1 – كلمات الله
ترتبط الكلمة في الأصل بالجانب الصوتي للسان،
كقول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
والكلام في اللغة اسم جنس يقع على القليل والكثير، وقد عرفه بعضهم “بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المميزة” (الزمخشري الكشاف ج1، ص5).
وعندما نقيم حفلاً خطابياً نقول: إن الكلمة لفلان، فهذا يعني أنه حاضر ليلقيها بنفسه. أما إذا كان غائباً فنقول يلقيها بالنيابة عنه فلان. وكل الألسن الإنسانية أصوات تتألف منها الكلمات والجمل. فإذا تكلم الصيني فإننا نحن العرب نسمع أصواتاً ولكن لا نفهم ما هو مدلول تلك الأصوات “المعنى”. وعندما يأخذ الكلام مدلولاً في الذهن يصبح قولاً.
الكلام يخرج من الفم وفيه تكمن الفصاحة. لذا قال موسى عن أخيه هارون {هو أفصح مني لسانا} (القصص 34). وعندما أرسل الله موسى إلى فرعون نصحه بقوله: {فقولا له قولاً ليناً} (طه 44). فالقول هو الكلام الذي له دلالات في الذهن، لذا نقول “البلاغة في القول” و”الفصاحة في اللسان”. أما البلاغة فنراها في قوله تعالى {وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} (النساء 63) وهنا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم إن صح (أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا) حديث عن عمر “رض” ذكره أبو يعلي في مسنده وقوله (أعطيت فواتح الكلام، وجوامعه وخواتمه) ذكره أبو يلعي في مسنده عن أبي موسى. أي الأصوات الإنسانية المجموعة في فواتح السور ولا تعني البلاغة لا من قريب ولا من بعيد. ونرى الكلام والقول في آية واحدة في قوله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (الكهف 5) أي هذه الكلمة التي تخرج من الأفواه لها مدلول الكفر عندما نفهمهما في الذهن لذا قال: {إن يقولون} ولم يقل: إن يتكلمون.
هنا يجب أن نفهم أن الألسن الإنسانية ذات شقين: الشق الأول هو الأصوات التي لها وجود مادي “موضوعي”. والشق الثاني هو دلالات هذه الأصوات في الذهن. وهذه خاصية تميز بها الإنسان، وهي أن الألسن الإنسانية تتألف من دال ومدلول.
وبما أن الألسن تؤدي وظيفتين هما أن تستخدم أداة للاتصال وأداة للتفكير. ففي أداة الاتصال يظهر بشكل جلي ارتباط الدال بالمدلول. وفي أداة التفكير يظهر المدلول ولكن التدقيق يبين أن التفكير الإنساني لا يتم إلا ضمن إطار لساني غير ملفوظ. هذا كله متعلق بالإنسان. فهل ينطبق ذلك على كلمات الله؟
لو كان النص القرآني المتلو أو المكتوب الموجود بين أيدينا هو عين كلام الله فهذا يعني أن الله له جنس وجنسه عربي، وأن كلام الله ككلام الإنسان يقوم على علاقة دال ومدلول. ولكن بما أن الله أحادي في الكيف {قل هو الله أحد} (الإخلاص 1)، وواحد في الكم {قل إنما هو إله واحد} (الأنعام 19) وأن الله ليس عربياً ولا انكليزياً، لزم أن يكون كلامه هو المدلولات نفسها، فكلمة الشمس عند الله تعالى هي عين الشمس، وكلمة القمر هي عين القمر، وكلمة الأنف هي عين الأنف، أي أن الوجود المادي “الموضوعي” ونواميسه العامة هي عين كلمات الله. وكلمات الله هي عين الوجود ونواميسه العامة.
ولهذا نقول: إن الله هو الحق وإن كلماته حق {قوله الحق} (الأنعام 73) {ويحق الله الحق بكلماته} (يونس 82) {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} (الحج 62) فالوجود الموضوعي خارج الوعي هو الوجود الإلهي {ذلك بأن الله هو الحق} (الحج 62) والوجود الكوني الذي هو كلمات الله وهو حق أيضاً {ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} (الأحقاف 3). فالله حق والوجود كلماته وهو حق أيضاً، لذا قال: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس 82) {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران 47- مريم 35).
ونحن نعلم أن سمة “المتكلم” ليست من أسماء الله الحسنى، وإنما كلماته اشتقت من اسمه الحق. ومن أجل تعليم الإنسان صاغ الله الحقيقة المطلقة وهي الوجود ونواميسه العامة وأسماءه الحسنى صياغةً لسانية إنسانية. وبما أن فهم الإنسان للحقيقة هو فهم نسبي دائماً له علاقة بتطور المعارف والأرضية المعرفية للإنسان فقد لزم أن تصاغ الحقيقة بلغة إنسانية مطواعة لهذا الفهم النسبي عن طريق التشابه في الصيغة الثابتة. واللسان العربي في بنيته ومفرداته يحمل هذه الخاصية “التشابه” بوضوح، هذا أحد وجوه أصالة هذا اللسان، ولهذا كان اللسان العربي هو الوعاء الذي حمل مطلق الحقيقة ونسبية الفهم الإنساني.
ففي الصياغة القرآنية العربية تظهر قمة الجدل الداخلي بين الحقيقة المطلقة للوجود والفهم النسبي الإنساني لهذا الوجود في مرحلة ما، وفي هذا المعنى تكمن قمة إعجاز القرآن للناس جميعاً، على اختلاف عصورهم واختلاف مداركهم تبعاً لاختلاف أرضياتهم المعرفية.
وبما أن القرآن حوى الحقيقة الموضوعية لذا أطلق عليه تسمية “الحق”. {وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} (الأحقاف 7).
قلنا إن الكتاب المتشابه هو السبع المثاني والقرآن العظيم. فالتشابه في السبع المثاني جاء في قوله تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هادٍ) (الزمر 23).
نلاحظ هنا كيف جاءت كلمة “كتاب” منكرة ولذلك فهي لا تعني كل محتويات المصحف، وإنما وصف هذا الكتاب بصفتين هما التشابه والمثاني. ويعني ذلك أن مجموعة السبع المثاني هي كتاب متشابه ومثانٍ معاً.
أما بالنسبة للقرآن فيجب أن نميز بين القرآن معرفاً كقوله {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة 185) وقوله {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر 87) وقوله {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ} (البروج 21-22) وقوله {يس * والقرآن الحكيم} (يس 1-2) ولم يقل: يس * وقرآن حكيم.
فعندما يأتي القرآن معرفاً فإنه يأخذ المعنى نفسه، أما إذا جاء منكراً فيمكن أن يعني جزءاً منه. فالقرآن الحكيم هو القرآن العظيم نفسه وهو الذي أنزل في رمضان. وليست عبارة {قرآن مجيد} هي بالضرورة {القرآن العظيم}. ولكنها من جنسه وتعني جزءاً منه، لا كله. وقد جاء الدليل على أن القرآن كله متشابه وأنه هو الحق في سورة يونس في قوله {وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون} (يونس 36) {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس 37) {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} (يونس 38) {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} (يونس 39).
وها هنا نلاحظ أن سياق الآيات يتكلم عن القرآن وأنه احتوى على معلومات لم يحيطوا بها وأنه لم يأت تأويله بعد. ونلاحظ أيضاً ما جاء في الآية 7 آل عمران أن التأويل هو للمتشابه فقط.
أما إذا نظرنا إلى محتويات القرآن فنرى أنه يتألف من موضوعين رئيسيين وهما:
1 – الجزء الثابت: {قرآن مجيد * في لوح محفوظ} (البروج 21-22) وهذا الجزء هو القوانين العامة الناظمة للوجود كله ابتداء من خلق الكون (الانفجار الكوني الأول، وفيه قوانين التطور “الموت حق” وتغير الصيرورة “التسبيح” حتى الساعة ونفخة الصور والبعث والجنة والنار. وهذا الجزء لا يتغير من أجل أحد وهو ليس مناط الدعاء الإنساني، وإن دعا كل أهل الأرض والأنبياء لتغييره فلا يتغير، وهذا الجزء العام هو الذي تنطبق عليه عبارة {لا مبدل لكلماته} (الكهف 27).
فكلمات الله هي عين الموجودات أي الأشياء {قوله الحق} (الأنعام 73). وفي اللوح المحفوظ يوجد القانون العام الصارم لهذا الوجود، ولا تبديل لهذا القانون من أجل أحد. أما التشابه في هذا الجزء فهو منسوب إلى الفلسفة وهي أم العلوم، أي معرفة الإنسان بالقوانين العامة الناظمة للوجود.
2 – الجزء المتغير من القرآن: وهذا الجزء عبر عنه بأنه مأخوذ من أمام مبين في قوله {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12).
