تمهيد
إن قصص الأنبياء والرسل الواردة في الكتاب هي من القرآن وهي من الجزء المتغير، أي تراكم الأحداث الإنسانية بعد وقوعها، وقد أوحي من إمام مبين وليس من لوح محفوظ، وقد قلنا إن القرآن كله حق. فأحداث التاريخ التي حصلت فعلا أصبحت حقيقة ولا مناص لتغييرها لذا اعتبرت من القرآن “حق” لذا قال عن القصص: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} (الكهف 13) وقال: {إنا لحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} (الأنعام 57).
فقصص القرآن والذي سماه الكتاب المبين وأحسن القصص يعطينا خط تطور التاريخ الإنساني بالمعرفة والتشريع أي التفاعل الإنساني مع الوجود الإلهي والكوني بالعقيدة والتفاعل الإنساني مع التشريع بالسلوك.
وعلى هذا الأساس سنتناول قصة نوح وهود معتمدين على الترتيل والمعلومات التاريخية المتوفرة حيث أن التشابه في القصص منسوب إلى المعرفة الإنسانية بخط تطور التاريخ.
لقد استنتجنا في فصل جدل الإنسان أن القرآن قسم التاريخ إلى قسمين: التاريخ القديم والتاريخ الحديث. وقد بحثنا في مقولة آدم وقلنا إن التاريخ القديم هو الفترة الزمنية بين بداية الأنسنة وبين تشكل لغة مجردة في أبسط صورها وبالتالي تشكل مجتمع إنساني بحيث أصبح الإنسان قادرا على استقبال الوحي. والإنسان الحديث بدأ من تشكل اللغة المجردة في أبسط صورها ووجود مجتمع إنساني يتكلم هذه اللغة وامتد تطور الإنسان الحديث حتى يومنا هذا.
وابتدأ الإنسان الحديث والمعاصر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد غطى القرآن المراحل المهمة في فترة الإنسان القديم فقط مثل إيقاد النار وسكن الكهوف ودفن الموتى.
أما فترة تطور الإنسان الحديث فقد غطاها القرآن بجزء هام منه وهو القصص الذي بدأ بقصة نوح تليها زمنيا قصة هود. علما بأن القصص القرآني لم يعط التفاصيل الجزئية بكل دقائقها وإنما أعطى مؤشرات مهمة لاستنباط خط تطور التاريخ لذا قال: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها…الآية} (الأعراف 101). وقال: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك…الآية} (هود 120). وقال: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك…الآية} (هود 49).
لاحظ في الآيات الثلاث كيف ذكر المعلومات لواردة في القصص للتبعيض في قوله: {من أنباء}.
لقد جاء ذكر نوح بشكل مباشر أو غير مباشر في الآيات التالية:
- آل عمران 33.
- النساء 163.
- الأنعام 84.
- الأعراف من (59 إلى 64)، 69.
- يونس 71.
- هود من (25 إلى 48)، 89.
- إبراهيم 9.
- الإسراء 3، 17.
- مريم 58.
- الأنبياء 76- 77.
- الحج 42.
- المؤمنون 23.
- الفرقان 37.
- الشعراء (من 105إلى 121).
- العنكبوت 14.
- الأحزاب 7.
- الصافات (من 75 إلى 83).
- ص 12.
- غافر 5، 31.
- الشورى 13.
- ق 12.
- النجم 52.
- القمر 9.
- الحديد 26.
- التحريم 10.
- الحاقة 11- 12.
- سورة نوح.
- التوبة 70.
- الذاريات 46.
الاستنتاجات المستقاة من قصة نوح عليه السلام
1 – نوح أول بشر يوحى إليه:
لقد شرحت في فصل جدل الإنسان أن بداية اتصال السماء بالأرض كانت عن طريق المشخص فقط وذلك بإرسال “نذر” ملائكة قبل نوح وكان أول اتصال للسماء عن طريق الوحي المباشر لجنس البشر هو نوح عليه السلام وربه بدأ الإنسان الحديث كما يعتقد في منطقة الشرق الأوسط حيث كان يمتلك لغة مجردة بأبسط صورها وقد وضح هذا بالآيات التالية:
- {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده… الآية} (النساء 163).
- {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم…الآية} (الأعراف 63).
- {إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله.. الآية} (يونس 71).
- {قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا…الآية} (إبراهيم 10).
- {إن نحن إلا بشر مثلكم.. الآية} (إبراهيم 11).
- {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} (المؤمنون 24).
- {ولا أقول إني ملك … الآية} (هود 31).
هنا نلاحظ كيف ذكر مصطلح البشر ليقصد به الجنس البيولوجي العضوي أي ليس ملكا وليس من الجن. كما نلاحظ أنه جاء لنوح أول صيغة لغوية تعبدية من الله للناس وذلك في قوله: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم…الآية} (الأعراف 63).
2 – إرسال ملائكة رسلا مع نوح:
لما كان نوح أول بشر يوحى ليه فقد أرسل الله معه رسلا من الملائكة فجمع بين الأسلوبين: أسلوب النذر، وأسلوب الوحي للبشر وذلك في قوله تعالى:
- {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} (الفرقان 37).
- {كذبت قوم نوح المرسلين} (الشعراء 105).
3 – مجمل الوحي إلى نوح:
كان مجمل الوحي إلى نوح يتضمن ما يلي:
أ – الإنذار.
ب – التقوى وهي الرسالة.
ت – الرحمة وهي النبوة والدعوة النبوية والعلم.
وقد جاء هذا الإجمال في قوله تعالى: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون} (الأعراف 63).
– الإنذار:
لقد اشترك نوح مع الملائكة بأنه كان نذيرا إلى قومه والإنذار كلمة تدل على تخويف ووعيد حيث توعدهم بالعذاب الأليم لقوله:
أ – {إن أنا إلا نذير مبين} (الشعراء 115).
ب – {فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} (يونس 73).
ت – {إن أرسلنا نوحا إلى قومه ن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} (نوح 1).
ث – {قال يا قوم إني لكم نذير مبين} (نوح 2).
موقف قومه من إنذاره:
كان التكذيب هو الجزاء الذي تلقاه من قومه نتيجة إنذاره لهم:
1 – {قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} (الشعراء 116)، {قال رب إن قومي كذبون} (الشعراء 117).
2 – {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين} (الأنبياء 77).
3 – {قال رب انصرني بما كذبون} (المؤمنون 26).
4 – {كذبت قبلهم قوم نوح} (غافر 5، ق 12، القمر 9).
– الرسالة:
لقد كان نوح أول رسول ونبي من البشر في منطقة الشرق الأوسط كما يعتقد “العالم القديم”، وقومه هم بداية الإنسان الحديث في هذه المنطقة حيث كان هناك مجموعة من الناس لها علاقات اجتماعية بدائية ولها لغة مجردة بحيث تسمح لنوع من الوحي المجرد. وكان الوضع الإنتاجي في هذه الحقبة التاريخية بدائيا جدا لذا فقد كان الشرك الأساسي الذي وقع فيه الإنسان آنذاك هو عبادة مظاهر الطبيعة وخاصة الشمس والقمر وقد ذكر هذا في قوله تعالى: {ألم تروْا كيف خلق الله سبع سموات طباقا} (نوح 15)، {وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} (نوح 16) وبالتالي فقد اقتصرت رسالة نوح على التوحيد والاستغفار فقط دون أن يكون هناك أي وصايا أخلاقية أو شعائر تعبدية، فعند نوح لا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا ي شكل من أشكال العبادات التي نعرفها وذلك في الآيات التالية:
- {لقد أرسلنا ونوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف 59).
- {قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين} (الأعراف 61).
- {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} (الأعراف 62).
- {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين} (هود 25).
- {أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذب يوم أليم} (هود 26).
- {إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون} (الشعراء 107 – 108).
- {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون} (المؤمنون 23).
- {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} (نوح 3).
- {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} (نوح 1).
وتجدر الإشارة إلى أن نوحا توعد قومه بالعذاب الأليم وهو عذاب في الدنيا وليس في الآخرة وقد بين هذا في قوله:
- {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عيه عذاب مقيم} (هود 39).
- {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} (هود 32).
موقف قوم نوح من الرسالة:
كان موقف قوم نوح من الرسالة هو الكفر.
- {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} (إبراهيم 9).
– النبوة:
هي دعوة نوح، أي الدعوة عند نوح هي النبوة لذا كان موقف أقوام الرسل والأنبياء كفرا بالرسالة {وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به} (إبراهيم 9) وموقف شك وريبة في النبوة {وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} (إبراهيم 9)
فقد كانت نبوة نوح قفزة نوعية على سلم التطور من الناحية العلمية للإنسان في ذلك الوقت وقد بين هذا في قوله: {وأعلم منا لله مالا تعلمون} (الأعراف 62) فكانت نبوته تشمل:
1 – التوحيد:
وهو أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل. حيث أن التوحيد هو نبوة كعقيدة وهو رسالة من حيث عبادة الله وحده كسلوك حيث أن التوحيد جمع بين الحق كوجود والحلال كسلوك.
