق بينهما وبين والديه، بالبر والإحسان والحرمة وإبداء الزينة والإرث.
إذا توفي والدان مثلاً بحادث سيارة، ونجا ولدها الذي لم يبلغ الثانية من عمره بعد، فأخذه رجل وامرأة وقاما بتربيته ورعايته بعد متبنيه، صار المعنيين بوصية الله تعالى بالوالدين في تنزيله الحكيم، وأصبحا مشمولين بجميع الأحكام التي نزلت في الوالدين والأبوين، سواء أرضعته أمه الجديدة أم لم ترضعه، وعلى رأسها أحكام حرمة النكاح في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم ..} النساء 23، وأحكام إبداء الزينة في قوله تعالى: {.. ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن ..} النور 31، وأحكام الإرث في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم .. ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ..} النساء 11.
يقول تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم ..}. ورغم أن الخطاب موجه للذكور، والآية تعدد النساء المحرم نكاحهن، إلا أنها تشمل الخطاب للإناث، وكأنه سبحانه يقول (حرم عليكن آباؤكن). ونلاحظ أنه لم يقل (والداتكم)، ليدل بذلك على شمول الأم الوالدة والأم الحاملة والأم الواضعة والأم المرضعة والأم المتبنية. وليدل بالتالي مع الإناث على الأب الوالد والأب المتبني.
وإذا تابعنا قراءة هذه الآية نصل إلى قوله تعالى: {.. وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} فإذا كان الاحتمال الوحيد للأبناء هو أن يكونوا من أصلاب الآباء فتصبح جملة {الذين من أصلابكم} حشوا، وهذا يعني بالضرورة أن هناك أبناء ليسوا من الأصلاب، والأبناء هم الولد وولد الولد نزولاً، والآباء هم الأبوين والجدين صعوداً. فهذا يعني أن حليلة الابن الذي من صلب أبيه (أب ووالد) محرمة في النكاح على الولد الأب، أما حليلة الابن بالتبني فهي غير محرمة على الأب غير الوالد.
ويقول تعالى {.. ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن ..}. ونفهم أن الأب المتبني الذي يتبنى أنثى في السنتين وما دون من العمر، له ما للأب الوالد من إظهار ابنته المتبناة لزينتها أمامه، بدليل قوله تعالى: {.. آبائهن أو آباء بعولتهن ..}.
ويقول تعالى {يوصيكم الله في أولادكم .. ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك .. فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ..} ونلاحظ أنه خص بالذكر الأبوين وليس الوالدين، ونفهم أن الإرث للأبوين سواء بالولادة أو بالتبني، وليس للوالدين حصراً.
ونعدد هنا ما نراه من حالات تنطبق عليها شروط التبني:
- فقدان الوالدين في حادث تاركين أولاداً دون الثانية من العمر.
- اللقطاء الذين رماهم والداهم بعد الولادة لأي سبب كان (الزنا، الفقر).
- الكوإرث الطبيعية والحروب التي تخلف أطفالاً، يمكن تبني من لم يتجاوز الثانية.
ونقف عند قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قبلين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} الأحزاب 4، 5.
ونكاد نسمع صياح الاحتجاج على ما ذهبنا إليه في الصفحات السابقة، وبالقائل يقول: ها إن الله سبحانه يمنع التبني بقوله: {.. وما جعل أدعياءكم أبناءكم..} وبقوله: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ..}، وأمامنا خبر زيد بن حارثة خير دليل على هذا المنع. ونقول نحن: هذا صحيح، فلقد صدق الله وصدق التنزيل في إبطال أبوة محمد (ص) لزيد، لكن هذا الإبطال جاء لكون التبني في حالة زيد باطلاً، وليس لأن التبني ذاته من حيث المبدأ باطل. وإلا لتناقض هذا الحكم إذا ما أطلقناه وعممناه، مع كل ما شرحناه من آيات في الصفحات السابقة، تعالى الله عن التناقض وتنزه عن التضاد.
هناك مئات الحالات المشابهة التي لا يجوز فيها التبني، ذكر التنزيل الحكيم اثنتين منها، حالة يوسف وحالة موسى، وذكرت كتب الأخبار حالات منها، حالة زيد بن حارثة وحالة زياد بن أبيه، وحالة المقداد بن الأسود.
حالة زيد وحالة يوسف، من حالات التبني الباطل، بينهما وجوه شبه، ولا بد لفهمهما من التوقف عند مصطلح الغلام.