فالإمام المبين يحتوي على شقين:
أ – أحداث وقوانين الطبيعة الجزئية: مثل تصريف الرياح واختلاف الألوان وهبة الذكور والإناث والزلازل والطوفان وهي قابلة للتصريف، وغير مكتوبة سلفاً على أي إنسان وغير قديمة. فمثلاً القانون العام في اللوح المحفوظ يقول: إن “الموت حق”، ولكن الأحداث الجزئية في الطبيعة يمكن أن تسمح بوجود ظواهر تطيل الأعمار وظواهر تقصرها. فالتصريف هو بطول العمر وقصره، وليس بإلغاء الموت. فأحداث الطبيعة الجزئية أطلق عليها مصطلح آيات الله {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} (الروم 22) {تلك آيات الله} (الجاثية 6). فآيات الله تختص بظواهر الطبيعة وقد جاءت في الكتاب في مصطلح “كتاب مبين” في قوله {وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام 59) وهذه الأحداث ليست مبرمجة سلفاً وليست قديمة.
وعندما عطف عبارة (كتاب مبين) على القرآن في أول سورة النمل عطف خاصاً على عام. لنرجع إلى الآية 75 التي تقول: {وما من غائبةٍ في السماء والأرض إلا في كتاب مبين}. فعندما يورد لفظ “كتاب مبين” في القرآن يتكلم فيه عن جزئيات ظواهر الطبيعة، كالحرية الكيميائية {ولا رطب ولا يابس} والموقع {ولا حبةٍ في ظلمات الأرض} والحركة الميكانيكية {وما تسقط من ورقة إلا يعملها}.
هذا الجزء الذي سماه بعبارة “كتاب مبين” فيه التصريف والتغيير وهو مناط التدخل الإلهي وفقاً للنواميس الكونية التي ارتضاها وقررها، فتارة يعمل لصالح زيد وأخرى لصالح عمرو، وهو مناط الدعاء. فنحن ندعو الله أن يرسل لنا مطراً، لأن المطر يأتي من تصريف الرياح أو أن يهب لنا ذكوراً وإناثاً. لأن كل هذه الأشياء ليس لها علاقة باللوح المحفوظ وإنما هي أحداث جزئية في أحداث جزئية في ظواهر الطبيعة وإلا فلا معنى لقوله عليه السلام: الدعاء مخ العبادة وقوله أيضاً: لا يرد القضاء إلا الدعاء. وهي أيضاً مناط العلوم كلها الطب والفلك والفيزياء والكيمياء .. الخ. ما عدا الفلسفة والتاريخ. ويقوم التشابه في آيات الكتاب المبين “آيات الله” على نسبة تقدم المعارف الإنسانية بأحداث الطبيعة وظواهرها وهو الذي ينطبق عليه {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران 47 – مريم 35).
ب – أفعال الإنسان الواعية: وهو ما نسميه القصص. لقد أكد في الكتاب أن القصص من القرآن في قوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف 3). فقد أشار إلى أن تتبع أفعال الإنسان المسجلة عليه بعد وقوعها يتم في (إمام مبين) ليميزه عن (لوح محفوظ) {إنا نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12) وقد أورد منه أحداثاً متكاملة لتتبع تطور التاريخ الإنساني، وتطور المعارف في النبوات والتشريع في الرسالات، أي كيف تفاعل الإنسان مع القانون العام للوجود والقوانين الجزئية من جهة، وكيف تفاعل مع الرسالات من جهةٍ أخرى. وبما أنه أعطى هذا الخط في القصص فقد سماه “أحسن القصص”.
أما القصص جزء من القرآن فقد ورد في قوله: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف 3) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهل القصص والقرآن معاً، وكان القصص ليس جزءاً من القرآن لجاءت الصيغة بصورة المثنى أي: وان كنت من قبلهما، وهذه الصيغة “من قبله” تصح في حالة أن القرآن شيء والقصص شيء آخر في حالة واحدة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهل القرآن ولا يجهل القصص، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهل القصص أيضاً لقوله في سورة هود بعد قصة نوح: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} (هود 49). من هنا نستنتج النتيجة الوحيدة وهي أن القصص جزء من القرآن. وهناك دليل آخر في قوله تعالى في أول سورة النمل: (طس تلك آيات القرآن وكتابٍ مبين) فإذا تصفحنا سورة النمل وجدنا أن فيها قصصاً.
أما العنوان العام الذي أعطاه الكتاب للقصص وهو عبارة “الكتاب المبين” فقد جاء في ثلاث سور فيها قصص وهي سورة يوسف {الر تلك آيات الكتاب بالمبين}، وسورة الشعراء {طسم * تلك آيات الكتاب المبين}، وسورة القصص {طسم * تلك آيات الكتاب المبين}.
ولنشرح الآن لماذا سمى القصص الكتاب المبين وسمى ظواهر الطبيعة كتاباً مبيناً.
السبب الأول: أن كليهما أوحي من الإمام المبين وليس من اللوح المحفوظ. وثانيهما أن القصص أعطت مواضيع متكاملة منتقاة لتتبع تطور التاريخ الإنساني، لذا سميت “أحسن القصص”، وعرفت بالكتاب المبين. أما أحداث الطبيعة وظواهرها فقد أورد فيها آيات متفرقة لذا سماها “كتاباً مبيناً”.
ونشير إلى أن التشابه في القصص منسوب إلى تطور المعارف الإنسانية حول تطور التاريخ الإنساني، فكلما زادت هذه المعارف تمكنا من تأويل آيات القصص.
ومن هنا نستنتج أن القرآن العظيم وهو كتاب متشابه يتألف من مصدرين رئيسيين:
أ – القانون العام {قرآن مجيد * في لوح محفوظ} وهو كلمات الله القديمة لا تبديل لها وسمي مجيداً لأن السيطرة الكاملة له ولا يمكن الخروج عنه وهو مطلق.
ب – القانون الخاص الجزئي في أحداث الطبيعة الجزئية وظواهرها وأفعال الإنسان بعد وقوعها، وسماه إماماً مبيناً، وهو مناط التصرف والدعاء والمعرفة، ولكنه لا يلغي القانون العام بل يعمل ضمنه وهو كلام الله المحدث وينطبق عليه قوله {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} وفيه إرادة الله الظرفية. حيث أن هذين الجزأين يحملان طابع الوجود الموضوعي. وسمي قرآناً لأنه قرن القانون العام للوجود مع القانون الخاص ومع خط تطور سير التاريخ الإنساني.
وهكذا نفهم أن القرآن هو الجانب الموضوعي في الكتاب “الحق” {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) (سبأ 43). وفي قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} (الأحقاف 7).
هنا نرى أن الإعجاز جاء في القرآن فقط، وليس في أم الكتاب إذ أن أم الكتاب ذاتية، وهكذا لا يمكن أن نرى في أي آية من آيات الأحكام مصطلح (قال الله)، هذا مستحيل .. إنما نرى أن آيات الأحكام جاءت ضمن الصيغ التالية:
– صيغة أمر: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) (النحل 90).
– صيغة نهى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} (التحريم 2).
{كتب عليكم الصيام} (البقرة 183).
{والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم} (النساء 24).
– صيغة وصايا: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} (النساء 11).
أي أنه لا يمكن أن نرى آية واحدة من آيات الرسالة “الأحكام” فيها عبارة (قال الله)، لأنه لو جاءت بهذه الصيغة (قال الله صلوا) أو (قال الله صوموا)، مع الأخذ بالحسبان أن قول الله هو الحق {قوله الحق} (الأنعام 73)-فهذا يعني أن الصلاة والصوم حقيقة موضوعية موجودة خارج الوعي. ولأصبحت الصلاة والصوم ناموساً لا يمكن مخالفته. ولرأينا أن الناس جميعاً دون استثناء صاموا وصلوا من دون أن يكون لهم أي خيار في ذلك، ولأصبحت الصلاة والصوم كعملية هضم الطعام ونبض القلب يلتزم بأدائهما الناس آلياً.
من هنا وللدقة وجب علينا أن لا نطلق عبارة (قال الله) على الأحكام ولكن نقول: أمرنا الله بالصلاة ونقول: أمرنا الله بالصوم، ونقول: أمرنا الله تعالى بصلاة الجمعة في الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ..} (الجمعة 9). ولا نقول: قال الله (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة …) فإذا قلنا: قال الله صلوا، وكان هناك أناس لا يصلون، فهذا يعني أن قوله غير نافذ وهذا يناقض قانون {قوله الحق} هذا إذا أردنا أن نتقيد بالمصطلح القرآني البحت. أما قولنا عن كل آية وردت في الكتاب: (قال تعالى) فهذا مصطلح مجازي بحت يقصد به الصياغة اللغوية للكتاب كله الذي أنزل من عند الله وهو من صياغة رب العالمين.