2 – تعليم البشرية ركوب الماء أو اجتياز العوائق المائية:
كانت صناعة الفلك وحيا من الله:
- {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (هود 37).
- {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا…الآية} (المؤمنون 27).
هنا سيظهر سؤال في غاية الأهمية وهو: ما هو المستوى الإنتاجي في الأدوات المستخدمة لصنع الفلك؟ ومن ركب في الفلك؟ لقد أجاب القرآن على هذه الأسئلة كالتالي:
1 – لم يكن في زمن نوح حبال ولا مسامير لربط الخشب بعضه إلى بعض، وإنما تم ربط الخشب على مبدأ الدسر وهي الألياف الطبيعية “أغصان طرية فيها ألياف طبيعية” وذلك ي قوله: {وحملناه على ذات ألواح ودسر} (القمر 13).
2 – أما الفلك نفسه فقد جاء من فعل “فلك” وهو الاستدارة كقولنا: فلك ثدي الفتاة إذا استدار، وهو بمثابة المعدية المائية، وقد أكد القرآن أنه لم يكن في ذلك الوقت مجاذيف للتجذيف ولا دفة للتوجيه ولا أشرعة أي أن الفلك مجرد جسم خشبي له استدارة يعوم على الماء فقط وذلك في قوله: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون} (الشعراء 119) فقد أعطى هنا صفة للفلك بأنه “مشحون” وهو من فعل “شحن” أي أنه محمل الناس وغيرهم، وبنفس الوقت مشحون كأن نقول عن السيارة قاطرة ومقطورة أو شاحنة ومشحونة، فالشاحنة فيها دفة توجيه ومحرك للشد وقابلة للتوجيه، أما المشحونة فهي قابلة للتحميل ولكن لا يوجد فيها أداة توجيه ومحرك للشد.
فإذا سأل سائل: كيف تم التوجيه والجر في فلك نوح؟ أقول: لقد تم الجر بواسطة التيار المائي حسب اتجاهه الطبيعي لقوله تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة 11) وقوله: {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه} (هود 42) أما التوجيه بحيث لا ترتطم السفينة بالصخور أو بأي عائق فقد تم من قبل الله تعالى بقوله: {تجري بأعيننا} (القمر 14) وقوله: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجيها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} (هود 41)
أما الآن فإن توجيه السفن يجري بواسطة الرادار والبوصلة، والشد يجري بواسطة المحرك والأشرعة.
3 – يجب أن نفهم أن طوفان نوح كان محليا أي عبارة عن عاصفة مطرية كبيرة جدا جرت بشكل محلي حيث كان قوم نوح يسكنون في مناطق منخفضة قريبة من الأنهار تحيطها الجبال حيث قال: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} (القمر 11)، {وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر} (القمر 12) ونحن نعلم الآن أنه خلال ساعات من العاصفة المطرية الشديدة يمكن إغراق مدينة بأكملها وبنفس الوقت نعلم إذا كانت هناك عاصفة مطرية تبعها طوفان في منطقة ما في أسترايا فهذا لا يعني أن الطوفان قد وصل إلى مصر أو الهند وأن من يفسر بأن الطوفان عم كل الأرض فهذا غير صحيح ولكنه عم لك الأرض التي سكنها قوم نوح وبنفس الوقت لم يغط الجبال حيث قال ابن نوح {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم} (هود 43) وعندما انتهت العاصفة المطرية قال: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} (هود 44).
وبما أن المنطقة التي سكن فيها قوم نوح عبارة عن منطقة محاطة بالجبال فقد حصل تيار مائي قوي وكان الموج كسلاسل الجبال من حيث الشكل لا من حيث البعد كما نراه الآن في طوفان الأنهار الجبلية ذات الميول الكبيرة بقوله تعالى: {وهي تجري بهم في موج كالجبال} (هود 42) ي أنه في قوله “كالجبال” الكاف هي كاف التشبيه للشكل وإذا كانت أبعاد الموج هي كالجبال فهناك استحالة في أن ينادي نوح ابنه حيث أتم الآية بقوله: {ونادى نوح ابنه} (هود 42).
4 – بما أن كل الذين لم يركبوا في الفلك هلكوا بقوله: {ثم أغرقنا بعد الباقين} (الشعراء 120) فمن الجائز أن الإنسان في زمن نوح كان لم يتعلم السباحة بعد.
5 – لقد صنع نوح الفلك على اليابسة وليس في الماء حيث أن هذا الفلك جرى وطاف بعد أ، طغى الماء على اليابسة التي صنع عليها الفلك {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة 11).
6 – لقد كانت إشارة الطوفان بالنسبة لنوح ليعلم أن وعد الله قد آن حيث أخبره الله سلفا بأن قومه مغرقون في قوله: {ولا تخاطبين في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (هود 37) هذه الإشارة هي “فوران التنور” حيث يتوقع أنه في منطقة نوح وفي الجبال التي تحيط بهذه المنطقة كان يوجد بركان خامد وكانت إشارة الطوفان هي نشاط هذا البركان وقد عبر عنه {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور…الآية} (هود 40) ونحن نعلم الآن أن الحمم البركانية المصهورة تفور في فوهة البركان وأن النشاط البركاني يمكن أن يرى من مسافات بعيدة وكانت هذه الإشارة لكي يركب نوح ومن معه على الفلك.
7 – لقد ركب مع نوح الناس الذين وعده الله بنجاتهم وهم أهل نوح، وبما أن وعد الله حق وأن الله لا يخلف الميعاد فقد استغرب نوح غرق ابنه لذا قال: {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} (هود 45) فكان الإجابة أنه ليس ابنه ونوح يجهل ذلك بقوله: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود 46) هذه الناحية شرحتها في مبحث العقل الشيطاني، حيث شرحت أن ابن نوح هو في ظن نوح، ولكن نوحا كان لا يعلم أنه ليس ابنه حيث قال له: {إنه ليس من أهلك} وقد وعده الله بنجاة أهله الكافر منهم والمؤمن حيث قال له {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك} (هود 40).
وقد قال البعض إن ابن نوح كان كافرا لذا غرق وهذا غير صحيح لسبب جهل نوح بذلك، فهل كان نوح يجهل أن ابنه كافر؟؟ أم كان يجهل أن هذا ليس ابنه؟ علما بأن الذين ركبوا معه في الفلك كان فيهم كافرون ومؤمنون ومنهم امرأته لأنها من أهله لقوله: {ونجني ومن معي من المؤمنين} (الشعراء 118) حيث طلب نوح نجاته ومن معه من المؤمنين فكان رد رب العالمين نجاته ومن معه فقط دون ذكر من المؤمنين في قوله: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون} (الشعراء 119) وقد أعطاه الله إشارة في الآية 40 في سورة هود بأن هناك أناسا يريد نوح أن يركبوا معه ولكنهم سيغرقون وذلك في قوله: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن…الآية} (هود 40).
هنا أعطى التنويه عن فقدان بعض من يظن نوح أنهم من أهله بقوله: إلا من سبق عليه القول) هذه الإشارة مهمة جدا حيث نرى ان السلوك الطبيعي لأي إنسان عندما تحصل كارثة طبيعية أو انفجار كبير يؤدي إلى دمار البيوت هو البحث عن أهله فقد يجد بعضا منهم ويفقد آخرين، وفي هذه الحالة يبقى الإنسان يبحث وينقب ولا يغادر المكان حتى يطمئن على الذين لم يعثر عليهم فقد تلحقه بذلك الكارثة أيضا، وها نبه الله نوحا بأنه وقت الكارثة سيركب في الفلك من ركب دون البحث عن الذين لم يعثر عليهم لذا نبهه بقوله: {إلا من سبق عليه القول} (هود 40) وهذا ما فعله نوح تماما إذ لم ير ابنه فلم ينتظره أو يبحث عنه فركب هو ومن معه.
وترينا الآية 42 في سورة هود أن نوحا وجد ابنه وهو في الفلك يجري بهم في موج كالجبال وليس من مكان الركوب. وكان استغراب نوح في محله فمن كان يظن أنه ابنه كان من المغرقين والاستغراب لأن “وعد الله حق”.
8 – قد يقول البعض إن نوحا دعا على قومه بالغرق وهذا غير صحيح فلا يوجد نبي أو رسول دعا على قومه بالهلاك ولكن نوحا بعد أن يئس من قومه دعا الله أن يحل المشكلة بينه وبين قومه فقط وذلك في قوله: {قال رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين} (الشعراء 117 – 118) فكان الجواب من رب العالمين {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (هود 36 – 37).
