نخلص من كل ما تقدم، إلى أن مبدأ الشورى (الديموقراطية) من أساسيات العقيدة الإسلامية، وركن من أركان ممارستها. كما نخلص إلى أن المؤسسة الوحيدة التي وصلتنا عبر التاريخ هي مؤسسة الاستبداد، وأن مبدأ الشورى كان أول ما تم التخلي عنه، ابتداء من العصر الراشدي إلى اليوم.
ولقد انعكس هذا على سلوكيات الأفراد والحركات السياسية العربية المعاصرة، إذ لم تكن الديموقراطية الركيزة الأساسية في طرحها وممارستها، وبقيت العلاقات الأسرية-العشائرية-الطائفية-المذهبية تشكل البنية التحتية للسلوكيات المعاصرة في بناء الدولة، وفي مجال السياسات الداخلية خاصة، مما أعاق تطور الوعي الديموقراطي لدى الأفراد، وزاد من عمق الشعور باللا مسؤولية.
ونقف مع صفحات الكتاب أمام مفهوم جديد لحاكمية الله، مخالف للفهم السائد لآياته تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون .. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} وذلك بشرح معانيها كما وردت في سياق آيات التنزيل الحكيم.
وأمام شرح تكوين المجتمع الإنساني من الناحية الأنتروبولوجية، بدءاً من الأسرة فالأمة فالقومية وانتهاءً بالشعب، من واقع معاني هذه المصطلحات كما وردت في التنزيل الحكيم.
كما نقف أمام مدخل لفهم نظرية الجهاد، ورغم حاجة هذه النظرية إلى بحث مفصل كامل مستفيض، يجعل منها كتاباً مستقلاً بذاته، إلا أننا اقتصرنا في التصدي له، على الإشارة إلى الآيات التي يجدر بالباحث-في رأينا-الانطلاق منها، مع مزيد الانتباه إلى رفض مبدأ النسخ في آيات الجهاد، حيث فصلنا ذلك في موضعه، ومع التزام الدقة في فهم مسألة العنف والسيف والجزية، لما يؤدي سوء الفهم فيها إلى كوارث فردية واجتماعية، ولما لهذه النقاط من أهمية لا يكفي إجماع الجمهور لحلها، ولا يجدي فيها تطبيق فتاوى أناس عاشوا مرحلة تاريخية سابقة غير المرحلة التي نعيشها.
ونخلص إلى أن العلم والحرية توأمان، انطلاقاً من أن الاستقراء المنطقي العلمي وجدل الإنسان لهما نفس المنهج في الممارسة. فالعلم نظام يقوم على المؤسسات، جامعات، ومراكز دراسات، ومخابر، ومعاهد للبحث العلمي، وهذه المؤسسات في العالم لم تخلق دفعة واحدة، بل نمت وتطورت مع تطور المجتمع ونموه حتى أصبحت عصب الريادة العلمية، تصرف عليها الدول مليارات الدولارات سنوياً، وأصبحت كما نراها اليوم هي التي تدفع التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي للمجتمعات، وهي التي تقوم على ترميم وتقويم هذه المجتمعات وإصلاح أخطائها.
والحرية، كتوأم للعلم، تنمو بالأسلوب ذاته، أي لا تنمو إلا من خلال الديموقراطية ومؤسساتها، كالبرلمانات، والمجالس التشريعية، والصحافة التي تضمن وتعبر عن وجود الرأي والرأي الآخر. وهذه المؤسسات لا يمكن أن توجد هكذا، بلمسة سحرية دفعة واحدة، فهي تتطور وتنمو بدورها مع تطور بالمجتمع ونموه.
فالديموقراطية المعاصرة أحسن نظام واقعي وصل إليه الإنسان حتى اليوم، رغم أنه ليس مطلقاً، يحقق الشورى بالمفهوم العقائدي وممارساته النسبية، أي بمفهوم تطور المجتمعات التاريخي.
والعلم والحرية نظامان يرممان نفسهما بنفسهما من خلال المؤسسات، فالطيران مثلاً بدأ مع بداية القرن الحالي بطائرة، نجدها الآن بدائية، تطير عشرات الأمتار، ثم جاءت البحوث العلمية وصناعة الطائرات لتطور هذه القفزة الهائلة في مجال النقل والانتقال، لتصل بها إلى ما نراه اليوم من عظمة وتنوع. والديموقراطية لم تترسخ في فرنسا مثلاً إلا بعد قرن تقريباً من الثورة الفرنسية، ولم تتعمق في ألمانيا إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
إلا أنه ما زال ثمة من ينتقد النظام الديموقراطي في العالم، وهذا في رأينا أمر طبيعي، فالواقعية التاريخية لتطور أنظمة الحكم في العالم لا تسير على وتيرة واحدة في كل مكان، والإنسان الذي أوجد النظام الديمقراطي للابتعاد عن الاستبداد وتفاديه، ليس هو نفسه في الأقطار المعمورة، وسيظل ثمة دائماً من يحن إلى حكم الفرد والقهر ويقاوم الديموقراطية، مما دعانا إلى تشبيهه بالطفل الذي ألف الرضاعة ويقاوم الفطام. لهذا فعلينا ألا ننسى أن لكل نظام نسبيته وتطوره بالمقارنة مع ما سبقه في التاريخ، وعلينا أن نبتعد عن التفكير الطوباوي في إقامة جمهورية أفلاطونية أو مدنية فاضلة فارابية، لأنها وهم وأحلام يقظة، تبعدنا عن التطور التاريخي وجدل المجتمعات الإنسانية.