من هنا يجب أن نفهم أن كلمات الله نافذة لا مجال لتبديلها ولا خيار لنا في تنفيذها أو عدم تنفيذها لأن كلماته عن الوجود ونواميسه العامة وأحداثه الجزئية حين وقوعها. لذا قال عن القرآن: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً} (الكهف 27) هنا قال عن كلمات الله: إنها غير قابلة للتبديل وإن الإنسان لا يستطيع أن يحيد عنها {ولن تجد من دونه ملتحدا}، فلو كانت الآية {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} (النساء 11) هي من كلمات الله، ورأينا أناساً لا يلتزمون بها ويبدلونها، لكان ذلك يعني كذب ما جاء في الآية {لا مبدل لكلماته}.
وهكذا نفهم قوله تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} (الكهف 109). بما أن كلمات الله هي عين الموجودات ونواميسها العامة والخاصة حين وقوعها، ونعلم الآن مدى كبر هذا الكون حسب معلوماتنا، فلو أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف لنا الموجودات من خلال كلام الإنسان، للزم أن يكون البحر مداداً لهذه الكلمات ولا يكفي.
أما قوله تعالى {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} (البقرة 58) {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} (البقرة 59).
هنا الآية 58 في سورة البقرة تبدأ بقوله {وإذ قلنا} والقائل هو الله، فقوله نافذ ولكنه ينطبق فقط على الفقرات {ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا} {وادخلوا الباب سجداً} أي أنهم دخلوا القرية وأكلوا ودخلوا الباب سجداً. ولكن جملة {قولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} هي جملة أمر (ضد النهي) وليست قولاً، ولكي يبين أن هذه جملة أمر قابلة للعصيان والطاعة وليست كلمة فقد أتبعها بالآية {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}. وليست كلمة نافذةً لا محالة.
ولو كانت جملة {قولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} كلمةً من كلمات الله وليست أمراً لتناقضت مع قوله تعالى {لا مبدل لكلماته} إذ كيف يقول {لا مبدل لكلماته} ويقول أيضاً {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} لذا فقد أفرد آية خاصة هي الآية 59 من سورة البقرة لكي يؤكد عدم التناقض.
وقد أكد هذه الناحية أيضاً في الآيتين 161-162 في سورة الأعراف {وإذا قيل له اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين} (الأعراف 161).
{فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون} (الأعراف 162).
أما لماذا تكرر الموضوع نفسه مرتين في البقرة والأعراف فهو بحاجة إلى بحث خاص.
أما قوله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} (النحل 51).
لنقارن هذه الآية مع الآية {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} (الحج 26) أي أن وحدانية الله هي حقيقة موضوعية خارج الوعي الإنساني وأن التعددية غي ممكنة موضوعياً حيث أن أي تعددية هي باطل ووهم. فالأصنام هي حجارة خارج الوعي الإنساني وليست آلهة. لذا بدأت الآية بقوله: (قال الله).
لنناقش الآن الصيغة التالية:
{قل هو الله أحد} (الإخلاص 1) هذه الصيغة هي صيغة أمر، فلو حذفنا منها فعل (قل) لأصبحت الصيغة (هو الله أحد) وهي صيغة خبر. وصيغة {قل هو الله أحد} ليست قرآنية، ولو حذفنا قل لأصبحت الصيغة قرآنية لأنها خبر عن أكبر حقيقة موضوعية في الوجود وهي وحدانية الله. لذا فإن وضع صيغة قل أو عدم وضعها له أهمية كبيرة في الكتاب حيث أنه يُعد أحد المؤشرات لتحديد نوع الآية.
إن آيات القرآن والسبع المثاني كلها من الآيات المتشابهات وهي تمثل النبوة مع آيات تفصيل الكتاب. فما هي مواضيع القرآن؟
لقد قلنا: إن القرآن جاء من (قرن) وهو من جمع الجزء الثابت من قوانين الكون الموجود في (اللوح المحفوظ) مع الجزء المتغير الموجود في (الإمام المبين). لذا فإن القرآن يحتوي على موضوعين هما:
1 – الجزء الثابت وفيه القانون العام للوجود المادي الثنائي والذي يتمثل في جدل هلاك شكل الشيء باستمرار وجدل تلاؤم الزوجين. ويعتبر التطور وتغير الصيرورة العمود الفقري لهذا الجزء، ويتمثل بالانفجار الكوني الأول وقوانين التطور حتى الساعة ونفخة الصور الأولى والثانية والبعث والحساب والجنة أي خط الوجود المادي كله مع خط تطوره الحتمي. هذا الجزء الذي له السيطرة التامة والمجد والذي قال عنه {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ} (البروج 21-22). هذا الجزء ليس مناط الدعاء من قبل الإنسان ولا يمكن أن يتغير من أجل أحد وهو الذي يطلق عليه: (كلام الله القديم) والذي هو جوهر الوجود المادي وعينه والذي قال عنه: {لا مبدل لكلماته} وهذا الجزء هو مناط الفلسفة وهي أم العلوم.
2 – الجزء المتغير وهو الذي أوحي من إمام مبين {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12). ويشتمل على:
أ - الجزء المتعلق بأحداث الطبيعة وظواهرها ويسمى آيات الله وقال عنه: {كتاب مبين}. وهذا الجزء هو مناط المعرفة الإنسانية بالطبيعة وهو مناط التصريف من الله والإنسان وهو مناط الدعاء لأنه غير ثابت ولكنه لا يخرج عن القانون العام وهو الجزء الذي قال عنه: {سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (مريم 35) {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس 82) (مريم 35) {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس 82) مثل هبة الذكور والإناث وتصريف الرياح والمطر والصحة والمرض والرزق وهو كلام الله المحدث (إرادة الله الظرفية).
ب – أحداث التاريخ الإنساني بعد وقوعها وهو الجزء الذي سمي {أحسن القصص} “الكتاب المبين” وفيه خط تطور التاريخ الإنساني بالنبوات والرسالات. فالتاريخ الإنساني الواعي هو معرفة وتشريع، وما نتج عن ذلك من نتاج مادي وعلاقات حضارية إنسانية. وبما أن الإنسان يحتاج إلى تراكم معرفي حتى تحصل قفزة تشريعية، فإننا نرى أن عدد الأنبياء يزيد ع عدد الرسل، فكل رسول هو بالضرورة نبي، ولكن ليس كل نبي هو بالضرورة رسولاً. وأضرب المثال التالي لكي نفهم هذه النقطة:
عندما دخلت أول سيارة إلى دمشق لم يواكب دخولها إصدار قانون للسير، أي أن قانون السير في دمشق لم يصدر مع دخول أول سيارة إلى دمشق، ولكن صدر القانون بعد أن تراكم عدد السيارات ومست الحاجة إلى تشريع جديد منظم للسير. فيجب أن نفهم النبوات والرسالات على هذا الوجه، فالنبوات قفزات معرفية، وعندما تتراكم هذه المعارف تحصل الحاجة إلى قفزات في التشريع “الرسالات”، ولهذا نرى أن عدد الأنبياء هو بالضرورة أكثر من عدد الرسل.
3 – القرآن هو الآيات البينات وهو تصديق الذي بين يديه (تصديق الرسالة)
ما هي البينة؟
البينة هي دليل مادي قابل للإبصار والمشاهدة، فإذا اتهمنا إنساناً بالسرقة فعلينا أن نقيم الحجة عليه بالبينة أي بالدليل المادي. فما هي حجة الله على الناس؟
حجة الله أنه بلغ الناس رسالة “الأحكام” ودعم هذه الرسالة بالبينات التي هي دلائل مادية.
بالنسبة لموسى أعطاه الله التوراة نبوةً له، وأعطى عيسى الإنجيل كذلك. ودعم التوراة بينات من خارجه، ودعم الإنجيل بينات من خارجه. وأما موسى فأعطاه الله تسع آيات بينات {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً) (الإسراء 101) {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً) (الإسراء 102).
لم يقل الله عن التوراة إنها آيات بينات إلا لأنها جاءت بصياغة تتناسب مع الأرضية المعرفية لذلك الوقت أي تتناسب مع مراحل الوعي الإنساني منذ ثلاثة آلاف سنة. كما أن الله أعطى موسى بالإضافة إلى التوراة الكتاب والفرقان {وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة 53). فالتوراة والفرقان والكتاب بحاجة إلى بينات، وهذه البينات مادية، سماها أولاً آيات وثانياً بينات، وعددها تسع وكانت دليل موسى لتصديقه بأنه مرسل من الله. فهذه الآيات هي: العصا واليد البيضاء والجراد والقمل والطوفان والضفادع والدم وشق البحر والرجز. هذه الآيات كانت بينات مادية شوهدت بالعين وبالحواس ولهذا قال عنها بصائر.
أما عيسى بن مريم فقد أعطاه الله بينات خارج الإنجيل، لذا قال {وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} (البقرة 87). فبينات عيسى بن مريم كانت مادية أيضاً وكانت قابلة للإبصار وهي {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} (آل عمران 49).