غلم: الغين واللام والميم، أصل صحيح يدل على حداثة وهيج وشهوة. من ذلك الغلام، وهو الشاب الطار الشارب. والجمع غلمة وغلمان. ومن بابه اغتلم الفحل غلمة: هاج من شهوة الضراب. والغليم الجارية الحدثة. والغيلم الشاب. والغيلم ذكر السلاحف (ابن فارس ج4، ص287).
ولقد ورد هذا المصطلح في التنزيل الحكيم يحمل معاني، لا تخرج كلها عن المعنى الأصلي:
- الغلام هو المولود الذكر في قوله تعالى: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام ..} وقوله تعالى: {قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم} وقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} وقوله تعالى: {قالت أنى يكون لي غلام ..}.
- الغلام هو الذكر الذي بلغ سن النضوج الجنسي (طر شاربه) ويعرف تماماً والديه وأبويه، كيوسف في قوله تعالى: {فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه، قال يا بشرى هذا غلام..} وهذا ينطبق على الغلام وعلى الغلامين بخبر موسى في قوله تعالى: {فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله ..}، وقوله تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً ..}.
كان يوسف غلاماً، حين وصل إلى مصر مع القافلة التي أخرجته من الجب ثم باعته، في سن ناضجة يعي فيها أباه الوالد يعقوب بدليل قوله له {.. يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً}.
وكان في سن يعي فيها إخوته، ويستطيع فيها أن يقص ما يراه في أحلامه على أبيه، بدليل قول أبيه له {يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك}.
وكان قد جاوز الفصال، وصار بإمكانه أن يرتع ويلعب مع أقرانه، بدليل قول إخوته لأبيهم {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب}.
وكان في سن استطاع بما اختزن في ذاكرته خلالها أن يتذكر أخوته ويتعرف عليهم بدليل قوله تعالى: {.. فدخلوا عليه فعرفهم ..}.
وكان في سن لم يستطع أبواه الوالدان أن ينساه معها، بل ظل يبكيه وأمل بعودته. بدليل قولهم له {تالله ما تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً} وبدليل قوله لهم {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه}.
لهذا كله .. ولأن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه، فقد أتى الحكم ببطلان هذا التبني، وببطلان جواز ما قاله الذي اشتراه في مصر لامرأته {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا}.
وننظر في حالة زيد، فنراه يؤسر غلاماً في إحدى الغزوات، ثم يباع في عكاظ، فيشتريه حكيم بن حزام للسيدة خديجة. وكان زيد في سن ناضجة يعي معها أهله وقومه بدليل قوله لأناس من كلب رأوه في الحج: أبلغوا أهلي هذه الأبيات فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي:
أحن إلى أهلي وإن كنت نائياً * فإني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا عن الوجد الذي قد شجاكم * ولا تعلموا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة * كرام معدّ كابرا بعد كابر
ونراه في سن يستطيع معها أن يتذكر والده وعمه بدليل سؤال الرسول وجوابه عليه (.. فدعاه فقال أتعرف هؤلاء؟ قال نعم هذا أبي وهذا عمي).
وكان قد جاوز الفصال، وصار بإمكانه حتى أن يخدم الآخرين، بدليل أن ابن حزام اشتراه عبداً للخدمة.
ورأينا أباه حين فقده:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل * أحي يرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإن كنت سائلاً * أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها * وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره * فيا طول ما حزني عليه ويا وجل
ونراه في سن ناضجة، يستطيع معها أن يميز الأشياء، ويزينها، ثم يختار منها، بدليل قول الرسول له (فاخترني أو اخترهما). فاختار زيد الرسول على أبيه وعمه، وأشهد الرسول من حضر في الحجر أن زيداً ابنه يورثه ويرث منه(2).
لهذا كله .. ولأن الله جعل لرجل من قلبين في جوفه، فقد نزل الحكم مع نزول الرسالة والنبوة يبطلان هذا التبني الجاهلي.
يبقى ثمة تفصيل تختلف معه حالة زيد عن حالة يوسف، هو أن إبطال أبوة الرسول لزيد جاء به الوحي الأمين (الأحزاب 4، 5)، أما في حالة يوسف، فقد أتى الإبطال من أرض الواقع، ونقرأ قوله تعالى:
- {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} يوسف 23.
- {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ..} يوسف 24.