9 – لقد جرف السيل جثث قوم نوح ورماها في فوهة البركان حيث يتبين من الآية أن فوهة البركان كانت منخفضة وعلاها الماء ودخلت الجثث في البركان وقد بين هذا في قوله: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} (نوح 25) هنا استعمل فاء السببية والتعقيب بين الغرق وإدخال النار واستعمل النار نكرة وهنا لا يقصد فيها نار جهنم “أي نار الآخرة”.
10 – لقد كانت دعوة نوح التي وردت في الآيتين {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (نوح 26 – 27) هذه الدعوة دعاها نوح بعد الطوفان لا قبله، أي دعاها بعد أن غرق قومه وذلك بعد أن رأى الأهوال والدمار الذي لحق بالمنطقة فخاف على نفسه وعلى من معه من انتقام من بقي حيا في هذه الحالة سينقمون منه وممن معه وسيربون ولادهم على الكفر وكراهية الإيمان منذ صغرهم ويكرهوا الناس على الكفر لذا قال: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (نوح 27) حيث هنا “يلدوا” جاءت من التوليد من التربية وليست الولادة الفيزيولوجية حيث نعلم الآن أن الإنسان يولد من بطن أمه دون معلومات ودون مواقف مسبقة والإنسان يولد على الفطرة مسلما فالبيئة تجعله كافرا أو على أي دين آخر.
11 – لقد قلنا إن حجم السفينة لا يتجاوز معدية خشبية صنعت على مبدأ “الدسر” لذا فقد ركب فيها عدد قليل من الناس وبعض الحيوانات الأليفة المتواجدة عندهم في منطقتهم مثل الدجاج وغيره وكان لا يوجد أنعام في السفينة “خيل، وبغال، وبقر، وغنم…الخ” حيث أن الأنعام في عهد نوح كانت برية ولم تذلل بعد، فلم يأت ذكر الأنعام إلا في قصة هود. وقد بين ذلك في قوله: {احمل فيها من كل زوجين اثنين} (هود 40) هنا لابد من الإشارة إلى أن قراءة حفص وحده (من كل) بتنوين كل. وقرأ الباقون (من كل زوجين) بترك التنوين، وعلى قراءة الأكثرين يكون المعنى من الموجود عندكم منا لبهائم الحية التي تأكلون لحمها فقط.
أما فهمها على أنه حمل فيها من كل الحيوانات التي على الأرض بما فيها الدب القطبي والنمور والغوريلا والزرافة… الخ فهذا خطأ يدل على قصور في فهم السياق التاريخي لخط تطور الإنسان. ثم إننا نستنتج استنتاجا هاما من قصة نوح وهو أن البشرية تعلمت اجتياز العوائق المائية قبل أن تذلل الأنعام فكان اجتياز العوائق المائية وتذليل الأنعام الوسائل الوحيدة لانتشار الإنسان في الأرض، وقد بقيت الفلك والأنعام الوسائل الوحيدة لتنقل الإنسان حتى القرن الثامن عشر والتاسع عشر أي حتى اختراع الآلة البخارية. وقد ورد هذا الترتيب في الآية {والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} (الزخرف 12).
3 – البند الثالث من النبوة وهو:
1 – التبشير بالبنيان والاستقرار: لقد عاش الإنسان في عهد نوح في الكهوف حيث كانت المنطقة تحيط بها الجبال وفيها أنهار فيعتقد أنهم كانوا يعيشون في الكهوف وفي الغابات المحيطة بالأنهار لذا فقد كانوا يعبدون مظاهر الطبيعة حيث أن تمييز الآلهة لم يوجد عندهم بعد فكانت من نبوة نوح التبشير بالبنيان والاستقرار وهذا التبشير في نبوته ورد في قوله تعالى: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} (نوح 12) وقد ذكر إهلاك القرى المستقرة بعد نوح في قوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} (الإسراء 16 – 17) .
من هنا نلاحظ كيف بشر نوح الناس بالاستقرار من البناء وهذا الاستقرار فعلا كان حاصلا حتى زمن هود وذلك في قوله: {ويمددكم بأموال وبنين} فهنا البنين لا تفهم على أنها الذكور من الأولاد ولكن تفهم من فع “بنن” وتعني الثبات واللزوم والإقامة وهذه هي طبيعة الأبنية والبنيان. أما قوله: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا…الآية} (نوح 28) فهنا البيت في اللسان العربي اسم جنس ولها أصل واحد وتعني المأوى والمآب وجمع الشمل. فليس من الضروري أن يكون البيت بنيانا إذ يمكن أن يكون كهفا.
أما قوله: {ويمددكم بأموال} فهنا المال لا يعني النقد، بل جاء من فعل “مول” وتعني هنا أدوات الإنتاج البدائية وما يمكن أن يصطاده الإنسان ويجنيه من الطبيعة وفي القاموس خرج إلى ماله: أي خرج إلى ضياعه و إبله.
2 – بداية توجيه العقل الإنساني للتفكير بنفسه وبالوجود من حوله وتنمية المدارك العقلية للإنسان والتوجيه إلى البحث في الوجود الإلهي والكوني والإنساني وذلك بالنسبة لنوح ولمن بعده وذلك في قوله:
- {قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض…الآية} (إبراهيم 10).
- {مالكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا*} (نوح 13 – 14 – 15).
3 – بداية ترسيخ العبادة الترجيدية عند الإنسان وذلك بالاستغفار حيث أن الاستغفار مفهوم مجرد غير مشخص وقد بدأ التجريد عند الإنسان به {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} (البقرة 37).
أما عند نوح فقد ورد:
- {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم} (نوح 7).
- {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} (إبراهيم 10).
- {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا} (نوح 10).
- {رب اغفر لي ولوالدي} (نوح 28).
- {إن ربي لغفور رحيم} (هود 41).
- {يغفر لكم من ذنوبكم} (نوح 4).
4 – بداية مفاهيم البعث والجزاء والتلميح إليها دون ذكرها صراحة:
لقد وردت في نبوة نوح تلميحات بسيطة غير مباشرة إلى وجود بعث ورجعة بعد الموت، هذه التلميحات وردت في الآيات التالية:
- {إنهم ملاقوا ربهم} (هود 29).
- {والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا} (نوح 17 – 18).
- {هو ربكم وإليه ترجعون} (هود 34).
هنا يجب أن لاحظ نقطة في غاية الأهمية وهي أن البشرية في عهد نوح كانت غير قادرة على استيعاب الانفجار الكوني وتشكل الكون وقوانين الجدل والتطور والساعة ونفخة الصور والبعث واليوم الآخر والجنة والنار لذا لم تذكر هذه الأشياء نهائيا في نبوة نوح وإنما ذكرت بالتفصيل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أن العقل الإنساني قد نضج لتقبل هذه المفاهيم وفهم قوانين الطبيعة والجدل والتطور، وعنده الإمكانية لأن يعقلها.
5 – وجود مبدأ الأجر والاستخدام وبداية ظهور الملكية والطبقات وبالتالي وجود التمايز الاقتصادي والاجتماعي:
لقد بينت الآيات المتعلقة بنوح وجود مبدأ الاستخدام من ناس إلى ناس آخرين ووجود ناس متميزين عن ناس آخرين من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وقد بين هذا في قوله:
- {فإن تويتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله} (يونس 72).
- {إن أجري إلا على رب العالمين} (الشعراء 109).
- {لا أسلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله} (هود 29).
والأجر في اللسان العربي تعني الكراء على العمل أي إعطاء شيء مقابل العمل. أما وجود التمايز الاقتصادي والاجتماعي فقد عبر عنه بكل صراحة في مصطلح الملأ والأراذل. فالملأ تمثل الطبقة العليا، والأراذل تمثل الطبقة الدنيا، وقد علمتنا قصة نوح أن اعتماده الرئيسي في دعوته كان على الطبقة الدنيا “الأراذل” وقد تكون هذه الطبقة هي العبيد. والملأ هم السادة وذلك في الآيات:
- {فقال الملأ الذين كفروا من قومه…الآية} (المؤمنون 24).
- {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) (هود 27).
- {قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} (الشعراء 111). وهنا “قالوا تعود على الملأ وهذا واضح من الآية 27 في سورة هود.
فهنا يبرز سؤال: من هم الأراذل الذين اعتمد عليهم نوح واتبعوه؟
لقد عرف القرآن الأراذل بتعليقه {بادي الرأي} وهم الناس بدائيي الرأي في نظر الملأ وهم من نقول عنهم العامة أو الطبقة غير المتعلمة بالنسبة لعلوم زمانها “الطبقة الجاهلية”، وقد جاءت الأراذل في هذا المعنى في مقامين آخرين وهما:
- {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا… الآية} (النحل 70).
- {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا} (الحج 5).