والطريف الملاحظ، أن منتقدي النظام الديموقراطي أنفسهم، هم ممن يعيشون في مجتمعات أسرية-عشائية-قبلية، ولم يعرفوا للديموقراطية طعماً، لأن النظام الديموقراطي يحتاج لممارسته وتذوقه مرحلة أعلى هي مرحلة الشعب. ونقول لهؤلاء: لا يحق لمن يركب البغال في السفر من مدينة إلى أخرى، أن ينتقد الطائرة ويدعي عيوبها وأخطارها!!
الديموقراطية نظام يؤتي أكله مع وصول المجتمع إلى مرحلة الشعب، ومع تجاوز مجتمع الأسرة-العشيرة-القبلية-الطائفية-المذهب، ومع تجاوز مرحلة المجتمع الذكوري. ونرى أن المجتمعات العربية ما زالت حتى الآن تمر في مرحلة انتقالية بين المرحلتين، وهذا هو سبب تعثر قضية الوحدة العربية، وإيجاد الشعب الواحد في الوطن العربي، لأن الأسرة-العشيرة-القبيلة-مضافاً إليها المصالح الإقليمية الأنانية ما زالت هي المسيطرة على المجتمعات والدول في هذا الوطن. فقضية الوحدة العربية مرتبطة ارتباطاً لا انفصام فيه مع الحرية، ومع دعم مؤسسات الحرية، وليس مع الحرية الرومانسية.
والنضال كما نراه يجب أن ينصب على الخروج من مرحلة مجتمع الذكورة ومجتمع الأسرة-العشيرة-القبيلة إلى مرحلة الشعب، ويجب أن ينصب على خلق مؤسسات الحرية ومؤسسات الديموقراطية، بعد أن نبني الإنسان الفرد الذي يخلق هذه المؤسسات. في هذه الحالة يصبح الطريق إلى الوحدة العربية معبداً.
يجب أن نكون طموحين، إنما يجب أن يبقى طموحنا واقعياً وليس خيالياً، نستطيع أن نبدأ بدايات متواضعة، إنما بدايات جدية ومدروسة كحلقات سلسلة، تقود واحداتها الأخرى، بعيداً عن الدعائية والاستعراضية والشعارات الجوفاء، وبعيداً عن الرومانسية، فالرومانسية وإن كانت ضرورية في حياة الشعوب وآدابها وتجميع جماهيرها واستثارة صفوفها وعواطفها، إلا أنها لا تصنع شعوباً ولا تقيم ديموقراطية ولا تدعم حرية. ومثالنا هو الطرح الوحدوي في الأربعينات والخمسينات من هذا القرن الذي كان رائعاً .. لكنه كان رومانسياً !!
علينا أن نحذر من الشعارات الخلابة البراقة التي تكرس في المحصلة استبدال مستبد بمستبد آخر .. وعلينا أن ننشر الوعي الديموقراطي بين الناس في حياتهم اليومية، وتعويدهم على قبول الرأي والرأي الآخر والتعايش معه كشيء موجود، وعلينا أن نخلق تياراً يؤمن بالشورى الإسلامية في إطارها وسياقها التاريخي المعاصر وهو الديموقراطية، وهذا كله يحتاج إلى عمل دؤوب مدروس مخلص، لكن طريق الألف ميل يبدأ، كما يقولون، بخطوة واحدة.
أخيراً، أرجو أن يعتبر كتابي هذا، مساهمة متواضعة في خدمة التنزيل الحكيم وفي تقدم العرب لتحقيق أهدافهم التحررية والوحدوية والاجتماعية، وفي خدمة المسلمين نحو فهم أفضل للإسلام، مما يساعد على تجاوز التعصب الديني والمذهبي والطائفي، فإن أصبت فبتوفيق من الله وفضله، وإن أخطأت فمن نفسي.
والحمد لله رب العالمين
دمشق 11نيسان 1994م
الأول من ذي القعدة 1414هـ
الدكتور المهندس محمد شحرور
(1) تعليقات
محمد دومو
تحليل ممتاز و منطقي في اعتقادي