نحن هنا أمام شاب بلغ أشده، يعي أهله واخوته وأبويه، ويدرك تماماً أن المرأة التي أمامه ليست أمه، وأن الرجل الذي أحسن إليه وآواه ليس أبيه ولا والده. ويتهاوى التبني المزعوم أمام حقيقة الواقع، حين لا يرد هذا الشاب عن المرأة التي تراوده عن نفسه، إلا إحسان زوجها إليه، ثم برهان ربه.
لقد استهل تعالى آية الأحزاب 4 بقوله: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}، ونحن نعلم أن القلب مركز الوعي والعقل (القشرة الخارجية للدماغ)، ومركز العواطف والأحاسيس والهوى، أي أن الإنسان لا يمكن أن يكون له إلا أب واحد قد يكون الوالد وقد لا يكون.
وينتقل سبحانه بعد أن شرح في العبارة الاستهلالية كيف خلق للإنسان قلباً واحداً لا غير، إلى عبارة أخرى تقرب المعنى المقصود من أذهان السامعين، مستعيناً بظاهرة معروفة عندهم، متفشية بينهم، تمت معالجتها في آيات أخرى من التنزيل، هي المظاهرة، فيقرر بأسلوب حاسم أنه {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم}.
وينتهي في عبارة لاحقة إلى الحكم الذي يريد الوصول إليه، بقوله: {وما جعل أدعياءكم أبناؤكم}. ولا يملك القارئ إلا أن يقف أمام “الجعل” المتكرر مع كل عبارة (ما جعل .. وما جعل .. وما جعل ..) وهو يقرأ التعليق الالهي على ذلك كله {ذلك قولكم بأفواهكم}.
ونفهم أنه سبحانه يحتكم إلى قلوبنا ذاتها، لنقتنع بأن قول الحق، حين ننظر صادقين وفي وعينا وما استقر فيه من عواطف، بدليل قوله تعالى: {بأفواهكم}.
ونفهم أنه سبحانه يبين لنا أن القول بالأفواه لا يكفي، في حالات الحرمة وإبداء الزينة والإرث، لإضفاء الشرعية عليها. فإذا قال رجل لامرأته: أنت علي حرام كظهر أمي، أو قال رجل لأي امرأة: أنت أمي، فهذا لا يعني أبداً أنها حرمت عليه، وأن لها أن تبدي زينتها أمامه، وأنها ترثه، وأنه يرثها. وإذا قال رجل لغلام: أنت ابني، فهذا لا يعني أبداً أنه يرثه، وأنه دخل بقوله هذا ضمن محارم الغلام.
ونفهم أنه سبحانه يسمح لنا أن نطلق ألقاب الأمومة والأبوة كما نشاء ونحب، شرط ألا تترتب على ذلك مسؤوليات محارم نكاح وإرث، فنسمي الشافعي أبا الفقه، ومدام كوري أم الراديوم، وزعيمنا المحبوب أبا الشعب، على ألا يعني ذلك أن كل نساء الشعب أصبحن من محارمه، وعلى ألا يعني ذلك أن للشعب أن يرثه ويورثه، وإلا تحول هذا القول إلى منكر وزور.
وبعد ذلك كله، جاءت آية الأحزاب 5، لتعطينا الحل. والحل أنه إذا كان للغلام أب والد داخل ضمن دائرة وعيه، وحصل التبني والغلام واع لهذا التبني عند حصوله، فالتبني باطل، والغلام ليس بابن، وعلينا في هذه الحالة (حالة زيد) أن ندعوه لأبيه الوالد، أما إذا لم نعرف له أباً فهو أخونا في الدين، له علينا حق الرعاية والولاء، دون الدخول في المحارم الإرث، وهذا بالضبط ما ذهب إليه الرسول الأعظم حين تزوج زينب بعد طلقها زيد.
هذه الحالة تنطبق الآن على جميع الأطفال الضائعين، فإذا فقد أبوان ولدهما في حادثة ما، فإن لدينا احتمالين:
- أن يكون هذا الولد قد تجاوز سن الفصال، وعلى من يجده أن يربيه ويعتني به كأخ ومولى، سواء عرف والداه أم لم يعرفا. فإذا ظهر الوالدان وطالبا به، فعليه أن يعيده إليهما، لأنه بالأصل مفقود ووالداه يبحثان عنه.