هنا استعمل مصطلح “أرذل العمر” وهو لا يعني الشيخوخة إطلاقا ولكنه يعني التوقف عن اكتساب المعرفة، فإذا تخرج إنسان من الجامعة في سن الـ 25 سنة وتوقف عن اكتساب العلم ورفع الكفاءة العلمية وبقي على معلوماته في الجامعة فيبدأ أرذل العمر عنده من سن الـ 25 وهذا ما عبر عنه بـ {لكي لا يعلم بعد علم شيئا} وهناك أناس يتابعون تحصيل العلم حتى سن متأخرة ثم يقفو عن المتابعة لأسباب متعددة منها المرض وهذا ما عبر عنه به {لكي لا يعلم من بعد علم شيئا} أي أنه يمكن أن يأتي يوم في حياة الناس يقفون فيه عن متابعة العلم واكتساب المعلومات ليتركوه لغيرهم أي للأجيال الجديدة الناشئة وهذه هي سنة الحياة في اكتساب العلم.
هنا يعلمنا القرآن نقطة في غاية الأهمية: لقد كان خطاب نوح إلى الملأ “الخاصة” ولكن كان اعتماده على الأراذل “العامة” مما أثار سخط الخاصة وأعتقد أن العامة هم الذين صنعوا الفلك، وهذه النقطة تعطينا قاعدة هامة وهو أن الخطاب الفكري العقائدي يجب أن يكون دائما على مستوى رفيع بالنسبة لعصره، ولكن الممارسة يجب أن تكون مفهومة وواضحة بالنسبة للعامة ذوي المستوى الأدنى. ونستنتج أيضا من قصة نوح أنه في العصور القديمة كان التمايز العلمي والثقافي حكرا على الملأ لأنهم كانوا لاي عملون بل متفرغين وهناك الغوغاء “بادي الرأي” الذين يعملون، فهذا الوضع أدى بشكل طبيعي إلى تقدم المعارف العلمية والأدبية عند الملأ.
وهذه الناحية نراها سارية المفعول حتى يومنا هذا إذ أن اكتساب المعارف ورفع الدرجة الثقافية بشكل عام والعلمية بشكل خاص يحتاج إلى تفرغ، والمتفرغ يحتاج إلى من يعيله وهذه الإعالة الآن تقوم بها الدول من ميزانياتها، فكلما صرفت الدولة من ميزانيتها على البحث العلمي وعلى التفرغ للبحث العلمي ارتفع أبناؤها في درجات الرقي والتقدم.
لاحظ أن الصراع الاجتماعي قد بدأ في عهد نوح، وقد أشار إلى ذلك في وقله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عيها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء 16) وقوله تعالى: {وكم أهلكنا ن القرون من بعد نوح…الآية} (الإسراء 17).
لقد أوردنا في الباب الأول مثالا واضحا على الفرق بين آيات أم الكتاب وآيات القرآن وذلك في الآيتين:
- {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (النحل 90).
- {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء 16).
فالآية الأولى تتحد عن أمر من أوامر الله يعظنا به لذا قال في نهاية الآية {يعظكم لعلكم تذكرون} (نهي من أم الكتاب “الرسالة”).
أما الآية الثانية فانتهت بقوله: {فحق عليها القول} لذا فهي عبارة عن قانون موضوعي من قوانين العلاقات الاجتماعية يعمل خارج الوعي الإنساني، فهذه الآية من القرآن “النبوة”.
لنورد الآن تأويل هذه الآية مع استعمال قواعد التأويل المذكورة سابقا وخاصة المطابقة مع الحقيقة أي صدق الخبر طبقا لمستوى معارفنا.
لنبدأ بشرح معنى فعل “أمر”: فعل “أمر” في اللسان العربي له خمسة أصول صحيحة “ابن فارس”.
الأول: الأمر ضد النهي، وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى… الآية} (النحل 90). فحتى يفهم فعل أمر على أنه أمر ضد النهي فيجب أن يورد بعده المأمور به كقوله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة 67). وقوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء 58). وقوله: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} (التوبة 112). وقوله: {ولا أعصي لك أمرا} (الكهف 69).
الثاني: الأمر بمعنى الشأن كقوله: {واتبع هواه وكان أمره فرطا} (الكهف 28). وقوله: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} (الطلاق 4). وقوله: {إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام 159) وقوله: {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} (يوسف 102). وقوله: {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران 47).
الثالث: العلامة كقولنا جئت لعندك بأمارة كذا وكذا.
الرابع: الدهشة والتعجب كقوله تعالى: {قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا} (الكهف: 71).
الخامس: النمو والزيادة. وفي هذا المعنى جاءت في قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قري أمرنا مترفيها} (الإسراء 16). أي نموا وزادوا، فمترف واحد لا يدمر مجتمعا بل يجب أن يكون عدد كاف من المترفين هذا ما نسميه بالمصطلح الحديث “طبقة اجتماعية”.
لنورد الآن معنى المترفين: فقد أورد القرآن مصطلح المترفين وهو أدق مصطلح يمكن أن ينطبق على أي مجتمع بغض النظر عن عنوان البنية الاجتماعية والاقتصادية. فالقرآن لاي هتم بالشعارات بقدر ما يهتم بالحقائق الموضوعية الفعلية التي تجري تحتها. فالترف له شرطان: الشرط الأول الكثرة والزيادة في النعم. هذا الشرط يطمح إليه كل أهل الأرض وهو طموح مشروع بأن يطمح الناس إلى الكثرة والزيادة في النعم.
والشرط الثاني التخصص بها، وهو ما نسميه اليوم بالامتيازات. أي أن المترف هو صاحب الكثرة والزيادة في النعم والمتخصص بها دون غيره وقد سماها بعضهم الامتيازات الطبقية وهذا صحيح في الشكل خطأ في المضمون، فهناك مجتمعات تقوم على حكم الطبقة الواحدة التي عبرت عن نفسها بمفهوم الحزب الواحد أو القائد ولكن يوجد فيها مترفون وقد أثبتت الأحداث العالمية في الثمانينات صدق هذه لمقولة والذي حصل هو استبدال المترفين القدامى بمترفين جدد. لذا فإن مصطلح المترفين هو أدق مصطلح ينطبق على أية بنية اجتماعية بغض النظر عن عنوان هذه البنية.
وقد أورد ابن فارس هذا المعنى للترف في قوله: {وترفه أهله إذا نعموه بالطعام الطيب والشيء يخص به} (ابن فارس م1 ص 345).
ففي أي مجتمع يمكن أن يوجد طبقة اسمها طبقة المترفين. وهذا المصطلح أكده القرآن {أمرنا مترفيها} أي زاد عددهم ونما فمترف واحد أو اثنان أو عشرة لا يمكن أن يؤدوا إلى هلاك مجتمع حتى تكون طبقة كاملة بيدها مقاليد الأمور، من خواصها أن لها امتيازات لا توجد لدى بقية الناس وخاصة في النعم والرفاهية والإسراف. لقد أورد القرآن أنه بوجود هذه الطبقة في أي مجتمع والمهم هو وجودها موضوعيا بغض النظر عن اسم المجتمع إسلامي أم غير إسلامي. هذا الوجود يؤدي إلى الفسوق لذا قال: {ففسقوا فيها} والفسوق هو الخروج عن أوامر رب العالمين وعصيانها كقوله تعالى عن إبليس {ففسق عن أمر ربه} (الكهف 50). فأوامر رب العالمين لا تعني شيئا بالنسبة للمترفين.
هذا الوضع يؤدي موضوعيا إلى دمار هذا المجتمع لذا قال: {فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء 16) وأعداء التغير والتطور هم المترفون وهم الملأ حيث أعطى مواصفات الملأ على نهم المترفون في سورة المؤمنون في قوله تعالى: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} (المؤمنون 33). وقد أكد أن هذا القانون هو قانون عام ينطبق على كل المجتمعات في قوله: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون} (سبأ 34) وقوله: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} (الزخرف 23).
وقد أكد القرآن أن إحدى حجج المترفين المعلنة هي الحفاظ على تراث الآباء والأجداد أو الحفاظ على شعار وهمي وخادع للعدالة لذا أتبعها بقوله: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} (الزخرف 24). فكانت النتيجة {فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين} (الزخرف 25).
نرى هنا الربط المنطقي والموضوعي بين الآية 25 من سورة الزخرف وقوله: {فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء 16). وقد ذكر المترفين على أنهم أصحاب الشمال في سورة الواقعة في قوله: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم} (الواقعة 41 – 46) والشمال جاءت في اللسان العربي من “شمل” وتعني الشمول وأمر شامل “والمعنى الحقيقي هو دوران الشيء بالشيء وأخذه إياه من جوانبه” فأصحاب الشمال هم المترفون وهم الذين جمعوا “شملوا” في أيديهم كل مقاليد الأمور والنعم واختصوا بها دون غيرهم “امتيازاتهم الخاصة” وكانوا أعداء لكل تغيير إيجابي. ومن خواص هؤلاء أن اليوم الآخر بالنسبة لهم ليس أكثر من مجرد أسطورة ومهزأة وذلك في قوله: {وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أوآباؤنا الأولون} (الواقعة 47 – 48).