لقد سمى الله سبحانه وتعالى آيات القرآن فقط بالآيات البينات دون أي شك وذلك بقوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآنٍ غي هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبعُ إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} (يونس (15).
ونحن نعلم أن مجموعة هذه الآيات البينات هي الحقيقة (الحق) {وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) (الأحقاف 7).
نستنتج أن القرآن هو مجموع الآيات البينات (يونس 15) وأن الآيات البينات هي الحق (الأحقاف 7) ونلاحظ كيف عطف الحق على الكتاب حيث قال تعالى {المر تلك آيات الكتاب والذي أوحي إليك من ربك الحق … الآية} (الرعد 1). وكيف أن الحق ليس كل الكتاب في سورة فاطر {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير} (فاطر 31).
وعندما جاءت الآيات البينات للرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم قال عنها أعداؤها: إنها سحر في قوله {إني لأظنك يا موسى مسحوراً} (الإسراء 101) ونرى أيضاً أن الآيات البينات التي هي القرآن قال عنها الذين كفروا: إنها سحر أيضاً في قوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} (الأحقاف 7).
ونتساءل هنا: لماذا يقولون عن الآيات البينات إنها سحر؟
يجيب بعضهم أنها سحرتهم بجمالها وأنها سحر لأنها جميلة لا تقلد لقد فهموا الإعجاز جمالاً …!
وليس لهذا علاقة بالجمال لا من قريب ولا من بعيد.
لقد قالوا عن آيات موسى إنها سحر لأنهم شاهدوها مشاهدة فؤادية (بالحواس) ولكن لم يفهموا كيف حصلت، فعندما شق موسى البحر بعصاه، شاهد هذه العملية الناس الذين معه دون أن يستوعبوا ما هي القوانين التي تمت حتى شق البحر. فالسحر هو مشاهدة الظاهرة بالحواس دون فهم القوانين التي تحكم هذه الظاهرة. فإذا أحضرت ماء فيه بعض المواد الكيميائية ووضعت فيه ورقة بيضاء فتلونت وصارت حمراء، فإن الذي يجهل علوم الكيمياء يقول عن هذا إنه سحر. وهذا فعلاً ما قاله العرب عندما سمعوا القرآن. أي أنهم سمعوا كلاماً عربياً دون فهم المحتويات والقوانين المبطنة في هذا الكلام. لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرفٍ منها ظهر وبطن) (الجامع الصغير 1 ص107).
أما الأحكام (أم الكتاب) فلها ظاهر وليس لها أي باطن وهي قابلة للفهم، أي أن العرب لم يقولوا أبداً عن آية الإرث وآية الصلاة وآية الوضوء وآية الصوم وآية المحرمات من النساء إنها سحر علماً بأنها ذات صياغة فنية رائعة. هذه الآيات وكل آيات أم الكتاب ليس فيها أي سحر ولا يوجد فيها بطن وظهر. ولكن الآيات التي قالوا عنها إنها سحر هي كالآيات {إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت} (التكوير 1-2-3-4) أو {مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان} (الرحمن 19-20) أي عن آيات القرآن.
لقد علمنا أن موسى قد أوتي تسع آيات بينات. فما عدد الآيات البينات التي أعطيت لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ لقد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم آيات بيناتٍ كثيرةً، لأن كل آيات القرآن آيات بينات. وهنا تم دمج الآيات البينات مع النبوة، أي أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن، والآيات البينات هي القرآن أيضاً، في حين أن هذا لم يحصل مع الأنبياء من قبله فنبوة موسى هي التوراة. والآيات البينات التي جاءت إلى موسى هي تسع آيات خارج التوراة. وكذلك عيسى بن مريم جاءته الآيات البينات مفصولةً عن الإنجيل الذي هو نبوة عيسى. وهكذا يتبين لنا الفرق الكبير بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبين نبوة موسى وعيسى، ويتبين لنا عظمة النبوة عند محمد صلى الله عليه وسلم.
ولعظم هذه النبوة جاء المقام الرفيع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} (الأحزاب 56). هنا قال (يصلون على النبي) ولم يقل (يصلون على الرسول) وذلك للعلو العظيم لمقام نبوته. ونرى بهذا الصدد أن العرب منذ أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا قد اهتموا برسالته وهجروا نبوته. ولكن اهتم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم كل معاهد الأبحاث العلمية والجامعات في العالم، لأن نبوته هي قوانين الحقيقة الموضوعية المادية والتاريخية (بالإضافة إلى وحدانية الله) وهذا ما تهتم به المعاهد والجامعات وما بحث فيه كل فلاسفة العالم قاطبة ابتداء من أرسطو وأفلاطون، مروراً بكانت وانجلز وهيجيل وديكارت.
سميت (الآيات البينات) بيناتٍ لأنها موجودة أو حصلت خارج الوعي الإنساني لذا فهي قابلة للإبصار أو لأن عقل. فعندما عرض موسى الآيات البينات التسع على فرعون قال عنها: بصائر. فهل الآيات القرآنية هي بصائر كآيات موسى التسع؟ أي قابلة للإبصار؟ أي أن تأويل الآية النهائي هو إبصارها. والإبصار هو التأويل الحقيقي النهائي بعينه أي تحويل الآية من علم إخباري إلى علم نظري يدعمه العلم الحسي فيما بعد أو تحويل الآية مباشرة إلى علم حسي. هذه هي الناحية التي أغفلها المسلمون عند وضعهم لقواعد التأويل. فتأويل الآية هو مطابقتها مع الحقيقة الموضوعية (إبصارها) أي مطابقتها مع العقل واستنتاج قانون مجرد قابل للإبصار فيما بعد. لقد أدى إغفال هذه الناحية إلى دخول الفلسفة الصوفية في تأويل القرآن، فحولت العقيدة الإسلامية إلى التفكير الخرافي الوهمي.
وما زلنا نعيش هذه المأساة إلى يومنا هذا، حيث ورثنا مسلمات عقائدية تظن أنها قرآنية وهي لا تمت إلى القرآن بصلة وليست أكثر من مجرد أوهام. لذا علينا إعادة النظر بالمسلمات التي نظن أنها إسلامية وهي ليست كذلك. هذه المسلمات التي توجهنا ضمن عقلنا الباطن والتي صيغت عليها عقلياتنا الظاهرة. ولا يمكن أن تحل هذه المشكلة إلا إذا أعدنا النظر في الأطر العقائدية التي ورثناها. ويجب أن تتم إعادة النظر هذه قبل إعادة النظر في الأطر الفقهية التشريعية، لأن حل المشكلة العقائدية يؤدي بشكل آلي إلى حل الأزمة الفقهية. أي علينا إعادة النظر في أمور مهمة مثل مقولات ثبات الأعمار، ثبات الأرزاق، هل الأعمال مكتوبة أو غير مكتوبة؟ الحرية الإنسانية (القضاء والقدر)، نظرية المعرفة الإنسانية، والمعرفة الإلهية. إذ لا أمل لنا في الخروج من أزمة تخلفنا دون حل هذا الإشكال.
لقد قلنا: إن الآيات البينات التي جاءت لموسى هي بصائر. فهل آيات القرآن التي هي آيات بينات هي بصائر أيضاً؟
نعم هذا ما قاله تعالى بالضبط {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام 104) {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدىً ورحمة لقومٍ يؤمنون} (الأعراف 203) ونرى أنه بعد أن أنهى هذه الآية في سورة الأعراف أتبعها بقوله {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (الأعراف 204) لاحظ هنا قوله: {إذا قرئ} ولم يقل (إذا تلى) أي ذكر القراءة ولم يذكر التلاوة وشتان في المعنى بين القراءة والتلاوة.
وكذلك ورد هذا البرهان في الآية رقم 1 في سورة النور وهي {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} فقوله هنا: {وأنزلنا فيها آيات بيناتٍ} تعني أن سورة النور ليست كلها آياتٍ بيناتٍ وإنما جزء منها آيات بينات، أما باقي الآيات فهي آيات من نوع آخر من الآيات المحكمات أو تفصيل الكتاب.
لنتصفح الآن سورة النور، نرى فيها أحكاماً وبياناً لأحكام حتى نصل إلى الآية رقم 35 التي تبدأ بقوله تعالى: {الله نور السموات والأرض … الآية} فنرى أن هذا الآية يختلف موضوعها عن الآيات السابقة وتستمر الآيات حتى رقم 45 التي تقول: {والله خلق كل دابةٍ من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير}. ثم نرى أن الآيات التي تلي هذه الآية إلى آخر سورة النور هي مواعظ وأحكام ما عدا الآية الأخيرة.
لذا يجب علينا أن ننتبه دائماً إلى الآيات في بدايات السور لأنه قد يكمن فيها إشارة إلى محتويات السور ومواضيعها كقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} (الشعراء 2) فإذا سألت علماءنا: ما هو الكتاب المبين؟ يقولون لك مباشرة هو القرآن، إذاً فلماذا عطف (كتاب مبين) على القرآن في أول سورة النمل {طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين} (النمل 1)؟ إن الانتباه إلى هذه الآيات يعتبر من المفاتيح الأساسية في فهم محتويات الكتاب.