- أن يكون هذا الولد دون سن الفصال، وهنا يحق لمن يأخذه أن يتبناه، فيدخل ضمن المحارم والإرث. ويبقى عليه أن يعلم السلطات بذلك لينشروا خبره، لعلهم يعثرون على والديه إن كان ضائعاً. فإن لم يظهر له والدان يطالبان به، أي كان لقيطاً، فله أن يتبناه ويربيه فيدخل الطفل في دائرة محارم وإرث المربي، بعد أن يكبر ويعيه، ويدخل المربي في دائرة محارم وإرث الطفل بعد أن يكبر. فإذا ظهر الوالدان بعدها، فإن لهما أن يأخذاه، أو يخيراه. لكنه مهما كانت نتيجة الاختيار يبقى ضمن حرمة النكاح وإبداء الزينة للمربي، ويخرج من الإرث.
شروط التبني:
لقد ورد التبني واتخاذ الولد في التنزيل الحكيم، لكن التنزيل وضع كما رأيناه شروطاً لمن يريد أن يتخذ ولداً يرثه ويدخل في محارمه، ويصبح له على هذا الولد ما للوالدين من حقوق البر والإحسان. الشرط الأول:
1 – يتم التبني قبل سن الفصال، أي قبل أن يدخل الولد دائرة الوعي، لتتحقق الحرمة، ويكتمل مفهوم رضا الوالدين. لأنه إذا كانت للأم المرضعة حرمة (في النكاح وإبداء الزينة)، حتى في وجود الأم الوالدة وبعلهما، وحتى لو لم يتجاوز عدد الرضعات الثلاث أو العشر، أفلا تتحقق هذه الحرمة للأم المربية التي تعهدته ورعته ودفعت أجور مرضعته، ودخلت دائرة وعيه حين يكبر على أنها أمه؟
قال تعالى في استهلال آيتي لقمان 14 والأحقاف 15 {ووصينا الإنسان بوالديه}، ثم مضى يعرف الوالدين. فالوالدان هما الحمل
(إلقاح الوالد الذكر للأم الأنثى + مشاركته لها بالمسؤولية ورعايته لها خلال حملها) والوالدان هما نفسهما حتى سن الفصال الذي يشارك فيه الأب الذي يشارك فيه الأب الذكر والأم الأنثى. لكنه حين تحدث عن البر، ذكر أمراً هاماً جداً، ورد في قوله تعالى:
- {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} الاسراء 24.
هنا لم يذكر اللقاح والحمل والوضع، بل ذكر التربية {كما ربياني}. وكان قد سماهما الوالدين في الآية التي سبقتها (الإسراء 23).
هذا يدلنا على أن الوالدين بالتربية في حكم الوالدين بالولادة في التنزيل الحكيم. ويدلنا على أن القائم على تربية الصغير قبل سن الفصال، هو في حكم والده ووالدته، وله حق البر كما للوالدين تماماً، ويدخل في دائرة المحارم والإرث عند الربيب الصغير بعد أن يكبر. فالوالدان اللذان ولدا وربياهما والدان وأبوان، والأبوان اللذان ربيا دون أن يلدا أبوان لهما حكم الوالدين.
الوالدان الأبوين = ولادة + تربية حتى سن الفصال وما بعد.
الأبوان = تربية (شرط بدئها قبل سن الفصال)، لهما حكم الوالدين في البر والحرمة والإرث.
ولادة فقط = ليسا بأبوين إذا كانا مجهولين والولد لا ضائع ولا مفقود. هنا لا بر ولا حرمة ولا إرث.
1 – ونرى أن حالة التبني هذه تنطبق على اللقطاء. ففي المدن الكبرى مئات بل الآلاف من اللقطاء سنوياً، رماهم من أنجبهم وكان السبب البيولوجي في وجوده. لكننا نرى أن من يرمي وليدة في حديقة، أو في حاوية قمامة، لا يستحق لقب أم أو أب، لا من الناحية الأخلاقية ولا الاجتماعية ولا الإنسانية. ورغم أنهما والدان بالمعنى البيولوجي، إلا أنهما لا شيء عند الوليد، لا أحد، وليس لهما بر ولا حرمة ولا إرث.
فإذا تم التبني في هذه الحالة لأحد هؤلاء اللقطاء، فلا تبحثوا عمن كان سبب وجوده، بدافع التحرز من الوقوع في المحارم، فهم لا أحد، ولا تتبعوا أنفسكم بالبحث عنهم، فهم لا شيء، ولا تيعروا هذه الناحية أي اهتمام، وكل من يشغل نفسه وغيره بذلك، هو إنسان لم يقرأ قوله تعالى:
- {.. وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفوراً رحيما} الأحزاب 5.