لد ذكر القرآن الكريم أن هذا القانون بدأ بالعمل ببداية الإنسان الحديث ذ العلاقات الاجتماعية والاقتصادية واللغة المجردة وقد بدأ الإنسان الحديث بنوح، لذا أتبع الآية بقوله: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} (الإسراء 17).
وأخيرا يجب أن نميز أنواع الهلاك: فهناك هلا القرى والحضارات “هلاك الأشياء المادية” وقد عبر عنه بالدمار. أما فشل الأعمال وخيبتها وبطلانها فقد عبر عنه بالتباب كقوله: {تبت يدا أبي لهب وتب} (المسد1). وقوله: {وما زادوهم غير تتبيب} (هود 101). أما فشل الأفكار وخيبتها وبطلانها فقد عبر عنه بمصطلح “التبار” كقوله: {وليتبروا ما علوا تتبيرا} (الإسراء 7). وقوله: {إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} (الأعراف 139).
د – من وقف في وجه دعوة نوح:
في ضوء الترتيل نرى أن أعداء دعوته عليه السلام هم الناس المستفيدون من الوضع القائم وهم “الملأ” أصحاب الامتيازات ورجال الدين “الكهنة” فالتغيير فيه إنقاص للملأ الذين ملؤوا مالا وجاها “نفوذا” وفيه فقدان لسيطرة رجال الدين على الناس. وقد قلنا إن عبادة مظاهر الطبيعة كانت العبادة السائدة عند قوم نوح “الشمس، القمر، النجوم، الرعد، البرق، الأنهار” وكل عبادة وثنية لها كهنتها، فمظاهر الطبيعة هي الآلهة، والكهنة هم مندوبو الآلهة لدى الناس لذا فالآلهة والكهنة مرتبطان بعضهما ببعض ارتباطا وثيقا وهذا ما عبر عنه القرآن بكل دقة بقوله: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} (نوح 23 – 24).
هنا نلاحظ كيف استعمل {تذرن آلهتكم} ثم أعاد الفعل مرة ثانية {تذرن ودا…} فمظاهر الطبيعة هي الآلهة. أما “ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر” فهم الكهنة مندوبو الآلهة للناس، واعتقد أن القول الذي يقول بأن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا عبارة عن أصنام غير صحيح للأسباب التالية:
1 – لو كانت أصناما لقال عنها آلهة ولدمجها مع الآلهة.
2 – ن الوضع الإنتاجي “وسائل الإنتاج” في عهد نوح لا يسمح بنحت الأصنام إذ أن نحت الأصنام يحتاج إلى وسائل للنحت وإلى مفاهيم هندسية بعدية وهذه المفاهيم الهندسية لم تظهر عند الإنسان إلا بظهور الأبنية “الاستقرار” حيث أن البناء يحمل مفاهيم هندسية بعدية.
3 – مظاهر الطبيعة أو الأصنام ليست من العاقل فإذا كان الإنسان يعبد الشمس فلا نقول أن الشمس أضلته ففي هذه الحالة سيكون العقاب للشمس لأنها هي التي أضلته، بينما كان تعليقه على ود وسواع…الخ هو {وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} (نوح 24).
فهل مظاهر الطبيعة أو الأصنام تضل الناس عن عبادة الله الواحد وقد وصفهم بالظلم وهل مظاهر الطبيعة والأصنام تظلم وهذه كلها صفات للعاقل أم أن الناس الذين يدعون إليها هم الذين يضلون الآخرين ويظلمونهم؟
وأعتقد أن هذه الظاهرة مازالت إلى يومنا هذا حيث أن المترفين ورجال الدين يضلون الناس ويوقعونهم في الوهم “الباطل”. لذا فإن الإسلام دين مدني ولا يوجد فيه رجال دين.
أما موقف الملأ فقد عبر عنه كما يلي:
- {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين} (الأعراف 60) هنا نلاحظ كل الملأ بدون استثناء.
- {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشر مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم عينا من فضل بل نظنكم كاذبين} (هود 27).
في الآية 60 من سورة الأعراف نلاحظ كيف ذكر الملأ كله كطبقة وكان موقف الملأ ككل هو تخطئة نوح بقولهم {إنا لنراك في ضلال مبين} (الأعراف 60). ولكن بعد فترة هناك جزء من الملأ اقتنع مع نوح وبقي الجزء الآخر ضد نوح وضد من معه من الملأ لذا جاءت الآية {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} (هود 27). فكان الاتهام ليس بالضلال والخطأ كقولنا “أضل الطريق” ولكن الاتهام كان بالتكذيب بقولهم {بل نظنكم كاذبين} وهنا فعل ظن يعني اليقين لا الشك.
أما التهم التي وجهت إلى نوح ومن معه فهي كالتالي:
إن البطش بأية دعوة إنسانية تدعو إلى التوحيد والتطور من قبل أعداء التطور وعهم المستفيدون من ثبات الأوضاع والكهنة، هذا البطش يحتاج إلى مبررات، فما هي هذه المبررات؟
الضلال والتكذيب {إنا لنراك في ضلال مبين} أي أن هذه الدعوة جاءت لتضلل الناس وتخدعهم وتحيدهم عما وجدوا آباءهم عليه وهذا المبرر بقي إلى حين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا بأشكال متعددة حسب الظروف الموضوعية وسلم التطور وذلك في قوله تعالى:
- {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} (الزخرف 22).
- {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير غلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} (الزخرف 23).
- {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} (الزخرف 24).
- {تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا} (إبراهيم 10).
هنا نلاحظ أن هذه السنة وهي الاستمرارية على ما ورثوه عن الآباء هي الحجة الكبرى لأعداء التطور وهنا أيضا أعطى تعريفا دقيقا لأعداء التغيير والتطور وهم المترفون من الملأ أصحاب الامتيازات وهذا الخوف على الامتيازات وضح في قوله: {وما نرى لكم علينا من فضل} (هود 27).
وهكذا نفهم التهمة الاولى وهي الضلال المبين. فإذا اكتسبت الدعوة الأنصار يتطور الاتهام إلى التكذيب {بل نظنكم كاذبين} {إن قومي كذبون} (الشعراء 117) ثم يتطور إلى الحجة أن الدعوة الجديدة تريد استلام السلطة {يريد أن يتفضل عليكم} (المؤمنون 24).
وهذا التكذيب يرافقه ظاهرة السخرية {وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} (هود 38). والازدراء {ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا} (هود 31).
أما الإجراءات التي يتخذها أعداء التجديد والتطور فهي:
– النفي {لنخرجكم من أرضنا} (إبراهيم 13).
– الأذى “التعذيب” {ولنصبرن على ما آذيتمونا} (إبراهيم 12).
– الرجم {لتكونن من المرجومين} (الشعراء 116).
– الزجر {وقالوا مجنون وازدجر} (القمر 9).
– المرك “التآمر” {ومكروا مكرا كبارا} (نوح 22) والمكر هو التآمر، فإعطاء التقدم والتطور يتآمرون لمنع تقدم عملية التطور إلى الأمام ويتهمون دعاة التطور والتقدم بالتآمر وقد حصل هذا فعلا عندما اتهم فرعون موسى والسحرة بالتآمر في قوله: {قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون} (الأعراف 123).
وقوله: {قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} (الأعراف 109 – 110)..
– الفرار {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} (نوح 6). وأحد معاني الفر في اللسان العربي هو النيل منه وخرق عرضه فنقول فلان يفر من فلان إذا نال منه وخرق عرضه.
– عدم الإصغاء لقيام الحجة: حيث أن حجة التحجر والتزمت ضعيفة جدا ودعاة التوحيد “التطور” ذوو حجة قوية جدا، فأحد ردود الفعل ضدهم هي عدم الإصغاء إليهم ومنع الآخرين من الإصغاء إليهم {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكبارا} (نوح 7).
وفي هذا المجال نرى أن ننوه إلى المعاني التالية:
1 – التمييز بين الفلك والسفينة. فالفلك جاءت من “فلك” وهو الاستدارة وهي عبارة عن الشكل الهندسي للسفينة قبل نزولها في الماء، فالفلك عبارة عن قطع خشبية مربوط بعضها ببعض بألياف طبيعية لها شكل قريب منا لدائري أو البيضوي من أحد أطرافها على الأقل. أما السفينة فهو الفلك عندما يجري في الماء فترتطم به الأمواج. ومن هنا جاءت السفينة من فعل “سفن” وله أصل واحد وهو تنحية الشيء عن وجه الشيء الآخر أي أن السفينة تسفن الماء كأنها تقشره.