وهكذا توصلنا إلى أن القرآن هو الآيات البينات، وهو في الوقت نفسه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كله (أنباء عن حقائق) وهو بصائر، وهو الحق، وهو الذي قالوا عنه: إنه سحر مبين، وهو الذي يشكل جزءاً كبيراً من آيات الكتاب، وكل آياته من المتشابهات، مضافاً إليه السبع المثاني التي تحمل مطلق الحقيقة في صياغتها ونسبية الفهم من الناس، (أي المطلق في المحتوى والنسبية في الفهم). وهذه النسبية إما فلسفية أو علمية أو تاريخية أو مجردة.
بقي أن نفهم أنه سبحانه وتعالى قال عن القرآن: {تصديق الذي بين يديه} (يونس 37-يوسف 111). وذكر مصطلح: {تفصيل الكتاب} (يونس 37). فما هو الذي بين يديه وما هو التفصيل؟
لنرجع الآن إلى الآيات التي ورد فيها تصديق الذي بين يديه:
{والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير} (فاطر 31). {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس 37).
في هذه الآية من سورة يونس يقول عن القرآن إنه تصديق الذي بين يديه ثم يقول في الآية رقم 39 {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} لاحظ قوله: {ولما يأتهم تأويله} علماً أن الحديث في الآيتين السابقتين عن القرآن، حيث أن القرآن كله متشابه وكله قابل للتأويل، لا للتفسير. {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون} (يوسف 111).
لاحظ قوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} (يونس 37) {وما كان حديثاً يفترى} (يوسف 111) وقوله: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعضٍ القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين} (سبأ 31) ولاحظ قوله: {ولكن تصديق الذي بين يديه} (يونس 37) {ولكن تصديق الذي بين يديه} (يوسف 111) ولاحظ قوله: {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) (يونس 37).
لقد قلنا: إن نبوة موسى هي التوراة، ورسالته الكتاب والفرقان {وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة 53). ونبوة عيسى الإنجيل، ورسالته الكتاب والحكمة، وهي تعديل لكتاب موسى.
وكانت نبوة موسى ورسالته ونبوة عيسى ورسالته بحاجة إلى تصديق، وجاء التصديق خارجاً عن النبوة وعن الرسالة وذلك بما سماه الآيات البينات. وبالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت نبوته القرآن والسبع المثاني وتفصيل الكتاب، ورسالته أم الكتاب “الأحكام”. فلو كان الأمر على غرار موسى وعيسى لآتته الآيات البينات من خارج النبوة والرسالة وهذا ما طلبه العرب من محمد صلى الله عليه وسلم تماماً: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} (الإسراء 89). {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} (الإسراء 90) {أو تكون لك جنةٌ من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً} (91) {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله واللائكة قبيلاً} (92) {أو يكون لك بيت من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزيل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} (93). لاحظ في هذه الآيات أن الحديث عن القرآن، وأن القرآن لم يفهمه العرب على أنه آيات بينات بل طلبوا الآيات البينات المادية المباشرة من خارج القرآن. أو عوضاً عن القرآن.
إن مصطلح “الذي بين يديه” في اللسان العربي تعني دائماً الحاضر ولا تعني الماضي. فالقرآن هو الآيات البينات، وهو تصديق الذي بين يديه. والهاء في “بين يديه” إما أن تعود على القرآن أو تعود على الله سبحانه وتعالى. فما الذي كان بين يدي الله أو بين يدي القرآن حين نزوله وبحجة إلى بينة؟ الشيء الوحيد الذي كان يوجد حين نزول القرآن هو الأحكام “الرسالة”. فالقرآن جاء مصدقاً لأم الكتاب وهي التي سماها الله “كتاب الله”. لأن الأحكام ليست بينات في ذاتها وهي قابلة للتقليد، وإنما بحاجة إلى بينات من خارجها. والبينات موضوعية مبصرة.
إني لأعجب تمام العجب كيف ظن الفقهاء والمفسرون أن الذي بين يديه هما التوراة والإنجيل فبذلك قصموا ظهر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حين أكدوا أنها ما جاءت إلا لتخبر الناس أن التوراة والإنجيل الموجودين في بداية القرن السابع الميلادي حين نزول القرآن هما صحيحان لا أكثر من ذلك ولا أقل من ذلك! وإذا كان هذا هو الهدف من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، فأعتقد أن أشد اليهود والنصارى تزمتاً وتعصباً سيؤيدون لك لأن بكلا من التوراة والإنجيل الحاليين هما نفس التوراة والإنجيل في القرن السابع. والأجدر بنا حينئذ نحن المسلمين أن نعتنق اليهودية أو النصرانية!! لأن الهدف من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو تصديق العهد القديم والعهد الجديد المعروفين في القرن السابع؟
إن “بين يديه” تعني الحاضر ولا تعني الماضي، وقد قالها صراحة في سورة آل عمران {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان .. الآية} (آل عمران 3-4). فكيف يمكن أن يكون التوراة والإنجيل هما اللذان بين يديه، مع أنه قال عنهما: {من قبل}؟ وكيف يكون {من قبل} و {بين يديه} دالين لمدلولٍ واحد؟ إذا كان الأمر كذلك، فليس لهاتين الآيتين معنى! وحاشى لله.
إن حجة المفسرين على أن “بين يديه” تعني التوراة والإنجيل هي الفهم الخاطئ للآيات التالية عن عيسى بن مريم {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآيةٍ من ربكم فاتقوا الله وأطيعون} (آل عمران 50).
ويتضح الخطأ في الفهم بما يلي: إن نبوة عيسى عليه السلام في الإنجيل هي استمرارية لنبوة موسى في التوراة، وليست ناسخةً لها كما أن شريعة عيسى هي نفس شريعة موسى مع بعض التعديلات {ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم} وقد فهمهما أهل الكتاب هكذا. ولهذا فإننا نرى اليوم أن الكتاب المقدس عند النصارى يحتوي على أربعة مواضيع وهي {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} (آل عمران 48)، (شريعة موسى معدلة + الوصايا + التوراة + الإنجيل) لذا فإن هذه المواضيع الأربعة مع بعض تسمى (الكتاب المقدس).
ولو كان القرآن مصدقاً لما قبله بهذا المفهوم للزم بالضرورة أن يحتوي الكتاب عند المسلمين ما يلي:
كتاب موسى (الشريعة) + التوراة + الإنجيل + القرآن + شريعة محمد (أم الكتاب) + الوصايا (الفرقان). وليس الأمر كذلك، بل جاء الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ناسخاً لما قبله لا مصدقاً بالمفهوم السابق، أي أن كل ما جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من نبوات داخلٌ في قوله تعالى: {من قبل هدىً للناس} لا الآن، وكل ما جاء في الرسالات هو حالات خاصة من أم الكتاب.
ولنوضح الآن الصورة بشكلها النائي فنقول:
أراد الله سبحانه وتعالى أن يبلغ رسالته للناس (الأحكام) ليبين لهم فيها الفرق بين الحرام والحلال، ويبين لهم فيها العبادات والأخلاق وقواعد السلوك الإنساني. هذه الأحكام بمجموعها تسمى “كتاب الله”، وهي بحاجة إلى توقيع ممن أرسلها أي أن تكون مصدقة منه “التوقيع والختم” ليعلم الناس أنها من عنده. فوقع سبحانه وتعالى على هذه الرسالة بتوقيعه وكان توقيعه “القرآن والسبع المثاني” حيث جعل حقيقة الوجود تصديقاً لقواعد السلوك. فالرسالة هي كتاب الله “الأحكام”، والنبوة “القرآن” وفيه كلام الله “قوله الحق” الذي هو القوانين المطلقة للوجود. فصدق القرآن كتابه الذي هو قواعد السلوك الإنساني. ولله المثل الأعلى.
يشتمل كتاب الله “الرسالة” على:
- الحدود.
- العبادات.
- الأخلاق (الفرقان).
- تعليمات عامة وخاصة.
وجاءت المصادقة على صحة الرسالة بواسطة “النبوة” التي تتألف من:
- القرآن العظيم.
- وسبع من المثاني.
فرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم فرقت بين الحلال والحرام في السلوك الإنساني. ونبوته فرقت بين الحق والباطل “الحقيقة والوهم” في الوجود الموضوعي. وشتان بين الاثنين! إن الخطيئة القاتلة التي يرتكبها المسلمون اليوم أنهم لا يفرقون بين قواعد السلوك وحقيقة الوجود، أي ما بين الذاتي والموضوعي. فالرسالة فيها الذاتي، والقرآن فيه الموضوعي. أي أننا يجب أن نفرق بشكل واضح لا لبس فيه بين القانون الموضوعي والقيمة الأخلاقية، فلا نضع القيمة الأخلاقية بديل القانون الموضوعي. إن كل الأخلاق الفاضلة في الدنيا لا تستطيع أن تصمد مقابل الحقيقة الموضوعية، وإن الحقيقة المادية لا تواجه بالتقوى والأخلاق. وما خيبات الأمل المتتالية التي نصاب بها، وما التشويش الفكري وضيق الأفق إلا نتيجة مباشرة لآفة عدم التفريق بين القانون الموضوعي والقيمة الأخلاقية.
البركة في اللسان العربي تعني التكاثر والتوالد، وتعني الثبات كأن نقول مبرك الناقة وبركة الماء “الماء الراكد”. ووصف الكتاب بأنه “مبارك” يعني “ثابت النص”. مطلقة تفهم فهماً نسبياً، لذا فإن حركة المحتوى فيه دائمة “التبديل والتغيير”، فالعلماء يستنبطون من القرآن نظريات علمية على مر الزمن، والصحابة فهموه حسب أرضيتهم العلمية، وبما أن معلومات الإنسان صاعدة إلى الأعلى بشكل دائم فإنه على مر السنين سترى الأجيال معلوماتٍ جديدةً في القرآن لم تكن الأجيال السابقة تعرفها. وهكذا فحسب نمو المعرفة الإنسانية تتولد المعلومات الجديدة والنظريات الجديدة، والنص القرآني يستوعبها كلها، ولهذا سمى القرآن كتاباً مباركاً.
أما الأحكام فتحمل صفة الثبات في النص والمحتوى والحركة ضمن حدودها لأن آية الوضوء فهمها الصحابة كما نفهمها نحن على حد سواء. ومنذ أن نزلت آية الوضوء إلى أن تقوم الساعة فإن الوضوء هو الوضوء ولا يمكن أن يتغير فهم هذه الآية، وكذلك آيات الإرث فقد فهمها الصحابة وطبقوها وقوفاً عليها كما نطبقها نحن الآن علماً بأنها آيات حدودية ويمكن التحرك ضمنها دون تجاوزها. وهكذا الحال بالنسبة للأجيال التي بعدنا. لذا قال عن القرآن {وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} (الأنعام 155).
التقوى اتباع الحلال وترك الحرام، فهي في أم الكتاب لأنها سلوك إنساني وليست معرفة الوجود، وبما أن القرآن فرّق بين الحق والباطل والرسالة فرّقت بين الحلال والحرام، فإن القرآن ليس له علاقة بالتقوى. لذا قال كلمة (واتقوا) بعد كلمة (فاتبعوه).
هنا أريد أن أؤكد على نقطة في غاية الأهمية وهي أن القرآن كتاب الوجود المادي والتاريخي، لذا فإنه لا يحتوي على الأخلاق ولا التقوى ولا اللياقة ولا اللباقة، ولا تنطبق عليه عبارة “هكذا أجمع الفقهاء” و”هكذا قال الجمهور”. إننا في القرآن والسبع المثاني غير مقيدين بأي شيء قاله السلف، إننا مقيدون فقط بقواعد البحث العلمي والتفكير الموضوعي وبالأرضية العلمية في عصرنا، لأن القرآن حقيقة موضوعية خارج الوعي فهمناها أو لم نفهمها، قبلنا بها أو لم نقبل. والشيطان حين محاولة فهم القرآن يدخل فينا من خلال الأخلاق واللياقة واللباقة.
فالقرآن حقيقة موضوعية مادية وتاريخية لا تخضع لإجماع الأكثرية حتى ولو كانوا كلهم تقاةً، ويخضع لقواعد البحث العلمي حتى ولو كان الناس كلهم غير تقاة. وعلينا أن نكسر هذا الحاجز الوهمي المبني على عبارة “هذا ما قاله الجمهور” أو “هذا ما أجمع عليه الجمهور-جمهور الفقهاء”. لذا قال عن الكتاب {هدىً للمتقين} (البقرة 2) وعن القرآن {هدىً للناس} (البقرة 185).
5 – أسباب النزول هي للأحكام ولتفصيل الكتاب، وليس للقرآن أسباب نزول
بما أن القرآن علم بالحقيقة الموضوعية “الموجودة خارج الوعي الإنساني” وفيه قوانين الوجود وقوانين التاريخ، نستنتج بالضرورة أن له وجوداً مسبقاً عن التنزيل. لذا قال تعالى عن القرآن: {قرآن مجيد * في لوحٍ محفوظ} (البروج 21-22) وهو القوانين العامة الناظمة للوجود منذ الانفجار الكوني الأول وحتى البعث والجنة والنار والحساب، وأنه في إمامٍ مبينٍ وذلك بالنسبة لأحداث الطبيعة الجزئية “ظواهر الطبيعة” المتغيرة وأحداث التاريخ بعد وقوعها. ولم يقل ذلك أبداً عن أم الكتاب ولا عن الذكر ولا عن الفرقان. وهذا يجرنا إلى الموضوع التالي: ما هو “اللوح المحفوظ” و”الكتاب المكنون” و”الإمام المبين”؟
– اللوح المحفوظ: هو لوحة التحكم في الكون الذي نشأ فعلاً، وقد برمج القرآن المجيد في داخلها. ويمثل اللوح المحفوظ: (INFORMATION IN ACTION).
– الكتاب المكنون: هو البرنامج الذي بموجبه تعمل قوانين الكون العامة كمعلومات (INFORMATION).
– الإمام المبين: فيه قوانين الطبيعة الجزئية (ظواهر الطبيعة المتغيرة) آيات الله. وفيه أرشفة الأحداث التاريخية بعد وقوعها: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12). من هذا الإمام المبين جاءت قصص القرآن، لذا سماها “الكتاب المبين” ففي أول سورة يوسف الآية (1) جاءت {الر تلك آيات الكتاب المبين} وفي أول سورة القصص الآية (1-2) {طسم * تلك آيات الكتاب المبين} وفي أول سورة الشعراء الآية (1-2) {طسم * تلك آيات الكتاب المبين} فإذا أخذنا محتويات هذه السور الثلاث نراها كلها قصص أحداث تاريخية.
أما إذا أخذنا سورة النمل فنراها تبدأ {طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين} فإذا نظرنا إلى محتويات السورة نرى أن فيها آيات كونية وقصصاً معاً وجاء فيها ذكر “كتاب مبين” الآية رقم 75 {وما عن غائبةٍ في السماء والأرض إلا في كتاب مبين}. لذا نجد هنا عطف “كتاب مبين” على “القرآن” من قبيل عطف الخاص على العام.
ولهذا فإن القرآن ليس له أسباب نزول وقد قال عنه إنه أنزل دفعة واحدة عربياً وفي رمضان {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس … الآية} (البقرة 185)، {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر 1).
عرفنا أن القرآن هو النبوة وأنه “الحقيقة”. ولكن لماذا قال تعالى عنه: إنه “الحديث”؟: {ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه} (يوسف 111) {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} (القلم 44) {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} (الواقعة 81) {فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً} (النساء 78) {فبأي حديث بعده يؤمنون} (المرسلات 50) {هل أتاك حديث موسى} (النازعات 15) {هل أتاك حديث الجنود} (البروج 17).
الحديث مشتق من فعل “حدث”. والحدث هو واقعة ذات شقين: إما واقعة إنسانية {هل أتاك حديث موسى} أو واقعة كونية: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون} (الأعراف 185)، أي حدث إنساني أو حدث كوني. والقرآن قرن الأحداث الكونية الكلية والجزئية مع الأحداث الإنسانية “القصص القرآني، أحسن القصص” لذا سمي حديثاً وسمي قرآناً.
سمي حديثاً لأن فيه أحداث الكون والإنسان “التاريخ” والقوانين الناظمة للمادة والقوانين الناظمة للتاريخ الإنساني وربطهما بعضهما ببعض في قوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن … الآية} (يوسف 3).
وسمي قرآناً لأن القرآن جاء من “قرأ” وعلى قول بعضهم من “قرن” وكلاهما يعني الجمع والمقارنة، كأن تقول قرأت الماء في البئر أي جمعته، أو قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثةَ قروء} (البقرة 228) فالقرء هو جمع فترة الطهر مع فترة الحيض. والأساس في اللسان العربي هو فعل “قرن”، فعند ابن فارس نرى أن فعل “قرأ” اشتق من فعل “قرن”، ومن هنا جاء معنى القراءة عند العرب وهو العملية التعليمية، لأنها لا تكون إلا بالمقارنة أي مقارنة الأشياء بعضها ببعض،، لذلك لا تقول العرب قراءة إلا على العلم كقولهم “قرأت العلم على فلان”، هنا يجب أن نميز بين القراءة والتلاوة، فالمذيع في التلفاز يتلو الأخبار ولا يقرؤها، والأستاذ في الجامعة يقرأ المحاضرة ولا يتلوها.