- {.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ..} 286.
فالإضرار والاغلال أمران بعيدان عن الاسلام، وغير مطلوب من لقيط، بعد تبنيه وبلوغه أشده، أن يبحث عمن كان سبباً بيولوجياً في وجوده، وأن يقضي عمره في هذا البحث، خوفاً من أن ينكح والديه أو أخته وهو لا يدري. نقول ليس مطلوباً ذلك منه، لأن من يبحث عنه لا أحد .. فوالدته ليست والدة، ووالده ليس أباً وليس والداً، ولا حاجة لإضاعة أي وقت في ترهات وعبث، فالتي ربته وتبنته هي أمه، وأختها خالته، وزوجها أبوه .. الخ.
ولا بد من الإشارة إلى أمر هام جداً، هو أن هذا اللقيط قد يكون ابن زنا، وقد لا يكون. فالكائن البشري وليد البيولوجيا، والإنسان وليد التربية، والالقاح بين الذكر والأنثى يبقى هو ذاته سواء في الزنا أو النكاح الشرعي. وعلينا أن نعي أن الإنسان لا يحمل أوزار من كان سبب وجوده البشري، وأن من يعير إنساناً بأنه لقيط، أو ابن زنا، هو إنسان كافر بعدالة الله كافر بتعاليمه.
- {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى} النجم 39، 40.
- {وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى} النجم 37، 38.
فإذا قامت محاسبة الناس على الألقاب والأحساب والأنساب، فهذا كفر بيوم الحساب الآخر، يوم الناس لرب العالمين، فلا أحساب ولا أنساب، وكل إنسان مسؤول عن نفسه.
- {فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} عبس 33-37.
2 – في حالة وجود أطفال دون الثانية من العمر توفي والدهم في حادث أو حرب أو كارثة، وكان الأبوان الوالدان معروفين من قبل المجتمع، تستطيع أي عائلة أن تتبنى أحدهم، طالما ما زال لم يدخل مرحلة الوعي، فيصبح للطفل عائلتان من المحارم، إذ بعد أن يكبر ويعي أبويه الجديدين، عليهما أن يخبراه عن عائلة والديه المتوفيين، لتدخل في دائرة محارمه. أما من حيث الإرث، فقد ورث الأطفال عند وفاة والديهم ولو كانوا صغاراً، ثم يدخلون في دائرة إرث الأبوين الجديدين (وورثة أبواه) + (يوصيكم الله في أولادكم). وهذان هما الخطان الرئيسيان للتبني، ويمكن أن تتفرع عنهما حالات خاصة.
أما حالات وفاة أحد الوالدين الأبوين مع بقاء الآخر، فلا تدخل في التبني إلا ضمن شروط التبني المذكورة أعلاه.
1 – حالة وفاة الأب الوالد مع بقاء الأم الوالدة على قيد الحياة: وهذه هي حالة اليتم. فاليتيم هو فاقد الأب. وقد يكون دون سن الفصال، أو دون سن الرشد كما في قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ..} الأنعام 152. وقوله تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما..} الكهف 82. ونجدنا في حالة فقد الأب هذه أمام أربعة احتمالات فرعية:
الاحتمال الأول: الأيتام كلهم فوق سن الفصال ودون مرحلة {حتى يبلغ أشده}، وهنا التبني لا يجوز. وتحل التعددية الزوجية المشكلة لأن الله أباح تعدد الزوجات من أجل الأيتام ورعايتهم، فللأم الوالدة الأرملة أن تتزوج، شرط أن يبقى أولادها معها، وعلى الزوج أن يرعاهم رعايته لأولاده وينفق عليهم، وتكون له بذلك حرمة الوالدان دون إرث أي لا يرثهم ولا يورثهم، وإذا كان عندهم أموال، ينفق عليهم من أموالهم، وعلى نفسه بالمعروف.
الاحتمال الثاني: الأيتام كلهم دون سن الفصال. هنا للأرملة أن تتزوج (التعددية الزوجية)، على أن يبقى أولادها معها، أو أن تتزوج رجلاً غير متزوج، على أن يبقى أولادها معها، وللزوج الجديد أن يتبنى أولادها حتى لو كان عنده أولاد، ويرثهم ويرثونه، إذا رغب هو ورغبت الأم بذلك. ليصبح لدى الأولاد عائلتان من المحارم، عائلة الوالد المتوفى، وعائلة الأب المتبني.