2 – لقد سمى كل أعداء نوح بالظالمين، وقد شرحت في مبحث الفرقان معنى الظلم وأن الشرك عبارة عن ظلم، والمظهر الرئيسي للشرك هو وقف عملية التطور من حيث المعرفة ومن حيث التشريع:
- {فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين} (المؤمنون 28).
- {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (هود 37).
- {وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} (نوح 24).
3 – التمييز بين الجهر والعلن في قوله:
- {ثم إني دعوتكم جهارا} (نوح 8).
- {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} (نوح 9).
في الآيتين 8 – 9 من سورة نوح تبين لنا أن هناك فرقا بين الجهر والعلن، فالجهر جاءت من الجمال فنقول فلان استجهرته أي راعني جماله وكثر في عيني، وفلان ذا جهرة أي منظره تجتهره الأعين. فعندما قال: {إني دعوتهم جهارا} (نوح 8). أي أنه كان في دعوته لهم لطيفا جدا وبدون أية فظاظة وهذا أيضا ما أمر الله به موسى عندما أرسله إلى فرعون {اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه 43 – 44)
أما قوله: {إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} (نوح 9) فهذا يعني أن الدعوة أخذت الوجه العلني والوجه السري.
4 – إن مسار القصص القرآني يبين أن دعاة التطور والتقدم وهم الأنبياء ودعاة التشريع وهم الرسل كانوا ذوي أتباع قلائل وكانوا مغلوبين على أمرهم فكان الله يتدخل لنصرتهم وتدخل الله هو من خلال ظواهر الطبيعة وقوانينها لذا سمى هذه الظواهر آيات الله في سورة الجاثية الآية 6. فقال عن الظالمين {وكذبوا بآياتنا} (البقرة 39/المائدة 10 – 86) وقول نوح {رب انصرني بما كذبون} (المؤمنون 26) فقد كذب الظالمون بالفلك وبالطوفان وهما من آيات الله فنصره الله بهما.
5 – لقد بدأ الإسلام بنوح وانتهى بمحمد صلى الله عليه وسلم حيث ذكر منذ نوح في قوله: {فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين} (يونس 72) وبالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة 3) وهذه الآية كما شرحت سابقا هي آخر آية من آيات الحدود أو من آيات أم الكتاب أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وبها ختم التشريع الإلهي للإنسان وبدأ التشريع الإنساني ضمن حدود الله، {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك… الآية} (الشورى 13).
الدين الإسلامي هو سلم التطور في الرسالات والنبوات حيث ختمه محمد صلى الله عليه وسلم وبعد النبي صلى الله عليه وسلم أصبح الإنسان قادرا بنفسه على تطوير معارفه وتطوير تشريعاته ضمن حدود الله التي أعطيت لمحمد صلى الله عليه وسلم فقط في أم الكتاب لذا كان محمد صلى الله عليه وسلم هو الخاتم وبه بدأ الإنسان الحديث والمعاصر.
والآن يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل القصص القرآني هو من أساطير الأولين كما يقول البعض؟
أترك استنتاج جواب هذا السؤال للقارئ نفسه في ضوء ما سردناه في هذا المبحث حول نوح.
لقد جاء ذكر هود أو الإشارة إلى ذكره في الآيات التالية:
- الأعراف 65 – 72.
- هود (من 50 إلى 60)، 89.
- الشعراء 124، 139.
- الأحقاف 21 – 26.
- القمر 18 – 21.
- الحاقة 4 – 6 – 8.
- ق 12.
- فصلت 13 – 16.
- إبراهيم 9.
بعد هلاك قوم نوح ونجاته في السفينة هو ومن معه، حققت الإنسانية بنبوته قفزة نوعية بركوب الماء واجتياز العوائق المائية. وبعد هذه القفزة حصلت قفزة نوعية كبرى وهي تذليل الأنعام وهذه القفزة حصلت في الفترة الواقعة بين نوح وهود ومن جراء هاتين القفزتين حصل ما يلي:
– تحقق نبوة نوح بالاستقرار والبناء {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح 12) فنتج عن تذليل الأنعام أمران هامان:
أ – الاستقرار إذا بدأ الإنسان باستغلال الأنعام واستعمالها للزراعة وللطعام وللركوب مما هيأ له الاستقرار وبالتالي البناء بأبسط صورة ووفرت له من جلودها وأوبارها مادة أولية للباس.
ب – الانتشار الواعي في الأرض “الهجرة” حيث أن الأنعام كانت وسيلة النقل البرية بالإضافة إلى الفلك “وسيلة النقل المائية” وذلك في قوله: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم} (النحل 7).
لذا ففي الفترة الواقعة بين نوح وهود حصلت هاتان الظاهرتان معا ظاهرة الاستقرار وظاهرة تذليل الأنعام وجاء قوله تعالى: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} (الشعراء 128 – 129). فالريع هو المكان المرتفع، حيث كان في معلومات قوم هود طوفان نوح فاتخذوا الاحتياطات ضد الطوفان وبنوا في الأماكن المرتفعة وهنا ذكر البناء صراحة بقوله: {أتبنون} وبما أن الأمكنة المرتفعة تحتاج لمصادر المياه فقد حفروا حفرا لتجميع المياه في هذه الأماكن وقد أطلق على هذه الحفر مصطلح “مصنع” فقال: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} و {ولعلكم تخلدون} هنا جاءت للراحة من نقل المياه إلى هذه الأماكن.
ولتبيان أن الأنعام والأبنية حصلت معا وفي الفترة الواقعة بين نوح وهود قال: {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء 132 – 133) ولكي يبين أن هذا الاستقرار ووجود نوع من البناء والأنعام المذللة أدت إلى ظهور الزراعة بأبسط أنواعها أتبعها بقوله: {وجنات وعيون} (الشعراء 134).
أما ظاهرة الانتشار فقد وردت في قوله تعالى:
– {وأنه أهلك عادا الأولى} (النجم 50) بما أنه قال: {عادا الأولى} فهذا يعني أن هناك عادا الثانية على الأقل، ولم يذكر لفظة الأولى بالنسبة لثمود أو مدين لأنه لا يوجد إلا ثمود واحدة ومدين واحدة.
– {ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد} (الفجر 6 – 7).
فهنا أعطى وصفا لعاد هو إرم، وقد جاءت من “أرم” وتعني الأصل ومنها جاء مصطلح “الأرومة” أي هنا يتكلم عن عاد الأصل وليس الناس الذين تفرعوا عنها.
– {ألا بعدا لعاد قوم هود} (هود 60) هنا بين أن عادا الأولى هي عاد الأصل وإليها أرسل هود لذا قال “عاد قوم هود” أي هناك عاد ليسوا بقوم هود.
– {واذكر أخاد عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه..الآية} (الأحقاف 21) هنا ذكر المكان وهو الأحقاف للدلالة على أن هناك أمكنة أخرى غير الأحقاف كانت مسكونة. وهذه المنطقة عبارة عن منطقة غزيرة الأمطار لقوله: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} (هود 52). هنا لاحظ قوله: {يرسل السماء عليكم مدرارا) وقوله: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} (الشعراء 129). حيث لا يمكن للحفر في الأماكن المرتفعة أن تملتئ بالمياه إلا إذا كانت الأمطار غزيرة.
طريقة الوحي إلى هود:
لقد قلنا إن الله كان قبل نوح يرسل الرسل من الملائكة باسم النذر، وكان نوح أول رسول ونبي من جنس البشر لذا قال له قومه {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} (المؤمنون 24) هذه الناحية بقيت أيضا بالنسبة لهود، ولكن بالنسبة لهود جاءت النذر قبله وعاصرته وذلك في قوله تعالى: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه.. الآية} (الأحقاف 21). وقوله: {كذبت عاد المرسلين} (الشعراء 123).
المرسلون هنا هم هود والنذر. وقوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تبعدوا إلا الله… الآية} (فصلت 13 – 14) وقد أنكر قومه هذا أشد الإنكار على أن يوحي الله إلى بشر مثلهم ومنهم، وقد جاء هذا في قوله: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح…الآية} (الأعراف 69).
ولقد أورد قومه نفس حجة قوم نوح بقولهم {قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون} (فصلت 14).
لنبحث الآن ما هي رسالة هود:
لقد أرسل هود إلى قومه برسالة التوحيد مع حصول تطور بمظاهر الشرك عند قوم هود تختلف عما كانت عليه عند قوم نوح وهذا الاختلاف هو تعدد الآلهة مع الاختصاصات بينها وقد جاءت دعوة التوحيد في قوله: {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون} (هود 50). هنا ذكر مع دعوة التوحيد الافتراء. فماذا افترى قوم هود؟ الافتراء هو توزيع الاختصاص على الآلهة كأن نقول إلاه المطر، إلاه الحب، إلاه الغضب، إلاه الحرب، وهكذا دواليك وقد جاء هذا التخصص في قوله تعالى:
– {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين} (الأعراف 71).
هنا قال الأسماء هو للتمييز بين الآلهة، وهذه الأسماء افتريت من قبلهم وقبل آبائهم.