فالتلاوة هي إعادة لفظ نص بحرفيته، دون شرح ولا تعليق وبشكل متتال ومنه جاءت التلاوة، فإذا أراد المذيع في الإذاعة أن يقرأ الأخبار عوضاً عن تلاوتها فهذا يعني أن يشرح الخبر ويعلق عليه ويقارنه بأخبار وأحداث أخرى وذلك بهدف تفهيم السامع. وإذا أراد الأستاذ في الجامعة أن يتلو المحاضرة عوضاً عن قراءتها فهذا يعني أن يفتح الكتاب ويتلو النص بالتتالي كما جاء في الكتاب دون أي تعليق وأي شرح وأي مقارنة. فالتلاوة يقابلها باللغة الإنكليزية (Citation) والقراءة يقابلها (Reading).
هنا يجب أن نفهم قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (الأعراف 204) أي عندما يأتي شخص ويشرح القرآن فأنصتوا له، هذه الآية من القراءة وليست التلاوة. وكذلك نفهم قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (النحل 98) أي إذا أراد الإنسان أن يفهم القرآن فعليه الاستعاذة بالله من الشيطان، لأن الشيطان يدخل في الإنسان حين يريد فهم آيات القرآن “تأويلها”.
أما التلاوة فهي لفظ الآيات بالتتالي وتختلف عن القراءة فنقول عن القرآن إنه المتعبد بتلاوته، فالكتاب كله يتلى {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة .. الآية} (فاطر 29) {إنما أمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن} (النمل 91-92).هنا نلاحظ كيف ذكر التلاوة لكتاب الله وللقرآن وعن الكتاب كله قال {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} (البقرة 121).
7 – القصص من القرآن وهي الكتاب المبين
قلنا: إن القرآن هو الحديث وأنه جاء من قرن قوانين أحداث الطبيعة مع أحداث التاريخ بعد وقوعها حيث أنها أخذت صفة الحتمية بعد وقوعها لا قبله. أي قرن بين القوانين الناظمة لأحداث الطبيعة والقوانين الناظمة لأحداث التاريخ.
لنرجع الآن لأول قصة يوسف:
{الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبلهِ لمن الغافلين} (يوسف 1-3). في أول السورة اسم إشارةٍ لآيات السور حيث قال: {تلك آيات الكتاب المبين} ثم ذكر القرآن بعد الكتاب المبين. وربط القصص بوحي القرآن {بما أوحينا إليك هذا القرآن}. “بما” هنا جاءت بمعنى “بالذي” وليؤكد أن القصص من القرآن قال: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} فالهاء هنا تعود على القرآن. فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي كان غافلاً عن قوانين الوجود وعن قوانين التاريخ وأحداثه معاً.
ثم نرى في آخر قصة يوسف قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه} (يوسف 111).
فالحديث هو القرآن لأنه قرن أحداث الكون مع أحداث التاريخ. وسورة يوسف كلها قصص، والقرآن هو التصديق {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه} (يونس 37). لنأخذ الآن الآيات التالية:
- أول سورة يوسف {الر تلك آيات الكتاب المبين}.
- أول سورة الشعراء {طسم * تلك آيات الكتاب المبين).
- أول سورة القصص {طسم * تلك آيات الكتاب المبين).
- أول سورة النمل {طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين}.
ففي سورة يوسف والشعراء والقصص نرى أن محتويات السور كلها قصص لذا قال {تلك آيات الكتاب المبين}. أما في سورة النمل ففيها قصص وكونيات معاً أي فيها من مواضيع القرآن كاملة قصص وكتاب مبين لذا عطف كتاباً مبيناً على القرآن، أي الخاص على العام.
بقي علينا أن نوضح ما هي السبع المثاني: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر 87).
1 – لقد عطف القرآن على السبع المثاني فهذا يعني أن القرآن شيء والسبع المثاني شيء آخر، وأن السبع المثاني ليست جزءاً من القرآن وقد وضعها الله سبحانه وتعالى قبل القرآن حيث ميزها عليه بالأفضلية من ناحية المعلومات.
2 – لا يمكن أن يكون القرآن جزءاً من السبع المثاني، لأن السبع المثاني سبع آيات، والقرآن أكثر من ذلك.
3 – وجب أن يكون هناك تجانس ما بينهما حتى يتم عطف أحدهما على الآخر، فإذا تم عطف القرآن على أم الكتاب، فوجه التجانس بينهما أنهما موحيان من الله … وهكذا نرى عندما عطف {ثيباتٍ وأبكاراً} (التحريم 5) أن الثيب غير البكر ولكن كلاهما من النساء.
ونقول الآن: بما أن القرآن العظيم هو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والنبوة علوم، فهذا يعني أن السبع المثاني هي من النبوة وفيها علوم. و هكذا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم إن صح “ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه” هذا جزء من حديث أخرجه أبو داود انظر مختصر تفسير ابن كثير ج1 ص12″ ما هو إلا تعليق على هذه الآية. فإذا كانت السبع المثاني هي مثل القرآن فهذا يعني أن المعلومات الواردة فيها لا تقل كمّاً ونوعاً عن المعلومات الواردة في القرآن، ولكن جاءت بطريقة تعبيرية مختلفة عن طريقة القرآن.
4 – لقد ميز السبع المثاني عن القرآن بأن أطلق عليها مصطلح (أحسن الحديث) وذلك في قوله: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} (الزمر 23). فقد أطلق على القرآن مصطلح الحديث، وأطلق على السبع المثاني مصطلح أحسن الحديث، حيث أنه تم تمييزها، وهذا التمييز بأن القرآن آيات متشابهات فقط، وأحسن الحديث يحمل بالإضافة إلى التشابه صفة المثاني {كتاباً متشابهاً مثاني}، أما القرآن فكتاب متشابه فقط. فما هي المثاني؟
جاء في مقاييس اللغة ما يلي: “الثاء والنون والياء أصل واحد، وهو تكرير الشيء مرتين، أو جعله شيئين متواليين أو متباينين”. وجاء فيه: “المثناةُ”: طرف الزمام في الخشاش”. وإنما يثنى الشيء من أطرافه فالمثاني هي الأطراف .. ومن هنا كان لكل سورة مثناة أي طرف فالمثاني إذاً أطراف السور وهي إذاً فواتحها.
يبدو لنا أنه من خلال الأولى أن نسمي الفاتحة بالسبع المثاني، لأن الفاتحة هي سبع آيات في فاتحة واحدة هي فاتحة الكتاب. ولكن السبع المثاني هي سبع آيات، كل منها فاتحة. أي هي سبع آيات وهي في الوقت نفسه سبع فواتح. فيبقى احتمال واحد. بما أن الكتاب واحد، وبما أنه مؤلف من 114 سورة، فيلزم أن تكون السبع المثاني هي سبع فواتح للسور، كل منها آية منفصلة في ذاتها. فإذا نظرنا إلى فواتح السور نرى فيها السبع المثاني وهي:
1 – الم، 2 – المص، 3 – كهيعص، 4 – يس، 5 – طه، 6 – طسم، 7 – حم.
فإذا سأل سائل: ما هي إذاً: الر، المر، طس، ن، ق، ص؟
أقول: هذه حروف كل منها جزء من آية، وليس آية منفصلة تامة في ذاتها. فالآية الأولى في سورة نون هي {ن والقلم وما يسطرون}. أما الآية الأولى في سورة البقرة فهي {الم}، وأما {عسق} فهي ليست فاتحة لسورة، لأنها الآية الثانية في سورة الشورى، والآية الأولى هي {حم} فإذا نظرنا إلى عدد الحروف “الأصوات” الموجودة في الآيات السبع المذكورة أعلاه نراها تتألف من “11” أحد عش حرفاً “صوتاً” هي:
1 – الألف، 2 – اللام، 3 – الميم، 4 – الصاد، 5 – الكاف، 6 – الهاء، 7 – الياء، 8 – العين، 9 – السين، 10 – الطاء، 11 – الحاء.
وإذا أخذنا بقية الحروف “الأصوات” الموجودة في الر، المر، طس، عسق، ن، ق، ص، والتي لا تشكل آيات منفصلة في ذاتها كبداية وفيها آية واحدة ليست كبداية هي عسق، فنرى أن فيها ثلاثة حروف “أصوات” غير موجودة في آيات السبعة الفواتح وهي:
1 – القاف، 2 – الراء، 3 – النون.
فمن هذه الأصول تتألف كلمة “القرآن” لأن كلمة القرآن مشتقة من “قرأ” ومعنى “ق ر أ” الجمع كما في المقاييس، وكذا معنى “ق ر ن”، وعليه فالقراءة والقرن جمع وفيها استقراء ومقارنة. وإذا أضفنا الحروف “الأصوات” الثلاثة الإضافية إلى السبعة الفواتح التي تشتمل على أحد عشر حرفاً، يصبح المجموع أربعة عشر حرفاً “صوتاً” مختلفاً أي “7 × 2” وهذه هي أيضاً سبع مثان.