الاحتمال الثالث: الأيتام قسمان، قسم دون سن الفصال، وقسم تجاوزها. أما من تجاوزها فلا يجوز تبنيه، وأما من هو دونها فيجوز تبنيه على أن تقبل الأم، تماماً كما ورد في الاحتمال الثاني.
الاحتمال الرابع: الأيتام كلهم فوق سن الفصال وسن الرشد. هنا الأولاد لا يعتبرون أيتاماً أصلاً، والأم أرملة فقط.
2- حالة وفاة الأم الوالدة مع بقاء الأب الوالد على قيد الحياة:
فاقد الأم / اللطيم، فاقد الأم والأب / العجي. ففي هذه الحالة يمكن للأب أن يتزوج فتصبح زوجته الجديدة من محارم أولاده، وليس لها إرث منهم ولها بر إذا شاركت في تربيتهم. أما فاقد الأم والأب فيمكن تبنيه إذا كان دون سن الفصال ويصبح له عائلتان إذا كان الأبوين معروفين وإلا فهو لقيط.
ثمة أمر نختم به بحثنا، لا يجب أن يغيب عن بالنا أبداً، هو أن الإنسان لا يمكن أن يكون له إلا أم واحدة لها الإرث والحرمة والبر معاً، قد تكون الوالدة وقد لا تكون، فإذا كانت الأم هي الوالدة صاحبة البويضة والرحم والفصال والرضاعة، كان للإنسان أم واحدة ووالدة واحدة هي المحرمة الوحيدة. أما إذا لم تكن والدته، فهي أمه التي وعاها عندما دخل دائرة الوعي، وتدخل في المحارم والإرث والبر.
(1) انظر شرحنا المفصل للفرق بين جاء وأتى في مكانه من هذا الكتاب.
(2) انظر ترجمة زيد بن حارثة في “الاصابة في تمييز الصحابة” لابن حجر، وفي “الاستيعاب في معرفة الأصحاب” لابن عبد البر
(3) تعليقات
زهير
بالنسبة إلى الغلام دكتور محمد… الذي قتله الخضر.. أحب أن أعرف رأيك بالتفصيل حيث أنها حجة للملحدين بانعدام الخيار للإنسان بنص القرآن. .. أرجو التكرم بالتوضيح
الأخ زهير
في قصة موسى والعبد الصالح، يمثل موسى القانون الذي لا يقبل محاسبة شخص على نواياه، بينما يمثل العبد الصالح جهاز الاستخبارات الذي يمكنه معرفة أموراً لا يعرفها العامة والتصرف وفق معلومات لديه، وهنا العبد الصالح آتاه الله علماً من عنده بما يجري حوله الآن، ووجهه لقتل الغلام، وفي شريعة موسى الغلام العاق لوالديه يقتل، وكان موسى لا يعلم ذلك، فعندما أخبره العبد الصالح أنه عاق لوالديه سكت موسى، وقال له العبد الصالح {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي أنا وأنت لا نرضى شريعة موسى التي تقول أن الولد العاق يتم قتله، ولا يوجد أي شيء غريب إذا عرفنا شريعة موسى، ما عدا أن العبد الصالح لا يتكلم عن المستقبل أبداً.
Lehbib
مشكور الاخ الدكتور.
سؤالي لماذا ذكر في اية محارم النكاح الأم منفصلة ثم الام من الرضاعة منفصلة بللرغم ان الام المرضعة كان يمكن ان تدرج في معنى الام اذا اعتبرنا الن الكتاب ليس فيه حشو. وهل يمكن ان يكون الابناء من غير الاصلاب هم الابناء من الرضاغة
الأخ الحبيب
ذكر الله تعالى الأم المرضعة، ليؤكد أنها أم، إذ كان يمكن أيضاً ألا تعتبر أم، أما بالنسبة للأبناء من غير الأصلاب فهو لم يذكر الآباء من الرضاعة، أي أن هناك أبناء من غير الأصلاب، وهم أبناء بالتربية والرعاية (التبني).
محمد
سلام عليكم يادكتور طب اذا كان عمره عامان وشهرين هل بلغ سن الفصال ارجو الرد لانه هنا ايضا لم يعي شيئا
الأخ محمد
إذا كنت تقصد كسن للتبني فالمهم ألا يكون والديه قد دخلا في وعيه.