– {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال غني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون} (هود 54). هنا بين أيضا أن هناك آلهة السوء وبالضرورة يوجد آلهة النفع والخير لذا قال: {بعض آلهتنا*} وقد كانت رسالة هود هي التوحيد لذا أتبع قوله: {بعض آلهتنا بسوء} بقوله: {قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون} (هود 54).
بالإضافة إلى التوحيد كانت رسالته تحتوي على الاستغفار والتوبة لقوله: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه… الآية} (هود 52). هنا في رسالة هود حصل تطور هام عن رسالة نوح وهو أن الأضداد لها إله واحد حيث لم يستوعب الناس في ذلك الوقت وحدة الأضداد وظهر هذا الجهل بتعدد الآلهة والاختصاصات بينها. لذا كانت رسالة هود هي التوحيد والتوبة والاستغفار ولا أكثر من ذلك فقال: {قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين} (الأعراف 67 – 68) هنا لا حظ كيف قال: {رسالات ربي}.
موقف قومه من رسالته:
- الكفر والإنكار والإصرار على اتباع نهج الآباء {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} (الأعراف 70)، {فإنا بما أرسلتم به كافرون} (فصلت 14).
- الاتهام بالجنون “السفاهة” والتكذيب من قبل الملأ أصحاب السلطة والمال؛ {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} (الأعراف 66).
نبوة هود:
1 – لقد كانت نبوة هود هي التأكيد على نبوة نوح والتي بشر بها قومه فتحققت على سلم التطور في الفترة الواقعة بين نوح وهود وهي الاستقرار والبناء وتذليل الأنعام والتي أصبحت حقيقة معروفة {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون} (الشعراء 132 – 133 – 134) وقوله: {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} (الأحقاف 25).
وبما أن هذه النبوة أصبحت حقيقة ملموسة لذا طلب قومه منه البينات غير التي ذكرت بقوله: {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} (هود 53). وقوله: {قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} (الأحقاف 22) فكانت بينة هود هي الوعيد بقوله: {قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكن أراكم قوما تجهلون} (الأحقاف 23)، {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} (الأحقاف 24).
2 – لم يذكر اليوم الآخر بتاتا في نبوة هود ولا الساعة ولا البعث ولا الصور والجنة والنار، كل هذه المعلومات كانت غير واردة في نبوته، وإنما لمح لليوم الآخر بشكل غير مباشر بقوله: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف 59) –هذا إن كان “عذاب يوم عظيم” يعني عذاب اليوم الآخر – علما بأن هناك آيات ذكر فيها العذاب العظيم وتعني عذابا في الدنيا لا في الآخرة وذلك في قوله: {فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} (الأنبياء 76) وقوله: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم} (الشعراء 156) وقوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} (الشعراء189) حيث ذكر اليوم الآخر صراحة لأول مرة ولمرة واحدة في نبوة شعيب في قوله: {وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (العنكبوت 36).
لا بد لنا عند بحث موضوع الأنبياء والرسل وكيف صنفهم القرآن أن ننوه إلى النقاط التالية:
1 – إن آدم المصطفى الذي هو أبو الإنسانية لم يكن وحده بل كان معه بشر آخرون اصطفاه الله منهم وبدأ بتعليمه التجريد وهو بدوره علم الآخرين، فالناس هم أبناء آدم ليس بالضرورة من صلبه وإنما أبناءه بالأنسنة كقولنا ابن جامعة دمشق. ابن مدينة دمشق… وهكذا. لذا فعندما يقول تعالى “يا بني آدم” فهذا يعني أنه يخاطب أبناء آدم الذين هم من صلبه والذين هم أبناؤه بالأنسنة.
فهنا يظهر تماما الاصطفاء لآدم في قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران} {على العالمين} (آل عمران 33)، {ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم} (آل عمران 34) فحصل الاصطفاء من الله لآدم من بين من هم معه من البشر ولنوح ولآل إبراهيم وآل عمران وأما قوله: {ذرية بعضها من بعض} فهذا يعني أن نوحا وآل إبراهيم وآل عمران هم من أبناء آدم ليس بالأنسنة فقط وإنما من ذريته أي من نسله المباشرين. وان آدم المصطفى ليس نبيا ولا رسولا حيث أن النبوة والرسالة بدأت إلى بني البشر بنوح لقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحي والنبيين من بعده… الآية} (النساء 163) ومن هنا نجد أن عدد الأنبياء الذين ذكروا في الرآ، هو 24 نبيا منهم من هو نبي ومنهم من هو نبي ورسول.
2 – عندما ذكر في سورة مريم “زكريا، يحيى، عيسى، إبراهيم، إسحاق، يعقوب، موسى، هارون، إسماعيل، إدريس” قال عنهم {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} (مريم 58).
نرى في سورة مريم أن زكريا ويحيى ومريم “عيسى” من آل عمران والبقية ما عدا إدريس هم من ذرية إبراهيم كلهم من ذرية آدم ولكنهم ليسوا من ذرية نوح لقوله: {وممن حملنا مع نوح} (مريم 58). ومنه نستنتج أن آل إبراهيم وآل عمران هم من ذرية آدم وليسوا من ذرية نوح بل من ذرية “من حملنا مع نوح”. وبما أن يعقوب منهم وهو الملقب إسرائيل فإن بني إسرائيل ليسوا من ذرية نوح ولا سام ابن نوح، وعليه فإن النظرية السامية ليست أكثر من وهم.
وقد أكد القرآن هذه الفكرة حول بني إسرائيل في قوله: {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبد شكورا} (الإسراء 2 – 3).
وبما أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو من ذرية إسماعيل لذا فهو من ذرية آدم من نسله أي من حيث الدم وليس من الضروري أبدا أن يكون كل العرب من ذرية إسماعيل أو ذرية آدم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينتسب دما إلى إسماعيل، وقومية إلى العرب.
3 – لقد وردت أسماء الأنبياء بشكل رئيسي في السور التالية:
أ – سورة الأنعام: ورد فيها:
– {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليهم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم*} (الأنعام 83 – 87).
نلاحظ في سورة الأنعام في الآيات 83 – 87 ما يلي:
– أنه ورد فيها 18 نبيا بشكل مباشر وورد فيها محمد صلى الله عليه وسلم بشكل غير مباشر في قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده…الآية}(الأنعام 90) حيث في هذه الآية الخطاب موجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
– نلاحظ أيضا بشكل صريح أن آدم ليس بنبي إذا أجرينا تقاطعا بين الآيتين {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة 38) ففي هذه الآية الخطاب موجه إلى آدم المصطفى ومن معه وقال لهم بصيغة المستقبل {فإما يأتينكم مني هدى…الآية} (البقرة 38).
وإذا أخذنا قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل… الآية} (الأنعام 84) وقوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام 90) من هذا التقاطع نستنتج أن آدم المصطفى ليس له علاقة بنبوة ولا رسالة.
ب – سورة الأنبياء وقد ورد فيها الأسماء التالية: موسى، هارون، إبراهيم، لوط، إسحاق، يعقوب، نوح، داوود، سليمان، أيوب، إسماعيل، إدريس، ذو الكفل، يونس “ذو النون”، زكريا، يحيى، مريم “عيسى”، وعددهم سبعة عشر “17” وقد ورد فيها بشكل غير مباشر محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء 107).
ج – في سورة الشعراء: وقد ورد فيها الأنبياء: موسى، هارون، إبراهيم، نوح، هود، صالح، لوط، شعيب، وقد ورد فيها بشكل غير مباشر محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} (الشعراء 193 – 195).
د – في سورة مريم وقد ورد فيها: زكريا، يحيى، عيسى، إبراهيم، إسحاق، يعقوب، موسى، هارون، إسماعيل، إدريس، وقد جاء ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بشكل غير مباشر في قوله: {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا} (مريم 97).
هـ – في سورة الصافات: نوح، إبراهيم، إسحاق، موسى، هارون، إلياس، لوط، يونس، وقد ورد فيها بشكل غير مباشر خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون} (الصافات 149).
من هذه السور الخمس نستنتج ما يلي:
أن عدد الأنبياء الذين ورد ذكرهم في الكتاب هو 24 نبيا هم:
1 – نوح، 2 – هود، 3 – صالح، 4 – شعيب، 5 – لوط، 6 – إبراهيم، 7 – إسماعيل، 8 – إسحاق، 9 – يعقوب، 10 – يوسف، 11 – يونس، 12 – أيوب، 13 – موسى، 14 – هارون، 15 – داوود، 16 – سليمان، 17 – زكريا، 18 –
يحيى، 19 – ذو الكفل، 20 – إدريس، 21 – إلياس، 22 – اليسع، 23 – عيسى، 24 – محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا تصفحنا الآيات الواردة في هذه السور الخمس مع آيات أخرى رأينا أن عدد الرسل من هؤلاء هو 13 ثلاثة عشر رسولا والباقي أنبياء. والرسل هم:
1 – نوح: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} (نوح1).