فما هي إذن “جوامع الكلم” التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله، إن صح “أعطيت جوامع الكلم” و”اختصر لي الكلام اختصاراً؟ لقد طغى على الأذهان أن هذين التعبيرين يراد بهما البلاغة النبوية، ونقول:
إن الكلام في اللسان العربي يعني الأصوات، وإن كل كلام الناس قاطبة هو أصوات، وإن نشأة الألسن هي نشأة صوتية. وإن السبع المثاني ما هي إلا حروف أي أصوات هي جوامع الكلم وهي “اختصار الكلام”. إذ لو عنت “جوامع الكلم” البلاغة النبوية كما يقول بعضهم، فإنا نستنتج بالضرورة أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم لأنه إلى الآن لم يقلده أحد، فيصبح القرآن هو بلاغة محمد صلى الله عليه وسلم وعلينا أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على بلاغته بشراً، وبلاغته فيهم بلاغة متميزة مع أنها مألوفة، وحين ندّعي أنه يفوق ببلاغته البشر، نفسخ الطريق لمتهمٍ يظن أن القرآن من صنعه، {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (الكف 110).
إن الذي أوقعنا في هذا الإشكال هو أننا لم نفرق بين الكلام والقول. فالبلاغة في القول لا في الكلام. فالكلام أصوات يصدرها الإنسان، والقول معنى هذه الأصوات في الذهن.
فأول ما نستنتجه من حروف “أصوات” السبع المثاني ما يلي:
1 – أنها أعطت مقاطع صوتية يتألف منها أصل الكلام الإنساني وليس اللغة العربية فقط.
2 – أن عدد الأصوات الأحد عشر في الآيات السبع الفواتح تشكل الحد الأدنى لأي كلام إنساني، أي أنه لا يمكن أن توجد لغة إنسانية يقال عنها لغة، إلا إذا كانت أصواتها الأصلية من أحد عشر صوتاً على الأقل. ويؤيد هذا ما توصل إليه المحدثون من علماء اللغويات واللسانيات من أن العدد (11) يشكل الحد الأدنى لأية لغة إنسانية معروفة في العالم ويمثلون لها بلغة البروتوكاس Protokas وهي لغة أهل سيشل.
3 – أن الأصوات تحمل الصيغة الكونية، فلو كانت هناك مخلوقات عاقلة في الكون فطريقة التواصل معها هي طريقة صوتية بالضرورة.
4 – لقد أكد الكتاب أنه توجد مخلوقات حية “فيها العاقل وغير العاقل” في هذا الكون، وليس في الأرض فقط، وأن العاقل منها سيجتمع بعضه مع بعض في المستقبل، وذلك في قوله تعالى {ومن آياته خلق السموات والأرض وما ثبت فيهما من دابةٍ وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} (الشورى 29).
فقد وضع الدابة في السموات والأرض وهي م دبّ، يدبّ على الأرض وهو أي كائن حي بما في ذلك الإنسان أو أي كائن عاقل، ووضع قانون التطور أنه أصل الخلق في الوجود كله في قوله {وما بث فيهما من دابة} ووضع الاجتماع للعاقل فقط من الدواب في قوله: {على جمعهم} “الميم جمع للعاقل فقط”، وهذا الاجتماع ممكن في المستقبل (إذا يشاء).
ويحق لي الآن أن أخمن دون أن أقطع، أنه إذا ما تيسر لنا لقاء بعقلاء في كوكب آخر غير الأرض ثم أردنا أن نتفاهم معهم أو نبث إليهم فعلينا أن نستعمل هذه الأصوات الأحد عشر لأنني أعتقد أنها القاسم المشترك للأصوات التي يمكن أن تصدر عن العقلاء، والله أعلم.
(8) تعليقات
مني بابكر
ذكرت استاذي ان كلمات الله هي الوجود , و هي الحق و ان المتكلم ليس من صفات الله
ارجوا ان تشرح لي فهمك لمعني كلم الله موسي تكليما
الأخت منى
{كلم الله موسى تكليما} هنا “تكليما” توضح أنه من خلال الكلام، وليس الكلمات {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}.
Ahmad Abou Hatab
أطال الله بعمرك يادكتور شحرور.أرجو من الله أن تستفيد هذه الامه من الجهد الكبير الذي قدمته في مؤلفاتك.واني لم أقرأها كلها، لكن ما قرأته أسعدني ، وأرجو أنه سيتاح لي أن أطلع على مؤلفاتك كلها.
مروان رعد
هل تعني كلمة الصراط في اية ٦٦ من سورة يس غير الصراط المستقيم ؟ ارجو التوضيح شكرا
الأخ مروان
هناك الصراط وهو أي طريق أو اتجاه.
و هناك الصراط المستقيم وهو معرف ذكره في الآية 153 من سورة الأنعام ، حيث تم تعريفه بشكل كامل في الآيتين 151 – 152 من نفس السورة .
حكيم منصف
نعم احسنت يا اخي شحرور (كن و كن و كن وكن و ….) جمعها كلمات ،
أما الكلام فهو جُمل جمع جملة مركبة من كلمات مختلفات في الصوت والمعني تعبر عن فهم المتكلم لإيصاله لِأذن السامع وهذه من صفات البشر ومن تكوين قدراتهم المعرفية لذالك اتي القرأن عربياَ اي واضحاَ مفصلاً يعرب عما في النفس البشرية بكل وضوح ، ولم يكن اعجمياَ اي لم يكن مبهماَ يحتاج الي من يفسره او بوضحه او يفصله ، ان الله خاطب موسي وهو من البشر بقدراته الكلامية التي يدرها ولم يخاطبه الله بكلماته (جمع كلمة كن) التي هي من صفات الذات الالهيه ، /هذا حسب فهمي ولإدراكي اليس كذالك يادكتور ؟
حكيم منصف
دكتور شحرور (الم)الف لام ميم ،(1) الاية رقم واحد من سورة البقرة يفسرها الاية التي بعدها مباشرة ، وتفسيرها حسب اعتقادي المنهجي هو (كل الأصوات المعبرة عن جميع الأحرف الثمانية والعشرون من الألف الي الميم في ذالك الكتاب لاريب فيها اي لاشك فيها هي من الله هداً للمتقين ) وحسب اعتقادي ان الله لاينزل في الكتاب مالم يفهم الانسان العاقل ، وإلا لالزوم لتنزيله اذا كان الغرض هو التعجيز لعدم الفهم ، كما ذكر في كل كتب التفسير عن فواتح السور بقولهم (الله اعلم بمراده ) ان الله اعلم بمراد كل شئ وانه انزل الكتاب حجة لله علينا من خلال تفصيل اياته ، ولم يكن حجةً لنا بعدم فهمه ، وان كان يوجد عدم فهم لبعض اياته فهو قصور منا وليس هو المراد هدم فهمنا لها ، لذالك ذهب فكري الي ان الفواتح لها مهني واضح جليا ليس طلاسم والغاز ليفهم معناها إلا بفك رموزها ، فمستحيل ان الرسول واصحابه ومن سمع منه الكتاب المنزل عليه (ص) و المفصلة اياياته انهم لم يفهمو الفواتح وإلا كان حجةً لهم بقولهم سحر ولكنه حجةً عليهم بدليل تفصيل فهمه في اذهانهم ولكن تدوين التفسير الذي انا اطلق عليه (التفهيم) اول المعني او امتنع عن تدوين معناه الصحيح لاهداف لا نعلمها لذالك الان انا شخصيا ينصب اهتمامي المهني الجرد لفواتير السور حسب نطقها كما نزلت وسمعة من رسول الله ، وليس علي محمل تاويلها وفك رموز معانيها كما ذكر جنابك فلا اعلم هل تو أفقين الرأي ان يكون هذا احتمال وارد ويستحق البحث فيه ام انك تستبعده وتقف عند تحليلك انها تمثل الحد الأدني للأصوات في اي لغة إنسانية ونقف عند ذالك ، اٰمل ان تولي حظا للمشاركة مما ذكرت ولَك الشكر
امين
الاية الخطأ {إنا نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12)
التصحيح (( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ))
لاحظ كلمة نحن ناقصة
وجزاكم الله خير
شكراً لملاحظتك.
الهادي ودالكامل
استاذي الجليل لك التحية وبعد اود شرح ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ياين
الأخ الهادي
تدل الآية التي ذكرتها على أنه سيكلم الناس وهو كهل، فإما تم رفعه إلى السماء وهو كهل، أو أنه سيرجع ليكلم الناس وهو كهل، لا أستطيع أن أجزم .
Yousif
اوضح اكثر في موضوع السبع المثاني وجزاكم الله خيرا