{إذا قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين} (الشعراء 124 – 125).
2 – هود: {إذ قال لهم أخوهم هود الا تتقون * إني لكم رسول أمين} (الشعراء 124 – 125).
3 – صالح: {إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين} (الشعراء 142 – 143).
4 – لوط: {إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين} (الشعراء 161 – 162).
{وإن لوطا لمن المرسلين} (الصافات 133).
5 – شعيب: {إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إني لكم رسول أمين} (الشعراء 177 – 178).
6 – يونس: {وإن يونس لمن المرسلين} (الصافات 139).
7 – إبراهيم: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} (الحديد 26).
8 – إسماعيل: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا} (مريم 54).
9 – إلياس: {وإن إلياس لمن المرسلين} (الصافات 123).
10 – يوسف: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} (غافر 34).
11 – موسى: {واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا} (مريم 51).
12 – عيسى: {ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد يجئتكم بآية من ربكم.. الآية} (آل عمران 49).
13 – محمد صلى الله عليه وسلم: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما} (الأحزاب 40).
أما الباقي فهم أنبياء وليسوا رسلا، وبدأ الكتاب بموسى وهو الرسالة أي مجموعة كاملة من التشريعات وبعد موسى جاء الكتاب إلى عيسى وهو شريعة موسى “كتاب موسى” مع بعض التعديلات لذا قال: {ورسولا إلى بني إسرائيل} (آل عمران 49). وبعد ذلك جاء الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو الخاتم وأم الكتاب هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فكل من جاء بعد موسى حكم بشريعة موسى حتى عيسى، ثم جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي الرسالة الخاتم وتختلف عن كل الكتب التي قبلها بأنها حدودية وسميت عوضا عن الكتاب بأم الكتاب.
أما الأنبياء فهم:
1 – إسحاق: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق…}.
2 – يعقوب: {ويعقوب وكلا جعلنا نبيا} (مريم 49).
3 – هارون: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} (مريم 53).
4 – إدريس: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا} (مريم 56).
5 – زكريا، 6 – يحيى، 7 – داوود، 8 – سليمان:
وقد جاؤوا في الفترة الواقعة بين موسى وعيسى فهم أنبياء فقط أما قوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} (مريم 12). فالكتاب هنا هو كتاب موسى لأن يحيى وزكريا كانا على شريعة موسى. أما قول زكريا الوارد في الآية {يرثني ويرث من آل يعقوب} (مريم 6). فهذا يعني أن هناك صلة رحم بين آل يعقوب وآل عمران حيث أن آل يعقوب هم من آل إبراهيم وزكريا من آل عمران لذا قال عن آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران {ذرية بعضها من بعض} (آل عمران 34).
9 – ذو الكفل:
10 – اليسع: جاء ذكرهم في سورتي الأنبياء والأنعام ولم يذكر لهم أية رسالة.
11 – أيوب:
ما هي الاستنتاجات التي يمكن أن نستنتجها من هذه السور آخذين بعين الاعتبار منهجنا المتبع في هذا الكتاب:
1 – ما هو الزبور؟ ألم يؤت داوود زبورا. فالزبور هو نبوة داوود فقط وهو كتاب نبوة فقط “معرفة” أي متجانس مع التوراة والإنجيل والقرآن. فالزبور هو نبوة داوود أما شريعته فقد كانت شريعة موسى حيث ذكر الزبور في مقام النبوات في قوله: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} حتى أنهى الآية بقوله: {وآتينا داوود زبورا} (النساء 163).
ولكي يبين أن أفضل الأنبياء بعد موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: {وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا} (الإسراء 55). لقد بين في هذه الآية بشكل قاطع أن الزبور أعطى أفضلية لداوود على كثير من الأنبياء.
ولكي يبين أن الكتاب والحكمة هي من الرسالة، والرسالة لا تأتي إلا لنبي أي تضاف إلى النبوة إضافة قال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (آل عمران 81). هنا نلاحظ كيف ذكر بعد النبيين الإضافة وهي كتاب وحكمة حيث جاءت منكرة لأن الكتاب والحكمة كمجموعة كالمة “كود كامل” لم يأت إلا إلى موسى وعيسى ومحمد عيهم السلام.
أما بقية الأنبياء فقد جاء جزء منه حسب التطور التاريخي. ولكي يفصل الكتاب “التشريع والأخلاق” عن النبوة بالنسبة للأنبياء قال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين…الآية} (البقرة 177) هنا نلاحظ كيف وضع الكتاب والنبوة.
لذا فإن الكتاب الوحيد الذي يشكل نبوة فقط ولا يوجد فيه أية رسالة “أي كتاب وحكمة” هو الزبور، فالزبور كله معلومات لذا قال عن القرآن {وإنه لفي زبر الأولين * أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} (الشعراء 196 – 197). هنا أؤكد أن علماء بني إسرائيل ليسوا الأحبار وإنما بقية العلماء. وقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. الآية} (البقرة 213) لذا فإن داوود هو من اليهود ونبي فقط، وليس من بني إسرائيل ولكنه من ذرية نوح وكذلك سليمان وأيوب. ونرى أيضا كيف نوه بأنه يوجد في الزبور علوم قرآنية.
2 – لقد ورد ذكر يوسف وموسى وهارون في سورة مريم على أنهم من ذرية آدم ومن ذرية من حملنا مع نوح وليس من ذرية نوح وجاء ذكرهم في سورة الأنعام على أنهم من ذرية نوح في قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين} (الأنعام 84).
ونحن نعلم أن يوسف هو ابن يعقوب وبالتالي هو من آل إبراهيم. وكذلك موسى وهارون وبالتالي نستنتج أن يوسف وموسى وهارون هم من ذرية نوح من طرف الأم وهم من ذرية إبراهيم من طرف الأب. أما أيوب وداوود وسليمان فهم من ذرية نوح وليس لهم علاقة بآل يعقوب حيث أن آل يعقوب كانوا معروفين بعد موسى. أما القرآن فيذكر أن داوود كان نكرة في بني إسرائيل وصار ملكا بشجاعته حيث كان جنديا عند طالوت وذلك في سورة البقرة من الآيات 246 حتى الآية {فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (البقرة 251).
هنا نلاحظ كيف لم يذكر الكتاب مع داوود، وذكر فقط الحكمة، والحكمة وحدها لا تكفي للرسالة حيث أن الله أعطى الحكمة للقمان وهو ليس بنبي. ولا رسول.
3 – يجب أن نميز بين بني إسرائيل واليهود، فبنو إسرائيل هم من اليهود ابتداء من زمن موسى وليس كل يهودي هو من بني إسرائيل.
4 – هناك عائلات محددة من بني إسرائيل هم من ذرية نوح وليس اليهود أو بنو إسرائيل هم من ذرية نوح كأن نقول أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو من ذرية إبراهيم ولكن ليس كل العرب من ذرية إبراهيم أو إسماعيل والكتلة الأساسية من بني إسرائيل ليست من ذرية نوح لقوله عن بني إسرائيل: {ذرية من حملنا مع نوح} (الإسراء 3). أي أن النظرية السامية ما هي إلا وهم، فلا اليهود ساميون، ولا العرب ساميون.
5 – لقد أكد الله سبحانه وتعالى في القرآن أن ذرية نوح لا تفنى ولا تنقطع إلى يوم القيامة، وأن ذريته منتشرة في كل أنحاء الأرض وليست مقتصرة على دين واحد أو قومية واحدة وذلك في قوله: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين} (الصافات 75 – 79). بينما قال عن إبراهيم {وتركنا عليه في الآخرين} (الصافات 108). وقال: {سلام على إبراهيم} (الصافات 109).
6 – إن هودا وصالحا وشعيبا هم ليسوا م ذرية نوح وليسوا من ذرية آدم حيث لم يأت ذكرهم نهائيا من ذرية نوح ولا من ذرية آدم {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران 33) لذا فإنهم من ذرية البشر الذين تأنسنوا مع آدم المصطفى وأعتقد أن ذا الكفل منهم أيضا.
7 – لقد تم ذكر إدريس في سورة مريم على أنه نبي فقط ليس له أية رسالة وبما أن نوحا هو أول نبي ورسول من البشر فإن إدريس بعد نوح لا قبله حيث ورد اسمه تحت الأنبياء الذين قال عنهم {وممن حملنا مع نوح} (مريم 58).
(1) تعليقات
Ahmad
ممتاز دكتور أعجنبي جداً تحليلك وشرحك لا تتوقف عن العمل حتى يستفيد الناس من علمك وأنا أوفقك بكثير من الأفكار وخاصة بما يتعلق بقصة آدم أتمنى لو نلتقي